فصعد الناسك الزفرات وقال: «أما أنا فاني القس الذي ارتد النعمان إلى النصرانية على يده بعد أن كان أسلافه قد نبذوها وعادوا إلى الوثنية أو المجوسية ديانة الفرس».
فانتبه عبد الله من غفلته كأنه أفاق من رقاد وقال: «العلك القس يعقوب».
قال: «نعم وقد كنت مقيما في دير هند الكبرى المنسوب إلى هند بنت الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار وهو في ظاهر الحيرة وكانت هند هذه كما تعلمون قد ترهبت فيه فسمي باسمها ولكنني كنت أختلف إلى النعمان كثيرا ويطلعني على أسراره حتى كان ما كان من أمر سجنه في خانقين فبرحت الحيرة وسرت إلى هناك وجعلت أتردد إليه في السجن. ألا تذكر أنك كنت تراني هناك».
قال: «أذكر ذلك جيدا وما زلت منذ رأيتك الآن وأنا في أفكر فيه». ثم هم عبد الله به وتعانقا وهما يبكيان أما الناسك فتحول نحو حماد وضمه وجعل يقبله ويبكي وهو يقول أحمد الله إني رأيتك قبل موتي.
ولبثوا برهة صامتين وكل يبكي ويمسح دموعه بكمه إلا الناسك فقد كان يمسحه ببطن كفه.
ثم قال عبد الله: «أقصص علينا بقية الخبر يا حضرة القس المحترم».
قال: «كنت أتردد إليه في السجن أصلي له وأباركه وأدعو له وكان كلما اجتمعت به يقول والاهتمام ظاهر على وجهه: «لدي سر سأطلعك عليه في فرصة أخرى» فاهتممت لمعرفة ذلك السر وكنت أتوقع سماعه في كل زيارة وهو يسوفه وكنت كلما سرت إليه رأيتك وعجبت لشهامتك وغيرتك عليه. فسألته عنك يوما فقال: «انك مستودع أسراره وأنه يثق فيك وثوقا تاما». ومازلت أختلف إليه حتى أصيب بمرض ظنوه الطاعون ولا أظنه إياه. فزرته ولم تكن أنت ساعتئذ هناك فقال لي: «أراني لن أنقه من مرضي هذا ولعل القضاء سيعاجلني وأخاف أن لا أملك فرصة أخاطبك بها». فقلت: «قل يا سيدي ولعل الله شافيك بإذنه وبركة ابنه». ثم بكى وبكيت» (قال الناسك ذلك وخنقته العبرات والجميع سكوت يصغون إلى خبره يتطاولون بأعناقهم ويحدقون بأبصارهم في شفتيه وهما ترتجفان من شدة التأثير) فسكت الناسك برهة ريثما استرجع قواه. ثم قال: «فأمسكني النعمان رحمه الله بيديه وأدناني منه واسر إلي أمرا خطيرا» قال: «أنه أسره إليك ولا أدري هل يجوز لي التلفظ به وهو سر الاعتراف».
فقال عبد الله: «لقد قلت إني عارف به فلم يعد من قبيل سر الاعتراف وقد اطلعت ابنه ورفيقنا هذا عليه».
فقال الناسك: «أما والحال على ما تقول فأخبركم أنه أدناني منه وهو جالس على فراشه في ذلك السجن وقال: «إني سأقضي نحبي هنا ظلما من قوم لا يعرفون الله ولا يشفقون على إنسان وسأترك أهلي وأولادي بدون أن أراهم وأودعهم واني عالم أن سلطان الحيرة سيخرج من بني لخم بعد موتي فأسررت إلى شمعون أن يربي ولدا لي لم يولد بعد وأن يكتم نسبه عنه حتى يبلغ العشرين من عمره فيقص شعره في دير بحيرا ثم يطلعه على حقيقة نسبه» قال: «واعترف لك إني حرضته على أن ينتقم لي من دولة الفرس». قال الناسك: «فلما سمعت كلامه اقشعر بدني واستعذت بالله من ذلك كله وقلت: «يا سيدي الملك أراك تستعجل الأجل وليس ما يدعو إلى قربه وأما الانتقام فاتركه إلى الله سبحانه وتعالى وهو الديان العظيم». فأجابني والدموع تخنقه: «لقد قضي الأمر يا أبتاه وعهدت بذلك ولا أرى الرجوع عنه والله يقضي بما يشاء» قال النعمان ذلك واختلج صوته وارتعدت فرائصه ثم غاب صوابه وفيما نحن في ذلك جاء السجان يشدد النكير على من يدخل إلى النعمان فخرجت ولم أعد أراه ثم ما لبثت أن سمعت بانتقاله إلى دار البقاء» (قال الناسك ذلك وتنهد) وعلمت وا حسرتاه عليه أنه لم يمت بخانقين بل نقلوه إلى ساباط فمات فيها.
فلما سمعت ذلك كرهت الدنيا وتحققت فناءها وزدت زهدا فيها فالتجأت إلى النسك واخترت منه أكثره زهدا وهو هذا الذي أنا فيه أعيش على نبات الأرض وأمكث عاريا كما ترون وكنت مقيما في العراق مع رفاق كثيرين من الرهبان وذكر النعمان لم يبرح من ذهني يوما واحدا وصورته نصب عيني وهو على ذلك الفراش في خانقين وما زلت أردد كلماته الأخيرة. فأحببت الاطلاع على ما فعلته أنت من هذا القبيل فلم أعرف مقامك ولما مضت بضع عشرة سنة من وفاته ولم أرك ولا عرفت مقرك قلت لعلك تقيم في البلقاء بالقرب من دير بحيراء لأجل وفاء النذر عند حلول الميعاد. فجئت وأقمت في هذا الكهف وفي نفسي شيء أريد أن أطلعك عليه فلم أسمع عنكم خبرا ولا أنا أستطيع البحث لانقطاعي عن الناس فضلا عن إني لم أكن أعرف اسمك الجديد فكنت أتوقع أن أسمع خبرا عن شمعون الحيرى فلم أسمع هذا الاسم قط.
ناپیژندل شوی مخ