كان أبو عبيد بن مسعود الثقفي أول منتدب للعراق؛ لذلك ولاه عمر إمارة الجند فيه، وأمره بالسير إليه متى تم تجهيز جيشه، أما المثنى بن حارثة فعجله عمر وقال له: «النجاء حتى يقدم عليك أصحابك!» وامتطى المثنى جواده ورجع أدراجه يريد الحيرة، وجعل وهو في طريقه إليها يذكر أياما خلت في خلافة أبي بكر، حين قضى العلاء بن الحضرمي على الردة في البحرين، فانضم هو إليه وقعد بكل طريق للمرتدين المنهزمين الذين يعيثون في الأرض فسادا، ثم سار مشاطئا الخليج الفارسي يقاوم دسائس الفرس، ويقضي على أنصارهم من القبائل حتى بلغ مصب الفرات، عند ذلك أمده الصديق بخالد بن الوليد، فسار المثنى تحت لواء القائد العبقري يدوخ معه جيوش كسرى وتفتض جنودهما الأمصار، وتفتح الحيرة والأنبار وعين التمر وغيرها من البلاد، حتى يبلغ خالد الفراض على تخوم الشام من شمالي العراق.
ويستقر الأمر بخالد في أرض الأكاسرة، ويغتبط المثنى بما فتح الله عليهم من ذلك، ويقيم مع قواته بالحيرة وبأرض السواد أكثر من سنة، ثم إذا أبو بكر يأمر خالدا بالمسير إلى الشام يتولى فيه إمارة الجند لمقاتلة الروم، ويفصل خالد من العراق في عدد من خيرة رجال الجيش فيه، فيخشى المثنى العاقبة، ثم يفتح الله عليه فيقهر هرمز جاذويه على أطلال بابل، ويرتد إلى الحيرة يتحصن بها، ثم يستمد أبا بكر بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، ويبطئ الخليفة عنه لاشتغاله بأمر الشام، فيسير المثنى إلى المدينة، فإذا الصديق مشف على الموت، ثم إذا الله يختاره إليه، وإذا عمر يتولى الأمر من بعده، فيندب الناس مع المثنى ويجعل أبا عبيد على رأسهم.
لم ينس المثنى وهو يذكر هذه الحودث ما ساد بلاط فارس من الاضطراب في أثنائها، وما أوهن هذا الاضطراب من قوة الفرس وشد من عزم المسلمين، لقد حكم الأكاسرة الفرس وحكموا عرب العراق حكما مطلقا لا معقب لكلمتهم فيه، وكان كسرى أبرويز هو الذي قتل أبا قابوس النعمان بن المنذر وقضى على ملك اللخميين بالحيرة، وهو الذي حارب الروم وغلبهم، وامتد ملكه في أرضهم إلى بيت المقدس وإلى مصر، فلما تولى هرقل أمر الروم، قاتل كسرى ورده على أعقابه، واغتبط العرب واغتبط الفرس الذين برموا ببطش كسرى لما حل به، فلما ثار به ابنه شيرويه وقتله، اختلف أمراء الفرس وانقسم رأيهم فيما أصابه، وصار شيرويه في الفرس سيرة حمق وغرارة جعلت أهل بلاطه يبرمون به، وجعلت كل طامع في العرش يحالف من الأمراء من يعاونه لبلوغ غرضه، وقتل شيرويه، فجعل هؤلاء الطامعون يقتتلون فيقتل بعضهم بعضا، جهرة حينا، وغيلة حينا، ثم يتولى صاحب الغلب منهم الأمر شهورا حتى يقتل؛ لذلك تعاقب على العرش في أربع سنين تسعة من الأمراء، لا عجب وذلك هو الأمر أن تضعف قوة الفرس وأن ينهد ركنهم، فتدور الدائرة عليهم في الغزوات التي دارت بين العرب وبينهم.
وتنبه أهل فارس لما جره الاضطراب عليهم من فساد أمرهم فملكوا عليهم شهريران بن أردشير وتعاهد أمراؤهم على معاونته، وعرف شهريران مسيرة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام، فكان إجلاء المسلمين عن العراق أول ما استقر عليه عزمه، لكن المثنى قهر قائده على أطلال بابل فحم فمات.
خلفت دخت زنان ابنة كسرى أخاها على العرش، لكنها ضعفت عن النهوض بالأمر فخلعت، وتولى سابور بن شهريران الملك مكانها، واستوزر سابور الفرخزاد، وأراد أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، فساءها أن يتزوجها عبدها، فدست عليه سياوخش الفاتك فقتله في مخدعها ليلة عرسه، ثم سارت معه في أعوانها إلى سابور فحصرته وقتلته، ورأى المثنى أن يواجه الفرس وبلاطهم مضطرب، فاستمد أبا بكر فأبطأ عليه، فذهب بنفسه إلى المدينة يستعجل المدد، وها هو ذا في طريقه عائد إلى الحيرة، ترى ألا يزال الفرس في اضطرابهم فلا شيء أيسر من الظفر بهم؟ أم تراهم اطمأن ملكهم، فلا بد للظفر بهم من قوات كثيرة العدد والعدة.
بلغ المثنى الحيرة، فكان أول سؤاله عما يجري في بلاط فارس، وعلم أنهم شغلوا عن المسلمين في أثناء غيبته باختلافهم، ثم علم أن بوران ابنة كسرى تعمل على جمع كلمتهم، وكانت بوران أميرة ذات حكمة، فكان الفرس كلما اختلفوا رضوا حكمها واطمأنوا إلى عدلها، فلما قتل سياوخش الفرخزاد، وجلست آزرميدخت على العرش، اختلف أهل فارس، ورأت بوران أن لا سبيل إلى مصالحتهم، هنالك بعثت إلى القائد رستم بن الفرخزاد من أنبأه بمقتل أبيه واستحثه على السير إلى المدائن، وكان رستم حين ذاك على فرج خراسان، وكان قائدا بارعا ، فأقبل في جنده مسرعا يريد المدائن، ولاقى في طريقه إليها جيوشا لآزرميدخت فهزمها، ثم حاصر المدائن وحصر آزرميدخت وسياوخش فيها، وظفر بعدوه فدخل العاصمة، وقتل سياوخش، وفقأ عين آزرميدخت، وأقام بوران على عرشها، وتولت بوران السلطان في فارس على أن تملكه عشر حجج، ثم يكون الملك في آل كسرى: في الرجال منهم إن وجدوا وإلا ففي النساء، واستوزرت بوران رستم، وأطلقت يده في أمور الدولة، وجعلته على الجند، وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا.
عرف المثنى ذلك كله وهو مقيم بالحيرة لا يستطيع شيئا إزاءه، لقد نحف جيشه فلم يبق في مقدوره أن يهاجم حتى يجيئه أبو عبيد، وقد أقام أبو عبيد بالمدينة شهرا بعد المثنى يجهز جيشه ويتجهز للسير به، فلما أتم تجهيزه استأذن عمر في السير فأذن له بعد أن أعاد عليه النصح أن يسمع من أصحاب النبي وأن يشركهم في الأمر، وأن يشاور سليط بن قيس لجرأته وتجربته، وكان لعمر بسليط ثقة، حتى لقد قال لأبي عبيد: «إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطا إلا سرعته في الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، والحرب لا يصلحها إلا المكيث.» وسار أبو عبيد في الجند، حتى إذا بلغ العراق ألفى المثنى قد انسحب من الحيرة إلى خفان على حدود البادية.
ذلك أن رستم كان رجلا جريئا طموحا، يثير طموحه إعجاب الفرس وتعلقهم به، وطموحه هذا هو الذي جعل المؤرخين يذكرون أنه كان عالما بالنجوم، وأنه رأى فيها مآل فارس، وأنه سئل كيف يتولى أمرها وهو يرى في النجوم ما يرى، فقال: الطمع وحب الشرف.
وما لبث حين أمرته بوران أن كتب إلى دهاقين السواد يأمرهم أن يثوروا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلا يثير أهله، ثم بعث جندا لمصادمة المثنى، وانتشرت أوامره في الناس، فثار أهل العراق من أعلاه إلى أسفله بالمسلمين، وبلغ المثنى نبأ ما حدث، ورأى أن لا قبل لجنوده بلقاء من عبأهم رستم لمصادمته، فآثر الحذر وانسحب من الحيرة إلى خفان حتى لا يؤتى من خلفه، وأدركه أبو عبيد بخفان فنزل في الناس ليريحوا ظهورهم وأقام يتدبر خطته لمهاجمة القوات التي جاءت تنازله.
كان رستم قد بعث في المدائن جيشين يواجهان المسلمين، جعل على أحدهما القائد جابان، وأمره أن يتخطى الفرات إلى الحيرة، وجعل على الآخر القائد نرسي وأمره أن يعسكر بكسكر بين الفرات ودجلة، وكان أبو عبيد قد خرج من المدينة في أربعة آلاف ثم اجتمع إليه في الطريق عدد عظيم زاد جنده إلى عشرة آلاف، فلما جم الناس خرج يلقى جابان، فالتقيا بمكان يقال له: النمارق بين الحيرة والقادسية، والتقى الفريقان واقتتلوا قتالا شديدا أظفر الله فيه أبا عبيد بجابان وجنوده، وأسر جابان وأسر قائد تحت إمرته يدعى مردانشاه، وقتل هذا الأخير من أسره، أما جابان وكان شيخا كبيرا، فخدع الذي أسره إذ قال له: «إنكم معشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وأعطيك كذا وكذا ...» وأجزل له الوعد، قال آسره؛ نعم. قال: فأدخلني على أميركم حتى يكون ذلك بمشهد منه، فأدخله على أبي عبيد فشهد على ما تم، على أن قوما من المسلمين عرفوه وقالوا لأبي عبيد اقتله فإنه الأمير، وأجابهم أبو عبيد: «وإن كان الأمير، فإني لا أقتله وقد أمنه رجل من المسلمين: فالمسلمون في التواد والتناصر كالجسد، ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم.»
ناپیژندل شوی مخ