فقال عبد الله: «لا أراني قادرا على العود قبل أن أقتفي أثر حوافر الجواد لعلي أقف على أثر ولدي فإني أخاف أن يكون قد ذهب فريسة الوحوش والعياذ بالله.» فقال أبو سفيان: «مر بما تشاء فإننا بين يديك.» وأمر رجاله فتفرقوا بين التلال يبحثون عن آثار الآدميين وبعد برهة عاد أحدهم يسوق جواده زميلا حتى دنا منهم فقال: «رأيت آثار أناس بالقرب من شجرة هناك.»
فهمز عبد الله جواده وتبعه أبو سفيان في أثر الرجل حتى دنوا من المكان فإذا هناك شجرة كبيرة تحتها آثار جواد مقتول لم يبق منه إلا جمجمته وسرجه وبعض عظامه فعرف عبد الله من السرج أنه جواد سلمان خادمه فصاح قائلا: «هذا هو جواد سلمان فأين حماد وسلمان.» وأخذ يبحث حول الشجرة وبالقرب منها فرأى آثار نسيج عرف بالتأمل فيه أنها عباءة فظنها عباءة حماد قد مزقتها أنياب الوحوش فلطم كفا بكف وقال: «وهذه هي عباءته فأين بقاياه ألعل الأسود أكلته كله.» قال ذلك وتناول قطع العباءة وجعل يقبلها ويذرف الدموع ويصيح: «وا ولداه قد أكلتك السباع آه أين أنت.» ولم يعد يستطيع الوقوف.
فتأثر أبو سفيان وكل من حضر من حاله ولولا خشونة البداوة وتعودهم القتل والنهب لبكوا معه أما أبو سفيان فقال له: «هون عليك يا أخا لخم فإننا لم نتحقق موت الغلام بعد وأنت لم تعثر بأثر من أثار جثته.» وأخذ يخفف عنه ويطمئنه بمثل هذا الكلام وهو لا يهدأ له بال ولا ينفك عن البكاء بل جعل يلطم كفا بكف ويقول: «أهذه هي آخرة حياتك يا حماد آه من لي بالأنياب التي نهشت جلدك الناعم فأحطمها وأين تلك المخالب التي غرست أظافرها في لحمك فأمزقها كما مزقته آه وا ولداه أهذا هو وفاء النذر أهذه عاقبة الاصطبار عشرين عاما لنقص لك شعرك.»
فلما رأى أبو سفيان شدة اضطراب عبد الله وعظم بكائه رق له وخاف عليه فجلس إلى جانبه وأمسكه بيده وأخذ يخفف عنه بما يؤمله ببقاء ابنه حيا وقال له: «إن ما رأيناه من الآثار لا يدل على شيء مما خفته فلو كان الأسد فتك بالغلام لرأيت شيئا من بقاياه وهب أن الأسد أكل ثيابه فهو لا يستطيع أن يزدرد سيفه ورمحه فلو كان ما تظنه صحيحا لرأيت سلاحه باقية هنا على الأقل فلعله فر ونجا ولم يفتك الأسد بغير هذا الفرس إرجع إلى صوابك وتبصر في الأمر فإنك رجل عاقل خبير وزد على ذلك أن البكاء لا يجديك نفعا هلم بنا نبحث في هذا الجوار لعلنا نقف على ما يكشف لنا الغامض.»
فقال عبد الله: «صدقت يا أخا قريش أن البكاء لا يجديني نفعا ولكنني أخاف إذا بحثت أن لا أزداد إلا فشلا ويأسا فدعني أبكي ولدي وأقبل عباءته في هذه الصحراء حتى يلقاني الأسد الذي افترسه فإما أن أنتقم له منه أو أن يفترسني فنموت جميعا فإن ذلك خير لي وأبقى.»
فما زال أبو سفيان يدافعه حتى سكن روعه فنهض وسار ماشيا بين التلال والصخور وأبو سفيان يصحبه ورجاله منبثون في أنحاء السهل يساعدونهما في إلتفتيش فوصل عبد الله وأبو سفيان إلى غدير صغير أشرفا عليه من أكمة فآنس عبد الله عند الغدير شبحا فهرول نحوه فإذا به ثياب وسلاح فتأملها فإذا هي عباءة حماد ورمحه وسيفه فضم السيف إلى صدره وصاح: «هذا هو سلاحه وهذه هي عباءته لا تلك فأين هو؟» فأخذوا يبحثون في ذلك الجوار حتى ملوا إلتفتيش وكادت الشمس تميل إلى الأصيل ولم يجدوا شيئا فتحقق عبد الله أن حمادا قد ذهب فريسة الأسد فعاد إلى البكاء والنوح حتى انفطر قلب أبي سفيان له وأشفق عليه فأخذ يعزيه ويخفف أحزانه وهو لا يزداد إلا بكاء.
فقال أبو سفيان: «ما يجدينا البكاء يا أخا العرب إننا لا نستطيع رد الضائع ووالله لو كان ابنك أسيرا في إيوان كسرى أو قصر قيصر لبذلنا أنفسنا في سبيل إنقاذه لأن لك علينا حق الجوار وزد على ذلك أنك رجل قد وقعت من نفسي موقعا عظيما فسررت بلقائك وها أنني بين يديك فافعل ما تراه فإني أطوع لك من بنانك.»
فسكت عبد الله ولم يجب ولبث برهة غارقا في بحار الهواجس يراجع في ذهنه تاريخ حياته وما جاء من أجله إلى بصرى وما كان من أمر النذر ثم رجع إلى صوابه وتجلد تجلد الرجال المدربين فعلم أن البكاء لا يجد به نفعا فرأى من الحزم أن يتدبر الأمر بالصبر والتروي فلاح له أن يسير إلى عمان يفتش فيها عن حماد فلعل أحدا ينبئه بحاله ونظر إلى الشمس وقد قاربت الزوال وبينهم وبين الطريق بضعة أميال ورأى أبا سفيان ورجاله واقفين في خدمته ينتظرون أمرا يطيعونه فيه فخاف أن يسبب لهم البقاء هناك أذية فقال لأبى سفيان: «إني يا أخا قريش شاكر لحسن صنيعك وأخشى أن أكون سببا لضرر ينالك على يدي ونحن في هذه الصحراء التي شربت دم ولدي فسيروا إلى مقصدكم بحراسة الله ودعوني أسير في طريقي.»
فأجابه أبو سفيان قائلا: «دع عنك الهواجس واعلم أننا لا نبرح هذا المكان إلا وأنت في مقدمتنا فلسنا بتاركيك وحدك فإذا رافقتنا فإننا في خدمتك حتى تصل مأمنك وإذا شئت المسير معنا إلى مكة فإنك تنزل في بيتنا على الرحب والسعة فاختر لنفسك.»
فهم عبد الله بأبي سفيان وضمه وبكى لما آنسه من تعزيته وقال: «لقد وفيتم الكيل وأجزلتم الجميل أما المسير معكم فغير مستطاع ولا بد لي من النظر في الأمر فإما أن أسير إلى عمان أو أعود إلى منزلي بقرب بصرى حتى يحكم الله بما يشاء.»
ناپیژندل شوی مخ