@ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
رَبنَا أتمم لنا نورنا وأغفر لنا إِنَّك على كل شَيْء قدير
قَالَ العَبْد الْفَقِير عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح غفر الله لَهُ وَلَهُم
الْحَمد لله الَّذِي كرم هَذِه الْأمة بالشريعة السمحة الطاهرة وأيدها بالحجج الباهرة الْقَاهِرَة ووطدها بالقواعد المتظاهرة المتناثرة ونورها بالأوضاع المتناسبة المتازرة
أَحْمَده على نعمه الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وأصلي على رَسُوله مُحَمَّد وَسَائِر النَّبِيين وَالصَّالِحِينَ وَأسلم صَلَاة وتسليما متواصلي الصلات فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة آمين
هَذَا وَلما عظم شَأْن الْفَتْوَى فِي الدّين وتسنم الْمفْتُون مِنْهُ سَنَام
1 / 5
@ السناء وَكَانُوا قرات الْأَعْين لَا تسلم بهم على كثرتهم أعين الإستواء فنعق بهم فِي أعصارنا ناعق الفناء وتفانت بتفانيهم أندية ذَاك الْعَلَاء على أَن الأَرْض لَا تَخْلُو من قَائِم بِالْحجَّةِ إِلَى أَوَان الإنتهاء رَأَيْت أَن أستخير الله تَعَالَى وَأَسْتَعِينهُ وأستهديه وأستوفقه وأتبرأ من الْحول وَالْقُوَّة إِلَّا بِهِ فِي تأليف كتاب فِي الْفَتْوَى لَائِق بِالْوَقْتِ أفْصح فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى عَن شُرُوط الْمُفْتِي وأوصافه وَأَحْكَامه وَعَن صفة المستفتي وَأَحْكَامه وَعَن كَيْفيَّة الْفَتْوَى والاستفتاء وآدابها جَامعا فِيهِ شَمل نفائس ألتقطها من خبايا الروايا وخفايا الزوايا ومهمات تقر بهَا أعين أَعْيَان الْفُقَهَاء وَيرْفَع من قدرهَا من كثرت مطالعاته من الفهماء وتبادر إِلَى تَحْصِيلهَا كل من أرتفع عَن حضيض الضُّعَفَاء مقدما فِي أَوله بَيَان شرف مرتبَة الْفَتْوَى وخطرها والتنبيه على آفاتها وعظيم غررها ليعلم المقصر عَن شأوها المتجاسر عَلَيْهَا أَنه على النَّار يسجر وليعرف متعاطيها المضيع شَرطهَا أَنه لنَفسِهِ يضيع ويخسر وليتقاصر عَنْهَا القاصرون الَّذين إِذا انتزعوا على منصب تدريس واختلسوا ذَروا من تَقْدِيم وترييس جانبوا جَانب المحترس ووثبوا على الْفتيا وثبة المفترس اللَّهُمَّ فعافنا واعف عَنَّا وأحلنا مِنْهَا بِالْمحل المغبوط وَلَا تحلنا مِنْهَا بِالْمحل المغموط وَاجعَل نعانيه مِنْهَا على وفْق هداك وسببا واصلا بَيْننَا وَبَين رضاك إِنَّك الله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
1 / 6
@
بَيَان شرف مرتبَة الْفَتْوَى وخطرها وغررها
روينَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو عبد الله ابْن مَاجَه الْقزْوِينِي فِي كتبهمْ الْمُعْتَمدَة فِي السّنَن من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء عَن رَسُول الله ﷺ (أَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء)
فَأثْبت للْعُلَمَاء خصيصة فاقوا بهَا سَائِر الْأمة وَمَا هم بصدده من أَمر الْفَتْوَى يُوضح تحققهم بِذَاكَ للمستوضح وَلذَلِك قيل فِي الْفتيا إِنَّهَا توقيع عَن الله ﵎
وَقد أخبرنَا الشَّيْخ الإِمَام أَبُو بكر مَنْصُور بن عبد الْمُنعم الفراوي قِرَاءَة عَلَيْهِ بنيسابور قَالَ أخبرنَا أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي قَالَ أخبرنَا الإِمَام أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن الْبَيْهَقِيّ قَالَ أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ وَأَبُو سعيد بن أبي عَمْرو قَالَا أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن هِلَال بن الْفُرَات ببيروت حَدثنَا أَحْمد بن أبي الحراوي حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ
1 / 7
@ «إِن الْعَالم بَين الله وَبَين خلقه فَلْينْظر كَيفَ يدْخل بَينهم»
وَفِيمَا يرويهِ عَن سهل بن عبد الله التسترِي وَكَانَ ﵁ أحد الصَّالِحين المعروفين بالمعارف والكرامات أَنه قَالَ من أَرَادَ أَن ينظر إِلَى مجَالِس الْأَنْبِيَاء ﵈ فَلْينْظر الى مجَالِس الْعلمَاء يَجِيء الرجل فَيَقُول يَا فلَان إيش تَقول فِي رجل حلف على امْرَأَته بِكَذَا وَكَذَا فَيَقُول طلقت امْرَأَته
وَهَذَا مقَام الْأَنْبِيَاء فاعرفوا لَهُم ذَلِك وَلما ذَكرْنَاهُ هاب الْفتيا من هابها من أكَابِر الْعلمَاء العاملين وأفاضل السالفين والخالفين وَكَانَ أحدهم لَا يمنعهُ شهرته بِالْإِمَامَةِ واضطلاعه بِمَعْرِفَة المعضلات فِي اعْتِقَاد من يسْأَله من الْعَامَّة من أَن يدافع بِالْجَوَابِ أَو يَقُول لَا أَدْرِي أَو يُؤَخر الْجَواب إِلَى حِين يدْرِي
1 / 8
@ فروينا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى أَنه قَالَ ادركت عشْرين وَمِائَة من الْأَنْصَار من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ يسْأَل أحدهم عَن الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأول
وَفِي رِوَايَة مَا مِنْهُم من أحد يحدث بِحَدِيث إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاه وَلَا يستفتى عَن شَيْء إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ الْفتيا
وروينا عَن ابْن مَسْعُود ﵁ أَنه قَالَ من أفتى النَّاس فِي كل مَا يستفتونه فَهُوَ مَجْنُون
وَعَن ابْن عَبَّاس ﵄ نَحوه
1 / 9
@
وروينا عَن أبي حُصَيْن الْأَسدي أَنه قَالَ إِن أحدكُم ليفتي فِي الْمَسْأَلَة وَلَو وَردت على عمر بن الْخطاب لجمع لَهَا أهل بدر
وَرُوِيَ عَن الْحسن وَالشعْبِيّ مثله
وَأخْبرنَا الشَّيْخ الْأَصِيل أَبُو الْقَاسِم مَنْصُور بن أبي الْمَعَالِي بنيسابور قَالَ أخبرنَا أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي قَالَ حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن الْبَيْهَقِيّ قَالَ أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ قَالَ سَمِعت أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصفار يَقُول سَمِعت عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول سَمِعت أبي يَقُول سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول سَمِعت مَالك بن أنس يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن عجلَان يَقُول «إِذا أغفل الْعَالم لَا أَدْرِي أُصِيب مقاتله»
1 / 10
@
هَذَا إِسْنَاد جليل عَزِيز جدا لِاجْتِمَاع أَئِمَّة الْمذَاهب الثَّلَاثَة فِيهِ بَعضهم عَن بعض وروى مَالك مثل ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس ﵄
وَذكر الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد الْبر الأندلسي عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق ﵃ أَنه جَاءَهُ رجل فَسَأَلَهُ عَن شَيْء فَقَالَ الْقَاسِم لَا أحْسنه فَجعل الرجل يَقُول إِنِّي وقفت إِلَيْك لَا أعرف غَيْرك فَقَالَ الْقَاسِم لَا تنظر إِلَى طول لحيتي وَكَثْرَة النَّاس حَولي وَالله مَا أحْسنه فَقَالَ شيخ من قُرَيْش جَالس إِلَى جنبه يَا ابْن أخي الزمها فوَاللَّه مَا رَأَيْتُك فِي مجْلِس أنبل مِنْك الْيَوْم فَقَالَ الْقَاسِم وَالله لِأَن يقطع لساني أحب الي من أَن أَتكَلّم بِمَا لَا علم لي بِهِ
1 / 11
@
وروى أَبُو عمر عَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة وَسَحْنُون بن سعيد قَالَا أجسر النَّاس على الْفتيا أقلهم علما
وروينا عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ جَاءَ رجل إِلَى مَالك بن أنس
1 / 12
@ يسْأَله عَن شَيْء أَيَّامًا مَا يجِيبه فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله إِنِّي أُرِيد الْخُرُوج وَقد طَال التَّرَدُّد إِلَيْك قَالَ فَأَطْرَقَ طَويلا ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ مَا شَاءَ الله يَا هَذَا إِنِّي إِنَّمَا أَتكَلّم فِيمَا أحتسب فِيهِ الْخَيْر وَلست أحسن مسألتك هَذِه
وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي ﵁ أَنه سُئِلَ فِي مَسْأَلَة فَسكت فَقيل لَهُ أَلا تجيب رَحِمك الله فَقَالَ حَتَّى أَدْرِي الْفضل فِي سكوتي أَو فِي الْجَواب
وروينا عَن أبي بكر الْأَثْرَم قَالَ سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يستفتى فيكثر أَن يَقُول لَا أَدْرِي وَذَلِكَ من أعرف الْأَقَاوِيل فِيهِ
وبلغنا عَن الْهَيْثَم بن جميل قَالَ شهِدت مَالك بن أنس سُئِلَ عَن ثَمَان وَأَرْبَعين مَسْأَلَة فَقَالَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا لَا أَدْرِي
وَعَن مَالك أَيْضا أَنه رُبمَا كَانَ يسْأَل عَن خمسين مَسْأَلَة فَلَا يُجيب فِي وَاحِدَة مِنْهَا وَكَانَ يَقُول من أجَاب فِي مَسْأَلَة فَيَنْبَغِي من قبل أَن يُجيب فِيهَا أَن يعرض نَفسه على الْجنَّة وَالنَّار وَكَيف يكون خُلَاصَة فِي الْآخِرَة ثمَّ يُجيب فِيهَا
وَعنهُ أَنه سُئِلَ فِي مَسْأَلَة فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقيل لَهُ إِنَّهَا مَسْأَلَة خَفِيفَة سهلة فَغَضب وَقَالَ لَيْسَ فِي الْعلم شَيْء خَفِيف أما سَمِعت قَوْله جلّ ثَنَاؤُهُ ﴿إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا﴾
1 / 13
@ فالعلم كُله ثقيل وبخاصة مَا يسْأَل عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة
وَقَالَ إِذا كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ تصعب عَلَيْهِم الْمسَائِل وَلَا يُجيب أحد مِنْهُم فِي مَسْأَلَة حَتَّى يَأْخُذ رَأْي صَاحبه مَعَ مَا رزقوا من السداد
1 / 14
@ والتوفيق مَعَ الطَّهَارَة فَكيف بِنَا الَّذين غطت الْخَطَايَا والذنُوب قُلُوبنَا
وَعَن سعيد بن الْمسيب ﵄ أَنه كَانَ لَا يكَاد يُفْتِي فتية وَلَا يَقُول شَيْئا إِلَّا قَالَ اللَّهُمَّ سلمني وَسلم مني
وَجَاء عَن أبي سعيد عبد السَّلَام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون إِمَام الْمَالِكِيَّة وَصَاحب الْمُدَوَّنَة الَّتِي هِيَ عِنْد المالكيين ككتاب الْأُم عِنْد الشافعيين أَنه قَالَ أَشْقَى النَّاس من بَاعَ آخرته بدنياه وأشقى مِنْهُ من بَاعَ آخرته بدنيا غَيره
قَالَ ففكرت فِيمَن بَاعَ آخرته بدنيا غَيره فَوَجَدته الْمُفْتِي يَأْتِيهِ الرجل قد حنث فِي امْرَأَته ورقيقه فَيَقُول لَهُ لَا شَيْء عَلَيْك فَيذْهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقه وَقد بَاعَ الْمُفْتِي دينه بدنيا هَذَا
وَعَن سَحْنُون أَن رجلا أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَن مَسْأَلَة فَأَقَامَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام مَسْأَلَتي أصلحك الله الْيَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فَقَالَ لَهُ وَمَا أصنع لَك يَا خليلي مسألتك معضلة وفيهَا أقاويل وَأَنا متحير فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ وَأَنت أصلحك الله لكل معضلة فَقَالَ لَهُ سَحْنُون هَيْهَات يَا ابْن أخي لَيْسَ بِقَوْلِك هَذَا أبذل لَك لحمي وَدمِي إِلَى النَّار مَا أَكثر مَا لَا أعرف إِن صبرت رَجَوْت أَن تنْقَلب
1 / 15
@ بمسألتك وَإِن أردْت أَن تمْضِي إِلَى غَيْرِي فَامْضِ تجاب فِي سَاعَة فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا جِئْت إِلَيْك وَلَا أستفتي غَيْرك فَقَالَ لَهُ فاصبر عافاك الله ثمَّ أَجَابَهُ بعد ذَلِك
وَقد كَانَ فيهم ﵃ من يتباطأ بِالْجَوَابِ عَمَّا هُوَ فِيهِ غير مستريب ويتوقف فِي الْأَمر السهل الَّذِي هُوَ عَنهُ مُجيب
بلغنَا عَمَّن سمع سَحْنُون بن سعيد يروي على من يعجل الْفَتْوَى وَيذكر النَّهْي عَن ذَلِك عَن الْمُتَقَدِّمين من معلميه وَقَالَ إِنِّي لأسأل عَن الْمَسْأَلَة فأعرفها وَأعرف فِي أَي كتاب هِيَ وَفِي أَي ورقة وَفِي أَي صفحة وعَلى كم بنيت من السطور فَمَا يَمْنعنِي من الْجَواب فِيهَا إِلَّا كَرَاهَة الجرأة بعدِي على الْفَتْوَى
وبلغنا عَن الْخَلِيل بن أَحْمد أَنه كَانَ يَقُول إِن الرجل ليسأل عَن الْمَسْأَلَة ويعجل فِي الْجَواب فَيُصِيب فأذمه وَيسْأل عَن مَسْأَلَة فيتثبت فِي الْجَواب فيخطئ فأحمده
وَرُوِيَ عَن سَحْنُون بن سعيد أَنه قيل لَهُ إِنَّك لتسأل عَن الْمَسْأَلَة لَو سُئِلَ عَنْهَا أحد من أَصْحَابك لأجاب فِيهَا فتترجح فِيهَا وتتوقف فَقَالَ إِن فتْنَة الْجَواب بِالصَّوَابِ أَشد من فتْنَة المَال ﵁
وَلما ذكره تلفت إِلَى نَحْو مَا بلغنَا عَن القَاضِي أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد ابْن حبيب الْمَاوَرْدِيّ أحد المصنفين الشافعيين قَالَ صنفت فِي الْبيُوع
1 / 16
@ كتابا جمعت لَهُ مَا اسْتَطَعْت من كتب النَّاس وأجهدت فِيهِ نَفسِي وكددت فِيهِ خاطري حَتَّى إِذا تهذب واستكمل وكدت أعجب بِهِ وتصورت أنني أَشد النَّاس اطلاعا بِعِلْمِهِ حضرني وَأَنا فِي مجلسي أَعْرَابِيَّانِ فسألاني عَن بيع عقداه فِي الْبَادِيَة على شُرُوط تَضَمَّنت أَربع مسَائِل لم أعرف لشَيْء مِنْهَا جَوَابا فأطرقت مفكرا وبحالي وحالهما مُعْتَبرا فَقَالَا أما عنْدك فِيمَا سألناك جَوَاب وَأَنت زعيم هَذِه الْجَمَاعَة قلت لَا فَقَالَا إيها لَك وانصرفا ثمَّ أَتَيَا من قد يتقدمه فِي الْعلم كثير من أَصْحَابِي فَسَأَلَاهُ فأجابهما مسرعا بِمَا أقنعهما فآنصرفا عَنهُ راضيين بجوابه مادحين لعلمه فَبَقيت مرتبكا وَإِنِّي لعلى مَا كنت عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمسَائِل إِلَى وقتي فَكَانَ ذَلِك لي زاجر نصيحة ونذير عظة
1 / 17
@
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ أحد الْأَئِمَّة الشافعيين ثمَّ أَبُو بكر الْخَطِيب الْحَافِظ الْفَقِيه الشَّافِعِي الإِمَام فِي علم الحَدِيث قل من حرص على الْفَتْوَى وسابق إِلَيْهَا وثابر عَلَيْهَا إِلَّا قل توفيقه وآضطرب فِي أمره وَإِذا كَانَ كَارِهًا لذَلِك غير مُخْتَار لَهُ مَا وجد مندوحة عَنهُ وَقدر أَن يحِيل بِالْأَمر فِيهِ على غَيره كَانَت المعونة لَهُ من الله أَكثر وَالصَّلَاح فِي جَوَابه وفتاويه أغلب
قَالَ ذَلِك الصَّيْمَرِيّ أَولا ثمَّ تَلقاهُ عَنهُ الْخَطِيب فَقَالَ لَهُ فِي بعض تصانيفه وروى بِإِسْنَادِهِ عَن بشر بن الْحَارِث أَنه قَالَ من أحب أَن يسْأَل فَلَيْسَ بِأَهْل أَن يسْأَل
وَذكر أَبُو عبد الله الْمَالِكِي فِيمَا جمعه من مَنَاقِب شَيْخه أبي الْحسن الْقَابِسِيّ الإِمَام الْمَالِكِي أَنه كَانَ لَيْسَ شَيْء أَشد عَلَيْهِ من الْفَتْوَى وَأَنه
1 / 18
@ قَالَ لَهُ عَشِيَّة من العشايا مَا آبتلي أحد بِمَا إبتليت بِهِ أَفْتيت الْيَوْم فِي عشر مسَائِل قلت قَول الله ﵎ وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام لتفتروا على الله الْكَذِب إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لايفلحون مَتَاع قَلِيل وَلَهُم عَذَاب أَلِيم شَامِل بِمَعْنَاهُ لمن زاغ فِي فتواه فَقَالَ فِي الْحَرَام هَذَا حَلَال أَو فِي الْحَلَال هَذَا حرَام أَو نَحْو ذَلِك
وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر الْحَافِظ بِإِسْنَادِهِ عَن مَالك قَالَ أَخْبرنِي رجل أَنه دخل على ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن فَوَجَدَهُ يبكي فَقَالَ لَهُ مَا
1 / 19
@ يبكيك وارتاع لبكائه فَقَالَ لَهُ أَمُصِيبَة دخلت عَلَيْك فَقَالَ لَا وَلَكِنِّي أستفتي من لَا علم لَهُ وَظهر فِي الْإِسْلَام أَمر عَظِيم قَالَ ربيعَة وَبَعض من يُفْتِي هَهُنَا أَحَق بالسجن من السراق
رحم الله ربيعَة كَيفَ لَو أدْرك زَمَاننَا وَمَا شَاءَ الله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
1 / 20
@
القَوْل فِي شُرُوط الْمُفْتِي وَصِفَاته وَأَحْكَامه وآدابه
أما شُرُوطه وَصِفَاته فَهُوَ أَن يكون مُكَلّفا مُسلما ثِقَة مَأْمُونا منزها من أَسبَاب الْفسق ومسقطات الْمُرُوءَة لِأَن من لم يكن كَذَلِك فَقَوله غير صَالح للإعتماد وَإِن كَانَ من أهل الإجتهاد وَيكون فَقِيه النَّفس سليم الذِّهْن رصين الْفِكر صَحِيح التَّصَرُّف والإستنباط متيقظا ثمَّ يَنْقَسِم وَرَاء هَذَا إِلَى قسمَيْنِ مُسْتَقل وَغير مُسْتَقل
الْقسم الاول الْمُفْتِي المستقل وَشَرطه أَن يكون مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ قيمًا بِمَعْرِفَة أَدِلَّة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَمَا الْتحق بهَا على التَّفْصِيل وَقد فصلت فِي كتب الْفِقْه وَغَيرهَا فتيسرت وَالْحَمْد لله عَالما بِمَا يشْتَرط
1 / 21
@ فِي الْأَدِلَّة ووجوه دلالاتها ويكفيه اقتباس الْأَحْكَام مِنْهَا وَذَلِكَ يُسْتَفَاد من علم أصُول الْفِقْه عَارِفًا من علم الْقُرْآن وَعلم الحَدِيث وَعلم النَّاسِخ والمنسوخ وَعلمِي النَّحْو واللغة وأختلاف الْعلمَاء وإنفاقهم بِالْقدرِ الَّذِي
1 / 24
@ يتَمَكَّن بِهِ من الْوَفَاء بِشُرُوط الْأَدِلَّة والاقتباس مِنْهَا ذَا دربة وآرتياض فِي اسْتِعْمَال ذَلِك عَالما بالفقه ضابطا لأمهات مسَائِله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها فَمن جمع هَذِه الْفَضَائِل فَهُوَ الْمُفْتِي الْمُطلق المستقل الَّذِي يتَأَدَّى بِهِ
1 / 25
@ فرض الْكِفَايَة وَأَن يكون مُجْتَهدا مُسْتقِلّا
والمجتهد المستقل هُوَ الَّذِي يسْتَقلّ بِإِدْرَاك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة من غير تَقْلِيد وتقيد بِمذهب أحد
وَفصل الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ صِفَات الْمُفْتِي ثمَّ قَالَ القَوْل الْوَجِيز فِي ذَلِك إِن الْمُفْتِي هُوَ المتمكن من دَرك أَحْكَام الوقائع على سبر من غير معاناة تعلم
وَهَذَا الَّذِي قَالَه مُعْتَبر فِي الْمُفْتِي وَلَا يصلح حدا للمفتي وَالله أعلم
تَنْبِيهَات
الأول مَا اشترطناه فِيهِ من كَونه حَافِظًا لمسائل الْفِقْه لم يعد من شُرُوطه
1 / 26