بلغت صوفيا دار نجلاء، فدخلت حتى وصلت إلى البهو الكبير ورأتها سلمى العجوز فجن جنونها. ورأت أن جريمتها أوشكت أن تنكشف، فأخذت تبحث في زوايا رأسها الأشيب عن حيلة تدرأ عنها الخطر، فحيت صوفيا في شوق وترحيب، ثم قالت: أخشى يا بنيتي ألا تستطيع سيدتي نجلاء لقاءك اليوم؛ لأنها تؤثر أن تبقى في سريرها. فأدركت صوفيا أن العجوز - على الرغم من ريائها الظاهر - لم ترتح للقائها، ورأت أنها تكثر من الابتسام ومن بلع ريقها، وتحاول خفض صوتها، فعلمت أن وراء الأمر سرا، وأن هذا السر قد تكون له صلة بما جاءت من أجله، فرفعت صوتها وقالت: ما أجمل هذا البهو يا سلمى! وما أعظم هذه الأعمدة! ثم رفعت صوتها وهي تقول: وهذه النقوش! هذه النقوش! ما أبدعها وما أروع ألوانها! فذعرت العجوز وقالت: خفضي صوتك يا بنيتي. فزادت الشبهة في نفس صوفيا، وأخذت تصيح كالمجنونة: انظري، انظري يا أمي إلى السقف! انظري! انظري! بالله عليك انظري! هذه صورة نسر جارح تفر أمامه الطيور في ذعر ووهل.
14
وهذه صورة نمر يطارد غزالا. مسكين مسكين هذا الغزال!
وبينما هي في صياحها إذ فتح باب البهو وبرزت منه نجلاء. فلما رأت صوفيا بهتت وبان الغضب في عينيها، ووقفت في مكانها لا تريم،
15
وعادت إليها ذكريات صديقها، وآثار آلامها، إن غاصبة هذا الصديق تزور بيتها، وتقف أمامها باسمة كأنها لم تهدم حياتها، ولم تضرج يديها بدماء قلبها، فقربت منها وقالت وصدرها يرتفع وينخفض كأنه كير حداد: ما كنت أظن أن أراك في منزلي بعد أن أغلقت بيديك بابه دونك. - أنا أغلقت بابه دوني يا نجلاء؟ ولمه؟ - هذا سري وسرك. - وقد يكون سر سلمى فقد هالتها زيارتي في هذا الصباح. - إن لها كثيرا من العذر. - ماذا أسمع يا رب؟ لقد جئت شفيعة فأصبحت في حاجة إلى شفيع. - جئت شفيعة؟ - نعم. - لمن؟ - لصديق عزيز، فتهانفت
16
نجلاء وقالت: تتشفعين لصديق عزيز لتسلبيه مرة أخرى! - ما هذا يا إلهي؟ حبيبتي نجلاء! ماذا بك؟ - أنت بي، وأنت دائي، وأنت بلائي. - نجلاء؟ أين ذهب بعقلك؟ بالله عليك قولي ماذا جنيت؟ - خبريني أولا لمن تتشفعين؟ - لمولاي أبي فراس.
فوثبت نجلاء وقالت في دهشة المحموم: لأبي فراس؟! - نعم لأبي فراس. ماذا فعل أبو فراس حتى هجرته وكدرت عليه صفو حياته، وهو أطهر الشباب قلبا وأكرمهم نفسا، وأعلاهم نسبا؟ ماذا جنى حتى بدلت بنهاره ظلاما، وبريحان حياته شوكا وقتادا؟ - ألا تغارين عليه يا صوفيا؟
فحملقت صوفيا وقالت: أغار عليه؟ إنه حبيب إلى كل قلب، ولكنه لا يبعثر حبه على الحسان. إنني أحبه كما أحب القمر الزاهي في ليالي الربيع، دون أن تحدثني نفسي بالصعود إليه. إن من الخبل أن تتعلق رومية بعروش الملوك. - إذا ما هذه الرسائل التي كان يبعث بها إليك؟ فقهقهت صوفيا وقالت: مسكينة يا نجلاء! لقد وقعت في دسيسة أشرار أشقياء. أين هذه الرسائل؟ فقامت نجلاء وأخرجت الرسائل من خزانتها. فلما نظرت إليها صوفيا، وكانت نافذة الذكاء، صاحت: انظري، إنها مزورة، إنها بخطه إلا تلك الكلمة التي صدرت بها كل رسالة. تأملي يا حبيبتي في كلمة «يا صوفيا» أهي من نوع خطه؟
ناپیژندل شوی مخ