عند ذلك خشعت أنفس الناس وضعفت روحهم، وارتد كثيرون منهم إلى الجسر يبتغون النجاة بأنفسهم، وما بقاؤهم أمام جيش لا قبل لهم به، وقد مات أمراؤهم فاختل نظامهم واضطربت صفوفهم!
ورأى المثنى دقة الموقف فتقدم إلى اللواء فحمله، وهو لم يكن يطمع في أن يقاتل وينتصر بعد الذي أصاب المسلمين، إنما كان يرجو أن يرتد بهم في نظام فيعبر النهر إلى المروحة، ثم يرى بعد ذلك رأيه، وإنه ليدبر الخطة للتراجع إذ رأى عبد الله بن مرثد الثقفي يقطع الزوارق الأولى من الجسر، ويصيح بأعلى صوته: «أيها الناس! موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو نظفر.» ورأى الناس ما فعل ابن مرثد، فتولاهم الفزع فتواثبوا في النهر، فغرق منهم من لم يصبر، وخشي المثنى أن تعم الفوضى، فوقف واللواء بيده ينادي: «يأيها الناس! أنا دونكم، فاعبروا على هيئاتكم ولا تدهشوا، فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب!» وأمر فجيء بابن مرثد فضربه وضمت السفينة التي قطعت فصلح الجسر، فبدأ الناس يعبرون مرتدين والمثنى يقاتل دونهم، ويحول هو ورجاله بين الفرس وبينهم، وأصابت المثنى وهو في موقفه ذاك ضربة رمح جرحته وأثبتت فيه حلقا من درعه، وقاتل معه أبو زيد الطائي النصراني دفاعا عن المسلمين، ولم يكن سليط بن قيس دون المثنى إقداما وجرأة، بذلك استطاع من بقي من جند المسلمين أن يعبروا إلى المروحة والمثنى واقف دونهم لم يزعزعه ذلك الجرح الذي أصابه، فلما رأى المثنى عبور أصحابه جميعا سار في مؤخرتهم، تاركا وراءه سليط بن قيس شهيدا، يختلط دمه بتراب ذلك الميدان الذي تردى فيه ألوف من أبطال المسلمين.
ترى أيعبر بهمن جاذويه النهر وراءهم فيقتلهم عن آخرهم ويعفي في أرض العراق على كل أثر للمسلمين؟! أم يكتفي بهذا النصر الحاسم وله به عند رستم وبوران والفرس جميعا فخار لم يتح لغيره من القواد مثله؟!
لم يغب عن المثنى أن ذا الحاجب قد يتعقبه؛ لذلك انحدر مسرعا بجنوده من المروحة إلى الحيرة، ثم تابع انحداره إلى الجنوب يريد أليس، وهو يحسب لمتعقبيه ألف حساب، وكيف لا يفعل وقد قتل من جند المسلمين في الموقعة من قتل وغرق منهم في الفرات من غرق، وفر ألفان من أهل المدينة يريدون النجاة بأنفسهم! لكن الأقدار التي غشت على بصر أبي عبيد فدفعته ليعبر الجسر فيلقى حتفه، ويورد المسلمين موارد الهلكة، كانت أبر بالمثنى وأرفق، فقد بلغ ذا الحاجب والمعركة دائرة أن الفرس بالمدائن اختلفوا فرقتين، إحداهما مع رستم، والأخرى مع الفيرزان تناصب رستم العداوة؛ لذلك عاد بالجيش إلى العاصمة، ولم يتخلف من قواده إلا جابان ومردانشاه في كتيبة من الجند، وسار هذان القائدان يتعقبان المثنى وهما يحسبان أنهما قادران عليه، لكن أهل أليس أخبروا المثنى بما ترامى إليهم عن فارس، فخرج في رجاله وفي عدد كبير من أهل أليس، فأسروا جابان ومردانشاه وأصحابهما، وضرب أعناقهم جميعا، وكذلك لقي جابان حتفه جزاء خدعه أبا عبيد يوم أسر بالنمارق فاستأمن آسره فأمنه، أما وقد غادر جابان فرجع يقاتل المسلمين ويخفر ذمتهم، فقتله بعد أسره هو العدل بعينه.
كان أول من قدم المدينة من المسلمين الذين شهدوا غزوة الجسر عبد الله بن زيد.
ولقد رآه عمر بن الخطاب حين دخل المسجد فناداه: ما عندك يا عبد الله؟ وسار عبد الله وألقى الخبر عليه فلم يبد جزعا، بل تلقاه ساكنا، ودخل بعض الذين فروا من الغزاة إلى المدينة منكسي رءوسهم خزيا من عار الهزيمة والفرار، أما سائرهم فنزلوا البوادي حياء أن يلقوا أهلهم فيعيروهم فرارهم وجبنهم، ورأى عمر حالهم فرق لهم ورحمهم، وجعل يدفع عنهم برم الناس بهم وسخطهم عليهم، فكان يقول: «اللهم كل مسلم في حل مني ! أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو ففظع بشيء من أمره فأنا له فئة، يا معشر المسلمين لا تجزعوا! أنا فئتكم وإنما انحزتم إلي، يرحم الله أبا عبيد! لو كان انحاز إلي لكنت له فئة.» وكان معاذ القارئ أخو بني النجار ممن فروا من الجسر إلى المدينة، وكان يبكي كلما قرأ قوله تعالى:
ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، فكان عمر يقول: «لا تبك يا معاذ! أنا فئتك، وإنما انحزت إلي.»
يذكرنا موقف عمر من هؤلاء الذين فروا مرتدين إلى المدينة بعد هزيمتهم بالجسر بموقف رسول الله من الجند المسلمين الذين عادوا من غزوة مؤتة بعد إذ قتل قوادهم فيها، فداور خالد بن الوليد بمن بقي منهم وارتد بهم إلى المدينة غير منتصر على عدوه، فقد جعل أهل المدينة يحثون على هذا الجيش التراب ويقولون: «يا فرار! فررتم في سبيل الله!» فيقول رسول الله: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله.» ولم يكن ارتداد المسلمين بمؤتة كهزيمتهم بالجسر فظاعة وسوء أثر، ولم يكن عمر كرسول الله رحمة ورقة، مع ذلك كان رءوفا بمن نكبوا في الجسر، بل كان فئتهم؛ وقف بجانبهم ودافع عنهم، وأبدى من العطف عليهم ما سكن من روعهم وخفف من عار هزيمتهم، ولا عجب، وقد صارت إليه إمارة المؤمنين، أن يكون بالمؤمنين رحيما، فيكون أبرهم بهم، وأشدهم عطفا على الضعفاء منهم، وإن ظل شديد البأس على الأقوياء، شديد البطش بالظالمين.
كان هذا شأن عمر ومن ارتدوا من الجسر، أما المثنى فتحصن بأليس زمنا بعد أن قتل جابان ومرادنشاه وجنودهما، فلما أراح ظهره وجم جنوده، جعل يفكر في موقفه بالعراق ومصير المسلمين فيه، إنه موقف حرج لا ريب، ومتى اطمأن الأمر في بلاط المدائن فستعود الجنود متراصة تتقدمها الفيلة لتهاجمه، فماذا يصنع يومئذ؟ أفكتب القدر في لوحه أن يعود سلطان الأكاسرة إلى ما كان عليه؟ إن يكن ذلك قضاء الله فلم يعد له ولا لجنده بالعراق بقاء، وليس في وسعه إلا أن ينسحب كما انسحب الذين فروا إلى المدينة، وأن يعود إلى أرض قومه بني بكر بن وائل يقضي بالبحرين بقية أيامه.
لكنه المثنى الذي قال عنه قيس بن عاصم المنقري حين سأل أبو بكر عنه: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»
ناپیژندل شوی مخ