أما ثعلبة فقال: «ما قاله انتحالا لعذر يغطي به خجله.» وهو لا يظن حمادا يعطيه فرسه فلما تنحى له عنه لم ير مندوحة عن الركوب فركبا ونزلا إلى ساحة السباق حتى تواريا عن الأبصار فلبث الناس ينتظرون عودتهما وكأن على رؤوسهم الطير وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب فأرسلت بقية أشعتها الأرجوانية على تلك السهول وما وراءها من الجبال والأودية وقد هدأت الطبيعة وسكن جأش النهار.
فلما أبطأ الفارسان شاعت أبصار الناس نحو حلبة السباق وملوا الانتظار حتى هم بعضهم بأن يلحق بهما ليرى سبب ذلك التأخر وكثر الهرج والمرج وكان أكثر الناس قلقا هند فقد شاعت عيناها وخافت غدر ثعلبة ثم ما لبثت أن شاهدت الغبار وبان من ورائه فارسان هما حماد وثعلبة والقصبة في يد حماد فما صدقت أن رأته وقد كاد قلبها يطير من الفرح أما أبوها فشق عليه أن يكون السابق رجلا غريبا يفوز عليهم جميعا ولكنه رحب به فترجل الفارسان ونزلا إلى الخيمة فأراد حماد أن يعتذر عن ثعلبة فقال : «والله إني لم أسبق الأمير ثعلبة إلا بقضاء وقدر لأنه فارس مبرز يحق لغسان الافتخار به ولو تعود ركوب فرسي قبل الآن لسبقني.» فلم يجب ثعلبة ببنت شفة ثم ناول حماد القصبة إلى هند فرأتها قصيرة فتأملتها فإذا هي مقطوعة بنصال يراها برى القلم فأرادت السؤال عن سبب ذلك فنظر حماد إليها نظرة خيفة كأنه يقول لها لا تفعلي فسكتت وفى نفسها أن تعرف سبب بريها.
ثم تقدم حامل الصبغ الأحمر فخضب به صدر فرس حماد وكان الظلام قد أسدل نقابه أو كاد فأمر جبلة أن يحتفلوا بإلباس الدرع في باحة القصر فأنيرت المشاعل، وسار الناس مشاة وقد غادروا خيولهم مع سياسها بقرب الخيام، ودخلوا الحديقة وفيها الأزهار والرياحين، فنزلوا في بقعة واسعة أعدت لمثل ذلك الاحتفال ضرب فيها سرادق كبير وفرشت أرضه بالبسط، فعلقوا الشموع في جدرانه، وجلس جبلة في صدره على وسادة من الحرير الموشى وجلست ابنته إلى جانبه وثعلبة إلى الجانب الآخر وأجلسوا الشاب على مرتفع ليراه الجميع. ثم أخذت الجواري ينشدن أناشيد التهنئة وجاء بعض رجال جبلة يحمل الدرع ثم وقفت هند وأمارات السرور ظاهرة على وجهها فمشت إلى مقعد حماد فوقف لها وركبتاه ترتعشان إذ رآها قادمة لتلبسه الدرع، فنزع عن رأسه الكوفية والعقال فبانت ملامح وجهه جيدا فازدادت هياما به ولكنها استغربت فيه أمرا استغربه كل من شهد الاحتفال ذلك أن حمادا لما نزع كوفيته ظهر شعر رأسه طويلا حتى غطى ظهره فلم يفهموا معنى إرسال شعره على هذه الصورة.
فتناولت هند الخوذة أولا فوضعتها على رأسه ثم تناولت بقية أجزاء الدرع فألبسته إياها والشعراء ينشدون والجواري يرتلن، وكلهم فرحون إلا ثعلبة فإنه لبث صامتا مقطب الوجه ولا سيما لما رأى ابنة عمه تلبس تلك الدرع لحماد بيديها وهي فرحة بفوزه. أما هي فانتهزت فرصة انشغال الناس بالتفرج وهمست في أذن حماد قائلة: «نلتقي غدا في دير بحيراء.»
فلما تم إلباس الدرع عادت هند إلى مجلسها والناس وقوف، وبعد قليل جاءت الأسمطة ومدت الموائد وجلس الناس للطعام. وبعد انتهاء العشاء تفرقوا فذهب كل إلى سبيله وهم يتحدثون بسباق ذلك اليوم وما كان من حماد. وبقي ثعلبة عند عمه وقد أعمل فكره في مخرج ينجيه مما وقع فيه من الفشل.
أما هند فتظاهرت بالتعب واستأذنت في الذهاب إلى غرفتها.
ولما بقي جبلة وثعلبة على انفراد، قال ثعلبة: «لم يسؤني أن سبق الرجل وإنما ساءني أن يأخذ الجائزة غريب لا يعرف له نسب ويحرم منها أمراء غسان وفرسانهم.»
فقال جبلة: «أما أنا فلم يسؤني أنه نال الجائزة فقد ينالها سواه في سباق آخر، ولكننى أعجب لتستره وقد فاتني أن أسأله عن أصله على أنني سأرسل إليه وأسأله في فرصة أخرى.»
فقال ثعلبة: «لا بد من البحث عنه لئلا يكون جاسوسا أو عينا علينا من قبل اللخميين ملوك الحيرة وكأنني أرى في لهجته ما يدل على ذلك.»
قال جبلة: «ولكن ملك العراق قد خرج من أيدي اللخميين لما علمت من مقتل النعمان بن المنذر وولاية إياس بن قبيصة من قبيلة طي وزد على ذلك أن هذا الشاب لا يظهر في هيئته وشكله ما يدل على جاسوسيته فهو أقرب إلى أولاد الأمراء منه إلى السوقة فإذا كان من أهل الحيرة فهو من أمرائهم لأن الهيبة ظاهرة على وجهه.» فشق ذلك المدح على ثعلبة فعمد إلى الروغان فقال: «وهل يؤخذ الناس بمظاهرهم فكم من رجل تظنه ملاكا فإذا خبرته ظهرت لك عيوبه فتجده من أسافل السوقة فأرى أن نحمله على الإقرار بحقيقة حاله قسرا فإذا كان من أهل الحيرة أخرجناه إلى بلاده وإذا كنت تستنكف من إخراجه فوالدي يخرجه لأنه مقيم بقرب بصرى.»
ناپیژندل شوی مخ