فظهر الغضب على وجه تيوفانو وغادرت السجن وهي تغمغم بكلمات لم يفهمها. ولم تزره في السجن بعد ذلك، ولكنه لحظ بعد زيارتها تضييقا من الحراس وعنتا. واستمر في السجن أكثر من ثلاث سنين دون أن تقدم فدية لإطلاقه.
وقضت نجلاء طوال هذه المدة في هم مقعد مقيم، لا تجد إلى تخليص زوجها سبيلا، حتى إذا اشتد بها الوجد، فتحت خزائنها لتمتع عينيها برؤية أول هدية أهداها إليها، فأخرجت العلبة الذهبية، وكشفت غطاءها، وأبرزت اللؤلؤة الفريدة ملفوفة بورقتها كما أخذتها من أبي فراس، وجلست تنظر إليها في ألم وحسرة، وقد طافت بها طيوف الماضي البعيد. وبينما هي كذلك إذ دخلت صوفيا، فأرتها اللؤلؤة، وأخبرتها بخبرها، وبأن قائدا من قواد الروم أهداها إلى الأمير سعيد أبي زوجها، وأن سعيدا أهداها قبل موته إلى ابنه أبي فراس.
فعجبت صوفيا من عظمها وصفائها، ثم التفتت فإذا ورقة على بساط الغرفة يعبث بها النسيم، فمدت إليها يدها وبسطتها، فإذا عليها كتابة بالرومية، فلما شرعت تقرؤها بدت على وجهها علامات الدهش، ثم صاحت: نجا أبو فراس! نجا أبو فراس! فهزت نجلاء كتفيها في خشونة وصاحت: كيف؟ كيف؟ بالله قولي كيف؟ - اسمعي يا حبيبتي ترجمة ما في هذه الورقة التي بقيت في خزانتك أكثر من ثلاث سنوات، وزوجك يلاقي ذل الأسر وعذاب الهون، والتي قذفت بها فوق بساط الغرفة تذهب بها الرياح كل مذهب. - ماذا فيها يا صوفيا؟ - فيها ما يأتي: «أنا واسيلوس الأول رأس الأسرة المقدونية وملك الروم، أقرر بخطي أنني بينما كنت في «قيصرية» وقعت أسيرا في يد أمير من أمراء العرب اسمه أبو العلاء سعيد الحمداني. فأكرمني غاية الإكرام، وفك أسري، فلم أجد وسيلة لشكره إلا أن أهديه علبة من الذهب بها لؤلؤة نفيسة، ليس لها مثيل في الدنيا إلا لؤلؤة محفوظة بقصرنا بالقسطنطينية، وإني آمر كل رومي أن يكرم كل من يحمل هذه الورقة، ويحمل معها اللؤلؤة، وأن يجيب مطالبه.»
وما كادت تتم صوفيا قراءة الرسالة حتى رقصت نجلاء من الفرح، وأقبلت على صوفيا تقبلها، وتجتذب شعرها، والدموع تنهمر على عينيها انهمارا. فلما أفاقت من النوبة، التفتت إليها وقالت: يا صوفيا! أنت نجم أبي فراس الصاعد، وملكه الحارس، هذه هي المرة الثالثة التي تنقذينه فيها. وهنا دخلت سخينة فأخبرتها الخبر، فكادت تجن من الفرح. ثم قامت نجلاء إلى خزانة أبي فراس وأخرجت منها ثلاثة أثواب، وأمرت خادمها أن تأتيها بخيط وإبرة. فدهشت صوفيا وقالت: ماذا تريدين أن تصنعي؟ - أريد أن أقصر هذه الثياب حتى تلائم قدي لأرتديها وأذهب إلى القسطنطينية لإنقاذ زوجي. - وحدك؟ - نعم وحدي، ولن يذهب أحد معي. إنه كان يستهين بالموت في حبي، فلم أهاب الموت في حبه؟ هلم هلم، قصرا الثياب فإن الانتظار يكاد يقتلني. وبعد أن تم تقصير الثياب قصت نجلاء شعرها، ولبست أحد الأثواب، ووضعت الثوبين الآخرين مع عشرة أكياس من الدنانير في علبة، وتمنطقت بحزام به خنجران، وتقلدت أحد سيوف زوجها، وأمرت أسامة أن يعد لها أسبق جواد في الإصطبل، ثم ودعت سخينة وصوفيا، وانطلقت فوق الجواد كأنها البرق الخاطف.
ولو حاولنا وصف الطريق، وما لقيته نجلاء من الجهد والنصب، ومن عصابات اللصوص بين عرب وروم، لامتدت القصة وطال حبل الكلام، ويكفينا أن نقول: إنها بلغت القسطنطينية بعد عشرين يوما قضتها بين الخوف ولقاء الموت، وبين اليأس والأمل. فأخذت سمتها نحو قصر الملك، فقابلها الحراس لدى الباب، وصاح بها زعيمهم وكان له إلمامة بالعربية: من أنت أيها الفتى؟ - رسول من قبل سيف الدولة برسالة إلى الملك. - لعله يطلب الهدنة بعد أن دمرنا عليه حلب. - إنكم دمرتم بنيانها، ولم تدمروا قلوب رجالها. فظهر الغضب على وجه الزعيم وقال: عجيب شأن هؤلاء العرب فإن اليأس لا يعرف إلى قلوبهم طريقا. - إن العرب يحاربونكم بإيمانهم، وأنتم تحاربون بدباباتكم ونيرانكم اليونانية. - كفى أيها الفتى الشجاع، تسلب من سلاحك وادخل.
فنزعت نجلاء سلاحها، ودخلت القصر مع المترجم، حتى وصلت إلى بهو العرش، فرأت نقفور فوكاس جالسا على سريره وحوله الوزراء والقواد، فأدت تحية الملوك، وقدمت إليه الورقة، فقرأها والدهشة تبدو على وجهه. ثم صاح بالمترجم: سل الفتى أين اللؤلؤة؟ فمدت نجلاء يدها بالعلبة، فأخرجت منها اللؤلؤة فقال: حقا إنها أخت لؤلؤة القصر. ثم اتجه إلى المترجم وهو يقول: هذه الرسالة من مؤسس دولتنا واسيلوس، وأمره حكم واجب الطاعة، ويظهر أن الأمير العربي الذي أحسن به، ووهب له حياته، كان بطلا كريما، فسل الفتى أيها المترجم عما يشاء. فلما ترجم الكلام لنجلاء قالت: أطلب إطلاق رجل في أسر الملك، هو أبو فراس الحمداني! - لقد طلبت عظيما يا فتى. إن أبا فراس وحده جيش لهام، ولم يهدأ للروم روع إلا بعد أن ظفروا به. أطلب ما تشاء يا فتي غير هذا. - لن أطلب سواه.
ففكر نيقفور مليا ثم قال لقواده: اذهبوا معه، وأطلقوا سراح أبي فراس. فخرجت نجلاء وهي لا تكاد تصدق ما سمعت، حتى إذا وصلت مع القواد إلى السجن، واتجهوا نحو غرفة أبي فراس سبقتهم إليها، فلما رآها صاح: نجلاء؟! نجلاء حبيبتي؟! وانكب عليها كالمجنون يقبلها ويبكي، وقد طوقته بذراعيها، وهي تهتف: وجدت حبيبي، وجدت حبيبي! ودخل القواد فعجبوا مما رأوا، وزاد في دهشتهم أن الفتى العربي انقلب فتاة رائعة فاتنة، وبعد لأي هدأ الفتى، وهدأت الفتاة، وأخبرته نجلاء بقصتها، وبأمر الملك بإطلاقه. فحملها بين ذراعيه كأنه يحمل البازي العصفور، وخرج من السجن والقواد أمامه، وإذا هم لدى الباب رأوا تيوفانو واقفة وهي تبكي، وحينما لمحت أبا فراس مدت إليه يدها في حزن وأسى، وهي تتمتم: سحقا للروم لقد سلمت سلاحها لأعدائها!
واشترى أبو فراس جوادا، وانطلق مع نجلاء نحو حلب، حتى إذا بلغاها هبت المدينة للقائهما، وأصبحت قصة نجلاء حديث كل دار، وأنشودة كل شاعر، ولقي أبو فراس أمه فأبكاهما اللقاء، ولقي صوفيا فعانقها طويلا، وكان شكره لها أطول من عناقه، وملأ السرور كل قلب إلا قلب رجل واحد، هو قرعويه.
الفصل الحادي عشر
ومرت سنة مات فيها سيف الدولة، فترك موته في كل نفس لوعة، وولي الملك بعده ابنه أبو المعالي سعد الدولة، وكان في الخامسة عشرة من عمره ضعيفا بأعباء الملك كاهله، فتحكم فيه قرعويه. وكاد يقوم بشئون الملك دونه، وملأ صدره حقدا على خاله أبي فراس فبرم أبو فراس بدسائس قرعويه، وأحزنه أن يصبح ابن أخته لعبة في أيدي الطامعين في الملك المتوثبين عليه. فخرج على سعد الدولة في ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وضم إليه بعض الجنود، وسار بهم نحو «حمص» يريد الاستيلاء عليها، وكانت نجلاء وابنته فوز وأمه معه في هذه الغزوة. وما كاد يعلم قرعويه بنيته حتى أغرى سعد الدولة بإرسال جيش عظيم لمحاربته، وحينما التقى الفريقان بالقرب من ضيعة تسمى «صدد» استهوى قرعويه جنود أبي فراس بالمال، فانصرفوا عنه، ودهمه بجيش كثير العدة والعدد.
ناپیژندل شوی مخ