/206ب/
فصل
الذي نعتقده وندين به أنه يشترط للاجتهاد في جميع العلوم؛ توحيدا، ومعرفة، وفقها، وتصوفا، وغير ذلك: حفظ جميع القرآن، خلافا لما ذكروه من أنه يكفي حفظ آيات الأحكام وهي خمسمائة آية.
وذلك أن المعني بالمجتهد المطلق هو الذي معه أهلية يتمكن بها من معرفة الأحكام الشرعية، وهذا باطل من القول، وإنما المجتهد من عرف الأحكام التي بين العبد وربه. فلا يكون العبد عالما بالدين وأحكام الشريعة وما يحبه الله ويرضاه ويسخطه ويبغضه ما لم يحفظ القرآن.
وذلك أن القرآن هو مجمع علم الأولين والآخرين، بل وعليه مدار علم الدنيا والآخرة، وما لله وما لغيره.
مخ ۱۵
قال ابن مسعود: من أراد العلم فليثور القرآن (¬1) ... (¬2)
مخ ۱۶
قال الشيخ: فيجب أن لا يكون الإنسان عالما مستقلا من علماء الشريعة إلا بحفظ القرآن كله؛ لوجهين:
أحدهما: أن الأحكام الشرعية ليست مقصورة على كتب الفقهاء فروعا وأصولا، بل ذلك فرع يسير من الأحكام الشرعية، ولو كانت تلك هي القدر المعتبر لكان المفيد من القرآن هي الخمسمائة آية، وذلك باطل.
بل العلم الأصلي هو العلم الذي بعث به الرسل وأنزل به الكتب؛ وهو علم الإيمان، وعلم أحوال القلوب وما تزكوا به من الخشية والإنابة والتوكل والرضى والصبر واليقين والمحبة والزهد في الدنيا وطلب الآخرة والحب في الله والبغض في الله ومحبة الله وكتابه ورسوله والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين والإخلاص والصدق والشكر لله دائما، وعلم شروط الأعمال وما يصححها ويفسدها مما يتعلق بالقلوب من الرياء والعجب والغفلة عن معانيها، وغير ذلك مما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
مخ ۱۷
ومن ذلك: معرفة /207أ/ النفس وشرورها ودسائسها من الشرة والحرص والحسد والغضب والكبر والبخل وحب الدنيا وحب التعظيم وحب الرياسة، ومعرفة الشيطان وكيده ومداخل غروره، ومعرفة موازين الأعمال وما الذي ينبغي أن يبدأ به وأيها الذي يرجح على صاحبه عند الله محبة ومنزلة ومراعات موقع نظر الرب وإهمال موقع نظر الخلق، ومعرفة حقوق الخلق مثل الوالدين وذوي الأرحام والأئمة من أهل العدل والإنصاف والعلماء العاملين والصلحاء المقتدين والمشايخ المهتدين والجيران وعامة المؤمنين وما الذي يجب لكل منهم من الحق، ومعرفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكيفيته وصفته، إلى غير ذلك مما قد ذكر في غير هذا الموضع.
فهذا هو العلم المطلوب من الخلق معرفته، وهو أصل التوحيد الذي ما أنزل الله كتابا ولا أرسل رسولا إلا به، ودعوة الرسل كلهم إليه، وسائر العلوم وسيلة إليه. وبعد ذلك معرفة أحكام الشريعة وأمور الدين. وبعد هذا كله علم الفروع المعروف عن الرسول وعن أصحابه، الأهم منه فالأهم.
فالذي لا يحفظ القرآن لا يمكنه الفتوى في تلك الأحكام، فلا يكون مجتهدا مطلقا، بل هو مجتهد في باب من أبواب العلم.
مخ ۱۸
الوجه الثاني: أن القرآن اشتمل على أصول الدين وقواعد الشرع ونبه على المقاصد والعلل وبين المهمات والجمل، ومن شرط المجتهد معرفته بأنواع اجتهاد الرأي وكيفية الاقتباس منه واستنباط العلل والأسباب، وذلك لا يمكن إلا بعد فهم مقاصد الدين وعلل الشرع الكلية، وذلك لا يتم بدون حفظ القرآن.
فإن قلت: فقد كان جماعة من الصحابة يفتون ولا يحفظون القرآن جميعا؛ مثل أبي بكر وعمر وغيرهما في أول الأمر.
قلت: قد كانوا يشاهدون الرسول فإذا أشكل عليهم أمر سألوه، وحضروا التنزيل، وفهموا كيفية الاجتهاد، وأحكموا القواعد والأصول بكثرة مجالستهم للرسول، واطلعوا على الحكم والعلل والمقاصد من نفس القرآن لا من غيره، وذلك لطول التجربة الصحيحة. بخلاف العلماء اليوم فإنهم لا معرفة لهم بذلك، فإن لم يحفظوا القرآن والسنة ضلوا وأضلوا، ومن لم يتلبس بما ذكرناه من تلك الخصال لم يحصل على طائل من العلم، فإن ما ذكرناه هو العلم النافع والعمل الصالح.
والله سبحانه أعلم.
مخ ۱۹