ففر جيش المدينة أمامهم، وألقى السلم خاضعا مستكينا، ونظرت عائشة فرأت رباحا وفلورندا في طليعة الداخلين، فجذبتهما إليها بإشارة خفيفة ، ثم امتطت جوادها وأمرتهما أن يركبا، واهتبلت فرصة اشتغال الجيش بالأسرى والغنائم، وخرجت بهما من باب المدينة؛ فصاحت فلورندا في دهش: إلى أين يا حبيبي. - إلى الخيام التي ضربناها بعيدا عن المدينة. - ولم هذا، ألم تأت لفتح قرطبة؟! - فتحتها ...
فضحكت، وقالت: فتحتها، وتفر من شرف فتحها؟ - فر من الشرف يتبعك الشرف! - وحق المسيح إن أمرك لعجيب يا أسامة! - لو عرفت ما أعرف ما تعجبت.
فهزت فلورندا رأسها في يأس وقالت: افعل ما تشاء يا حبيبي، ولكن القائد لن يترك الفتى الذي فتح له المدينة يفر من بين يديه دون أن يجزل له العطاء، أو يرفع منزلته بين القواد. - دعي هذا الحديث يا فلورندا، فإن مما يهين الشجاعة أن تؤجر.
وبعد أن قضى المغيث بعض شؤون القيادة اتجه إلى مالك الجرهمي، وقال: أين الفتى الملثم الذي فتح الباب للجيش؟ - بعثت أطلبه في كل مكان فلم أجده. - ابحث عنه ثانية. - بحثت عنه ثانية وثالثة ... وأغلب الظن أنه لحق بجيش طارق بطليطلة.
ومرت أيام رأت فيها فلورندا أن من الخير لها أن تخبر المغيث بمكان أسامة؛ لأنها أقنعت نفسها بأنه سيكون لها بعلا، وهى تحب أن يكون زوجها رفيع المكانة ملحوظ المنزلة. ورأت أنها لو دلت المغيث على مخبئه لأعلى ذكره وجعله من كبار قواده، فتسللت من خيمتها ذات صباح وقصدت إلى قصر القائد، فلما مثلت أمامه قالت: «إني أعرف يا سيدي مكان الفارس الملثم.» فألقى المغيث قلما كان في يده وقال في دهشة وعجب: أين هو يا فتاة؟ أخبريني وأسرعي. - ليركب معي سيدي القائد لأدله على مكانه.
وصاح المغيث بعبيده، فأعدوا جواده، وسار مع الفتاة حتى بلغ الخيمة، فهمست في أذنه: «إنه هنا في هذه الخيمة.» فأمرها أن تبتعد قليلا ودخل في هدوء وسكون، ويا لدهشته، ويا لذهوله، حينما رأى فتاة رائعة الحسن فاتنة الطلعة، ولكنه ما كاد يحقق فيها النظر حتى صاح: عائشة؟!
فالتفتت عائشة وقد بهرتها المفاجأة وقالت: نعم عائشة يا مغيث. - من جاء بك هنا؟ - جئت بنفسي. - ولم جئت ؟ - لأراك. - وأين الفارس الملثم؟
فأسرعت تشير إلى ثياب أخيها في شمم مصطنع وتقول متحدية: هذا هو الفارس الملثم! - كنت تتنكرين بهذه الثياب يا عائشة؟ أنت والله أشجع من حمل سيفا أو صال برمح. أنت والله الشرف الخالد لنساء العرب جميعا. أنت التي نزلت إلى الموت بقدميها؛ لتفتح بابا كان فتحه للعرب فتحا مبينا.
ثم انكب عليها عناقا وتقبيلا، ودخلت فلورندا وهما في نشوة الحب وغشية الغرام فصاحت في رعب: يا مريم العذراء أدركيني! ماذا أرى؟
فأفاق العاشقان، والتفت إليهما المغيث قائلا: هذه خطيبتي يا فتاة.
ناپیژندل شوی مخ