الله ربي واحترزت عامدا
تنفس الصبح عن هذه الليلة الدامية الصاخبة، يسميها المؤرخون ليلة الهرير، ولما يكن النصر عقد لواءه لأحد الفريقين، أفأحس الجند الجهد بعد أن قضوا أربعا وعشرين ساعة في قتال أعنف قتال، فآن لهم أن يريحوا ظهورهم وأن يناموا؟! كلا! بل سار القعقاع في الناس يقول: «إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإن النصر مع الصبر.» واجتمع إليه جماعة من الرؤساء ومعهم جنودهم، فصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه، ورأت القبائل صنيع المهاجرين والأنصار، فقام فيهم رؤساؤهم يشيرون إلى هؤلاء المسلمين ويقولون: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ويشيرون إلى الفرس ويقولون: ولا هؤلاء أجرأ على الموت منكم، وحملت القبائل على من بإزائهم في قتال شديد ظل متصلا حتى قام قائم الظهيرة، عند ذلك بدأت صفوف الفرس تضطرب؛ تراجع الفيرزان والهرمزان في المجنبتين فانفرج القلب، وهبت ريح دبور عاصف، فأطارت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وزحف القعقاع بمن معه إلى السرير فبلغوه، فإذا رستم قد قام عنه إلى بغال قدمت عليه بمال، فوقف بجوار أحدهما يستظل بحمله واندفع رجال القعقاع إلى ناحية النهر، وهم لا يعلمون بأمر المال تحمله البغال ولا بأمر رستم واحتمائه بظلها، فضرب هلال بن علقمة أحدها فقطع حبال الحمل الذي تحته رستم، فوقع عليه أحد العدلين فكسر فقاره وهلال لا يشعر به، وزحف رستم وألقى بنفسه في النهر، فرآه هلال فعرفه، فاقتحم النهر وراءه ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم صعد سريره يصيح: قتلت رستم ورب الكعبة! إلي! إلي! وأطاف الجند به يكبرون ويهللون، وعرف الأعاجم ما أصاب قائد الفرس الأعظم فأسقط في أيديهم، فوهنت قوتهم وانهد ركنهم! فقام فيهم الجالينوس يدعوهم إلى عبور النهر على الردم كما عبر الفيرزان والهرمزان، ولكن الردم انهار بهم في النهر المتدافع التيار، فغرق بانهياره ثلاثون ألف فارسي مقترنين بالسلاسل، وأخذ ضرار بن الخطاب علم الفرس الأكبر - درفشكابيان - وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف، وكذلك انهزمت جيوش يزدجرد شر هزيمة، وانطلقت فلولهم يولون الأدبار لا يعقبون.
مع ذلك أمر سعد فخرج القعقاع وشرحبيل يتعقبانهم، ثم اتبعهما زهرة التميمي والناس من ورائه، وأدرك زهرة الجالينوس يجمع المنهزمين فقتله، وجعل المسلمين يقتلون من يلونهم من الفرس ويأسرونهم، فلا يلقون منهم أية مقاومة، بل إن بعض الروايات لتذهب إلى أن الجند المسلمين كانوا يأمرون المنهزمين بأن يقتل بعضهم بعضا فيفعلون، ذلك أن الفرس تحطمت روحهم المعنوية فلم يبق فيهم عصب لمقاومة، لقد رأوا القتل يصيب من ثبت منهم، ورأوا قوادهم يفرون، فألقوا بأيديهم واستسلموا، فكان الشاب من جند المسلمين يسوق العشرات منهم فيسيرون أمامه منكسة رءوسهم وكأنهم قطيع من النعم، لا إرادة لهم ولا رجاء يحركهم إلا الإبقاء على حياة عار ومذلة، أما الذين أنجاهم الفرار، فتفرقوا وكل واحد منهم يحس أنه أدرك بالفرار كبرى أماني الحياة.
هذا نصر حاسم أحرزه المسلمون، فتوجهم فخارا، ودفع نساءهم وصبيانهم حين عرفوا أمره أن يندفعوا إلى ميدان المعركة ليشاركوا فيه، روي عن أم كثير امرأة همام بن الحارث النخعي أنها قالت: «شهدنا القادسية مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا وأخذنا الهراوى ثم أتينا القتلى، فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك ونصرفهم به.» وكذلك اشترك المسلمون جميعا، رجالا ونساء وصبية، في هذه المعركة العنيفة الفاصلة التي جعلت كلمة الذين آمنوا العليا، وكان لها من الأثر في قيام الإمبراطورية الإسلامية ما كان لغزوة بدر من الأثر في قيام الإسلام.
ولم يضن المسلمون بثمن ليدركوا هذا النصر المؤزر، لقد رأيت فعالهم المجيدة، ورأيت من بلاء أبطالهم ما كان القعقاع بن عمرو مثلا بارزا فيه، وقد رأيتهم كيف أرخصوا دماءهم وأرواحهم في سبيل النصر فجزاهم الله الحسنيين، قتل منهم في الساعات الثلاثين التي انتهت إلى الظفر ستة آلاف، وقتل يومي أرماث وأغواث ألفان وخمسمائة، وهذا العدد من القتلى كان مما يفوق تصور العرب لذلك العهد، لكنه لم يكن شيئا بالقياس إلى من قتل من الفرس في حومة الوغى، ومن غرق منهم في النهر حين الهزيمة، ومن تردى بعد ذلك قتيلا حين الفرار.
رجع القعقاع وزهرة وسائر الأمراء والجند فأحاطوا بسعد، فألفوه خفف النصر بعض علته، وجمع الناس الأسلاب والأموال، فإذا شيء لا يحيط به خيال عربي، وأرسل سعد إلى هلال بن علقمة فسأله عن رستم وقال له: جرده إلا ما شئت، فلم يدع هلال على القتيل شيئا إلا أخذه، فبلغ ذلك سبعين ألفا، ولولا أن قلنسوته سقطت في النهر لضاعف ذلك حظ هلال، وجاء زهرة بن الحوية بسلب الجالينوس، فاستكثر سعد أن ينفله إياه كاملا فكتب إلى عمر في ذلك فرد عليه عمر: «تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلي به، وقد بقي عليك من حربك ما بقي، تفسد قلبه، أمض له سلبه وفضله أصحابه عند عطائه بخمسمائة.»
وقسم سعد الفيء في الناس، فكان عطاء الفارس ستة آلاف والراجل ألفين، ثم فضل أهل البلاء فزاد كل واحد منهم خمسمائة، مع ذلك بقي من الفيء شيء كثير غير الخمس الذي نحاه سعد ليبعث به إلى المدينة، وكتب سعد إلى عمر بما فعل، وسأله عما يفعل بما بقي عنده، فكتب إليه عمر: «أن رد على المسلمين الخمس، وأعط من لحق بك ممن لم يشهد الواقعة.»
5
ونفذ سعد أمر عمر، فبقي لديه ما اضطره أن يبعث إلى عمر يسأله عما يفعل به، وأمر عمر أن يوزع على حملة القرآن، وإنه ليوزعه عليهم إذ أتاه عمرو بن معدي كرب وبشر بن ربيعة الخثمي وكانا أبليا في الموقعة بلاء ضاعف جزاءهما، وهذا البلاء هو الذي أطمعهما في أن يكون لهما حظ مع حملة القرآن، وسأل سعد عمرو بن معدي كرب: ما معك من الله تعالى؟ قال عمرو: إني أسلمت باليمن ثم غزوت فشغلت عن حفظ القرآن، عند ذلك أبى سعد أن يجعل له من مال الحفاظ نصيبا، وسأل بشرا عما يحفظ من القرآن، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم! وضحك القوم ولم يفز بشر من هذا المال بنصيب.
أوتحسب الفارسين رضيا جواب سعد أو سكتا قانعين؟ كلا، بل قال عمرو:
ناپیژندل شوی مخ