الفتاوى الحديثية
الفتاوى الحديثية
خپرندوی
دار الفكر
النَّار كإضافة الْإِنْسَان إِلَى التُّرَاب والطين والفخار إِذْ المُرَاد أَصله الطين لَا أَنه طين حَقِيقَة وَكَذَلِكَ الجان كَانَ نَارا فِي الأَصْل لَا أَنه نَار حَقِيقَة للْحَدِيث الصَّحِيح: (عرض لي الشَّيْطَان فِي صَلَاتي فخنقته فَوجدت برد رِيقه على يَدي) وَمن هُوَ نَار محرقة كَيفَ يحسّ بِبرد رِيقه إِذْ لَا ريق لَهُ أصلا فضلا عَن كَونه بَارِدًا، وَقد شبههم النَّبِي ﷺ بالنبط، فلولا أَنهم على أشكال وصور لَيست نَارا لما ذكر الصُّور وَترك الالتهاب والشرر. وَقَالَ الباقلاني: لسنا ننكر مَعَ كَون أصلهم النَّار أَن الله تَعَالَى يكثف أجسامهم ويغلظها ويخلق لَهُم أعراضًا تزيد على مَا فِي النَّار فَيخْرجُونَ عَن كَونهم نَارا ويخلق لَهُم صورًا وأشكالًا مُخْتَلفَة. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى الْفراء: الجنّ أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة وَيجوز كَونهَا كثيفة ورقيقة خلافًا لزعم الْمُعْتَزلَة رقتها وَلذَلِك لَا نرَاهَا. وَقَالَ الباقلاني: إِنَّمَا رَآهُمْ من رَآهُمْ لأَنهم أجساد مؤلفة وجثث، وَفِي حَدِيث عِنْد مُسلم: (خلقت الْمَلَائِكَة من نور وَخلق الجان من مارج من نَار وَخلق آدم مِمَّا وصف لكم) . وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا والحكيم التِّرْمِذِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه أَنه ﷺ قَالَ: (خلق الله الجنّ ثَلَاثَة أَصْنَاف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأَرْض، وصنف كَالرِّيحِ فِي الْهَوَاء، وصنف عَلَيْهِم الْحساب وَالْعِقَاب) . قَالَ السُّهيْلي: وَلَعَلَّ الصِّنْف الثَّانِي هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُل ولايشرب إِن صحّ أَن الجنّ لَا تَأْكُل وَلَا تشرب. وَأخرج كَثِيرُونَ أَنه ﷺ قَالَ: (الْجِنّ ثَلَاثَة أَصْنَاف: فصنف لَهُم أَجْنِحَة يطيرون بهَا فِي الْهَوَاء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلونَ ويظعنون) . قَالَ السُّهيْلي: هَذَا الْأَخير هم السعالى. قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَلَا طَرِيق للشياطين على التنقل فِي الصُّور الْمُخْتَلفَة وَكَذَا الْمَلَائِكَة إِلَّا بِأَن يُعلمهُ الله قولا أَو فعلا إِذا أَتَى بِهِ نَقله من صُورَة إِلَى صُورَة أُخْرَى لِأَن تَصْوِيره بِنَفسِهِ محَال، لِأَن انْتِقَاله من صُورَة إِلَى صُورَة أُخْرَى إِنَّمَا يكون بِنَقْض البنية وتفريق الْأَجْزَاء، وَإِذا انتقضت بطلت الْحَيَاة واستحال وُقُوع الْفِعْل من الجماد، وَكَيف تنْتَقل بِنَفسِهَا، وعَلى هَذَا يحمل مَا جَاءَ أَن إِبْلِيس تصور فِي صُورَة سراقَة وَجِبْرِيل تمثل فِي صُورَة دحْيَة، وَلما ذكر عِنْد عمر الغيلان قَالَ: إِن أحدا لَا يَسْتَطِيع أَن يتَغَيَّر عَن صورته الَّتِي خلقه الله عَلَيْهَا، وَلَكِن لَهُم سحرة كسحرتكم فَإِذا رَأَيْتُمْ من ذَلِك شَيْئا فأذنوا. وَفِي حَدِيث أَنه ﷺ سُئِلَ عَن الغيلان فَقَالَ: (هم سحرة الْجِنّ) قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: الْجِنّ يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويتناكحون كَمَا يفعل الْإِنْس. وَظَاهر العمومات أَن جَمِيع الْجِنّ كَذَلِك وَهُوَ رَأْي قوم، ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَ بَعضهم: أكلهم وشربهم شم واسترواح لَا مضغ وبلع، وَهَذَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ. وَقَالَ أَكْثَرهم: بل مضغ وبلع، وَذهب قوم إِلَى أَن جَمِيع الْجِنّ لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون وَهَذَا سَاقِط لَا وَكيل عَلَيْهِ، وَذهب قوم إِلَى أَن صنفا مِنْهُم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ وَصِنْفًا لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون. وَأخرج ابْن جريج عَن وهب أَنه قَالَ: إِنَّهُم أَجنَاس فَأَما خالصهم فهم ريح لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون وَلَا يموتون وَلَا يتوالدون، وَمِنْهُم أَجنَاس يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويتناكحون ويموتون وَهِي هَذِه الَّتِي مِنْهَا السعالى والغول وَأَشْبَاه ذَلِك. وَأخرج أَحْمد وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود ﵁: (أَنه ﷺ لم يَصْحَبهُ أحد لَيْلَة الْجِنّ، وَإِنَّمَا افتقدوه ذَات لَيْلَة فَبَاتُوا بشر لَيْلَة، فَلَمَّا أَصْبحُوا فَإِذا بِهِ هُوَ يَجِيء من قبل حراء، فَذكرُوا لَهُ مَا كَانُوا فِيهِ فَقَالَ: أَتَانِي دَاعِي الْجِنّ فَذَهَبت مَعَه فقرأتُ عَلَيْهِم الْقُرْآن، فَانْطَلق بِنَا فأرانا آثَارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزَّاد فَقَالَ: لكم كل عظم ذكر اسْم الله تَعَالَى عَلَيْهِ) وَكَانُوا من جن الجزيرة. وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: (لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ يَقع فِي أَيْدِيكُم أوفر مَا يكون لَحْمًا وكل بَعرَة علفًا لدوابكم. قَالَ ﷺ: فَلَا تستنجوا بهما فَإِنَّهُمَا طَعَام إخْوَانكُمْ الْجِنّ) وَجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن الأولى فِي حق الْمُؤمنِينَ وَالثَّانيَِة فِي حق غَيرهم. قَالَ السُّهيْلي: وَهَذَا قَول صَحِيح تعضده الْأَحَادِيث. وروى البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة ﵁: (أَن وَفد جن نَصِيبين أَتَوْهُ ﷺ أَي مرّة أُخْرَى لَكِن بِالْمَدِينَةِ، وَسَيَأْتِي أَنهم أَتَوْهُ بِمَكَّة أَيْضا: (فَسَأَلُوهُ الزَّاد فَدَعَا الله لَهُم أَن لَا يمروا بِعظم وَإِلَّا وجدوا عَلَيْهِ طَعَاما) . وَأخرج أَبُو نعيم عَن ابْن مَسْعُود ﵁ (أَنه ﷺ خرج قبل الْهِجْرَة إِلَى نواحي مَكَّة. قَالَ: فَخط لي خطا وَقَالَ: لَا تحدثن حَتَّى آتِيك، ثمَّ قَالَ: لَا يريعنك أَو لَا يهولنك شَيْء نزل، فَتقدم شَيْئا ثمَّ جلس، فَإِذا رجال سود كَأَنَّهُمْ رجال الزط، وَكَانُوا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ﴾ [الْجِنّ: ١٩]
1 / 48