ذلك أن الدعوة إلى الإسلام بقوة السلاح لا تتفق ومبادئ الإسلام، ولا يقرها الكتاب الذي أوحاه الله إلى رسوله، وقد كان النبي وخلفاؤه يذكرون دائما قوله تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، وقوله تعالى:
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وإنما انتشر الإسلام تبعا لاتساع رقعة الفتح؛ لأن أهل البلاد المفتوحة رأوا مبادئ هذا الدين القيم فأكبروها ثم اعتنقوها، عن بينة وتفكير حينا، وتشبها بالرجال الذين أتوا بالمعجزات في الفتح وفي الحكم حينا آخر، فإذا صح لهذا السبب أن نقرن انتشار الإسلام باتساع رقعة الفتح، فلا صحة لما يقال من أن هذا الفتح كانت غايته نشر الإسلام ببطش السيف.
هذا بعض ما تدل عليه غزوة البويب، وهي تدل كذلك على أن ما كان بين العرب والفرس من خصومة قد بلغ حدا لا رجاء معه في صلح ولا في هدنة، فقد جاءت البويب على إثر غزوة الجسر حيث انهزم المسلمون هزيمة نكراء، فمحت آثار هزيمتهم وجعلت كلمتهم العليا، وألقت في نفوس الفرس الرعب وهدت عزيمتهم، مع ذلك لم يفكر المسلمون في التسليم ولا في الصلح إثر غزوة الجسر، ولم يفكر الفرس في التسليم ولا في الصلح إثر غزوة البويب، فلم يكن بد من أن تتصل الحرب حتى يذعن أحد الفريقين دون قيد أو شرط.
ولهذا لم يلبث الفرس حين زال عنهم روع البويب أن عادوا يفكرون فيما يوشك أن يصير إليه أمرهم إذا ظلوا فيما هم فيه من فرقة وانقسام، ولقد خيل إليهم أن هؤلاء الغزاة من العرب سيدخلون عليهم عاصمة ملكهم، ويفتضون عليهم كل حصونهم، ويخضعون أبناء كسرى لسلطانهم، إلا أن تكون المعجزة فتتحد كلمتهم ليواجهوا الغزاة ويجلوهم عن أرضهم، وكيف لكلمتهم أن تتحد ورستم والفيرزان يتنازعان السلطان، والأمراء والدهاقين منقسمون تؤيد طائفة أحد المتنازعين وتؤيد الأخرى منافسه! لذا ذهب أهل الفرس إليهما جميعا فحذروهما عاقبة اختلافهما وما يجره على فارس من وهن يعرضها للهلكة، «فما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن!» ثم إنهم أنذروهما قائلين: «والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت!»
وتشاور الفيرزان ورستم فاستكتبا بوران كتابا إلى نساء كسرى وسراريه، فجاءوا بهن وعرفوا منهن أنه لم يبق ذكر من ذرية كسرى إلا يزدجرد بن شهريار بن كسرى وكانت أمه قد أخفته عند أخواله حين قتل شيري جميع الذكور من ذرية أبيه، فجاءوا به، وهو يومئذ في الحادية والعشرين من عمره، فجعلوه على عرش أجداده واجتمعوا عليه وتباروا في معونته، فاطمأنت فارس بعد انزعاجها، وأخذت تعد العدة كيما تثأر لكرامتها وشرفها.
وترامت إلى المثنى أنباء الفرس فزايلته طمأنينته، وأيقن أن أهل السواد لن يلبثوا أن ينتقضوا على المسلمين إذا سارت جيوش الفرس ونحوهم، فكتب إلى عمر بالمدينة يذكر له ما عنده وما يتوقع من ثورة وانتقاض، لكن كتابه أبطأ قبل أن يبلغ عمر، وتجهز الفرس، فأثار تجهزهم قرى العراق ومدنه، فلم يجد المثنى بدا من أن ينسحب كرة أخرى إلى تخوم شبه الجزيرة، فسار في جنده حتى نزل بذي قار، وجمع ما استطاع من الناس في عسكر واحد، ثم أقام ينتظر مدد الخليفة ليعود من جديد ويفتح المدائن.
ولما وصل كتاب المثنى إلى عمر وعرف تجهز العجم بعد أن اجتمع أمرهم واتحدت كلمتهم قال: «والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب!» وكتب إلى المثنى ومن معه يأمرهم بالخروج إلى تخوم العراق والتفرق في المياه التي تلي العجم، وأن يستمدوا أهل النجدة ليكونوا معهم حتى لا يبغتهم الفرس وهم في غير عدد وعدة.
نزل المثنى بذي قار، فلم يفكر الفرس في السير لمواجهته، وهناك أقام حتى أدركه سعد بن أبي وقاص، إذ جاء أميرا على الجيوش التي جهزها عمر ليجهز بها على فارس، لكن مقام المثنى مع سعد لم يطل؛ فقد نغر عليه الجرح الذي أصابه يوم الجسر وما زال به حتى قضى عليه، بهذا تجري بعض الروايات وتجري روايات أخرى بأن المثنى قبض بذي قار قبل أن يصل سعد إلى العراق، وأنه ترك لسعد وصية نورد حديثها في موضعه.
والآن وقد قبض المثنى فحق علينا أن نختم هذا الفصل، وقبل أن نندفع مع الحوادث في تيارها الجارف، أن نقف هنيهة على قبر هذا القائد القادر نودعه ونوفيه بعض حقه.
ناپیژندل شوی مخ