ونصب المسلمون المجانيق والدبابات حول المدينة وبدءوا يهاجمون حصونها، لكن هذه الحصون كانت أمنع من أن تفتضها عدة العرب وطرازها ساذج والجنود الذين يستعملونها غير مدربين على فنون الحصار؛ لذلك قاومت كل هجوم ورد حماتها جنود الدبابات ورماة المجانيق بسهامهم ونبلهم ، وكان نسطاس حاكم المدينة وباهان قائد جنودها على ثقة من أن هرقل لن يدع عاصمة ملكه بالشام تسقط في أيدي أعدائه وهو مقيم على مقربة منها بحمص في جيش عظيم، وأن هؤلاء العرب لن يلبثوا لذلك أن يفضوا حصارها وينفضوا عنها كما فعل غيرهم من قبل، ولهذه الثقة طالت مقاومتهم ولم يجد المسلمون إلى المدينة منفذا، والحق أن هرقل لم يكذب ظنهم؛ فقد بعث من حمص بقوات سارت مددا لدمشق، لكن هذه القوات لقيت ذا الكلاع وفرسان اليمن في طريقها، فكان بين الفريقين قتال عنيف ارتد الروم على أثره منهزمين إلى حمص، وعرف نسطاس وباهان ما كان من ذلك فاضطربا حينا، لكنهما سرعان ما استردا ثقتهما بقدرة دمشق على المقاومة، فعما قريب يشتد البرد فلا يطيق العرب أبناء الصحراء الحارة احتماله، فيعودون أدراجهم، وتعود إلى مدينتهم حرمتها وكرامتها.
على أن طمأنينتهم هذه لم تمنعهم من أن يبعثوا إلى هرقل من يستعجل مدده مخافة أن يطول بالناس الحصار فتهن عزائمهم، وأرسل إليهم قيصر يقول: إنه ممدهم، ويحرضهم على الثبات والمقاومة، وقوت رسالة هرقل عزيمتهم، وجعلتهم يثبتون لهجمات المسلمين ويصدونها، وإن لم يغامروا بالخروج من أسوار مدينتهم لمواجهة الذين هزموا جند الروم في اليرموك وقضوا عليهم، وطالت مقاومتهم وطال حصار المسلمين إياها زمنا اختلف فيه: قيل: كان سبعين يوما، وقيل: أربعة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وضيق المسلمون عليهم الحصار طول هذا الزمان، وطال انتظارهم مدد قيصر على غير جدوى، وانقضى الشتاء وأقبل الربيع والعرب على حصارهم لا يريمون عنه، عند ذلك وهت قوتهم ووهنت عزائمهم، وانقطع رجاؤهم في مدد قيصر وفي جلاء المحاصرين، فبدءوا يفكرون في التفاهم معهم وفي مصالحتهم.
انتهى المسلمون بالدخول إلى المدينة وعقد الصلح مع أهلها، كيف دخلوا؟ أكان ذلك عنوة أم فتح الدمشقيون لهم الأبواب؟ ومن من المسلمين عقد الصلح، وعلى أي شيء عقد؟ هنا تختلف الروايات بل تضطرب، وأكثر هذه الروايات شهرة أن خالد بن الوليد كان مقيما على الباب الشرقي لا ينام ولا ينيم، وكانت له عيون زاكية فلا يخفى عليه مما يجري في دمشق شيء، ونمى إليه يوما أن بطريق المدينة ولد له ولد فرح به، فأولم للناس، فأكل الجند وشربوا وغفلوا عن مواقفهم، وكان خالد قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا،
5
فلما أدرك الليل أعجازه نهد هو وجنده الذين قدم بهم من العراق، وقال لهم: إذا سمعتم تكبيرنا من السور فارقوا إلينا، ثم تقدمهم ومعهم القعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثالهم من الشجعان المغاوير، فعبروا الخندق عائمين على القرب، وأثبتوا أوهاق حبالهم في شرف السور وتسلقوا سلاليمها، حتى إذا ارتقوا على الجدار جذبوا بعض الحبال وأثبتوها في الشرف التي تلي داخل المدينة وألقوها، فانحدر خالد وطائفة ممن معه ونزلوا أمام الباب فعالجوا فتحه بسيوفهم، وكثر إخوانهم الذين أقاموا بأعلى الجدار، فلما سمع رجال خالد تكبيرهم أسرعوا يعبرون الماء ويتسلقون الجبال إلى زملائهم فوق السور.
وكان الباب الشرقي أمنع أبواب دمشق وأكثرها ماء وأحصنها مدخلا؛ لذلك لم يكن عليه من الحراس إلا عدد قليل، فاجأهم خالد ومن معه وهم في غفلتهم فقتلوهم، وفتحوا أغلاق الباب بالسيوف فدخل منه من لم يرق إلى أعلى السور واندفعوا داخل المدينة يكبرون، وفزع الناس في سائر أرجائها، وانتشر بينهم خبر المسلمين واقتحامهم الباب الشرقي وقتلهم من قابلهم، عند ذلك أسرعوا إلى سائر الأبواب ففتحوها وصالحوا أبا عبيدة فأمنهم ودخل من باب الجابية ولا علم له بما فعل خالد، فلما عرف ما يجري من سفك الدماء بعث إلى خالد أن يكف عن القتال فقد صالح الناس وأمنهم، واعترض خالد بأنه فتح باب المدينة عنوة، لكن أبا عبيدة كان الأمير على الجند؛ فلم يكن بد لخالد من أن يسمع لأمره وأن يجري الصلح على الجانب الذي فتحه.
هذه أكثر الروايات شهرة في فتح دمشق، وهي تنهض، على غرابة وقائعها، وتجد من يؤيدها من مؤرخي العرب ومن المستشرقين؛ لأن بطلها خالد بن الوليد، ولو أن بطلها كان غير هذا العبقري صاحب المعجزات في الحرب لرماها المؤرخون جميعا بالتهافت، بل لما أقدم أحد على روايتها، فمن غير خالد لا ينام ولا يدع غيره ينام! ومن غيره يستوي إليه علم ما تحتويه دمشق من أسرار داخل أسوارها، حتى ليعلم أن البطريق ولد له ولد وأنه أولم للناس، وأن الحرس بلغ منهم الطعام والشراب فغفلوا عن مواقعهم؟ ومن غيره، بعد حصار دام سبعين يوما أو أربعة أشهر، أو ستة أشهر يقدم على أن يعبر الخندق مع أصحابه مستعينين بالقرب، وأن يتسلق الأسوار على الحبال وأن يهبط بنفسه داخل هذه الأسوار معرضا نفسه للخطر حين انبلاج الصبح! لكن لخالد في الحرب معجزات رأيناها في حروب الردة وفي فتح العراق وفي غزوة اليرموك، فلا عجب أن تكون هذه إحدى المعجزات التي كفلت له في كل غزواته النصر والسؤدد، وأن تجد لذلك من يؤيدها من مؤرخي العرب ومن المستشرقين.
على أن هذا التأييد لم يعصمها من تفنيد الناقدين لها وطعن الطاعنين عليها، وأخذهم بغيرها من روايات أدنى إلى المألوف في مثل موقف دمشق، من هذه الروايات أن أبا عبيدة هاجم باب الجابية بقواته ففتحه عنوة، على حين صالح خالد أهل المدينة مما يلي الباب الشرقي فلما التقى القائدان في قلب دمشق أجاز أبو عبيدة صلح خالد وأجراه على المدينة كلها، ولا فرق بين هذه الرواية والرواية الأولى إلا فيما يتصل بخوارق خالد، كعلمه بوليمة البطريق وأثرها في الحراس، وتسلقه الأسوار والأوهاق، ولو لم يذكر من هذه الخوارق شيء وقيل: إن خالدا فتح الباب الشرقي عنوة، وإن أبا عبيدة صالح من يلي باب الجابية ثم أجرى الأمر في المدينة كلها مجرى الصلح، لتساوت الروايتان، ولكان معناهما أن قواد المسلمين عرفوا أن الحصار أوهن عزائم المحصورين، فاتفقوا على مهاجمة أبواب المدينة جميعا، فلما رأى الدمشقيون هجومهم اختلفوا فيما يصنعون، ففتحت طائفة أبوابها، وتأخرت طائفة، فاقتحم القائد الذي يليها بابها عنوة، وكذلك دخل من دخل من المسلمين صلحا واقتحم من اقتحم دون أن يلقى مقاومة، ثم أجري الأمر في المدينة كلها على الصلح.
هذا التصوير يوفق بين تينك الروايتين ولا يناقض غيرهما من الروايات المختلفة عن فتح دمشق، ومن هذه الروايات أن أسقف المدينة وقف على أسوارها غير مرة يتحدث إلى خالد بن الوليد، وأنه قال له يوما: «يا أبا سليمان إن أمركم مقبل، ولي عليك عدة، فصالحني على هذه المدينة!» ورضي خالد فدعا بدواة وقرطاس وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم، لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله
صلى الله عليه وسلم
ناپیژندل شوی مخ