٥٩ - صلاة الجماعة
تكرار صلاة الجماعة في المسجد،
يقول السائل: هل يجوز لجماعة حضروا إلى المسجد بعد انتهاء صلاة الجماعة مع الإمام الراتب أن يصلوا جماعة فقد وقع خلاف في المسألة في مسجدنا وقرأنا في كتب الفقه أن كثيرًا من الفقهاء منعوا إقامة الجماعة الثانية في المسجد بعد انتهاء الجماعة الأولى، فما قولكم في هذه المسألة؟ الجواب: لقد حث الرسول ﷺ على صلاة الجماعة في المساجد، وورد في فضلها أحاديث كثيرة منها، ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر أن الرسول ﷺ قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى للبخاري، عن أبي سعيد الخدري (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) . وصلاة الجماعة من شعائر الإسلام التي ينبغي المحافظة عليها، والمقصود بصلاة الجماعة أي صلاة الجماعة في المساجد مع الأئمة الراتبين، وليس صلاة الجماعة في البيوت وأماكن العمل، مع ترك جماعة المساجد. فقد ثبت عن عبد الله بن مسعودرضي الله عنه أنه قال: " من سرَّه أن يلقى الله تعالى غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكمصلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف" رواه مسلم. ولقد اختلف أهل العلم في حكم من جاءوا المسجد وقد صُلّيَ فيه هل يصلون فرادى أم يصلون جماعة؟ فالمسألة خلافية، فكثير من العلماء قالوا يكره لمن حضر إلى المسجد وقد صُلّيَ فيه أن يصلي في جماعة أخرى، وهذا قول الشافعي وقد نص عليه في الأم ١/١٨١، ونقل ذلك عن الإمامين مالك وأبي حنيفة وجماعة من الفقهاء، ولهم أدلتهم في هذه المسألة. وقالت طائفة أخرى من أهل العلم يجوز لمن حضروا المسجد وقد صُلّيَ فيه أن يصلوا جماعة أخرى ولا كراهة في ذلك، وبهذا قال الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونقل هذا القول عن جماعة من الصحابة والتابعين. وهذا القول هو أرجح القولين في المسألة وأقول به خاصة إذا كان أهل الجماعة الثانية لم يقصدوا ترك الصلاة مع الجماعة الأولى في المسجد لتفريق جماعة المصلين، على هذا دلت الأدلة الكثيرة وأبينها فيما يلي: أولًا: عموم الأدلة التي تحض على صلاة الجماعة وأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجة، أو بخمس وعشرين درجة كما سبق. ثانيًا: قال الإمام الترمذي في جامعه: " باب ما جاء في مسجد قد صُلّيَ فيه مرة " ثم روى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: (جاء رجل، وقد صلى الرسول ﷺ فقال: أيكم يتجر على هذا؟ فقام رجل فصلى معه ....)، ثم قال الترمذي: " وحديث أبي سعيد حديث حسن وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم من التابعين، قالوا لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صُلّيَ فيه وبه يقول أحمد وإسحاق" جامع الترمذي مع تحفة الأحوذي ٢/٦ - ٨. وهذا الحديث ورد بروايات أخرى وقد صححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل ٢/٣١٦. وقد رواه أبو داود أيضًا حيث قال: " باب في الجمع في المسجد مرتين " ثم ذكر بسنده عن أبي سعيد أن الرسول ﷺ أبصر رجلًا يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟) ورواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. قال الإمام البغوي بعد أن ذكر الحديث: " ففيه دليل على أنه يجوز لمن صلى في جماعة أن يصليها ثانيًا مع جماعة آخرين، وأنه يجوز إقامة الجماعة في المسجد مرتين، وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين " شرح السنة ٣/٤٣٧. ثالثًا: روى الإمام البخاري في صحيحه تعليقًا " جاء أنس إلى مسجد قد صُلّيَ فيه، فأذّن وأقام وصلى جماعة "، قال الحافظ ابن حجر: " قوله (جاء أنس)، وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان قال: مرَّ بنا أنس بن مالك في مسجد.... فذكره.... وفيه " فأمر رجلًا فأذّن وأقام ثم صلى بأصحابه.... " وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن الجعد، وعند البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العمَّي عن الجعد نحوه.... وقال: " فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه " فتح الباري ٢/٢٧١. وما أشار إليه الحافظ هو عند ابن أبي شيبة في المصنف ٢/٣٢١، حيث قال: " في القوم يجيئون إلى المسجد وقد صُلّيَ فيه، من قال لا بأس أن يجمعوا " ثم ذكر الأثر عن أنس بن مالك، وذكر آثارًا أخرى عن إبراهيم النخعي وعن الحسن البصري وعدي بن ثابت وعطاء، وروى أيضًا أن عبد الله بن مسعود دخل المسجد وقد صلوا، فجمع بعلقمة ومسروق والأسود " المصنف ٢/٣٢٢. والأثر الذي ذكره عن ابن مسعود إسناده صحيح، انظر الفتح الرباني ٥/٣٤٤. رابعًا: قال ابن حزم: " ومن أتى مسجدًا قد صُليتْ فيه صلاة فرض جماعة بإمام راتب، وهو لم يكن صلاها فليصلها في جماعة ويجزئه الأذان الذي أذن فيه قبل وكذلك الإقامة لكل من صلى تلك الصلاة في المسجد، ممن شهدهما أو ممن جاء بعدهما "، ثم ذكر ابن حزم الروايات السابقة عن أنس، ثم روى عن ابن جريج قال: " قلت لعطاء: نفر دخلوا مسجد مكة خلاف الصلاة ليلًا أو نهارًا أيؤمهم أحدهم؟ قال: نعم وما بأس ذلك؟ "، ثم روى عن حماد بن سلمة عن عثمان البتّي قال: دخلت مع الحسن البصري وثابت البناني مسجدًا قد صلى فيه أهله، فأذّن ثابت وأقام، وتقدم الحسن فصلى بنا فقلت: يا أبا سعيد أما يكره هذا؟ قال: وما بأسه، ثم قال ابن حزم: " هذا مما لا يعرف فيه لأنس مخالف من الصحابة ﵃ ثم ذكر حديث أبي سعيد المتقدم" المحلى ٣/١٥٥ - ١٥٦. ونقل الشيخ ابن قدامة جواز إقامة الجماعة الثانية عن ابن مسعود وعطاء والحسن والنخعي وقتادة وإسحاق، المغني ٢/١٣٣. خامسًا: الذي يظهر لي أن العلماء الذين كرهوا إقامة صلاة جماعة أخرى في المسجد الذي صُلّيَ فيه، أنهم إنما قالوا بذلك سدًا للذريعة، خشية تفريق كلمة المصلين في المسجد الواحد، وحتى لا يتخذ أهل الأهواء من ذلك ذريعة إلى التأخر عن الجماعة، ليصلوا جماعة أخرى خلف إمام يوافق أهواءَهم، فسدًا لباب الفرقة وقضاءً على مقاصد أهل الأهواء السيئة، نقتصر على صلاة جماعة واحدة في المسجد، وإلى هذا المعنى الذي ذكرته أشار البيهقي فقال: "باب الجماعة في مسجد قد صلي فيه، إذا لم يكن فيها تفرق الكلمة "، ثم ذكر حديث أبي سعيد المتقدم وأثر أنس أيضًا، وذكر رواية عن الحسن البصري أنه كره إقامة جماعة أخرى بعد الجماعة الراتبة، ثم قال البيهقي: " كراهية الحسن البصري محمولة على موضع تكون الجماعة فيه بعد أن صُلّيَ، تفرق الكلمة والله أعلم " سنن البيهقي ٣/٦٩ - ٧٠. ويشير إلى هذا المعنى أيضًا ما ذكره أبو اسحاق الشيرازي في المهذب حيث قال: " وإن حضروا وقد فرغ الأمام من الصلاة فإن كان المسجد له إمام راتب كُرِه أن يستأنف فيه جماعة لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد، وإن كان المسجد في سوق أو في ممر الناس لم يكره أن يستأنف الجماعة لأنه لا يحتمل الأمر فيه على الكياد " المهذب مع المجموع ٤/٢٢١. *****
6 / 59