فأما أن المسلمين الأولين كانوا يذكرون لعدوهم ما كانوا عليه من فرقة وضعف قبل الإسلام، وما صاروا إليه من وحدة وعزة حين اجتمعوا إلى لوائه، وأنهم كانوا يحدثونهم عن بعث رسول الله بهذا الدين وعن المبادئ السامية التي جاء بها فكان اتباعها سبب عزتهم ووحدته؛ أما ذلك كله فلا عجب فيه ولا موجب لابتداعه من بعد لغايات سياسية أو غير سياسية، فقد كان هذا الدين ثورة على العقائد والنظم السائدة يومئذ في بلاد العرب وفي فارس والروم، وكان ثورة عالمية قام صاحب الرسالة يبلغها الناس كافة ويدعوهم إلى اعتناق مبادئها، ويلقي على الذين آمنوا به واتبعوه أن يقوموا في هذه الدعوة مقامه، وقد كتب رسول الله إلى هرقل وإلى كسرى وإلى غيرهما من الملوك والأمراء يبلغهم رسالة الإسلام ويدعوهم إليه، فليس عجبا أن يحذو المسلمون في ذلك حذوه، وأن يتحدثوا عن دينهم في كل مكان نزلوه، وإلى كل شخص اتصل بهم أو اتصلوا به، بل ذلك كان الطبيعي يومئذ، وهو الطبيعي كلما قامت ثورة تدعو إلى مبدأ جديد، كان رجال الثورة الفرنسية يتحدثون عنها ويذيعون مبادئها حيثما نزلوا من بقاع الأرض، وكانوا يذكرون ما أصاب فرنسا قبلها من اضطهاد وظلم، وما نالت فرنسا بعدها من سؤدد وعزة ومكانة أدت إليهما مبادئها السامية، وكذلك فعل الروس ولا يزالون يفعلون، فليس العجب في أن يتحدث المسلمون عن دينهم وأن يذكروا سوء حالهم قبله ورفعة مكانهم بعده، وإنما يكون العجب ألا يفعلوا، وكيف لمؤمن ألا يدعو الناس إلى ما يؤمن به وهو يعتقد أنه الحق، ويعتقد أن الساكت عن الحق شيطان أخرس! وكيف لمؤمن يرى في المبادئ التي يدين بها قوام السعادة للإنسانية، ثم لا يدعو الناس إليها، فإذا آمنوا بها كفاه ذلك منهم وكان أساسا للإخاء الصحيح بينه وبينهم، وأساسا لحريتهم ولسعادتهم وإسلامهم!
أما القول بأن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة ، فذلك ما لا أتعرض للخوض فيه؛ فلست عالما بالنجوم، ولست أعرف لذلك مبلغ ما تهدينا إليه من علم بشئون هذه الأرض التي نعيش عليها، وما يقع من الأحداث فيها، على أن كثيرين لا يزالون يؤمنون بها ويحسبون أن علمها يهديهم إلى ما يغيب عن غيرهم، ومهما يكن من شيء فالثابت أن الفرس في ذلك العهد قد كانوا من أكثر الناس اطمئنانا إلى علم النجوم واهتداء بها في حياتهم العامة والخاصة، وأنهم لم يكونوا يرون علمها حديث خرافة، ومن الواجب على المؤرخ ألا يجعل مقياسه في ثبوت الوقائع وعدم ثبوتها مبلغ اتفاقها مع تقديره الذاتي للأمور والآراء، وإنما يكون مقياسه لصحتها عقائد الناس وآراءهم في الزمن الذي حدثت هذه الوقائع فيه، أما والفرس كانوا يزاولون في ذلك العهد علم النجوم، فأبلغ الظن أن أمراء الجند منهم كانوا أشد الناس بهذا العلم عناية، والمتواتر على كل حال أن رستم كان عالما بالنجوم، وأنه رأى فيها ما يضمره الغيب لفارس، وأن طموحه وكبرياءه هما اللذان دفعاه ليخالف ما رأى، وليشارك بوران في حكم بلاده وأن يسير بأمر يزدجرد على رأس الجند للقاء سعد بن أبي وقاص والمسلمين.
بينما كان رستم يسير على رأس مائة وعشرين ألفا من جنود فارس يريدون القادسية كان سعد يبعث بالغارات إلى النجف والفراض ومنازل القبائل المنتشرة في السواد، يستاقون منها الدواب والماشية والغلال وشتى ألوان الطعام إلى جند المسلمين.
وبلغ رستم الحيرة وكانت قد هادنت المسلمين، فدعا إليه كبراءها ولامهم على ما صنعوا وهددهم وهم بالانتقام منهم؛ فقال له حكيمهم: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على أن ندفع عن أنفسنا، وجاوز رستم الحيرة إلى النجف، وقدم الجالينوس إلى السيلحين، وإنه بالنجف إذ علم أن خيول المسلمين تغير على النهرين، فأرسل إليهم قوة تقاتلهم، وعرف المغيرون نبأ هذه القوة، فرجع عمرو بن معدي كرب ومن معه أدراجهم إلا طليحة بن خويلد الأسدي فإنه أبى أن يرجع معهم، وقال أحدهم إذ رأى إباءه: «أنت رجل في نفسك غدر، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن.» يشير إلى ما كان من رجال طليحة حين تنبأ وقاتل خالد بن الوليد في غزوة البزاخة،
2
مع ذلك أصر طليحة على إبائه أن يرجع معهم، ومضى حتى دخل معسكر رستم خفية وقتل اثنين من فرسانه وساق جواديهما ثم خرج يعدو به فرسه، فركب جماعة من أصحاب رستم في طلبه فقتل اثنين منهم وأسر الثالث وقد شارف عسكره، عند ذلك ارتد طالبوه، ودخل هو على سعد والأسير معه، وقال الأسير حين سأله سعد عن فعال طليحة: «باشرت الحروب منذ أنا غلام، وسمعت بالأبطال، فلم أسمع بمثل هذا، إن رجلا قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفا فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوتات، فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره ثم أدركته أنا وخلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين، فرأيت الموت واستؤسرت.»
وتابع رستم مسيرته حتى بلغ القادسية بعد أن قضى أربعة أشهر مذ فصل من المدائن للقاء عدوه، وإنما تمهل وتباطأ ظنا منه أن يهن العرب إذا لم يجدوا مئونة تكفيهم، أو أن يسأموا طول المقام فينصرفوا إلى بلادهم، وتمهل كذلك تطيرا من لقاء سعد بعد ما دلته النجوم على مصير فارس، وقد رأيت أنه كان يؤثر البقاء بالمدائن وأن يعبئ لقتال العرب جيشا إثر جيش حتى يتضعضع ركنهم وينهد عزمهم، لكن يزدجرد أبى عليه رأيه وأمره أن يسير بنفسه، فتباطأ حتى قضى هذه الأشهر الأربعة في طريق كان يستطيع قطعها في أيام معدودات.
بلغ رستم القادسية في جيش عدته مائة وعشرون ألفا، يتقدمهم ثلاثة وثلاثون فيلا بينها فيل سابور الأبيض، وكانت سائر الفيلة تألفه وتتبعه، لكنه كان يود، مع جسامة هذه القوة، أن يصرف العرب عن بلاده دون قتال، علما منه أنه إن ينهزم دونهم تفتح لهم أبواب المدائن وأبواب فارس كلها؛ فهو رجل فارس الذي تشرئب إليه الأعناق من كل صوب، والقائد البطل القادر ليس في فارس كلها بطل مثله، وهو قد تطير من النجوم ودلالتها، ثم إنه رأى في نومه أحلاما زادته بدلالة النجوم إيمانا، هذا إلى ما أبدى العرب من بطولة لم تثبت لها أعداد فارس وعددها، ولم تثبت لها الفيلة في الغزوات المتلاحقة التي بدأت منذ اقتحم المثنى دلتا النهرين إلى أن انتصر على الفرس انتصاره العظيم بالبويب، ففي هذه المواقع جميعا كان العرب دون الفرس عددا وعدة، وكانوا مع ذلك يبلغون منهم ويركبون أكتافهم، وينقلون الغنائم الطائلة بعد انتصارهم، هم إذن قوم كتب النصر لهم، فإن هو ردهم إلى شبه الجزيرة دون قتال أسدى إلى بلاده وإلى مليكه يدا دونها كل نصر.
صف رستم إذن عسكره قبالة عسكر المسلمين، وقدم الفيلة أمامه، وبدا بذلك في مظهر من القوة يدخل إلى النفوس الرعب، ثم بعث إلى سعد ليبعث له رجلا من عقلاء المسلمين يبين له ما جاء هؤلاء المسلمون فيه، وعبر إليه المغيرة بن شعبة وجلس معه على السرير، وحدثه عن رسول الله وبعثه بمثل ما حدث أصحابه يزدجرد بالمدائن، وقال له: «إن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم فقالوا: لا صبر لنا عليه.» ثم انتهى من حديثه إلى ما انتهى إليه أصحابه: أن يسلم الفرس أو يؤدوا الجزية، فإن أبوا هذا وذاك فالقتال.
وعظم على أصحاب رستم أن يذكر المغيرة الجزية تفرضها العرب على فارس، فهاج هائجهم، لكن رستم استمهل المغيرة حتى يروئ في الأمر، ثم بعث الغداة إلى سعد أن يوفد إليه من يحدثه حديث الصلح، وتكلم رسول سعد بمثل حديث المغيرة، فعرض عليه رستم ما عرضه يزدجرد على أصحابه، أن يفرض العرب قوتا إلى خصبهم، وأن يكرم وجوههم، وأن يعودوا إلى بلادهم، فلما أبى سفير المسلمين منه إلا الإسلام أو الجزية أو القتال، استمهله رستم كرة أخرى، ثم بعث يطلب سفيرا آخر، وكان المسلمون منذ عهد النبي لا يؤجلون مثل هذه السفارات أكثر من ثلاثة أيام يكون بعدها الصلح أو تكون بعدها الحرب، فلما أصر المسلمون على موقفهم: الإسلام أو الجزية أو القتال، لم يبق من الحرب مفر.
ناپیژندل شوی مخ