فلم تعد لمياء تستطيع سماع هذا الإطراء وودت لو أنها تسمع عكسه عسى أن يخف بعض ما بها من وخز الضمير. فأحبت تغيير الموضوع فقالت: «سندخل الليلة في شهر رمضان جعله الله شهرا مباركا عليك وزادك من نعمه ومتعك بأبنائك. ما هي العادة في تناول الإفطار عندكم؟»
قالت: «إن لأمير المؤمنين عناية خصوصية في هذا الشهر. يأمر أصحاب المطابخ بإعداد طعام الإفطار لأهل القصر فتمد الأسمطة للخليفة وأهله وقواده وأمرائه وسائر رجال حكومته حسب درجاتهم فيأكلون معا وتمد الموائد أيضا للنساء من أهل هذا القصر فأتولى أنا تدبيره على أيدي الجواري. وستكونين أنت في من يفطر معي وسأجعل مجلسك بالقرب مني؛ لأستأنس بك. وكذلك نفعل في طعام السحور أحيانا وأما أنت فستكونين معي كل هذا الشهر في السحور والفطور. وسأريك في ساعة الغروب كيف تمد الأسمطة وكيف يجلس الخليفة والأمراء عليها وسترين والدك معهم.»
فشكرت لها فضلها وأحبت الاستئذان في الذهاب إلى غرفتها فرارا من ذلك الحديث ولكي تريح دماغها؛ لأنها أحست بألم في رأسها بسبب ما قاسته أمس من الانزعاج. وزادها حديث أم الأمراء انزعاجا فأظهرت التعب ولم تكن تحتاج في إظهاره إلى تكلف؛ لأنه كان باديا في وجهها وقالت: «ألا تأذن مولاتي في انصرافي فقد شغلتها عن شئونها وأنا أحس بحاجة إلى الراحة.»
قالت: «إني أقرأ ذلك في عينيك وهو طبيعي في مثل هذه الحالة ولكنني أرجو أن تنسي ذلك بعد قليل ...» وصفقت فجاءت حاضنتها فقالت: «أحب أن تكون عزيزتي لمياء في غرفة قريبة من غرفتي. قولي لقيمة القصر أن تهيئ لها الغرفة بما تحتاج إليه؛ فإنها ذاهبة بعد قليل للراحة فيها.»
فأشارت مطيعة، وخرجت ولم تفرح لمياء بهذا الإكرام؛ لأنها كانت تود البقاء بعيدة على انفراد خوفا من أن يظهر شيء منها على حين غفلة فيفضح أمرها. لكنها لم تجد بدا من الثناء على ذلك الإنعام. وبعد قليل جاءت الحاضنة وقالت: «إن الغرفة مهيأة.»
فنهضت لمياء وودعت. فقالت لها أم الأمراء: «سنلتقي هنا قبل الغروب.» فأومأت لمياء مطيعة ومشت إلى غرفتها الجديدة وهي تعرف طريقها إليها، لكنها لا تدري ماذا تعمل. فلما وصلت الغرفة رأتها أحسن أثاثا وفرشا من تلك. وفيها مرآة جميلة من الفضة الصقيلة مستديرة الشكل. وهناك منضدة عليها المكحلة والمشط والسواك وسائر ما تحتاج إليه المرأة في إصلاح شأنها.
وسريرها من الأبنوس وهو مع بساطته ثمين وكل ما في الغرفة ثمين وبسيط، على أنها لم تنتبه إلى شيء؛ لفرط قلقها، وما صدقت أنها دخلت الغرفة حتى أغلقت بابها وتوسدت الفراش واستغرقت في الأفكار. وقد سرها تأجيل الزفاف شهرا كاملا؛ إذ يكون لها فرصة للتفكير والتدبير. وأخذت تفكر في استنباط طريقة تريح بها ضميرها، فتبقى هذه النعمة لها وتعرف حق المعز وامرأته وفضلهما عليها فلا تخونهما، ومع ذلك تريد أن تحفظ كرامة والدها.
وأما سالم فحالما تصور لها خفق قلبها لما تذكرته من أمره في أمس وكيف عاد خائبا وما أظهره الحسين من المروءة وكبر النفس في شأنه وأحست بانعطاف نحو الحسين، فكذبت نفسها وأخذت في تحويل فكرها عنه وصورته لا تغيب عن مخيلتها كما رأته في آخر لحظة وهو يودعها ويوصيها بكتمان ما جرى لسالم. وقدرت تلك الأريحية حق قدرها وجعلت تقنع نفسها أن ما تحس به من الانعطاف نحوه إنما هو من قبيل الامتنان؛ لأنها لم تكن تريد بدلا من سالم وهو أول من طرق حبه قلبها وهي صغيرة، تسرب حبه إليها تدريجا؛ لأنهما تعارفا منذ الصغر فلم يأتها الحب دفعة كما أصابها هذه المرة. ولذلك لم تقتنع أن شعورها نحو الحسين من قبيل الحب الذي لا يلبث أن يتمكن. وخصوصا أنها أصبحت تنتظر ساعة الإفطار بفارغ الصبر لكي تراه جالسا على السماط في جملة الجالسين - كما قالت لها أم الأمراء.
الفصل الرابع والعشرون
إفطار رمضان
ناپیژندل شوی مخ