لم يكن عجبا أن يتولى المسلمين البهر لمرأى قصر كسرى؛ فقد كان هذا القصر عجيبة الأرض لذلك العهد، ولم يكن قدمه موضع العجب فيه، فقد كان يومئذ حديثا لم يمض على بنائه مائة عام؛ إنما كان جلاله وكانت عظمته موضع العجب، شاده كسرى أنوشروان، سنة خمسين وخمسمائة لميلاد السيد المسيح، طرازا بذ به أفخر عمائر الرومان والإغريق جميعا، كانت واجهته تزيد على مائة وخمسين مترا، ويربي ارتفاعه على أربعين مترا، وكانت القباب الجاثمة فوق أبهائه الخمسة تتوج بهاءه وجلاله، وتثير التطلع في نفوس هؤلاء العرب الذين شدت أبصارهم إليه عما عسى تحتوي هذه الأبهاء من ثراء وزخرف، إن بها لا ريب من ذلك ما يقصر الخيال دونه، وهذا البهو الذي يتوسطها، وتعلو قبته قبابها جميعا، هو لا ريب هذا الإيوان الذي لم يسمع الناس في العالم كله بشيء من مثله، أليست الأحاديث تجري عن تخت كسرى والجواهر الكريمة التي ترصع قوائمه بما يشبه الأساطير! والتخت والإيوان والقصر قائمة كلها أمام الجند لا يفصل بينهم وبينها إلا النهر وهي تزيدهم في كل لحظة بهرا، متى إذن يعبرون إليها ويرون رأي العين كل ما فيها؟!
بينما تدرو هذه الخواطر في نفوس المسلمين يغذيها خيالهم، ويزيدها منظر المدائن حياة وقوة، كان يزدجرد مشتت الخاطر يهيم على وجهه في أبهاء القصر وقد ركبته الوساوس من كل جانب، إن دجلة حصن طبيعي بسعة مجراه وتدفع تياره، وقد زاده في هذا الفصل سعة وزاده تياره تدفعا ذوبان الثلوج في أعالي الجبال التي ينبع منها بأذربيجان والموصل، ولا سبيل للمسلمين إلى تخطيه بعد أن جمعت السفن كلها إلى جانبه الشرقي، ألا تستطيع قوات الفرس أن تحمي شاطئه، وأن تدفع بذلك كل خطر عن العاصمة؟ هذا هو التفكير الطبيعي في مثل هذا الموقف، وكان جديرا بيزدجرد أن يتجه إليه، وأن يدعو قواده يدير معهم الرأي فيه، وأن يبعث من روحه الشاب إلى أرواحهم وأرواح الناس جميعا من أهل العاصمة حماسة للذود عن حرمتهم وعن كرامتهم، ولو أنه فعل لكان ذلك أقل ما يجب عليه لنفسه، ولأمة أسلمته زمامها، والتفت حوله للدفاع عن كيانها.
لكن اضطرابه أضل قلبه وأفسد تفكيره، وجعله يرى هؤلاء المسلمين جنا لا تقف قوة في سبيلهم ولا طاقة لأحد إلا بالفرار أمامهم، ومن أولى منه بأن يكون أمام الناس في هذا الفرار، نجاة بنفسه وبأهله! لذلك أمر رجاله فحملوا بيت ماله وما خف من متاعه وخزائنه، وحملوا النساء والذراري وخفوا بهم يقصدون حلوان، ورأى الناس ما صنع عاهلهم، فخارت عزائمهم واندفعوا يفكرون في النجاة بأنفسهم وذويهم، أليس الناس على دين ملوكهم! ولماذا يكون أهل الملك وجواريه أعز عليه من زوج الجندي أو القائد وأبنائهم عليه! بذلك انهارت روح المقاومة في أنفس الفرس، ولم يبق لهم أمل في غير الحظ يسعدهم فيجعل النهر أداة في رد الغزاة عنهم، أو يعثر بهم كرة أخرى فلا سلطان لهم عليه ولا سبيل إلى مقاومته.
وكذلك كان دجلة يجري بين جندين: جند تحطمت قواه فلم يبق له عزم ولا إرادة فألقى بيديه وترك للحظ مصيره، وجند سمت روحه المعنوية وبلغ من قوة الإيمان بالنصر حتى خيل إليه أن يضرب النهر بعصاه ينفرج فيه طريق يجتازه عليه إلى إيوان كسرى، هذه معجزة أتاحها الله لكليمه موسى ففر بها من مصر مع قومه، وسيتيح الله اليوم مثلها لجند المسلمين فيعبرون النهر ويقتحمون المدائن ويديلون دولة الأكاسرة، ويرفعون لواء الحق فوق الإيوان الأعظم.
نعم! هي معجزة تلك التي اجتاز المسلمون بها دجلة، لقد وقفوا على شاطئه ينظرون إلى تدافع مياهه، ويفكر سعد في الوسيلة إلى عبوره، فلا يسعفه التفكير بنافع، فأمر رجاله فجاءوه بعلوج من الفرس سألهم فدلوه على مخاضة في النهر تخاض إلى صلب الوادي، لكنه خشي عادية التيار على الجند، وهو حريص أن يبقي على كل رجل؛ لذلك تردد فلم يعمل بما أشاروا به، فلما كان الغد أتاه النبأ بأن يزدجرد أمر بخزائنه أن تحمل إلى حلوان، عند ذلك جمع الناس وقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه منه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموهم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.»
أية مفاجأة هذه التي فاجأ سعد بها رجاله! أولم يكن إلى أمس مترددا! ألا يخاف أن يتردد الناس فلا يقوون على أمر فيه من الخطر أهوله! لكن الناس لم يترددوا؛ فقد سحرهم مرأى المدائن أعظم السحر، وجذبهم قصر كسرى إليه بقوة دونها كل قوة، فهم يقدمون على المستحيل ليدخلوا العاصمة وليحيطوا بالقصر؛ لذلك لم يكد سعد يتم كلمته حتى قالوا جميعا: «عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.»
ولكن كيف يعبرون؟ وهبهم عبروا على خيولهم، فجند فارس على الشاطئ الآخر يصدونهم فلا يخرجون من الماء، تنبه سعد لهذا فندب الناس وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض
2
حتى نلاحق به الناس لكي لا يمنعوهم من الخروج؟! وانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس، وانتدب بعده ستمائة من أهل النجدة، فأمر سعد عاصما عليهم، فساروا حتى بلغوا شاطئ دجلة قال عاصم لأصحابه: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟ وانتدب له ستون فارسا تقدمهم هو إلى حافة النهر وهو يقول للذين ترددوا: أتخافون من هذه النطفة! ويتلو قوله تعالى:
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ، ثم دفع فرسه فاقتحم النهر واقتحم زملاءه معه، ورأى القعقاع بن عمرو هذه الكتيبة الأولى تتقدم في سبحها، ومد بصره إلى الجانب الآخر من النهر، فرأى الفرس وكأنما يتهيئون للقائها، فأمر أصحابه الستمائة فدفعوا خيولهم إلى النهر فدخلوه كما دخله عاصم وأصحابه، وتولى الفرس العجب لما صنع عدوهم، فقال بعضهم: مجانين، مجانين! وقال آخرون: إنكم والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا!
ناپیژندل شوی مخ