Fath al-Majeed Sharh Kitab al-Tawheed - Hatiba
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد - حطيبة
ژانرونه
شرح كتاب فتح المجيد - معنى التوحيد
إن قوام الدين هو توحيد رب العالمين، والبراءة من الشرك به سبحانه، وكل رسل الله ﵈ جاءوا بالدعوة إلى التوحيد أولًا والتحذير من الشرك والتنديد ثانيًا، وليس هذا إلا لأن دخول الجنة منوط بتحقيق التوحيد، والنجاة من النار كليًا أو جزئيًا منوط بالتطهر من الشرك.
1 / 1
أهمية التوحيد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: سنبدأ من الليلة بإذن الله في شرح كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي الحنبلي من علماء القرن الثاني عشر الهجري، وكتابه في التوحيد عبارة عن متن أكثره من كتاب الله وسنة النبي ﷺ في أعظم أمور الدين وهو أمر التوحيد.
وقد شرح هذا الكتاب حفيد المصنف وهو سليمان بن عبد الله في كتاب سماه: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، واختصر هذا الكتاب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد.
فالتوحيد من المسائل العظيمة التي أنزل الله ﷿ كتبه وأرسل رسله لإقراره ولتعليم الخلق كيف يعبدون الله سبحانه، وكيف يوحدونه وحده لا شريك له.
وقوام الدين توحيد رب العالمين، ومنع الشرك بالله ﷾، وتوحيد الله يعرف بما أنزل الله سبحانه وبتعليم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وما خلق الله الخلق إلا من أجله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات:٥٦ - ٥٧]، فالله خلق الخلق لعبادته وتوحيده ﷾، فأمر التوحيد ينبغي على كل إنسان مؤمن أن يتعلمه جيدًا وأن يستقر في قلبه توحيد رب العالمين سبحانه، توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأن يعرف ذلك من كتاب الله ﷿ ومن سنة نبيه ﷺ، وأيضًا يعرف أنواع الشرك حتى يجتنبها ولا يقع فيها.
فهذا الكتاب يعلمنا أمر التوحيد وبدأه المصنف ﵀ بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم ثم حمد الله وصلى على النبي ﷺ، وسنمضي في الكتاب بحسب شرح الشارح ونختصر فيه ونذكر بعضًا من الأمور.
1 / 2
شرح البسملة
قال: بسم الله الرحمن الرحيم، أي: ابتدأ كتابه بالبسملة، والبسملة كما نعرف هي: بسم الله الرحمن الرحيم، ويسميها علماء البيان نحت، يعني: تحويل الجملة إلى كلمة، مثلما تقول: الحوقلة وهي قول لا حول ولا قوة إلا بالله، أو الحولقة على الأصح فيها، والحمدلة والتهليل فهذا نحت من أصل جملة.
وذكر هنا أنه بدأ بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، وهذا صحيح فكل سورة في كتاب الله ﷿ من أول القرآن إلى آخره -إلا سورة براءة- في أولها بسم الله الرحمن الرحيم.
قال: وعملًا بحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) هذا حديث ضعيف جدًا.
ولـ أبي داود وابن ماجة: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع) وهو حديث ضعيف.
قوله باسم: الباء متعلقة بشيء محذوف كأنه يقول: أبدأ كلامي باسم الله سبحانه، فكأن مقصده ابتدئ في تصنيفي وفي تأليفي ذاكرًا الله سبحانه مستعينًا بالله سبحانه، فقال: هذه متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلًا خاصًا متأخرًا، وكأنه يقول: باسم الله ابتدائي قال: وباء باسم الله قالوا: للمصاحبة، يعني: أستصحب اسم الله سبحانه فيما سأكتبه وأذكره أو أستعين باسم الله ﵎ في ذلك، مسميًا الله ﷾ وذاكرًا اسمه (الله)، وأصل كلمة الله الإله، وهذا ما اختاره الكسائي والفراء من علماء اللغة قالوا: أصله الإله وحذفت الهمزة وأدغمت اللام في اللام؛ قال: واختلفوا هل هذا الاسم العظيم المبارك (الله) جامد أو مشتق من شيء آخر، فنحن لما نقول مثلًا: (الرحيم) فهو مشتق من رحمة الله رب العالمين سبحانه، و(الرءوف) مشتق من الرأفة، وعلى هذا فهل اسم (الله) مشتق أم جامد؟ فمن العلماء من يقول: هو لفظ مرتجل جامد وقيل: هو مشتق: قال ابن القيم والصحيح أنه مشتق وأن أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ، وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى.
يقول ابن القيم موضحًا معنى الاشتقاق: إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، يعني: هو مشتق يدل على صفة لرب العالمين ﷾ وهي صفة الإلهية - تقول: إلهية أو ألوهية كسائر أسمائه الحسنى أسمائه الحسنى، مثل: (العليم) مشتق من العلم، و(القدير) من القدرة، و(السميع) من السمع، و(البصير) من البصر، فهذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب- هذا كلام ابن القيم ﵀ يقول: وهي قديمة ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى.
يقول الطبري: الله أصله الإله، وذكر ما ذكرناه قبل ذلك، قال: وهو الذي يألهه كل شيء، أي: يعبده كل شيء، وقال: قال ابن عباس: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه فهو الإله، قال: فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود؟ قلنا: قال رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المدهِ سبحن واسترجعن من تألهِ والتأله بمعنى العبادة قال: سبحن واسترجعن من تأله أي: من تعبد وطلب الله بعمل.
قال: ولا شك أن التأله التفعل من أله يأله، وهذا أصلها في اللغة والفعل فيها أله يأله بالفتح فيهما، إذًا: أله أي: عبد، وقيل: بل من ألِهَ، كأنه مثل ولِهَ: بمعنى تحير، يعني أن الله ﷾ يُتحير فيه فإذا أعمل الإنسان عقله لينظر ويشاهد جلال الله ﷾ ويتفكر في ذاته فإنه يتحير، وإنما عليه أن يتفكر في مخلوقات الله التي تدل عليه ﷾.
ولذلك قالوا: الله مشتق وقيل مرتجل وهو أعرف المعرفات جل أله أي عبد أو من الأله وهو اعماد الخلق أو من الوله أو المحجب عن العيان من لاهت العروس في البنيان يقول ابن القيم ﵀: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساق هذه الخصائص اللفظية، ثم قال: وأما خصائص هذا الاسم المعنوية، قال أعلم الخلق وهو النبي ﷺ: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، يعني: مهما حاول أن يحصي صفات الله التي يمدح عليها فلن يستطيع أن يحصي هذه الصفات لا النبي ﷺ ولا غيره من الخلق وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق وكل مدح وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل عز وكل جمال وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا خوف إلا أزاله، ولا هم ولا غم إلا فرجه، ولا ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز ولا فقير إلا أصاره غنيًا ولا مستوحش إلا آنسه ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه إلى آخر كلام ابن القيم رحمة الله عليه وهو كلام جيد.
ساق قبل ذلك عن ابن عباس أنه قرأ: (ويذرك وإلهتك) كأن معناها: وعبادتك، يعني: أن قوم فرعون قالوا له: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك.
وهذه ليست من القراءات العشر المتواترة، وإنما هي قراءة شاذة غايتها أن يقال: هناك قول لـ ابن عباس ﵁: أن الإله بمعنى العبادة، لكن ليست قراءة يقرأ بها القرآن.
أيضًا ساق حديثًا عن أبي سعيد مرفوعًا: (أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب باسم الله، فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة)، ولا شك في ذلك ولكن الحديث لا يصح.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
والرحمن من صفاته وأسمائه الحسنى ﷾ فهو الرحمن الرحيم وبين الاسمين التقاء في المعنى أنه رحيم بعباده سبحانه من الرحمة ورحمن من الرحمة، ولكن يقول العلماء: أن بين الاثنين فرقًا، فالرحمن: دال على صفة رحمة قائمة به ﷾، فهو الرحمن الذي لا يشبهه شيء في رحمته العظيمة ﷾، ولا يتسمى بهذا الاسم أحد غيره ولم يتسم به إلا كذاب كرحمان اليمامة وقد ذكر الله ﷿ اسمه ثم قال: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥] أي: هل تعرف أحدًا يتسمى بهذا الاسم؟ فلم يتسم أحد باسم الله، ولا باسم الرحمن.
فلفظ الجلالة لم يطلق على أحد غيره سبحانه، قد يقولون: هذا إله فلان وهذا إله فلان، أما الله فهو اسمه وحده لا شريك له سبحانه، وقد يحرفون هذا الاسم فيقولون اللات، أما الله فهو اسمه وحده لا شريك له، قد يحرفون العزيز ويقولون: العزى أما العزيز فهو الله ﷾ وقد يطلق على غير الله ﷾ كوصف، لكن الغرض: أن الرحمن اسم لله ﷾ كما أن الله علم عليه وحده لا شريك له، لكن في معنى الرحمن قالوا: إنه رحمان بجميع خلقه فهو خلق ورزق وأعطى سبحانه فهو رحمان بجميع خلقه سبحانه، والرحيم رحمة خاصة تتعلق بالمؤمنين.
ولذلك ذكر أن الرحيم من صفة للنبي ﷺ يقول: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:٤٣] والله ﷿ كذلك رحيم بالمؤمنين، فالرحمن هو رحمان بجميع العباد، وصفة الرحمن من مقتضاها: أن ينزل الكتب من السماء على قوم كانوا كفارًا رحمة بهم ليدخلوا في دينه، فهو رحمن لأنه نزل الكتب وأرسل الرسل ليقيم الحجة على عباده، وهو رحمن لأنه أرسل الرسل لجميع الخلق ليدخلوا في دينه ﷾، والرحيم مختص بالمؤمنين يوم القيامة فيوم القيامة لا يرحم الكافرين ولا يرحم المشركين، فكأن صفة الرحمن للجميع في الدنيا والرحيم في الدنيا وفي الآخرة وتختص بالمؤمنين؛ ولذلك يكون بينهما عموم وخصوص، فالرحمن فيه عموم وخصوص، والرحيم فيه عموم وخصوص، فالرحمن خصوصه أنه لا يتسمى به إلا الله ﷾، أما الرحيم فقد يوصف به غير الله فيقال: فلان رحيم، وعموم الرحمن أن رحمته عامة في الدنيا من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وإعطاء العقول، والرزق، وإعطاء النفع، وغير ذلك من فضل الله سبحانه، وهذه رحمة واسعة بجميع الخلق، فالكافر حين يعمل شيئًا فإن الله يعطيه في الدنيا فيكثر ماله ويعطيه الولد، أما الخصوص الذي في الرحيم فهو أنه يرحم المؤمنين فقط في الدنيا وفي الآخرة.
والعموم الذي فيه أنه يتسمى به الله ﷾، ويوصف به غير الله ﷾ فيجوز أن يقال: فلان رحيم، والنبي ﷺ بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه.
1 / 3
الفرق بين الحمد والشكر
قال: الحمد لله.
الله ﷿ يستحق الحمد، ويستحق الشكر وبين الاثنين عموم وخصوص، والحمد: ذكر الله ﷿ بالثناء الجميل.
أي: أن تثني عليه ﷾ سواء أعطى أو لم يعط فهو يستحق الثناء ﷾ والله يستحق الشكر؛ لأنه يعطي.
إذًا: الشكر على أنه فعل بك الجميل ﷾، والحمد لأنه مستحق لذلك لذاته ﷾.
والحمد: الثناء بالكلام الجميل باختيار على وجه التعظيم للرب سبحانه، فمورد الحمد تقول: الحمد لله، فتحمد باللسان وتحمد بالقلب، والشكر أعم؛ لأنك تشكر ربك سبحانه بلسانك وبقلبك وبعملك وبذلك يظهر أثر شكرك لله ﷾.
1 / 4
الصلاة على النبي ﷺ
قال: وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
قال الله في كتابه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب:٥٦] فالله يصلي سبحانه، أي: يثني على النبي ﷺ، والله يصلي على المؤمنين.
أي: يرحمهم سبحانه ويستجيب دعواتهم، والملائكة تصلي على المؤمنين.
أي: تدعو لهم، فهنا يقول: وصلى الله على محمد، أي: يطلب من ربه سبحانه أن يثني على النبي ﷺ ويرحم ويتفضل سبحانه.
(وعلى آله) وآل النبي ﷺ كل مؤمن تقي اتبع النبي ﷺ وخاصة آل بيته صلوات الله وسلامه عليهم، فالآل عموم من تبع النبي ﷺ وخصوص آل بيته ﵊.
قال: كتاب التوحيد.
وكتاب مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابةً وكَتْبة، وأصل المادة من الكتب والكتب الجمع، كأن الكتاب جمع حروف في كلمات فتكونت منها جمل تكون منها هذا التصنيف الذي هو الكتاب ومنها كلمة الكتيبة، وهم الجنود المجتمعون.
والكتاب: سمي كتابًا لجمعه ما وضع له.
1 / 5
أقسام التوحيد
التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الإلهية والعبادة.
وفي الفاتحة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢] الله، الإله المألوه، المعبود، والإله له صفات والرب له صفات ومقتضيات، فكونه رب فهو يخلق ويرزق ويفعل ما لا يقدر عليه غيره ﷾، وكونه إله يقتضي ذلك أن على المخلوقين الذين خلقهم سبحانه أن يعبدوه لأنه يستحق أن يعبد، فهو رب وهو إله ﷾؛ ولذلك لما تقول في كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، فلا ينفع فيها أن تقول: أشهد أن لا رب إلا الله؛ لأن الربوبية لم يخالف فيها الكفار إلا من عاند وهو يعلم أنه كذاب مثل النمرود وفرعون، فـ النمرود عاند إبراهيم ﵊ حين قال: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة:٢٥٨] فقال النمرود: (أنا أحيي وأميت) قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر َ﴾ [البقرة:٢٥٨] وظهر عند ذلك كذبه، وفرعون قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص:٣٨] فادعى الألوهية، ثم ارتفع قليلًا وقال لهم: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات:٢٤] وقال: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف:٥١] أفلا ترون كل ما فعلته أنا ربكم الأعلى، ولما قال ذلك إذا بالله يفضحه ويغرقه في البحر، فلما غرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس:٩٠] أي: أنا مثلهم، أنا من هؤلاء المسلمين، وهو مع ذلك ليس على عقيدة صحيحة فهو يقول: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس:٩٠] فالذي ادعى الربوبية النمرود وفرعون والله ﷿ شاهد عليهم وكفى بالله شهيدًا: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف:٨٧] ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف:٩] فشهد الله عليهم أنهم في قلوبهم يقرون بالربوبية، وأن الذي يخلق ويرزق هو الرب الذي في السماء، وجاء في قصة حصين لما كان كافرًا وسأله النبي ﷺ كم تعبد من إله قال: ستة، قال له: أين هؤلاء؟ قال: خمسة في الأرض وواحد في السماء قال: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء.
الذي يرجوه للنفع وللضر هو الذي في السماء، وهذه ربوبية، فهم يعبدون من دون الله ما لا آلهة لا تنفع ولا تضر فيعبدون الآلهة من دون الله ﷾، فالغرض أن الله ﷿ هو الرب وكل مخلوق مقر أن الله ﷿ رب وأنه هو الذي يخلق ويرزق ﷾.
إذًا: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وهو توحيد في المعرفة والإثبات، يعني: معرفة أن الله يخلق ويرزق، وأن الله أسماؤه الحسنى كذا وصفاته العلى كذا، فهذا توحيد علمي خبري، يعني: يقتضي أن تعلم الإله الذي تعبده بأسمائه وصفاته ﷾.
وتوحيد طلبي إرادي من الله ﷾ وهو توحيد الألوهية، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] أي: أنا خلقتهم آمرًا لهم أن يعبدوني؛ ولذلك أخذ الله عليهم الميثاق قبل أن يأتوا إلى هذه الدنيا وهم في ظهور آبائهم من قبل فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف:١٧٢ - ١٧٣] فالله ﷿ أشهد الخلق على أنفسهم بما أودعه في قلوبهم من فطر أن الله سبحانه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات.
إذًا ليس المطلوب أن تعرف أن الله يخلق ويرزق فقط فالكل يعرف ذلك، لكن المطلوب منك أن تقول: لا إله إلا الله، يعني: أنا لن أعبد إلا الله، ولن أتوجه بعبادة إلا إليه وحده لا شريك له، فلذلك إذا قال الكافر: لا رب إلا الله.
لم يدخل في الإسلام، بل لابد وأن يقول: لا إله إلا الله.
يعني: لن أعبد إلا الإله الواحد ﷾.
قال: وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو: اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن من يظن من أهل الكلام والتصوف ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وإنما التوحيد أن تتوجه إلى الله بالعبادة وهو مقتضى لا إله إلا الله، وقد قال الله ﷾ عن الناس: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦]، وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦].
يقول شيخ الإسلام في تعريف العبادة: هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، يعني: في كل شيء أمر الله ﷿ به تطيع فتفعل المأمور، وفي كل شيء نهى الله ﷿ عنه تطيع فلا تفعل المنهي.
وهناك تعريف آخر يذكره أيضًا شيخ الإسلام ﵀ فيقول: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
كل شيء يحبه من أقوال فهو عبادة، ومن أعمال فهو عبادة سواء نطقت بهذه الأقوال أو أسررت بها وسواء عملت الأعمال بجوارحك أو بقلبك، ولذلك يقول ابن القيم: مدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية، يقصد أن العبادة تنقسم إلى أقوال باللسان، وأفعال بالجوارح، وأفعال بالقلب، وكل واحدة من هذه الأقوال والأفعال يدخل تحتها الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمستحب والمباح، والمكروه، والمحرم.
يقول القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع، قال: وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله سبحانه، وتأمل كلمة العبادة فهي من عبد، ومنها: هذا طريق معبد، يعني: طريق مسهل، فالعبادة كأنك تعبد نفسك لله سبحانه، وتذللها وتسهلها، وإذا أمرك أطعته لا يوجد معارضة ولا يوجد منافسة ولا يوجد محادة، وينهاك عن شيء فتنتهي، فالعبادة كأنك جعلت نفسك سهلة ذليلة مطيعة للرب ﷾.
قال الحافظ ابن كثير: عبادة الله هي طاعته بفعل المأمور وترك المحذور.
فهذه تعريفات للعبادة وكلها ترجع إلى معنى واحد وهي: طاعة الله سبحانه على وجه الإذعان له في كل ما يحب ويرضاه ﷾، قال: وهي حقيقة دين الإسلام.
يقول: ومعنى كلمة الإسلام: الاستسلام لله تعالى المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع، والإسلام هو هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله ﷿ لعباده، قال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ﴾ [المائدة:٣] وقال: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج:٧٨] هذه التسمية الجميلة التي لا نرضى عنها بديلًا (أنا مسلم) معناها: أنا مُسَلِّم نفسي لله ﷿، أنا مستسلم لله، أنا مذعن له، أنا خاضع له، أنا خاشع له، أنا مطيع له؛ فإذا قال: أنا مسلم، ثم عصى ربه، فيكون قد انتقص شيئًا من الذي أمره الله ﷿ به من الطاعة.
الإسلام هو: استسلام يتضمن غاية الخضوع والخشوع والانقياد والذل لرب العالمين سبحانه.
وقول الله ﷿: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] يقول علي بن أبي طالب ﵁ إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، ولولا أن الله علمهم لما عرفوا ما هي العبادة، ولكن من رحمة رب العالمين أنه علمهم كيف يعبدونه، وكيف يصلون له، وكم يصلون في اليوم والليلة، وكيف ومتى يصومون، وفي أي شهر يصومون، فعلمهم الله سبحانه ولم يتركهم يعبدونه كيف شاءوا.
قال سبحانه: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة:٣٦] أي: هل يظن أن يترك هملًا لا أحد يسأله؟ كما قال الدهريون: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية:٢٤] أي: إن هم إلا يخرصون ويكذبون، فإن الله ﷿ خلق الخلق لحكمة، وهي أن يعبدوه، ثم يميتهم ليحاسبهم بعد ذلك فمنهم من يكون من أهل الشقاء ومنهم من يكون من أهل السعادة.
إذًا: خلق الله العباد ليعبدوه ونهاهم عن أن يشركوا به شيئًا وعلى الإنسان أن يتأمل في هذا الحديث الذي رواه الترمذي عن الحارث الأشعري أن النبي ﷺ قال: (قال يحيى بن زكريا: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: قال أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده،
1 / 6
الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية
إن بين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص يجتمعان في حق المخلص المطيع وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي فافهم ذلك تنجو من جهالات أرباب الكلام.
يعني: أن الله ﷿ له إرادتان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية طلبية، فالإرادة الكونية القدرية هي التي تتعلق بكن فيكون، فالله ﷿ خلق الخلق منهم كافر ومنهم مؤمن، وهذه إرادة لله ﷿ الكونية القدرية، وهذه الإرادة يستحيل أن يخالف فيها أحد من خلق الله ﷿.
النوع الثاني من الإرادات التي هي الطلب، أي: أن الله ﷿ يطلب من عباده فيريد الله ﷿ من عباده أن يعبدوه، ومع ذلك جعل لهم إرادة وجعل لهم اختيارًا وكسبًا.
إذًا: هنا الإرادة الكونية القدرية ليس للعبد اختيار فيها، لكن الإرادة الشرعية يجعل للعبد اختيارًا فيها يفعل أو لا يفعل فيستشعر العبد أنه مريد وأنه مختار، وأنه قادر على الفعل وعلى الترك، وهنا محل التكليف، ويوم القيامة حين يسأله: لم فعلت كذا؟ لن يقول: يا رب أنت كتبت علي هذا، ولكن العبد يوم القيامة يسأل عن فعله، فيقول: ﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾ [المؤمنون:١٠٦]، يقول العلماء: الإرادة الكونية القدرية تجتمع في المؤمنين والكافرين، من إرادة خلق، وإرادة رزق، وإرادة نفع، وإرادة ضر، وإرادة أن يكون هذا في كذا وهذا في كذا، أما الإرادة الشرعية هي التي تنبني على ما يحبه الله ﷾ ويكون في أوامره الشرعية التكليفية، افعل أو لا تفعل وفي الإرادة الكونية القدرية فإن العبد لا يقدر أن يهرب منها أبدًا، ولا يعجز الله ﷿، والإرادة الشرعية جعل الله للعبد الاختيار فيها ويحاسبه على مقتضى اختياره يوم القيامة، إذًا العبد مكلف وإن كان (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)، والعبد حين يفعل الفعل يستشعر في نفسه أنه مريد، وأنه مكتسب لهذا الشيء، ويستشعر أنه ليس هناك أحد يجبره، صحيح أننا لن نخرج عن مشيئة الله وقضائه وقدره، لكن هذا مع ذلك نستشعر في أنفسنا كمال الإرادة، أنا أريد أن أفعل أن أتصدق، والإنسان النائم يسمع الأذان ويقول: أصلي أو لا أصلي؟ اختياره فهو مريد لذلك ولم يخرج عن علم الله سبحانه وعن قضائه وقدره، ولكن الله ﷿ يعطيه في نفسه ما يشعره بالاختيار، وفي ذلك يحاسبه الله ﷾.
1 / 7
تعريف الطاغوت
قال ﷾: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦] الطاغوت صيغة مبالغة، وهي من طغى فهو طاغ، فلما جاوز الحد أصبح طاغوتًا، فهو المجاوز لحده والخارج عنه، قالوا: من جاوز حده جاور ضده، فالذي يتجاوز الحد الذي له ينعكس إلى الضد فالإنسان يترفع قليلًا قليلًا حتى يقول أنه إله، ثم يقول أنه رب، والذي يعبد من دون الله ﷿ يسمى طاغوتًا يقول ابن القيم - الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله ﷺ إلى طاعة الطاغوت.
إذًا: قوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦]، وقوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة:٢٥٦] تعني: لا إله إلا الله.
قال بعض المفسرين في هذه الكلمة: الطاغوت معناه الشيطان، وجاء عن جابر بن عبد الله ﵁ قال: كهان كانت تنزل عليهم الشياطين، وعمر قال: الطاغوت: الشيطان، فاختلفوا في التفسير اختلاف تنوع فالبعض يذكر من الطواغيت الشيطان؛ لأنه جاوز حده واستكبر على ربه، ولم يسجد لآدم مستكبرًا عليه ولم يطع الله ﷾ فكان فيه الكبر فطغى، وجاوز حده، وقالوا: الكاهن من الطواغيت لأن الله ﷾ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان:٣٤] إذًا هذا علم اختص الله ﷿ به، فيقول الكاهن أنا أعرف هذه الأشياء، أنا أعرف أنه سينجب أو لا، أنا أعرف مكان الشيء الذي سُرق، أنا أعرف كذا وتجده يستعين بالشياطين لكي يثبت أنه يعرف ما لا يعرفه أحد من الناس، إذًا: جاوز حده، فمن قال: الكاهن طاغوت يقصد أنه جاوز حده وادعى شيئًا لا يعلمه إلا الله ﷾، والساحر طاغوت لأنه طغى وجاوز حده وصار كأنه إله عند الناس؛ ولذلك جاء في الحديث أن حده ضربة بالسيف، وإن كان الحديث في إسناده ضعف، والغرض أن الساحر جاوز حده في أنه ادعى أنه يملك النفع والضر، يقول لك: أنا سأعمل لك سحرًا، وسأعمل لك كذا وسأعمل لك كذا، وسأفك لك العمل الذي فيك، وسأربط لك فلانًا، وسأوذي لك فلانًا.
والذي ينفع ويضر هو الله ﷾، والشياطين يعلمون الناس السحر، قال الله ﷿: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [البقرة:١٠٢] فهم يعلمون الناس السحر حتى يقعوا في الكفر بالله سبحانه، ويعتقد الساحر أنه يملك أن ينفع ويضر من دون الله سبحانه، فهو طاغوت.
كذلك من الطواغيت من يبدل شرع الله ﷾، فالله أنزل الكتب على العباد ليحكموا بها، فإذا بالعبد يجعلها وراءه ظهريًا ويقول: لن نحكم بهذا الذي قاله الله ﷿، وقد قال الله في كتابه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:٦٠] قالوا: الطاغوت هنا هو الضليل كعب بن الأشرف، وهو يهودي، فقد ذهب رجل من المنافقين يدعي الإسلام مع رجل من اليهود بينهم خصومة في شيء، واليهودي كان محقًا وكان يقول للمنافق تعال إلى النبي ﷺ يحكم بيننا، فاليهودي حين عرف أن الحق له قال: نذهب للنبي لأنه لن يحكم بالهوى ﵊ فقال المنافق: نذهب إلى كعب بن الأشرف، لماذا كعب بن الأشرف؟ لأنه سيأخذ رشوة، وكعب بن الأشرف يهودي يقبل الرشوة، فرفض حكم النبي ﷺ وذهب إلى كعب بن الأشرف لكي يرشيه ويحكم له كعب بن الأشرف، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله مستحلًا لذلك راضيًا بذلك كالمبدل لشرع الله ﷾.
إذًا الطاغوت: من يغير شرع الله ﷾ ويحكم بالهوى وبغير دين الله ﷾ مستحلًا لذلك.
1 / 8
شرح كتاب فتح المجيد - مسائل في التوحيد
2 / 1
شرح قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال ﷾: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:٢٣] يعني: من الآيات الكثيرات الدالة على أمر الله ﷿ عباده بالتوحيد وقضى بمعنى: حكم، وكتب، وفرض، وألزم ﷾ ألا تعبدوا إلا الله ﷾، وقالوا: بمعنى: وصاكم الله ﷿ ألا تعبدوا إلا إياه ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي: أحسنوا إلى الوالدين إحسانًا، وعبر بالمصدر عن جملة تتضمن فعلًا وفاعلًا ومفعولًا مطلقًا.
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:٢٣ - ٢٤] وهنا: بدأ بذكره سبحانه وبتوحيده وبأمره (قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فأول شيء هو عبادة الله سبحانه، ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان:١٤] فتبدأ بالله ﷾ فتشكره وتحمده سبحانه، ثم يثني بمن لهما الجميل عليك في وجودك في هذه الدنيا بعد الله ﷾ وهما الوالدان، فقال سبحانه: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة:٨٣] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحسانًا عظيمًا، ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ أي: الوالدان وهذه فيها قراءتان، قراءة حمزة والكسائي وخلف: (إما يبلغان عندك الكبر) يعني يبلغ الوالد وتبلغ الوالدة، والكبر هو كبر السن وتقدم العمر، ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا﴾ أي: أحد الوالدين لأنه قد يكون الآخر قد توفي (أو كلاهما) أي أن يكونا حيين جميعًا (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وفيها قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وحفص عن عاصم: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: (فلا تقل لهما أفَّ ولا تنهرهما) وبقية القراء: (فلا تقل لهما أفِّ ولا تنهرهما) ففيها أفٍّ وأفَّ وأفِّ، إذًا كلمة أف يحرم على الإنسان أن يقولها لأبيه وأمه، وبالقياس على ذلك فمن باب أولى لا تضربهما، لا تنهرهما أي: لا تؤذهما بقول فيه نهر: فلا تشتم ولا تسب، وكونه نهى عن أقل الأشياء التي تؤذي، فيه بيان أن ما هو أكثر من ذلك أشد تحذيرًا ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء:٢٣] أي: قولًا لينًا طيبًا مهذبًا فيه توقير للوالدين، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء:٢٤] الجناح: الجانب، وقد يراد بالجناح، جناح الطائر، والإنسان جانبه جناحه وكأنه يقول: اخفض لهما جناح الذل، أي: جناحك الذليل، كأن الإنسان له جانبان، جانب عزيز وجانب ذليل، يقول: اخفض جناحك وتواضع لهما أو استعار ما للطائر من جناح فإن الطائر يأتي على أولاده فينصب جناحه ليحتضن أفراخه ويضمهم إليه، فكأنه يقول: كن مع والديك مثل الطائر في رحمته وحنانه على أولاده، فهنا: «واخفض لهما جناح الذل» يعني: كن ذليلًا معهما لينًا معهما، قال: «من الرحمة» يعني: من شدة الرحمة: ﴿وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:٢٤]، يعني: ادع لهما أن يرحمهما الله ﷿ «كما ربياني صغيرًا»، كما تحننا عليك في الصغر وربياك فادع لهما في الكبر.
وقد احتاج الولد هنا تذكيرًا من الله ﷿ ليدعو لوالديه، ولم يحتج الوالدان لمثل هذا التذكير فالرحمة والحنان موجودة في قلوبهما، إلا في أمر القتل الذي كان عليه أهل الجاهلية من قتل البنات فقد نزل التنصيص عليه في القرآن، وهنا استغنى بما وضع في قلوب الآباء على الأبناء من الرحمة والتحنن عن أن يوصيهم بذلك، والولد وهو صغير يتحنن عليه الأب والأم ويعطفان عليه ويحبانه، وعندما يكبر الابن يبدأ الأب ينزل للمنحنى العمري الذي يصير فيه كالطفل، والإنسان يبدأ صغيرًا فيكبر ثم يبلغ أشده ثم يرجع صغيرًا مرة أخرى، لكن فرق بين الصغر في أوله والصغر في آخره، فالصغير في الأول كان لا يعرف شيئًا وهو محبوب لأنه لا يعرف شيئًا، أما عندما يرد المرء إلى أرذل العمر فيكون هذا الشيء منه مبغوضًا، فاحتاج الإنسان أن يذكر: لا تنس عندما كنت صغيرًا فالآن ارحم والديك وادع ربك ﷾ أن يرحمهما كما ربياك صغيرًا فيذكرك بالتربية وفضل الإنفاق عليك وفضل ما سهرا وتعبا عليك في الصغر.
وجاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب: (إن رسول الله ﷺ لما صعد إلى المنبر قال: آمين آمين آمين)، وهذه الرواية عن أنس رضي الله تعالى عنه، ورواية الترمذي عن أبي هريرة وصححه الشيخ الألباني يصعد درجة على المنبر ويقول آمين، والدرجة الثانية ويقول: آمين، والثالثة ويقول: آمين فسألوا النبي ﷺ عن قوله: (آمين) وقالوا: يا رسول الله علام أمنت؟ فقال النبي ﷺ: (أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك)، و(رغم) أصلها من الرغام، والرغام التراب، والمعنى نزل أنفه في التراب من الذل، يعني أذل وأكره وقهر حتى صار أنفه في التراب، وهذا دعاء من جبريل على الإنسان الذي يذكر عنده النبي ﷺ فلا يصلي عليه، والمعنى ألصقه الله ﷿ بالتراب على ذل منه، (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقال: آمين) ﷺ، فالداعي هو جبريل والمؤمن هو النبي صلوات الله وسلامه عليه (ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج ولم يغفر له) شهر رمضان جائزة من رب العالمين سبحانه لعباده، ليتوب فيه العبد إلى الله ﷿ ويعمل عملًا صالحًا، حتى ينتهي شهر رمضان وقد غفر له، فإذا ذهب شهر رمضان وهو على ما هو عليه من الذنوب والمعاصي فهذا لا يستحق إلا أن يدعا عليه بالذل والرغام (ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين، قال: فقلت: آمين) فدعا على الإنسان الذي عنده أبوه شيخ كبير أو أمه عجوز كبيرة ومع ذلك لم يدخلاه الجنة بطاعتهما في المعروف وببرهما.
وروى الإمام أحمد والترمذي أيضًا عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك والديه قال: أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة) وفيه معنى الحديث السابق.
وعن أبي بكرة ﵁ -وهذا في الصحيحين- قال: قال النبي ﷺ: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) أكبر الكبائر، يعني: الكبائر منها ما هو كبير ومنها ما هو أكبر من الكبير، ومن الكبار المهلكات الموبقات لصاحبها: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وأصل العقوق من عق، وعق بمعنى قطع وقطيعة الوالدين تكون بالشتم وبالسب وبالهجر لهما وعدم طاعتهما بالمعروف قال: (وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) يعني: في قول الزور وشهادة الزور.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: (رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين)، وهذا حديث صحيح رواه الترمذي ورواه الحاكم عن ابن عمرو ورواه البزار عن ابن عمر، وفيه أنك إذا أرضيت والديك سيرضى عنك الله ﷾، وإرضاء الوالدين يكون في المعروف وليس في المنكر أبدًا، فإذا أمرا بالمنكر وبالمعصية وبالشرك قال: ﴿فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان:١٥] أي: لا تؤذهما ولكن لا تطعهما في معصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه.
وعن أبي أسيد الساعدي قال: (بينا نحن جلوس عند النبي ﷺ إذ جاءه رجل من بني سلمة -بكسر اللام وهم بطن من الخزرج- قال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما من بعدهما -أو بعد موتهما-؟ فقال النبي ﷺ: نعم، الصلاة عليهما -بمعنى الدعاء- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) لكن الحديث ضعيف، والحديث رواه أبو داود وابن ماجة وفي إسناده أسيد بن علي وأبوه ولم يوثقهما سوى ابن حبان فالإسناد ضعيف.
لكن العمل على ذلك وأن من بر الوالدين بعد الوفاة أن تبر من كانا يصلانه، وجاء في ذلك حديث عن ابن عمر رضي الله ﵎ عنه يرويه عن النبي ﷺ.
إذًا: من بر الوالدين في الحياة: الطاعة لهما، والإنفاق عليهما، والإحسان إليهما، وعدم قول أف، وعدم النهر.
وبعد الوفاة: أن تتصدق عنهما، وتستغفر لهما، وتدعو لهما وتنفذ عهدهما من بعدهما إذا كان لهما عهد لفلان من الناس أو وعدوا موعدة فافعل ما وعدا به.
(وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) يعن
2 / 2
شرح قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا)
قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ﴾ [الأنعام:١٥١] وهذه الآية كانوا يسمونها الوصايا العشر، يعني: عشر وصايا ذكرها الله ﷾ في هذه الآية يقول: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم» أي: ما وصاكم بتركه من الإشراك بالله ﷾، ثم ذكر أنه أمركم بالإحسان إلى الوالدين قال: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ﴾ [الأنعام:١٥١] وكان هذا شائعًا في الجاهلية وخاصة قتل البنات، فقال الله ﷿: «ولا تقتلوا أولادكم» والولد يطلق على الذكور والإناث، ولذلك نجد في آية الكلالة: ﴿إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء:١٧٦] أي: ليس له أبناء ذكور ولا إناث، فولد يدخل فيها الذكور ويدخل فيها الإناث، وكان الشائع عندهم قتل البنات وكانوا يزعمون أن البنت إذا كبرت وتزوجها الرجل فلعلها ولعلها تقع في الزنى ولعلها تفعل كذا فكانوا يقتلون البنات، ولكن الله ﷿ فضحهم فيما يقولونه وأن ما يبطنونه هو الخوف من الفقر، أما الذكر فإنه حين يكبر سيذهب يقاتل معه ويسرق له ويغتصب معه، وسيفعل معه الذي يريده فيتركه من أجل ذلك، أما البنت لن تعطيه شيئًا، فكان يدعي أنها سبب فقره ونسي أن الله هو الرزاق سبحانه فكانوا يئدون البنات وكانوا غاية في القسوة، ومن ذلك ما جاء في قصة الرجل الذي أخذ ابنته وذهب ليدفنها في التراب وكان عمرها سنتين، أثناء ما كان يحفر لها قبرها كانت تمسح التراب عن لحيته ووجهه ورغم ذلك يأخذها ويضعها في القبر ويدفنها، ثم يرجع وكأنه عمل شيئًا كبيرًا حيث قتل ابنته، فأي قسوة هذه القسوة؟! وكانوا على ذلك حتى جاء الإسلام وهذب قلوب هؤلاء الناس وعقولهم، لقد كان من ينظر في أفعالهم يراهم مجانين لا يفهمون، فالبعض منهم كان يعبد تمثالًا يصنعه بيده، ثم يعبده من دون الله ﷾، فأين عقل هذا الإنسان الذي جعله يصنع التمثال ثم بعد ذلك يعبده من دون الله؟! والآخر يصنع تمثالًا من العجوة فإذا جاع أكله وصنع غيره، فأين عقل هذا الإنسان؟ والثالث: يريد أن يعبد شيئًا وهو في السفر فيصعب عليه حمل تمثاله الذي صنعه في البيت، فإذا بلغ الصحراء مع غنمه فبدل أن يصنع التمثال من ماء وتراب يصنعه من لبن ويعبده من دون الله وهو مسافر إلى أن يرجع للصنم الذي له في البيت فيعبده من دون الله، هؤلاء هم أهل الجاهلية وهذه عبادتهم.
قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء:٣١] أي: سنرزق هؤلاء ونرزقكم، فلا تقتل الطفل خشية أن يطعم معك.
وقد جاء في حديث النبي ﷺ في الصحيحين عن ابن مسعود ﵁ قال: قلت (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) أعظم الذنوب أن تعبد غير الله، قال: (قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك).
فهو هنا أيضًا ﷺ يظهر ما في قلب هذا الذي يقتل ابنه وهو خشية أن يطعم معه فيقل الأكل الذي في البيت وينسى أن الله هو الرزاق الكريم سبحانه قال: (قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) والزنى كله حرام، لكن من أفحش الزنى أن يزني بحليلة جاره الذي استأمنه على بيته فيقع في هذه الجريمة- والعياذ بالله- قال: (وتلى رسول الله ﷺ هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان:٦٨ - ٧٠]») والمقصد من الحديث الأمر بأن لا تشرك بالله، ولا تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.
وجاء في حديث آخر في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) فحرم أن تعق أمك أو تقتل ابنتك، (ومنعًا وهات) يعني: كثرة الكلام (وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال) أي: كره أن تظل تسأل دائمًا، فتكون حياتك على هذا المنوال، بل تعلم العلم ولا تكثر من السؤال فإن هذا كرهه الله ﷾ لكم، (وكره لكم قيل وقال) أي: الكلام الكثير.
وجاء في حديث ابن مسعود في الصحيحين أيضًا قال النبي ﷺ: (لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه) ﷾.
قال: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام:١٥١] يعني: هذه الأشياء التي حرمها عليكم بإمكانكم فهمها والاستجابة لها وقد بدأ الله في هذه الآيات بذكر المناهي، ثم قال: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام:١٥٢]، أي: لا تقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ ثم أعطه ماله وبعد أن تعطيه ماله فلك تتعامل معه بعد ذلك.
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [الأنعام:١٥٢] فأمر أن توفوا الكيل فإذا كلتم فوفوا، وإذا وزنتم فوفوا: ﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [الأنعام:١٥٢] لا يكلفكم ما لا تطيقون، فأمر الله ﷾ بإيفاء الكيل والميزان، وأخبر أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالإنسان مطلوب منه قدر المستطاع وما لا يقدر عليه لا يكلفه الله ﷿ إياه قال: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام:١٥٢]، أي: قل العدل ولو على نفسك ولو على الوالدين والأقربين، ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام:١٥٢] أي: تتذكرون عهد الله وميثاقه فتفعلون ما أمر وتجتنبون ما نهى وزجر.
قال سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ [الأنعام:١٥٣]، فبين لكم الصراط الذي هو شرعه بهذه الآيات وبغيرها، ووضح الدين وبين معالم الشريعة، وقال: هذا صراط أي: طريق مستقيم أوله ما أنت عليه الآن في الدنيا وآخره إلى جنة الله ﷾، قال: ﴿فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:١٥٣] روى الإمام أحمد عن ابن مسعود ﵁ قال: (خط رسول الله ﷺ خطًا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيم، ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:١٥٣])، فدل الحديث على أنه كان يعلم الناس حتى بالإشارة وبالرسم، فرسم لهم خطًا أمامهم وقال: (هذا صراط الله مستقيم) ورسم عن يمينه خطوطًا وعن شماله خطوطًا وأخبر أن هذه خطوط الشياطين كل سبيل منها عليه شيطان يدعو الناس إليه ثم قرأ الآية: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام:١٥٣]، فإذًا لا تنحرف عن صراط الله ﷿، وسر على طريقه المستقيم، قال: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام:١٥١].
يقول ابن القيم ﵀: ولنذكر في الصراط المستقيم قولًا وجيزًا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فقال: وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلًا لهم إليه، ولا طريق إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلًا لعبادة الله وهو إفراده بالعبادة وإفراد رسله بالطاعة، فهنا طريق الله سبحانه هو تجريد التوحيد لله رب العالمين سبحانه، تعبد الله وتطيع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
قال: ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك -أي: أن تحب الله بقلبك- وترضيه بجهدك كله فلا يكون بقلبك موضع إلا معمورًا بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
يقصد أنك تصل إلى طريق الله سبحانه بهذه الكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله وتحب الله سبحانه، وتحب طريق الله، وتعرف هذه الطريق عن طريق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فهو المبين، فمبناها على العبادة التي ركناها الإخلاص والمتابعة، الإخلاص لله بأن تقول: لا إله إلا الله وتعبده وحده لا شريك له، والمتابعة للنبي ﷺ أن تتعلم منه كيف تعبد الله.
قال ابن مسعود ﵁: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [الأنعام:١٥١] إلى آخر هذه الآية، يعني: هذه وصية النبي ﷺ التي عليها خاتم النبي ﷺ، وإن كان هذا إسناده ضعيفًا عن ابن مسعود ﵁ فقد رواه الترمذي وقال: حسن غريب لكن في إسناده رجل
2 / 3
شرح حديث معاذ: (كنت رديف النبي على حمار)
وعن معاذ بن جبل ﵁ قال: (كنت رديف النبي ﷺ على حمار، فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) وحديث معاذ هذا حديث عظيم وفيه حق الله على العباد وحق العباد على الله رب العالمين، مع العلم أنه ليس للعباد على الله حق يوجبونه هم عليه سبحانه ولكن هو الذي يلزم نفسه تفضلًا وتكرمًا منه ﷾ مثلما يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا) والله ﷿ لا يظلم أحدًا وهو الحكم العدل ﷾، والله خلق العباد ويملك العباد والظلم هو وضع الشيء في غير محله، وأن تأخذ ما ليس لك، وهذا لا يكون لله ﷿، فكل شيء يملكه الله ﷿، وكل شيء يجعله في مكانه بحكمته سبحانه فكيف يظلم سبحانه؟ ومع ذلك يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي)، فالله وهو الخالق سبحانه يحرم الظلم على نفسه فلا يظلم المخلوق غيره من باب أولى يقول: (وجعلته بينكم محرمًا فلا تظَّالموا -أو فلا تظَالموا-).
2 / 4
بيان حق الله على العبيد وحق العبيد على الله
يقول معاذ: (كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلون) والحديث أخرجاه في الصحيحين وفيه حق الله سبحانه على العباد وهو أن تعبدوه وحده لا تشركون به شيئًا، وتعبدونه بشرعه الذي أنزله في كتابه والذي أرسل به النبي صلوات الله وسلامه عليه، هذا حق الله على العباد، وإذا فعلوا ذلك كان حقًا على الله سبحانه ألا يعذبهم ﷾ فإذا فعل العباد الطاعات وانتهوا عن المعاصي هذا يقتضي أنهم يعبدون الله.
وعبادة الله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.
فالعبد حين يكون عبدًا لله موحدًا له مطيعًا له عابدًا له، يفعل ما أمر به، وينتهي عن ما نهي عنه، يستحق أن يكون من أهل الجنة، فإذا عصى الله سبحانه فهو في مشيئة الله سبحانه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإذا أشرك بالله وكفر فقد كتب الله عليه أن يكون في النار: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨].
فالإنسان الذي يشرك بالله لا يغفر الله ﷿ له بل هو من أهل النار.
وجاء في حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: (أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ثم تلا قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام:١٥١]، حتى فرغ من الثلاث الآيات ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله بها في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه) وهذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح.
فالإنسان الذي يوفي بما عاهد الله ﷿ عليه في الدنيا فأجره أن يكون في الجنة، والإنسان الذي ينتقص من الحقوق التي أمر بها فإما أن يعاقبه الله ﷿ في الدنيا بالمصائب فالله يجعلها كفارة، أو أنه يتركه إلى يوم القيامة، فإن شاء عفا وإن شاء عذبه ﷾.
يقول الشارح: معاذ بن جبل هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة.
ومعاذ بن جبل كان سنه صغيرًا حين أسلم ﵁ فقد كان عمره حوالي ثمانية عشر سنة أو أقل من ذلك، مات ﵁ وكان عمره ثمانية وثلاثين سنة رضي الله ﵎ عنه، وهو الذي يقدم العلماء يوم القيامة ويسبقهم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، يعني: في سن ثمانية وثلاثين سنة ويصل لهذا العلم العظيم الذي يشهد له النبي ﷺ فقد روى الترمذي وهو حديث صحيح وفيه يقول أنس بن مالك قال رسول الله ﷺ: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) ﵃ فكل واحد من هؤلاء له فضيلة، وكلهم علماء ولكن أعلمهم بالحلال والحرام كان معاذ رضي الله ﵎ عنه، وهذه شهادة من النبي ﷺ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ويذكر معاذ بن جبل في هذا الحديث أنه كان رديف النبي ﷺ، يعني: النبي ﷺ كان راكبًا حمارًا ومعاذ خلف النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيه تواضع النبي ﷺ وهو سيد الخلق ومع ذلك كان يركب حمارًا ﵊، ويردف أيضًا خلفه وهو راكب ﵊ فقال لـ معاذ: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟).
يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل.
إذًا: حق العباد على الله ﷾ هو فضل من الله بأن يجعل هذا العبد يستحق من الله سبحانه، وليس أن العبد سيحاسب ربه ويقول له: لماذا لم تعطني، ولكن تفضل من الله على العبد أن يعطيه ذلك فقال: هو استحقاق إنعام وفضل وليس هو استحقاق مقابلة.
لما أقول: أنا ذهبت اشتري من البائع السلعة الفلانية، فهنا أنا أستحق أن آخذها وهو يستحق علي المبلغ -المال- فإذًا: استحقاق المقابلة هو المعاوضة، فهو سيعطيني سلعة وأعطيه مقابلها الثمن، والعباد لا يستحقون على الله هذا الاستحقاق فالعباد لم يعملوا شيئًا لله ﷾ فهو الذي خلقهم وهو الذي رزقهم، وهو الذي أنعم النعم العظيمة على عباده، إذًا العبد لا يستحق شيئًا على وجه المقابلة، ولكن العبد فرض عليه أن يعبد الله سبحانه؛ لأنه خلقه، فلو أحصى نعم الله ﷿ عليه وأحصى عبادته فسيجد أن عبادته لا تبلغ أن تكون ثمنًا لإدخاله الجنة يوم القيامة.
وقد قال النبي ﷺ: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) وقال الله ﷾: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:١٧].
فتنظر المعنى في الآية وفي الحديث فقوله في الآية: «جزاء بما كنتم تعملون» يعني: أنعم الله ﷿ عليكم بسبب أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، إذًا: عملك سبب للجنة، والباء هنا سببيه، وفي الحديث: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) والباء هنا تسمى باء الثمنية، يعني: عملك ليس ثمنًا للجنة فعمل الإنسان ضعيف جدًا ومهما عمل من عمل لن يكون ثمنًا للجنة، ولكن يكون سببًا لدخول الجنة، فسبب دخولك الجنة العمل، أما ثمن الجنة فهو فضل الله ﷿ عليك أن أرشدك للعبادة وأن أدخلك الجنة فيقول النبي ﷺ: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) كثمن لهذه الجنة (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فالعمل سبب للجنة وليس ثمنًا لها.
ثم يقول بعد ذلك: لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة -الله كتب على نفسه الرحمة- وأوجب على نفسه حقًا لم يوجبه عليه المخلوق.
ومن يوجب على الله شيئًا؟ ولكن الله سبحانه هو الذي كتب على نفسه الرحمة، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه، حاشا لله سبحانه، وقد قاسوا الخالق ﷾ على المخلوق، فيقولون كما أن المخلوق يجب عليه أشياء فالخالق كذلك.
فقالوا: العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وتناسوا قدرة الله سبحانه وإقداره لعباده على العمل، وقالوا: العبد هو الذي يفعل لنفسه.
فيقول ابن تيمية ﵀: قالوا: وإن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب لهذا الجزاء.
قال: وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية.
فهذه قدرية وهذه قدرية، ولكن القدرية الأولى قدرية جبرية وكلهم يتكلمون في قضاء الله ﷿ وفي أمر القضاء والقدر بكلامهم السخيف وبأفكارهم المنحرفة، فيقول القدرية أتباع جهم وهم جبرية أصلًا: إن العاصي حين يفعل المعصية هو مجبر عليها، حتى قال أحدهم: ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فهو الذي قدر عليه ذلك، فإذًا هو مطيع في حالة الطاعة وفي حالة المعصية وهذا كلام لا يقوله إنسان يفهم كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
والنوع الثاني: القدرية النافية، وهم النفاة للقدر، يقولون: إن الله لا يقدر شيئًا بل العبد هو الذي يقدر لنفسه أشياءه، فالله لا يقدر للعبد الشر، بل العبد هو الذي يعمل هذا الشر والعبد خالق لفعله، فهؤلاء القدرية النفاة، يعني: النفاة لتقدير الله ﷿، ونحن حين نتكلم في أمر القضاء والقدر نفصل في هذا الشيء.
يقول ابن القيم في العبادة: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان عبادة الله ﷾ أن تحب الله أكمل وأعظم الحب، وأن تخاف من الله سبحانه وتذل نفسك له أعظم الذل فلا يجتمع ذلك إلا لله ﷿؛ فتحب الله ومع ذلك تكون ذليلًا بين يديه ﷾.
قال هنا: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولم يقل أحدًا، ولكن قال شيئًا فيدخل تحته كل شيء من دون الله ﷿، فمن عبد شيئًا وكل إليه يوم القيامة قال: (ولا يشركوا به شيئًا).
أما حق العباد على الله الذي تفضل ومنحهم إياه قال: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا) فمن مات على حقيقة التوحيد فالله ﷿ لا يعذبه، فإتيانه بالتوحيد يدفعه لعبادة الله سبحانه حتى وإن وقع في بعض المعاصي فالله يغفر له بإيمانه وبتوحيده وهو في مشيئة رب العالمين يوم القيامة ولكن في النهاية المؤمن الموحد لرب العالمين يدخله الله ﷿ الجنة وإن أصابه قبل ذلك من النار ما أصابه.
ولما سمع معاذ بن جبل ذلك -وهو يحب الخير للناس ﵁ قال: (قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس) أفلا أقول للناس: إنه من مات على التوحيد دخل الجنة، فقال النبي ﷺ: (لا تبشرهم فيتكلوا) لا تقل للناس هذا الشيء، فلعل منهم من يفهم ومنهم من لا يفهم فلعلهم يتكلون ويقولون مثلما يقول كثير من الناس الآن: أنا أقول لا إله إلا الله ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فليس مهمًا عنده معرفة شروط لا إله إلا الله، وليس مهمًا أن يفهم معنى لا إله إلا الله، فإذا سألته ما معنى لا إله إلا الله؟ يقول لك: الله الذي خل
2 / 5
مسائل مستفادة من حديث معاذ في بيان حق الله على العبيد وحق العبيد على الله
يقول الشيخ بعد أن ذكر هذا الحديث: فيه مسائل يعني فوائد يذكرها في الباب: المسالة الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
أي: لماذا خلق الله الجن والإنس؟ قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] فإذًا: أنت مخلوق في الدنيا لعبادة الله بالمعنى الأعم، وليس المعنى أنك مخلوق من أجل أن تصلي فقط، فتظل الليل والنهار تصل أو لأجل أن تصوم فقط لا، ولكن تعبد الله ﷾ بكل أنواع العبادة، سواء كانت معاملات، أو أحوالًا شخصية، فتعبد الله سبحانه في كل شيء بتنفيذ ما أمر وبالبعد عما نهى الله ﷾ عنه.
المسألة الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة بين النبي ﷺ وبين المشركين وقعت فيه، فكان يقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله) يا بني عبد مناف يا بني فلان، يا بني فلان، فلما اجتمعوا عليه قال: قولوا كلمة واحدة أضمن لكم بها الجنة، قالوا: نقول عشر كلمات، تريد ماذا؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، فقالوا: إلا هذه، ففهم المشركون منها ما لم يفهمه الكثير من الناس، فقد فهموا أن لا إله إلا الله معناها التزام بشيء بعد ذلك، وطالما أن هناك التزامًا فلن نقول هذه الكلمة، يقول الحافظ ابن حجر: اقتصر على نفي الإشراك بالله لأنه يستدعي التوحيد، لا تشرك بالله يعني اعبده وحده لا شريك له سبحانه، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، فلن نعرف التوحيد الخالص، ولن نعرف ما يريده الله لنعبده به إلا بأن نصدق النبي ﷺ فنتبع ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
إذًا: كلمة التوحيد أصل الأصول، وعند وفاة أبي طالب كان النبي ﷺ يقول له: (يا عم قلها كلمة واحدة، أشهد لك بها عند الله، فقال: والله لوددت يا ابن أخي أن أقر بها عينك، لولا أن يقولوا: خاف الموت)، إن لم تخف من الموت فستخاف من ماذا؟ كل الخلق يخافون من الموت، فهو خاف أن يقولوا: خاف من الموت، وشاء الله ﷿ أن يختم له بالكفر، فمات على ذلك فصار من أهل النار كما ذكر النبي ﷺ.
المسألة الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله.
من لم يأت بكلمة التوحيد لا إله إلا الله ومقتضى ذلك: توجيه كل العبادة إلى الله ﷾ وفيه معنى قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون:١ - ٣] أي: أنا أعبد الله سبحانه، وأنتم تعبدون مع الله غيره فأنا لا أعبد ما تعبدون ولستم أنتم على التوحيد الذي أنا عليه ولا أنا عابد في المستقبل ما أنتم عليه ولا أنتم ستعبدون ما أعبد وأنتم على هذا الحال لكم دينكم ولي دين.
المسألة الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل عبادة الله، وتعريف العباد بحق الله سبحانه وبما يحبه الله ﷾ وما يبغضه، وتعريف العباد بمنهج الله وشرائعه.
المسألة الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة، والنبي ﷺ أرسل إلى الخلق جميعهم صلوات الله وسلامه عليه، وكل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، فالله ﷿ لم يترك أمة من الأمم إلا وأرسل إليها من يعلمها رسولًا كان أو نبيًا وجاء النبي ﷺ فكان للخلق جميعهم.
المسألة السابعة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت وهو قوله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة:٢٥٦] وشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي الكفر بالطاغوت والتخلي عن جميع ما يعبد من دون الله ﷾، فلا ينفع الإنسان أن يقول أنه يعبد الله ويعبد غير الله معه فقد كان المشركون يقولون: نعبد الذي ينفعنا ويضرنا في السماء ومعه غيره فلم تنفعهم هذه العبادة.
المسألة الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله سبحانه فذكرنا من أصنافه الشياطين، والذي يبدل شرع الله سبحانه، ومن يستحل الحكم بغير دين الله سبحانه، والكاهن والساحر والعراف كلهم من الطواغيت.
المسألة التاسعة: عظم شأن الآيات المحكمات الثلاث في سورة الأنعام التي بدأها الله ﷿ بالنهي عن الشرك.
المسألة العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله: ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ [الإسراء:٢٢]، إلى آخره.
المسألة الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق بدأها الله ﷿ بقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء:٣٦].
المسألة الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله ﷺ عند موته بعبادة الله، وأن من عبد الله سبحانه ﵎ استحق أن يكون في الجنة.
المسألة الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
المسألة الرابعة عشرة: معرفة حق العباد على الله ﷿ إذا أدوا حقه بالتوحيد فإن الله ﷿ يدخلهم الجنة.
المسألة الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
يعني: النبي ﷺ أخبر بها معاذًا، وأخبر بها أبا هريرة وعرفها عمر ﵁، وعرفها البعض ولكن الكثيرون لم يعرفوها، حتى لا يتكلوا على هذه الكلمة وهذه كلمة عظيمة وسبب لدخول الجنة ولكن مع معرفة مقتضى هذه الكلمة.
المسألة السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة، فيكتم العلم لعدم فهم الناس له مثلًا وغيرها من المصالح، فكان أحيانًا يكتم الشيء للمصلحة ولكن لا يكتمه عن الجميع، إنما يكتم عن البعض كهذه الكلمة التي أخبر بها النبي بعضًا من أصحابه ولم يخبر الجميع خوفًا من أن يتكلوا وإن جاءت أحاديث كثيرة عنه ﷺ في قول من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، مثل قوله: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه) لكن ينبغي أن توضح أنه ليس بمجرد كلمة لا تفهم معناها بل عليك أن تعرف معناها ومقتضياتها حتى تستحق ذلك.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره كما بشر النبي ﷺ أصحابه أو معاذًا بذلك.
المسألة الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة رب العالمين، والله رحمته واسعة، فلو أن إنسانًا قال: أنا لن أصلي ولن أزكي ولن أعمل شيئًا لأن الله رحيم فنقول له: الله هو الذي أخبر: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾ [الحجر:٤٩ - ٥٠] فلا تأخذ جزءًا من الآية وتنسى الباقي، فالله غفور رحيم وهو شديد العقاب قال: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج:١٢ - ١٤] فبطشه شديد وهو الغفور الودود، فتأخذ بالقرآن كله وليس ببعضه.
المسألة التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، أو يقول: لا أعلم، أو يقول: لا أدري.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض، إذ ليس كل علم يعرفه كل الناس، ولكن قد يعلم البعض ما يفهمون ويعلم الآخرون الذي يفهمونه أيضًا.
المسألة الحادية والعشرون: تواضعه ﷺ لركوبه الحمار، وأحيانًا كان يركب البغل صلوات الله وسلامه عليه وأحيانًا يركب الجمل.
المسألة الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة وهذا إذا كانت الدابة مطيقة، وإذا كانت لا تطيق فلا يجوز.
2 / 6
فضائل معاذ بن جبل
المسألة الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل وذكرنا أن معاذًا رضي الله ﵎ عنه يقدم العلماء وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية ورواه الطبراني أيضًا: (معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة) هذا حديث صحيح والرتوة بمعنى خطوة أو بمعنى رمية بحجر، فهو سابق للعلماء يوم القيامة رضي الله ﵎ عنه وكانت له حكم عظيمة.
فروى الإمام أبو داود بإسناد صحيح أن معاذًا رضي الله ﵎ عنه كان لا يجلس مجلسًا للذكر حين يجلسه إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون المتشككون وقد روى هذا عن معاذًا يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ ﵁، قال يزيد فقال معاذ بن جبل يومًا: إن من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال.
ومعاذ لم يطلع الغيب، فيكون أنه أخبره النبي ﷺ بذلك، قال: (ويفتح فيها القرآن)، أي: أن الله سيفتح عليهم فيحفظون القرآن، قال: حتى يأخذه المؤمن والمنافق أي: حتى يحفظ القرآن المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره أي: سأصنع لهم بدعة من البدع لكي أجمعهم حولي، وهذا أصل البدع وذلك أن الإنسان يحب أن يجمع الناس من حوله حتى يكون له أتباع قال معاذ ﵁: فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة، وجاء عن النبي ﷺ: (كل بدعة ضلالة)، قال معاذ: وأحذركم زيغة الحكيم يعني: يمكن للإنسان أن يكون عالمًا وحليمًا لكنه قد يزيغ أحيانًا ويقع في الغلط، فأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم.
قال يزيد: قلت لـ معاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال معاذ ﵁: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، هذا كلام العلماء والحكماء ومعاذ عالم وحكيم ﵁، فلو كل إنسان أخطأ تركناه وابتعدنا عنه لأوشك الإنسان ألا يجد أحدًا يتبعه، والعالم قد يهفو وقد يصبو وقد يقع في الخطأ، وكونه وقع في الخطأ مرة فليس معناه أنك تتركه.
فالعالم غير معصوم قد يقع في شيء من الخطأ ولكن لا تتركه فتخسر علمًا كثيرًا، قال: فإنه لعله أن يراجع نفسه ويقول: أنا أخطأت في هذا الشيء، وتلقى الحق إن سمعته فإن على الحق نورًا.
يعني: حين تسمع الحق من أي إنسان صغيرًا أو كبيرًا اقبل منه هذا الحق فإن على الحق نورًا.
ومعاذ بن جبل كان أعلم الصحابة بالحلال والحرام وكان من حكمائهم أيضًا رضي الله ﵎ عنه، وكان جميلًا طويلًا بسامًا، وكان جميل المنظر من رآه أحبه ومن ذهب إلى مسجده ورآه أحبه وإن كان لا يعرف من هو، ذهب إليه رجل من التابعين فوجده في المسجد وحوله الناس إذا تكلم استمعوا له ويتبسم للناس، فسأل: من هذا؟ أو ذهب إليه وقال: إني والله أحبك في الله.
وقد أسلم قديمًا رضي الله ﵎ عنه وكان صغيرًا حين أسلم، ولما رجع الأنصار بعد بيعة النبي ﷺ في العقبة الثانية أظهروا الإسلام في المدينة وكان هناك بقايا من شيوخ أهل المدينة منهم عمرو بن الجموح رضي الله ﵎ عنه وكان له ابن اسمه معاذ بن عمرو بن الجموح من بني سلمة وكان معاذ بن جبل يومئذ فتى فأسلم معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو وأسلم فتيان معهم بإسلامهم، وكان عمرو بن الجموح سيدًا في قومه وكان يعبد صنمًا يسميه مناف أو مناة، من دون الله ﷾ وكان عادة أهل الجاهلية في جاهليتهم أن الأشراف الكبار لا يعبدون الأصنام التي يعبدها الناس بل يكون للشريف صنم لوحده في البيت يعبده من دون الله ﷾، فاتخذ هذا الصنم من خشب في بيته فسماه مناة أو مناف فلما أسلم فتيان بني سلمة ومنهم معاذ بن جبل ﵁، وكان معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو يدلجون بالليل على الصنم الذي لـ عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض الحفر يريدون الرجل أن يسلم، فيأخذون الصنم الذي له ويذهبون به إلى البئر الذي فيه نجاسة ويرمونه بداخله، ويصبح عمرو بن الجموح يبحث عن إلهه الذي كان يعبده، ويجده في بئر النجاسة، فيأخذه ويطيبه ويرده إلى مكانه مرة أخرى.
وأسلم الناس وكان الذي يعلمهم الإسلام في المدينة مصعب بن عمير رضي الله ﵎ عنه، وذهب مصعب ليقابل عمرو بن الجموح فقال له: ما هذا الذي جئتمونا به؟ فقال مصعب ﵁: إن شئت جئناك فأسمعناك الذي جئنا به، فقال له: نعم، وكان رجلًا عاقلًا، لكن في عبادة غير الله ﷾ لم يكن عاقلًا، فقرأ عليه مصعب بن عمير صدرًا من سورة يوسف فـ عمرو سمع القرآن وأعجبه، ولكن أيضًا ما زال يعبد الصنم، فقال: إن لنا مؤامرة مع قومنا يعني -مشاورة مع قومنا- فاتركنا نتشاور مع قومنا فخرج مصعب ودخل هو على التمثال الذي له، وكانت عقول أهل الجاهلية في أمر الشرك بالله ﷾ في قمة السخافة لأجل هذا لا تعجب أن تجد عالمًا في الفلك وعالمًا في الفضاء ثم يعبد صنمًا من دون الله ﷾، فالله يعطيه عقلًا في بعض الأمور ويسلب منه هذا العقل في أمور أخرى، فإذا به يعبد غير الله وهذا الرجل كان سيدًا في قومه وشريفًا من شرفائهم ويرجعون إليه في المشورة ومع ذلك يعبد هذا الصنم، فذهب عمرو بن الجموح إلى التمثال يكلمه فقال: يا مناف أو يا مناة تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير؟ أي: هل تستطيع أن ترد عليهم أو تستطيع أن تصنع فيهم شيئًا؟ ثم علق عليه سيفه وقال: دافع به عن نفسك أمام هؤلاء القوم، وفي اليوم الثاني إذا بـ معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو يأخذون هذا التمثال ويرمونه في الحفرة، وفي يوم من الأيام خرج عمرو بن الجموح وقال لأهل بيته: أنا ذاهب للمال الذي لي أوصيكم خيرًا بالإله، أوصيكم خيرًا بمناة، وخرج وترك مع هذا التمثال سيفه، ورجع إليهم فوجدهم قد كسروا التمثال وألقوه في النجاسة وأخذوا السيف منه فنظر إلى التمثال ثم قال: أف لك: والله لو كنت إلهًا لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلهًا مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن وجمع بني سلمة وقال لهم: أي إنسان أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا، قال: ألستم على ما أنا عليه؟ قالوا: نعم، قال: فإني أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأسلم القوم بإسلامه رضي الله ﵎ عنه، هذا عمرو بن الجموح الذي جاء في يوم أحد وكان أعرج رضي الله ﵎ عنه وسمع النبي ﷺ يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) فقام يريد القتال وأولاده يقولون له: أنت أعرج وقد عذرك الله فقال: والله لأطأن عليها في الجنة فقاتل حتى قتل رضي الله ﵎ عنه لقد أنقذه الله ﷿ من الشرك، وبعد فترة يسيرة من إسلامه قتل شهيدًا رضي الله ﵎ عنه فكان الفضل لله ﷿ ثم لـ معاذ بن جبل ولـ معاذ بن عمرو بن الجموح ولـ مصعب بن عمير رضي الله ﵎ عنهم أن دلوه على دين الله ﷾.
2 / 7
شرح كتاب فتح المجيد - بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب [١]
من أتى بتوحيد الله سبحانه على الحق الذي يريده، فإن الله يكفر له بتوحيده ذنوبه سواء كانت صغيرة أو كبيرة، حتى وإن استحق العبد دخول النار فإن الله سيخرجه منها متى ما شاء سبحانه.
3 / 1
فضل التوحيد وأثره في تكفير الذنوب
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
إن الباب الثاني من كتاب التوحيد كما يقول المصنف ﵀: (بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢].
عن عبادة بن الصامت ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه.
ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».
إن توحيد الله ﷾ ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية.
وتوحيد الإلوهية.
وتوحيد الأسماء والصفات.
فمن أتى بالتوحيد على الوجه الذي يريده الله ﷾ فتوحيده يكفر الله ﷿ به ذنوبه مهما بلغت، وذلك إذا أتى بحق لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي دعا النبي ﷺ إليها العرب والعجم وجميع الخلق، فقد دعا الإنس والجن إلى أن يقولوا: (لا إله إلا الله).
وقد عرفت العرب معنى هذه الكلمة، ولذلك رفضوا أن يدخلوا في دين النبي ﷺ في البداية، حتى عرفوا الحق الذي مع النبي ﷺ، وأسلم منهم طوائف، ثم أسلم الباقون بعد ذلك، وعرفوا التوحيد الذي يريده رب العالمين من عباده.
ففضل التوحيد جاء في الأحاديث كما سنرى، أن الذي وحد الله سبحانه وقال: لا إله إلا الله بحق، أي: قال: هذه الكلمة مخلصًا وأتى بشروطها التي أراد الله سبحانه من العباد، فإن هذا يستحق أن يدخل الجنة، ومن كان آخر كلامه قبل مماته (لا إله إلا الله) يغفر الله له بذلك، ويدخله الجنة.
قال: (بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)، يعني: ما يكفره توحيد العبد ربه من الذنوب من صغائر ومن كبائر، فالله يغفر ويتجاوز، حتى وإن استحق هذا العبد أن يدخل النار بشيء من ذنوبه، ولكن هذه الكلمة في النهاية تنفعه أن يخرج من النار، ويدخل الجنة.
3 / 2
معنى الظلم في قوله تعالى: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)
وقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢].
في هذه الآية العظيمة ذكر الله ﷿ المؤمنين الذين آمنوا بالله سبحانه، وآمنوا برسوله صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ [الأنعام:٨٢] واللبس بمعنى: الخلط، أي: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك بالله سبحانه.
قال: يقول الله تعالى: (﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢] يقول الربيع بن أنس: (الإيمان: الإخلاص لله وحده) يعني: آمن وأخلص لله رب العالمين.
يقول زيد بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.
يعني: أن الله ﷾ قضى للمؤمن أن يكون من أهل جنته إذا لم يلبس إيمانه بظلم، يعني: بشرك.
يقول ابن مسعود ﵄ كما جاء في الصحيحين: أن الصحابة سألوا النبي ﷺ لما نزلت هذه الآية: (أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله ﷺ: ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣]).
وجاء في لفظ البخاري عن ابن مسعود: (لما نزلت: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام:٨٢] قلنا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟) ثم سرد نفس هذا الحديث العظيم.
وكان الصحابة قد فهموا من الآية أن الظلم على عمومه، والظلم يأتي بمعنى الشرك والكفر بالله سبحانه وهو الظلم الأكبر، ويأتي بمعنى الظلم الذي هو دون ذلك، إما كبيرة من الكبائر، وإما صغيرة من الصغائر، فمنه أن يظلم الإنسان غيره، ومنه أن يظلم الإنسان نفسه، فالصحابة فهموا الآية على إطلاقها وعمومها، فقوله: (ولم يلبسوا) أي: ولم يخلطوا إيمانهم بظلم، فقالوا: ومن منا لم يظلم نفسه؟ فلذلك حزنوا وفزعوا من هذه الآية وذهبوا إلى النبي ﷺ وقد شق عليهم ذلك، فقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال ﷺ: (إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣]).
ففهموا من حديث النبي ﷺ أن المقصود بقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام:٨٢] أي: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك بالله سبحانه، لذا جاءوا بالتوحيد على حقيقته، ولم يشركوا بالله ﷾ شيئًا.
فالظلم في هذه الآية الأصل أنه على عمومه، ولكن بين النبي ﷺ أن المقصود في هذه الآية: خصوص نوع معين من الظلم وهو الظلم الأكبر، وهو الشرك بالله ﷾.
وفسرها بالآية التي في سورة لقمان، قال تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣] وهذا أعظم الظلم الذي يظلم الإنسان نفسه به.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: والذي شق عليهم: ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه.
وفيها أن من وراء الإيمان الخالص يستفاد الأمن والأمان في الدنيا وفي الآخرة.
في الدنيا: بعصمة الدماء، وبعصمة المال، وبعصمة الأعراض.
وفي الآخرة: ينجيه الله ﷾ من النار.
فلهم هذا الأمن: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢] أي: يهديهم الله ﷿ في الدنيا إلى هذا الإسلام العظيم، ويزيدهم إيمانًا، ويهديهم في قبورهم للجواب السديد على الملكين في القبر، ويهديهم يوم القيامة لطريق الجنة، فلهم الأمن وهم مهتدون.
فالصحابة خافوا أن أي ظلم يظلم به الإنسان نفسه يخرجه من هذه الآية، فأخبر النبي ﷺ أن المقصود الظلم الأكبر، وهو الشرك بالله ﷾.
3 / 3
أنواع الظلم وتعريف كل نوع وما يلحق بكل نوع من جزاء
يقول شيخ الإسلام ﵀: فبين لهم النبي ﷺ ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر:٣٢].
أورثنا الكتاب: يعني: الكتب السماوية ورثها من خلفوا الأنبياء بعدهم، «فَمِنْهُمْ» أي: فمن هؤلاء الذين ورثوا الكتاب: ﴿ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر:٣٢] فصاروا ثلاثة أصناف، منهم: الذي يظلم نفسه؛ إما بالظلم الأكبر والشرك بالله، والخروج من الدين وإما بالظلم الأصغر، فمنهم ظالم لنفسه فغلبت سيئاته حسناته.
﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ [فاطر:٣٢] أي: له حسنات بقدر السيئات.
﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر:٣٢] هذا الذي غلبت حسناته سيئاته، فقال سبحانه: ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر:٣٢].
وهذا كلام شيخ الإسلام، حيث يقول: وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه، بذنب إذا لم يتب.
أي: الذي أذنب وتاب فإن التوبة تجب ما قبلها، لكن إذا أذنب ولم يتب فهو في خطر المشيئة، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه بهذا الذي وقع فيه، كما قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة:٧ - ٨].
فهنا في باب الوعد: عندما تعمل قدر وزن ذرة من الخير، يعطيك الله ﷿ ثوابها.
وفي باب الوعيد: من يعمل مثقال وزن ذرة (نملة) من الشر فالله يرى هذا الشيء ويحاسب عليه، إلا أن يعفو الله ﷾ ويتكرم بالعفو عن عباده.
يقول شيخ الإسلام ﵀: وقد سأل أبو بكر الصديق ﵁ النبي ﷺ عن ذلك فقال: (يا رسول الله! أينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء -أي: الشدة-؟ فذلك ما تجزون به) الحديث رواه أحمد في مسنده وإسناده فيه أبو بكر بن أبي زهير لم يوثقه إلا ابن حبان فقط وشيخه مجهول.
لكن الحديث معناه صحيح، أن الله ﷿ يكفر عن المؤمنين بما يبتليهم به من مصائب، حتى الشوكة يشاكها يكون له فيها أجر، وقد ثبت هذا المعنى عن النبي ﷺ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (لما نزلت: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:١٢٣] بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال النبي ﷺ: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها).
تنكب الشيء بمعنى: سقط أو وقع على الأرض وجرح بسبب ذلك، فالله ﷿ يؤجره على ذلك؛ فالحديث فيه دليل على أن الآية: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:١٢٣] أي: إلا أن يعفو الله سبحانه ويكفر عن ذلك عندما يكون العبد كثير المصائب في الدنيا.
قال: فإنه يجزى بسيئاته في الدنيا بمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام، والاهتداء التام.
فالإنسان يظلم نفسه بأن يشرك بالله سبحانه، فإن الله خلقه ورزقه وعلمه وأرشده لتوحيده فإذا به يشرك بالله في العبادة؛ فهذا ظلم أكبر.
وظلم آخر: ظلم العباد، بأن يسرق مال غيره، ويأكل مال غيره بغصب ونحوه، ويفعل الأشياء التي يؤذي بها الغير.
قال: وظلمه لنفسه بما دون الشرك.
وظلم العبد لنفسه: الوقوع في المحرمات التي هي دون الشرك، فالذي ينجو من هذه الثلاث: من الشرك بالله، ومن ظلمه للعباد، ومن ظلمه لنفسه بما دون الشرك، له الأمن التام، والاهتداء التام.
نسأل الله ﷿ أن يجعل لنا الأمن التام، والاهتداء التام.
قال: ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق.
يعني: أن له من الأمن وله من الاهتداء ما هو داخل في ذلك، وأنه لا بد من دخول الجنة سواءً عذب قبل ذلك بعذاب أو بتأخير عن دخولها، ولكن في النهاية سيؤمنه الله ﷿، ويدخله جنته.
قال: وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم، الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلم نفسه، وليس مراد النبي ﷺ بقوله: (إنما هو الشرك) أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام.
هذا كلام عظيم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ يبين لنا أنه وإن فسر النبي ﷺ الآية بأن المقصود بالظلم: الشرك، فليس معناه: أن الإنسان الذي لا يشرك، له أن يظلم ويعمل السوء ثم يقول: أنا آمن بنص حديث النبي ﷺ! لأنا نقول له: لقد جاءت نصوص أخرى كثيرة تبين أنك تجازى على الشيء الذي تظلم به نفسك أو تظلم به غيرك دون الشرك بالله ﷾.
فالإنسان يظلم نفسه بالمعاصي، ويظلم نفسه بأخذ حقوق الغير؛ لذا فإنه إذا وقع في ذلك فتاب تاب الله ﷿ عليه، وكان له الأمن والاهتداء، وإن لم يتب إلى الله كان في خطر المشيئة، ولكن توحيده ينفعه يومًا من الدهر، إذ ليس له الأمن التام، وإنما له الأمن المطلق، ففرق بين أن نقول: الاهتداء التام والأمن التام، وأن نقول: له أمن وله اهتداء فيهديه الله ﷿ يومًا من الدهر ويؤمنه وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه.
يقول شيخ الإسلام: (فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذان يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم.
3 / 4
الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان
وابن القيم ﵀ يبين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الآية، يقول: فإن الظلم المطلق التام هو الشرك بالله سبحانه، والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام، فلا يمنع أن يكون ظلمًا مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله.
والفرق بين أن نقول: هذا معه الإيمان المطلق، وهذا معه مطلق الإيمان: أن الإيمان المطلق: الإيمان الكامل، الذي جاء فيه بالواجبات جميعها، فإذا كان كذلك فله الأمن التام، وله الاهتداء التام يوم القيامة.
وأما الآخر فله مطلق الإيمان، يعني: هو من ضمن المسلمين، ومن ضمن المؤمنين، ولكنه يقع في معاصٍ فيعمه اسم الإيمان واسم الإسلام، ولكنه عاص لله ﷾، فلا يحرمه الله من فضله يوم القيامة، وإن كان قد يعذبه في النار على معاصيه التي وقع فيها، لكن لم يخرج من الإيمان، ولا من الإسلام.
فإذا قلنا: هو في دائرة الإسلام، فله النجاة يوم القيامة، ولو دخل النار، فالله ﷿ يومًا من الدهر يخرجه من النار ويدخله جنته، فدائرة الإيمان المطلق أقل، فيها المحسنون وفيها الذين لم يظلموا أنفسهم لا بشرك ولا بغيره، ولم يظلموا غيرهم، فلهم الأمن التام يوم القيامة ولهم الاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة.
أما الذي لم يقع في الشرك الأكبر، ووقع في غير ذلك من المعاصي فهو في مطلق الإيمان، ولم يخرج عن دين رب العالمين، ولكنه مقصر في واجبات الإيمان؛ لذلك استحق أن يعذب إلا أن يعفو الله ﷿ عنه يوم القيامة.
والإيمان المطلق وصف للإيمان وفيه كل الخصال المرجوة التي يطلبها الله ﷿ من عباده، ويرجو العبد أن يكون عليها.
ومطلق الإيمان أن يقول: لا إله إلا الله، ويصلي ويفعل الطاعات، ويفعل المعاصي فهو داخل في مطلق الإيمان، ولكنه ينقص هداه وينقص إيمانه بقدر ما يقع فيه من المعاصي.
3 / 5