فازدادت دهشتها وقالت: «قلت لكم ذلك فغضبتم علي، لكنني لا أزال جاهلة مرادك ...»
فضحك ونظر نحو باب الخيمة وهم كأنه يتحفز للنهوض. فالتفتت ورأت أباها داخلا ومعه رجل ملثم ملتف بعباءة لا يبدو منه إلا عيناه.
فلم تعرفه وابتدرها أبوها قائلا وهو يهش لها: «ألعلك لا تزالين على تمسكك بالرفض ومقاومة أمر الخليفة وإرادة والدك.» قال ذلك وهو يتقدم حتى جلس في مكانه والرجل الملثم واقف بجانب أحد أعمدة الخيمة كأنه متكئ عليه. فشغل خاطرها به وخافت أن يكون في الأمر دسيسة لكنها لم تستغش والدها. ولما سمعته يطرح ذلك السؤال عليها قالت: «ولكن العم أبا حامد يقول إنكم تبخلون بي حتى على الخليفة ولا تعطون شعرة مني بكل ملكه.»
فضحك ضحكة تهكم وقال: «هل قال لك ذلك؟ هل صدقته؟ لا. لا. كيف نخرج من أسر أمير المؤمنين ... كيف ننكر فضله علينا؟ إننا مدينون له بحياتنا.» قال ذلك وتنحنح ونظرت لمياء في وجهه فرأت في عينيه معنى غير الذي نطق به لسانه. والعين أصدق تعبيرا من اللسان، فعلمت أنه يتهكم ولكنها تجاهلت وقالت: «لقد حيرتموني في أمري فلا أدري من أصدق!»
ونظرت إلى والدها فرأت الغضب في عينيه وهما تكادان تقدحان شررا وشارباه يرقصان في وجهه وقد تعودت ذلك فيه إذا اشتد غضبه فتهيبت وأثر منظره فيها وتوقعت أن تسمع جوابه فرأته نهض مسرعا وهو يتعثر بحمائل سيفه وأردان جبته ومشى على البساط مشية ملك يتخطر تيها وعجبا وليس في قدميه نعال - وكان قد نزعهما بباب الفسطاط كالعادة - فالتفتت نحوه وهي تراعيه في تخطره وتنظر خلسة إلى الرجل الملثم وقد ازدادت دهشة ولبثت صامتة. ووقع نظرها على أبي حامد فرأته ينظر إليها ويشير بسبابته على شفته السفلى أن «اسكتي لنرى.»
الفصل السادس عشر
عز الملك
أما حمدون فبعد أن خطر مرتين ذهابا وإيابا وهو يلاعب شاربيه وسيفه يجر على البساط وقد انحرفت عمامته من مكانها ولم ينتبه لها من الغضب وقف بين يدي لمياء وقال: «لمياء يا لمياء إلى متى تتجاهلين ومثلك لا يحتاج إلى إيضاح هل تصدقين أن أباك أمير سجلماسة سلالة آل مدرار السادة الفاتحين يرضى بمصاهرة عبد صقلي يباع أمثاله في الأسواق بدنانير قليلة؟ هل صدقت أننا نعير طلب صاحب القيروان التفاتا. وإنما نحن وافقناه حتى يتيسر لنا ما نريده ... لا تكوني ساذجة وأنت ابنة حمدون صاحب سجلماسة قائدة الجند في ساحة الحرب. ما أسرع ما نسيت مجدنا وملكنا نحن أصحاب سجلماسة ونصاهر العبيد؟ لا يغرنك ما أتيح لهم من النصر إنها فلتة لا تستقر لهم طويلا ... لا تستقر إلا ريثما توافقينني على ما أطلبه منك فيذهب ملكهم ونسترجع ملكنا. ونخضعهم لأسيافنا.» قال ذلك وهو يرتعش من الغضب.
فتحمست لمياء وعادت إليها روح السيادة وحب الرئاسة وتأثرت مما ظهر من تحمس والدها لكنها أعملت فكرتها فلم تجد كلامه مبنيا على شيء واضح ثابت؛ لعلمها أنهم هناك كالأسرى عند المعز لدين الله وأن جند والدها وإن كثر لا يعد شيئا في جانب جند المعز وأتباعه. ولكنها انصاعت لقوله بنفوذ الوالدية؛ فإن الولد كثير التصديق لما يسمعه من والده ومعلمه ولو كان مستحيلا. ومع ذلك فهي لم تفهم حقيقة ما يريدونه من ذلك التناقض فقالت: «صدقت يا أبتاه وهل ترى وسيلة لإرجاع ما كان إلى ما كان؟ إني أبذل روحي في هذا السبيل.»
فلما سمع قولها أكب عليها وضمها إلى صدره وقبل رأسها وابتسم ابتسام من فاز بضالة كان يبحث عنها، وقال: «بورك فيك من ابنة عاقلة ... إنك جديرة أن تكوني ملكة سجلماسة والملك سيئول طبعا إليك؛ إذ ليس لي أبناء سواك.»
ناپیژندل شوی مخ