1
تظله بجناحها، وتغذوه بحنانها. وكان الحسين يثير في نفسه الاعتزاز بقومه وبتاريخه المجيد، ويحفزه إلى العظمة والسيطرة والبطولة. ولم تقصر حاضنته عائشة النزارية في الرمي نحو هذه الغاية، فإنها رأت جذوة في نفسه فطفقت تنفخ فيها حتى تركتها شعلة متأججة، تقذف بالشرر. وكثيرا ما كانت تجلس إلى جانب سريره عندما يأوي إلى فراشه، وتقص عليه سير أجداده، ومآثر آبائه، بأسلوب يهز العاطفة، ويثير الوجدان. فهي إذا تحدثت عن حمدان جد هذه الأسرة، أخذت تجلو من أخبار شجاعته ومروءته صورا امتزجت فيها الحقيقة بالخيال، وتذكر كيف أنه أبى أن يخضع للمعتضد العباسي، وأن يلقي إليه بالقياد، فاقتطع من أملاك الدولة العباسية إمارة «ماردين» ونادى بنفسه عليها ملكا مستبدا، ولم يبال ما كان للمعتضد في ذلك الحين من دولة وصولة. ثم تصف ما كان بعد ذلك من غضب المعتضد وحنقه على هذا العربي الثائر، وكيف أنه بعث إليه بجيش جرار، ولكن هذا الجيش ما كاد يلتقي برجال حمدان حتى مني بالهزيمة والخذلان، وعاد الخليفة بفلوله
2
مدحورا، ونار الغضب تأكل صدره، فلم تهدأ له ثائرة حتى رماه بجيش آخر لا يعرف أوله أين آخره، لكن حمدان كان إلى شجاعته وتحديه الموت ذكيا واسع الحيلة، يقدم - كما يقول عنترة - إذا كان الإقدام عزما، ويحجم إذا كان الإحجام حزما، فلما رأى أنه في قلة من رجاله، وأن من المناجزة
3
إلقاء بيده إلى التهلكة، اتخذ الليل مركبا، وسرى في ستار من ظلماته كما يسري طيف الخيال، لا تناله الأكف، ولا تبصره العيون، وتراجع تراجع الليث ليثب، وطلبه الخليفة في كل مكان، وبث وراءه العيون، وأخذ عليه الطرق والمناهل،
4
ولكنه كان شعاعا لا تمسكه يد قابض، وسرا لا تدركه العقول. وكان أهون على الخليفة أن يصيد العنقاء، أو يقتنص نجوم السماء، من أن يحاول أن يمسه بضرر، أو يقف له على أثر. اختفى حمدان، ولكن ذكاءه ونفاذ بصيرته لم يختفيا، فأوعز إلى ابنه الحسين أن يصانع الخليفة حتى ينال بالحيلة ما رأت القوة أن تتركه إلى حين، وقد كان رأيه صوابا، فنال الحسين الحظوة عند المعتضد فأغضى عن ثورة حمدان، وأعاد إلى قومه ما كان لهم من نفوذ وسلطان.
تقص هذا القصص وأمثاله، والطفل ذاهل مأخوذ حينا، وواثب من سريره أحيانا، وكلما حاولت الانتهاء طلب إليها المزيد. وكأنه كان يستمد من أرواح أسلافه قوة، ويستلهم من سيرتهم عزيمة، ويتخذ من تاريخهم غذاء لكبريائه.
وفي ليلة ألح عليها أن تحدثه عن أبيه، فنظرت إليه وأطالت النظر، وقالت: أما أبوك فكان سيد بني حمدان وأصدقهم رأيا، وأثبتهم قلبا، وأطهرهم نفسا. ولقد كان إذا ركب بين الفرسان فرعهم طولا، وبزهم جرأة وإقداما، وكان إذا عد الأجواد أبسطهم كفا، وأرحبهم فناء، وأسبقهم نازعة إلى المعروف. أذكر ليلة حينما قدم من حلب من قتال بني تميم ... - ومن بنو تميم هؤلاء؟ - قبيلة قوية الشكيمة، صعبة منال الزمام، لا تلين أعناقها لحاكم، تحدت جيوش الخليفة المقتدر بالله العباسي، فعاثت في أعمال حلب، فاستنجد الخليفة بأبيك وأخيه الحسين، فبرزا إليها في جيش خضم،
ناپیژندل شوی مخ