Fath al-Mabūd fī al-radd ʻalá Ibn Maḥmūd
فتح المعبود في الرد على ابن محمود
خپرندوی
مطبعة المدينة
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٣٩٩ هـ - ١٩٧٩ م
د خپرونکي ځای
الرياض - المملكة العربية السعودية
ژانرونه
فتحُ المعبود فِي الرَّد على ابْن مَحْمُود
تأليف
الشَّيْخ حمود بن عبد اللهِ التويجري الْمُتَوفَّى ١٤١٣ هـ
مطبعة الْمَدِينَة
ناپیژندل شوی مخ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري وفقه الله من التعقيب على ما كتبه فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود في الإيمان بالقدر وفي بيان الفرق بين الرسول والنبي وأنه ليس كل نبي رسولا، وفي الذب عن أبي ذر ﵁، وفي الفرق بين الإسلام والإيمان فألفيته قد أجاد وأفاد وأوضح الأخطاء التي وقع فيها فضيلة الشيخ عبد الله المذكور بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة.
ومن ذلك خطأه في تأويل كتابة القدر بأنها نفس العلم. والصواب أنها غير العلم بل مرتبة ثانية بعد العلم، ومن ذلك زعمه أن كل نبي رسول، والصواب ما أوضحه فضيلة الشيخ حمود من الفرق بينهما بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب
1 / 3
والسنة. وهو أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا كما يتضح ذلك جليا لكل من راجع الأدلة التي أوضحها الشيخ حمود المذكور وبينها أهل العلم قبله، وهكذا ما أوضحه فضيلة الشيخ حمود من الفرق بين الإسلام والإيمان عند الاقتران وأنه ليس كل مسلم مؤمنا على الكمال؛ بل كل مؤمن مسلم ولا ينعكس للأدلة التي أوضحها فضيلته وبسطها قبله أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والحافظ ابن رجب وغيرهم.
فجزاه الله خيرا وشكر له سعيه وأجزل مثوبته.
كما نسأله سبحانه أن يوفق أخانا فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد لمراجعة الحق فإن ذلك خير من التمادي في الخطأ وكل إنسان يخطئ ويصيب إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام فقد عصمهم الله من الخطأ فيما يبلغونه عنه من الرسالات ومن نبل العالم وفضله أن يرجع إلى الحق متى نُبه على خطئه.
والله أسأل أن يوفقنا جميعا للفقه في الدين والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا ابتاعه ويرينا الباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ...
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
للشيخ عبد الله بن محمد بن حميد
رئيس مجلس القضاء الأعلى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وبعد:
فقد قرأ عليَّ فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري مؤلفه القيم الذي سماه (فتح المعبود في الرد على ابن محمود).
أجاد فيه وأفاد وأوضح فيه مذهب أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر وما عليه المحققون من الفرق بين الإيمان والإسلام وبين النبي والرسول بالبراهين الواضحة، وبين غلط الشيخ ابن محمود في القضاء والقدر حيث زعم ابن محمود أن الكتابة في قوله ﷺ: إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض، هي عبارة عن العلم القائم بذات الله وهو معنى قول أحدنا قدر الله وما شاء فعل وهذا خطأ بين فإن كتابة الشيء غير سابق علم الله فقد جاءت الأحاديث الكثيرة بأن أول ما خلق الله القلم ف له: أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. ولم يقل أحد من أهل السنة فيما علمت أن كتابة المقادير هي العلم القائم بذاته ﷾، فعلى هذا لا معنى لقوله ﷺ: «إن الله كتب مقادير الخلائق
1 / 5
قبل أن يخلق السموات والأرض ...» الحديث لكونه فسر الكتابة بسابق علم الله، ولا يخفى فساد هذا.
قال ابن القيم ما معناه مراتب القضاء والقدر أربع مراتب:
الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها.
الثانية: كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض.
الثالثة: مشيئة المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن كما لا خروج له عن علمه.
الرابعة: خلقه لها، وإيجاده وتكوينه؛ فالله خالق كل شيء وما سواه مخلوق.
ثانيا: زعم ابن محمود أن القدر هو خلقه للأشياء بنظام واتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه، وهذا مخالف لما في الأحاديث الصحيحة.
فتقدير الله للأشياء هو علمه بمقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذين دلت عليه البراهين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وما عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع
1 / 6
عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكون لو كان كيف يكون، فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون.
ولابن محمود عدة أخطاء في رسالته المردود عليها التي سماها الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر كما أشار إلى ذلك الشيخ حمود جزاه الله خيرا، وبارك فيه وفي علومه.
والذي نحبه لأخينا الشيخ ابن محمود أن تكون كتاباته معالجة لمشاكل العصر. والرد على فرق الضلال المنتشرة في كل مكان؛ كالماسونية والبهائية والشيوعية وأمثالها.
وتحذير المسلمين من هذه الموجة الإلحادية التي طار شررها، وعظم خطرها دون الكتابة في الفرق بين النبي والرسول وأمثال ذلك.
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم ..
رئيس مجلس القضاء الأعلى
عبد الله بن محمد بن حميد.
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فقد اطلعت على رسالتين للشيخ عبد الله بن زيد بن محمود رئيس المحاكم القطرية، سمى إحداهما (الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر)، وسمى الأخرى (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء) وقد رأيت في هاتين الرسالتين عدة مواضع أخطأ فيها فرأيت من الواجب التنبيه عليها لعل الله يمن على الكاتب بالرجوع إلى الصواب فإن الرجوع إلى الصواب نبل وفضيلة، كما أن التعصب للأخطاء نقص ورذيلة.
وقد روي عن عمر بن الخطاب ﵁ أنه قام على المنبر فنهى الناس عن المغالاة في مهور النساء فقامت امرأة فعارضته واحتجت عليه بآية من القرآن فرجع إلى قولها، وقال وهو على المنبر: «إن امرأة خاصمت عمر فخصمته» رواه ابن المنذر بإسناد حسن، ورواه الزبير بن بكار وقال فيه: فقال عمر ﵁: «امرأة أصابت ورجل أخطأ» ورواه أبو يعلى الموصلي وقال فيه فقال: «اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر» قال ابن كثير: إسناده جيد قوي.
1 / 9
ولم ينقص اعتراف عمر ﵁ بالخطأ على رءوس الملأ من قدره بل زاده ذلك شرفا ورفعة. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه من حديث حذيفة بن اليمان ﵄ وقال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وروى ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله) عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا ﵁ عن مسألة فقال فيها، فقال: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي ﵁: أصبتَ وأخطأتُ ﴿وفوق كل ذي علم عليم﴾.
قال ابن عبد البر: وروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي حسين قال: اختلف ابن عباس وزيد في الحائض تنفر، فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، فقال ابن عباس: سل نسياتك أم سليمان وصويحباتها، فذهب زيد فسألهن ثم جاء وهو يضحك، فقال: القول ما قلت.
وروى ابن عبد البر أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: ذاكرت عبيد الله بن الحسن القاضي بحديث وهو يومئذ قاص فخالفني فيه فدخلت عليه وعنده الناس سماطين، فقال لي ذلك الحديث كما قلت أنت وأرجع أنا صاغرا.
قال ابن عبد البر وأخبرني غير واحد عن أبي محمد قاسم بن أصبغ قال لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي ﷺ أنه قدم قوم من مضر
1 / 10
مجتابي النمار فقال لي: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت له: إنما هو مجتابي النمار هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس وبالعراق فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا، ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ، لشيخ كان بالمسجد فإن له بمثل هذا علما فقمنا إليه وسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار كما قلت، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم، والنمار جمع نمرة، فقال بكر بن حماد وأخذ أنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف.
قال ابن عبد البر: وذكر الحسين بن أبي سعيد في كتابه (المعرب عن المغرب) قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن محمد الحداد عن أبيه قال: سمعت سحنون يقول: سمعت عبد الرحمن ابن القاسم قال لمالك: ما أعلم أحدا أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال له مالك: وبم ذلك؟ قال: بك، قال: فأنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي؟!
قال ابن عبد البر: وروينا عن الشعبي أنه قال: ما رأيت مثلي ما أشاء أن أرى أعلم مني إلا وجدته.
قال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه؛ الإنصاف فيه ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم.
وقال أيضا: ومن أفضل آداب العالم تواضعه وترك الإعجاب بعلمه ونبذ حب الرياسة عنه، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله». انتهى.
وقد ذكر الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه (المسائل الكافية) قصة عجيبة في التواضع والاعتراف بالخطأ على رءوس الملأ وبالفضل لمن حصل منه التنبيه على الخطأ، فقال ما نصه: (المسألة السابعة والخمسون) ينبغي
1 / 11
لأهل الفضل أن يقدروا قدر من له قدر ويعرفوا الفضل لأهله ولا يبخسوا الناس مقاماتهم ويترفعوا عليهم بالإفك والبهتان، انظر هذه المسألة وتأمل فيها تعرف الفرق بين أهل زماننا وبين من مضي زمنهم.
قال العلامة ابن العربي في أحكامه: أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة، قال: وصلت الفسطاط فجئت مجلس أبي الفضل الجوهري فكان مما قال أن النبي ﷺ طلق وظاهر وآلى، فلما خرج تبعته حتى بلغ منزله في جماعة فجلس معنا في الدهليز وعرفهم غيري فإنه رأى شارة الغربة فلما انفض عنه أكثرهم، قال لي: أراك غريبا، هل لك من كلام؟ قلت: نعم، قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه، فقاموا فقلت له: حضرت المجلس متبركا بك وسمعتك تقول: آلى رسول الله ﷺ وصدقت وطلق وصدقت وظاهر ولم يكن ولا يصح أن يكون لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي ﷺ فضمني إلى نفسه وقبَّل رأسي، وقال: أنا تائب من ذلك، جزاك الله من معلم خيرًا، ثم انقلبت عنه وبكرت في الغد إليه فألفيته قد جلس على المنبر فلما دخلت الجامع ورآني ناداني بأعلى صوته مرحبا بمعلمي، أفسحوا لمعلمي، فتطاولت الأعناق إليَّ وتحدقت الأبصار نحوي - وتعرفني يا أبا بكر؟ يشير إلى عظيم حيائه فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه بكلام خجل وأحمر كأن وجهه طُلي بجلنار - قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعونني حتى بلغت المنبر وأنا لعظيم الحياء لا أعلم في أي بقعة أنا والجامع غاص بأهله وأسال الحياء بدني عرقا وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي، لما كان بالأمس قلت لكم كذا وكذا فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي فاتبعني إلى منزلي وقال لي: كذا وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب من قولي بالأمس راجع عنه
1 / 12
إلى الحق فمن سمعه ممن حضر فلا يعود إليه ومن غاب فليبلغه من حضر فجزاه الله خيرا وجعل يحتفل لي في الدعاء والخلق يؤمنون.
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملأ من رجل ظهرت رياسته واشتهرت نفاسته لغريب مجهول العين لا يعرف من هو؟ ولا من أين؟ واقتدوا به ترشدوا. انتهى.
وما أعظم الفرق بين ما فعله أبو الفضل الجوهري مع الرجل الذي نبهه على خطئه وبين ما يفعله بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا، فإن بعضهم إذا نبهه بعض العلماء على أخطائه اشمأز وتحامل على الذي نبهه ورماه بالجهل والتعصب، وغير ذلك مما يرى أنه يشينه، ولا شك أن هذا من الكبر الذي قال فيه رسول الله ﷺ: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» بطر الحق رده وغمط الناس احتقارهم.
ومن أعظم ما يبتلى به المرء إعجابه بنفسه وترفعه على أقرانه وبني جنسه، قال ابن عبد البر: وقال ابن عبدوس: كلما توقر العالم وارتفع كان العجب إليه أسرع إلا من عصمه الله بتوفيقه وطرح حب الرياسة عن نفسه.
وروى ابن عبد البر عن كعب أنه قال لرجل رآه يتتبع الأحاديث: اتق الله وارض بالدون من المجلس ولا تؤذ أحدا فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالا ونقصانا.
وروى ابن عبد البر أيضا عن عمر ﵁ أنه قال: «أخوف ما أخاف عليكم أن تهلكوا فيه ثلاث خلال: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه».
1 / 13
وروى ابن عبد البر أيضا عن أنس بن مالك ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والثلاث المنجيات: تقوى الله في السر والعلانية،وكلمة الحق في الرضا والسخط، والاقتصاد في الغنى والفقر».
قال ابن عبد البر: وقال إبراهيم بن الأشعث: سألت الفضيل بن عياض عن التواضع، فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعته ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه.
وروى ابن عبد البر أيضا عن مسروق أنه قال: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه، قال أبو عمر: إنما أعرفه بعمله، قال: وقال أبو الدرداء: علامة الجهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهي عن الشيء ويأتيه. وقالوا العجب يهدم المحاسن، وعن علي ﵁ أنه قال: الإعجاب آفة الألباب، وقال غيره: إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله، ولقد أحسن علي بن ثابت حيث يقول:
المال آفته التبذير والنهب ... والعلم آفته الإعجاب والغضب
وقالوا: من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر.
وقال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحبَّ الرياسة إلا حسد وبغى وتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير، وقال أبو نعيم: والله ما هلك من هلك إلا بحب الرياسة، وقال آخر:
حب الرياسة داء لا دواء له ... وقلَّ ما تجد الراضين بالقسم
1 / 14
وروى ابن عبد البر أيضا عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: (إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، قال الله ﵎ لنبيه ﷺ: «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين».
وروى أيضا عن أبي بكر الصديق ﵁ أنه قال: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني؛ إذا قلت في كتاب الله بغير علم).
وروى أيضا عن علي بن أبي طالب ﵁ نحوه.
وروي أيضا عن نافع عن ابن عمر ﵄ أنه سئل عن شيء فقال: لا أدري فلما ولى الرجل قال نعما قال عبد الله بن عمر: سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به، قال وقال وهب: سمعت مالكا يحدث عن عبد الله بن زيد بن هرمز قال: إني لأحب أن يكون من بقايا العالم بعده لا أدري ليأخذ به من بعده.
وروى أيضا عن مجاهد قال: سئل ابن عمر ﵄ عن فريضة من الصلب فقال لا أدري: فقيل له ما يمنعك أن تجيبه فقال: سئل ابن عمر عما لا يدري فقال: لا أدري.
وروي أيضا عن أيوب قال: تكاثروا على القاسم بن محمد يوما بمنى فجعلوا يسألونه فيقول: لا أدري ثم قال: إنا والله ما نعلم كل ما يسألونا عنه ولو علمنا ما كتمناكم ولا حل لنا أن نكتمكم.
وروى أيضا عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: سئل سعيد ابن جبير عن شيء فقال لا أعلم ثم قال: ويل للذي يقول: لما لا يعلم إني أعلم.
1 / 15
قال وذكر الشعبي عن علي ﵁ أنه خرج عليهم وهو يقول: ما أردها على الكبد، فقيل له: وما ذلك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه الله أعلم.
قال وذكر الحسن بن علي الحلواني وساق بإسناده عن القاسم قال: يا أهل العراق أنا والله لا نعلم كثيرا مما تسألونا عنه ولأن يعيش المرء جاهلا لا يعلم ما افترض عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله مالا يعلم.
قال وقال الحسن: حدثنا نعيم بن حماد، قال: سمعت بعض أصحاب ابن عون أظنه حسين بن حسين عن ابن عون، قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أحسنه فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي؛ وكثرة الناس حولي؛ والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به.
وروي أيضا عن مالك قال: سأل عبد الله بن نافع أيوب السختياني عن شيء فلم يجبه فقال له لا أراك فهمت ما سألتك عنه قال: بلى، قال: فلم لا تجيبني، قال: لا أعلمه.
وروى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسالك عنها، قال: سل فسأله الرجل عن المسألة، فقال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم، قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن.
قال: وذكر ابن وهب في كتاب المجالس، قال: سمعت مالكا يقول: ينبغي للعالم أن يألف فيما أُشْكِل قول لا أدري فإنه عسى
1 / 16
أن يهيأ له خير، قال ابن وهب: وكنت أسمعه كثيرا ما يقول لا أدري، وقال في موضع آخر: لو كتبنا عن مالك لا أدري لملأنا الألواح، قال ابن وهب: وسمعت مالكا وذكر قول القاسم بن محمد لأن يعيش الرجل جاهلا خير من أن يقول على الله مالا يعلم، ثم قال: هذا أبو بكر الصديق وقد خصه الله بما خصه به من الفضل يقول لا أدري.
قال ابن وهب: وحدثني مالك قال: كان رسول الله ﷺ إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي. وذكر عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بعض هذا، وفي روايته هذه الملائكة قد قالت: (لا علم لنا).
قال: وذكر أبو داود في تصنيفه لحديث مالك حدثنا عباس العنبري، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: قال مالك: كان ابن عباس ﵄ يقول إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وفي رواية إذا ترك العالم لا أعلم فقد أصيبت مقاتله.
وقال: وحدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: سمعت مالكا يقول: سمعت ابن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله.
وروى ابن عبد البر عن عقبة بن مسلم قال: صحبت ابن عمر ﵄ أربعة وثلاثين شهرًا فكان كثيرًا ما يسأل فيقول لا أدري ثم يلتفت إليَّ فيقول: أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا إلى جهنم.
قال: وقال أبو الدرداء ﵁: قول الرجل فيما لا يعلم لا أعلم نصف العالم.
1 / 17
وقال الراجز:
فإن جهلت ما سُئلت عنه ... ولم يكن عندك علم منه
فلا تقل فيه بغير فهم ... إن الخطأ مزرٍ بأهل العلم
وقل إذا أعياك ذاك الأمر ... مالي بما تسأل عنه خبر
فذاك شطر العلم عند العلما ... كذاك ما زالت تقول الحكما
وقال غيره:
إذا ما قتلت الأمر علما فقل به
... وإياك والأمر الذي أنت جاهله
وروي أيضا عن أبي الذيال قال: تعلم لا أدري ولا تعلم أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري.
وروي أيضا عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: (أن من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون) قال الأعمش فذكرت ذلك للحكم بن عتيبة فقال: لو سمعت هذا منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كل ما أفتي.
وروي أيضا عن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن عينية يقول: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما.
وروى أيضا عن يزيد بن أبي حبيب قال: إن من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع، قال: وفي الاستماع سلامة وزيادة في العلم والمستمع شريك المتكلم، وفي الكلام
1 / 18
تهون وتزين وزيادة ونقصان، قال: ومن العلماء من يرى أنه أحق بالكلام من غيره ومنهم من يزدري المساكن ولا يراهم لذلك موضعا، ومنهم من يخزن علمه ويرى أن تعليمه ضعة، ومنهم من يحب أن لا يوجد العلم إلا عنده، ومنهم من يأخذ في علمه مأخذ السلطان حتى يغضب أن يرد عليه شيء من قوله أو يغفل عن شيء من حقه، ومنهم من ينصب نفسه للفتيا فلعله يؤتي بأمر لا علم له به فيستحي أن يقول لا علم لي فيرجم فيكتب من المتكلفين، ومنهم من يروي كل ما سمع حتى يروي كلام اليهود والنصارى إرادة أن يغزر علمه.
قال أبو عمر: روي مثل قول يزيد بن أبي حبيب هذا كله من أوله إلى آخره عن معاذ بن جبل ﵁ من وجوه منقطعة يذم فيها كل من كان في هذه الطبقات من العلماء ويتوعدهم على ذالك بالنار انتهى ما ذكره ابن عبد البر مخلصا.
فليتأمل ما ذكره عن أهل الورع من الإحجام عن القول بغير علم، والابتعاد عن التكلف الذي قد وقع فيه كثير من الناس في زماننا حتى آل الأمر ببعضهم إلى قبول البدع والضلالات، والإكثار من التخرصات والجهالات، ومخالفة أهل السنة والجماعة في بعض المعتقدات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
1 / 19
(فصل)
وقد جعلت التنبيهات على رسالتي ابن محمود في فصلين.
الأول: فيما يتعلق بالقضاء والقدر.
والثاني: فيما يتعلق بالرسالة والنبوة، فأما ما يتعلق بالقضاء والقدر فالتنبيه عليه يتلخص في خمسة أشياء: الأول في بيانه لمعنى القضاء والقدر، والثاني في تغليطه للمفسرين الذين قالوا في قول الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أنها نزلت في القضاء والقدر.
والثالث في نفيه لكتابة المقادير وزعمه أنها عبارة عن سبق علم الله.
والرابع في زعمه أن الحديث في احتجاج آدم وموسى من مشكل الآثار، والخامس في تخليطه في الكلام على حديث ابن مسعود ﵁ في كتابة ما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه.
فأما الأول: فقال في صفحة ٩ ما ملخصه:
(حقيقة القدر) ونحن وإن قلنا: إن القدر يرجع إلى تقدير الله للأشياء بنظام وأنه يرجع إلى قدرة الله وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد، أو أنه يرجع إلى سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وأنه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون فكل هذه من الصفات الداخلة في قدر الله، وحسب الشخص أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من صنع خلقه وسبق علمه بكل شيء وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد، ولما سئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلا: (القدر قدرة الرحمن).
وأقول أما القدر الذي جاء ذكره في سؤال جبريل للنبي ﷺ وفي غيره من الأحاديث التي يذكر فيها
1 / 20
وجوب الإيمان بالقدر وأنه ركن من أركان الإيمان، فالمراد به ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته وفرغ من كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» رواه الأمام أحمد والترمذي وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد رواه مسلم في صحيحه ولفظه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء».
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بإسناد صحيح ولفظه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «فرغ الله ﷿ من مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» ورواه أيضا بنحو رواية مسلم وإسناده صحيح أيضا.
وروى الإمام أحمد ومسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله ﵄ قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «لا بل جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» وقد رواه أبو داود الطياليسي، وابن حبان في صحيحه، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه، وزاد ابن حبان قال سراقة: فلا أكون أبدا أشد اجتهادا في العمل مني الآن.
1 / 21
وروي الإمام أحمد أيضا بإسناد صحيح عن عمران بن حصين ﵄ أن رجلا من جهينة أو من مزينة أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم ومضى عليهم في قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم ﷺ واتخذت عليهم به الحجة قال: «بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم» قال: فلمَ يعملون إذا يا رسول الله؟ قال: «من كان الله ﷿ خلقه لواحدة من المنزلتين بهيئة لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله ﷿ ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾» وقد رواه أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح، ومسلم بنحوه وفيه عند مسلم قصة لأبي الأسود الدؤلي مع عمران بن حصين ﵄ وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وروي الإمام أحمد أيضا وأبو داود من حديث ابن عمر ﵄ نحوه.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير سورة (والشمس وضحاها) بعد إيراده لحديث عمران بن حصين ﵄: فبين النبي ﷺ أن تصديق ما أخبر به من القضاء قوله: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ والذي في الحديث هو القدر السابق من علم الله وكتابه وكلامه، وهذا إنما تنكره غالية القدرية. وأما الذي في القرآن فهو خلق الله أفعال العباد وهذا أبلغ فإن القدرية المجوسية تنكره، فالذي في القرآن يدل على ما في الحديث وزيادة ولهذا جعله النبي ﷺ مصدقا له انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى صفحة ٢٣٢ ج ١٦ مجموع الفتاوى.
1 / 22