بسم الله الرحمن الرحيم اعلم (1): أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له (2) الشك فيه، أو القطع، أو الظن.
فإن حصل له (3) الشك، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل، وتسمى ب " الأصول العملية "، وهي منحصرة في أربعة، لأن الشك:
إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.
وعلى الثاني: فإما أن يمكن الاحتياط أم لا.
وعلى الأول: فإما أن يكون الشك في التكليف أو في المكلف به.
فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني (4) مجرى التخيير، والثالث
مخ ۲۵
مجرى أصالة البراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.
وبعبارة أخرى: الشك إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا (1)، فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني: إما أن يكون الشك فيه في التكليف أو لا، فالأول مجرى أصالة البراءة، والثاني: إما أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط، والثاني مجرى قاعدة التخيير (2).
وما ذكرنا هو المختار في مجاري الأصول الأربعة، وقد وقع الخلاف فيها، وتمام الكلام في كل واحد موكول إلى محله.
فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة:
الأول: في القطع.
والثاني: في الظن.
والثالث: في الشك (3).
مخ ۲۶
المقصد الأول في القطع
مخ ۲۷
المقصد الأول في القطع (1) فنقول: لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا، لأنه بنفسه طريق إلى الواقع، وليس طريقيته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا (2).
ومن هنا يعلم: أن إطلاق " الحجة " عليه ليس كإطلاق " الحجة " على الأمارات المعتبرة شرعا، لأن الحجة عبارة عن: الوسط الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر، ويصير واسطة للقطع بثبوته له، كالتغير لإثبات حدوث العالم، فقولنا: الظن حجة، أو البينة حجة، أو فتوى المفتي حجة، يراد به كون هذه الأمور أوساطا لإثبات أحكام متعلقاتها، فيقال: هذا مظنون الخمرية، وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه.
وكذلك قولنا: هذا الفعل مما أفتى المفتي بتحريمه، أو قامت البينة على كونه محرما، وكل ما كان كذلك فهو حرام.
وهذا بخلاف القطع، لأنه إذا قطع بوجوب شئ، فيقال: هذا
مخ ۲۹
واجب، وكل واجب يحرم ضده أو يجب مقدمته.
وكذلك العلم بالموضوعات، فإذا قطع بخمرية شئ، فيقال: هذا خمر، وكل خمر يجب الاجتناب عنه، ولا يقال: إن هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية حكمه كذا، لأن أحكام الخمر إنما تثبت للخمر، لا لما علم أنه خمر.
والحاصل: أن كون القطع حجة غير معقول، لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب، فلا يطلق على نفس القطع.
هذا كله بالنسبة إلى حكم متعلق القطع وهو الأمر المقطوع به، وأما بالنسبة إلى حكم آخر، فيجوز أن يكون القطع مأخوذا في موضوعه، فيقال: إن الشئ المعلوم بوصف كونه معلوما حكمه كذا، وحينئذ فالعلم يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم (1) وإن لم يطلق عليه الحجة، إذ المراد ب " الحجة " في باب الأدلة: ما كان وسطا لثبوت أحكام (2) متعلقه شرعا، لا لحكم آخر (3)، كما إذا رتب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا، لا على نفس الخمر، وكترتب وجوب الإطاعة عقلا (4) على معلوم الوجوب، لا الواجب الواقعي (5).
وبالجملة: فالقطع قد يكون طريقا للحكم، وقد يكون مأخوذا في
مخ ۳۰
موضوع الحكم.
ثم ما كان منه طريقا لا يفرق فيه بين خصوصياته، من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه، إذ المفروض كونه طريقا إلى متعلقه، فيترتب عليه أحكام متعلقه، ولا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به، لأنه مستلزم للتناقض.
فإذا قطع بكون (1) مائع بولا - من أي سبب كان - فلا يجوز للشارع أن يحكم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه، لأن المفروض أنه بمجرد القطع يحصل له صغرى وكبرى، أعني قوله: " هذا بول، وكل بول يجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه " فحكم الشارع بأنه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له، إلا إذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب من أحكام نفس البول، بل من أحكام ما علم بوليته على وجه خاص من حيث السبب أو الشخص أو غيرهما، فيخرج العلم عن (2) كونه طريقا (3)، ويكون مأخوذا (4) في الموضوع، وحكمه أنه يتبع في اعتباره - مطلقا أو على وجه خاص - دليل ذلك الحكم الثابت الذي اخذ العلم في موضوعه .
فقد يدل على ثبوت الحكم لشئ بشرط العلم به، بمعنى انكشافه للمكلف من غير خصوصية للانكشاف، كما في حكم العقل بحسن إتيان
مخ ۳۱
ما قطع العبد بكونه مطلوبا لمولاه، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا، فإن مدخلية القطع بالمطلوبية أو المبغوضية في صيرورة الفعل حسنا أو قبيحا عند العقل لا يختص ببعض أفراده. وكما في حكم الشارع (1) بحرمة ما علم أنه خمر أو نجاسته بقول مطلق (2)، بناء على أن الحرمة والنجاسة الواقعيتين إنما تعرضان مواردهما بشرط العلم - لا في نفس الأمر - كما هو قول بعض (3).
وقد يدل دليل ذلك الحكم على ثبوته لشئ بشرط حصول القطع به من سبب خاص أو شخص خاص، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريين (4): من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم الغير (5) الحاصل من الكتاب والسنة - كما سيجئ -، وما ذهب إليه بعض: من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق الله تعالى (6).
مخ ۳۲
وأمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم (1) غير القاطع كثيرة (2)، كحكم الشارع على المقلد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعي إذا علم به من الطرق الاجتهادية المعهودة، لا من مثل الرمل والجفر، فإن القطع الحاصل من هذه وإن وجب على القاطع الأخذ به في عمل نفسه، إلا أنه لا يجوز للغير تقليده في ذلك، وكذلك العلم الحاصل للمجتهد الفاسق أو غير الإمامي من الطرق الاجتهادية المتعارفة، فإنه لا يجوز للغير العمل بها (3)، وكحكم الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له من الحس لا من الحدس، إلى غير ذلك.
ثم من خواص القطع الذي هو طريق إلى الواقع: قيام الأمارات الشرعية وبعض (4) الأصول العملية مقامه في العمل، بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية، فإنه تابع لدليل الحكم (5).
فإن ظهر منه أو من دليل خارج (6) اعتباره على وجه الطريقية للموضوع - كالأمثلة المتقدمة (7) - قامت الأمارات وبعض (8) الأصول مقامه.
مخ ۳۳
وإن ظهر من دليل الحكم (1) اعتبار القطع (2) في الموضوع من حيث كونها صفة خاصة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره، كما إذا فرضنا أن الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائية والثلاثية والأوليين من الرباعية (3)، فإن غيره - كالظن بأحد الطرفين أو أصالة عدم الزائد - لا يقوم مقامه إلا بدليل خاص خارجي غير أدلة حجية مطلق الظن في الصلاة وأصالة عدم الأكثر.
ومن هذا الباب: عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البينة أو اليد - على قول - وإن جاز تعويل الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا، لأن العلم بالمشهود به مأخوذ (4) في مقام العمل على وجه الطريقية، بخلاف مقام أداء الشهادة، إلا أن يثبت من الخارج: أن كل ما يجوز العمل به من الطرق الشرعية يجوز الاستناد إليه في الشهادة، كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد (5).
ومما ذكرنا يظهر: أنه لو نذر أحد أن يتصدق كل يوم بدرهم ما دام متيقنا بحياة ولده، فإنه لا يجب التصدق عند الشك في الحياة لأجل استصحاب الحياة، بخلاف ما لو علق النذر بنفس الحياة، فإنه يكفي في الوجوب الاستصحاب.
مخ ۳۴
ثم إن هذا الذي ذكرنا - من (1) كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقية وأخرى على وجه الموضوعية - جار في الظن أيضا، فإنه (2) وإن فارق العلم في كيفية الطريقية - حيث إن العلم طريق بنفسه، والظن المعتبر طريق بجعل الشارع، بمعنى كونه وسطا في ترتب أحكام متعلقه، كما أشرنا إليه سابقا - إلا أنه (3) أيضا: قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلقه يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية، وقد يؤخذ موضوعا لحكم (4).
فلا بد من ملاحظة دليل ذلك، ثم الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه، لكن الغالب فيه الأول.
مخ ۳۵
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول أنه قد عرفت (1): أن القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلة المثبتة لأحكام مقطوعه، فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها، فيقطع بالنتيجة، فإذا قطع بكون شئ خمرا، وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة، فيقطع بحرمة ذلك الشئ.
لكن الكلام في أن قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله، فيعاقب على مخالفته، أو أنه حجة عليه إذا صادف الواقع؟ بمعنى أنه لو شرب الخمر الواقعي عالما عوقب عليه في مقابل من شربها جاهلا، لا أنه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا وإن لم يكن خمرا في الواقع.
ظاهر كلماتهم في بعض المقامات: الاتفاق على الأول، كما يظهر من دعوى جماعة (2) الإجماع على أن ظان ضيق الوقت إذا أخر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت، فإن تعبيرهم بظن الضيق لبيان أدنى
مخ ۳۷
فردي الرجحان، فيشمل القطع بالضيق.
نعم، حكي عن النهاية (1) وشيخنا البهائي (2) التوقف في العصيان، بل في التذكرة: لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر إن استمر الظن، وإن انكشف خلافه (3) فالوجه عدم العصيان (4)، انتهى (5). واستقرب العدم سيد مشايخنا في المفاتيح (6).
وكذا لا خلاف بينهم - ظاهرا - في أن سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه (7).
ويؤيده: بناء العقلاء على الاستحقاق، وحكم العقل بقبح التجري.
وقد يقرر دلالة العقل على ذلك (8): بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين، بأن قطع أحدهما بكون مائع معين خمرا، وقطع الآخر بكون
مخ ۳۸
مائع (1) آخر خمرا، فشرباهما، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر: فإما أن يستحقا العقاب، أو لا يستحقه أحدهما، أو يستحقه من صادف قطعه الواقع دون الآخر، أو العكس.
لا سبيل إلى الثاني والرابع، والثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار، وهو مناف لما يقتضيه العدل، فتعين الأول (2).
ويمكن الخدشة في الكل:
أما الإجماع، فالمحصل منه غير حاصل، والمسألة عقلية، خصوصا مع مخالفة غير واحد، كما عرفت من النهاية (3) وستعرف من قواعد الشهيد (قدس سره) (4)، والمنقول منه ليس حجة في المقام.
وأما بناء العقلاء، فلو سلم فإنما هو على مذمة الشخص من حيث إن هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه، لا على نفس فعله، كمن انكشف لهم من حاله أنه بحيث لو قدر على قتل سيده لقتله، فإن المذمة على المنكشف، لا الكاشف.
ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجري، فإنه لكشف ما تجرى به عن خبث الفاعل (5)، لا عن كون الفعل مبغوضا للمولى.
والحاصل: أن الكلام في كون هذا الفعل - الغير المنهي عنه واقعا - مبغوضا للمولى من حيث تعلق اعتقاد المكلف بكونه مبغوضا، لا في أن
مخ ۳۹
هذا الفعل - المنهي عنه باعتقاده ظاهرا (1) - ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيده وكونه في مقام الطغيان والمعصية (2)، فإن هذا غير منكر في المقام (3)، لكن لا يجدي في كون الفعل محرما شرعيا، لأن استحقاق المذمة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل، ومن المعلوم أن الحكم العقلي باستحقاق الذم إنما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلق بالفعل، لا بالفاعل.
وأما ما ذكر من الدليل العقلي، فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع، لأنه عصى اختيارا، دون من لم يصادف.
و (4) قولك: إن التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار، ممنوع، فإن العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح، إلا أن عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم، كما يشهد به الأخبار الواردة في أن: من سن سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها (5).
فإذا فرضنا أن شخصين سنا سنة حسنة أو سيئة، واتفق كثرة
مخ ۴۰
العامل بإحداهما وقلة العامل بما سنه الآخر، فإن مقتضى الروايات كون ثواب الأول أو عقابه أعظم، وقد اشتهر: " أن للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا " (1). والأخبار في أمثال ذلك في طرف (2) الثواب والعقاب بحد التواتر.
فالظاهر: أن العقل إنما يحكم بتساويهما في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى، لا في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية.
وربما يؤيد ذلك: أنا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة الذم (3) بين من صادف قطعه (4) الواقع وبين من لم يصادف.
إلا أن يقال: إن ذلك إنما هو في المبغوضات العقلائية، من حيث إن زيادة العقاب (5) من المولى وتأكد الذم (6) من العقلاء بالنسبة إلى من صادف اعتقاده الواقع لأجل التشفي، المستحيل في حق الحكيم تعالى، فتأمل.
هذا، وقد يظهر من بعض المعاصرين (7): التفصيل في صورة القطع
مخ ۴۱
بتحريم شئ غير محرم واقعا، فرجح استحقاق العقاب بفعله، إلا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة، فإنه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا أو في بعض الموارد، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية، فإن قبح التجري عندنا ليس ذاتيا، بل يختلف بالوجوه والاعتبار.
فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل، فحسب أنه ذلك الكافر وتجرى فلم يقتله، فإنه لا يستحق الذم على هذا الفعل عقلا عند من انكشف له الواقع، وإن كان معذورا لو فعل.
وأظهر من ذلك: ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي، فتجرى ولم يقتله.
ألا ترى: أن المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدو له، فصادف العبد ابنه وزعمه ذلك العدو فتجرى ولم يقتله، أن المولى إذا اطلع على حاله لا يذمه على هذا التجري، بل يرضى به وإن كان معذورا لو فعل.
وكذا لو نصب له طريقا غير القطع إلى معرفة عدوه، فأدى الطريق إلى تعيين ابنه فتجرى ولم يفعل.
وهذا الاحتمال حيث يتحقق عند المتجري لا يجديه إن لم يصادف الواقع، ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب، لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب، بخلاف ما لو ترك العمل به، فإن المظنون فيه عدمها.
ومن هنا يظهر: أن التجري على الحرام في المكروهات الواقعية أشد منه في مباحاتها، وهو فيها أشد منه في مندوباتها، ويختلف باختلافها ضعفا وشدة كالمكروهات، ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعية
مخ ۴۲
ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجري (1). انتهى كلامه، رفع مقامه.
أقول: يرد عليه:
أولا: منع ما ذكره من عدم كون قبح التجري ذاتيا، لأن التجري على المولى قبيح ذاتا - سواء كان لنفس الفعل أو لكشفه عن كونه جريئا (2) - كالظلم، بل هو قسم من الظلم، فيمتنع عروض الصفة المحسنة له، وفي مقابله الانقياد لله سبحانه وتعالى، فإنه يمتنع أن يعرض له جهة مقبحة .
وثانيا (3): لو سلم أنه لا امتناع في أن يعرض له جهة محسنة، لكنه باق على قبحه ما لم يعرض له تلك الجهة، وليس مما لا يعرض له في نفسه حسن ولا قبح إلا بعد ملاحظة (4) ما يتحقق في ضمنه.
وبعبارة أخرى: لو سلمنا عدم كونه علة تامة للقبح كالظلم، فلا شك في كونه مقتضيا له كالكذب، وليس من قبيل الأفعال التي لا يدرك العقل بملاحظتها في أنفسها حسنها ولا قبحها، وحينئذ فيتوقف ارتفاع قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه، كالكذب المتضمن لإنجاء نبي.
ومن المعلوم أن ترك قتل المؤمن بوصف أنه مؤمن في المثال الذي ذكره - كفعله - ليس من الأمور التي تتصف بحسن أو قبح، للجهل
مخ ۴۳
بكونه قتل مؤمن، ولذا اعترف في كلامه بأنه لو قتله كان معذورا، فإذا لم يكن هذا الفعل الذي تحقق التجري في ضمنه مما يتصف بحسن أو قبح، لم يؤثر في اقتضاء ما يقتضي القبح، كما لا يؤثر في اقتضاء ما يقتضي الحسن لو فرض أمره بقتل كافر فقتل مؤمنا معتقدا كفره، فإنه لا إشكال في مدحه من حيث الانقياد وعدم مزاحمة حسنه بكونه في الواقع قتل مؤمن.
ودعوى: أن الفعل الذي يتحقق به التجري وإن لم يتصف في نفسه بحسن ولا قبح - لكونه مجهول العنوان - لكنه لا يمتنع أن يؤثر في قبح ما يقتضي القبح بأن يرفعه، إلا أن نقول بعدم مدخلية الأمور الخارجة عن القدرة في استحقاق المدح والذم، وهو محل نظر، بل منع.
وعليه يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق (1) في قبح التجري.
مدفوعة - مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدم من الدليل العقلي، كما لا يخفى على المتأمل -: بأن العقل مستقل بقبح التجري في المثال المذكور، ومجرد تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه - مع الاعتراف بأن ترك القتل لا يتصف بحسن ولا قبح - لا يرفع قبحه، ولذا يحكم العقل بقبح الكذب وضرب اليتيم إذا انضم إليهما ما يصرفهما إلى المصلحة إذا جهل الفاعل بذلك.
ثم إنه ذكر هذا القائل في بعض كلماته: أن التجري إذا صادف المعصية الواقعية تداخل عقابهما (2).
مخ ۴۴
ولم يعلم معنى محصل لهذا الكلام، إذ مع كون التجري عنوانا مستقلا في استحقاق العقاب لا وجه للتداخل إن أريد به وحدة العقاب، فإنه ترجيح بلا مرجح (1)، وإن أريد به عقاب زائد على عقاب محض التجري، فهذا ليس تداخلا، لأن كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما.
والتحقيق: أنه لا فرق في قبح التجري بين موارده، وأن المتجري لا إشكال في استحقاقه الذم من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته بذلك (2). وأما استحقاقه للذم من حيث الفعل المتجرى في ضمنه، ففيه إشكال، كما اعترف به الشهيد (قدس سره) فيما يأتي (3) من كلامه (4).
مخ ۴۵
نعم، لو كان (1) التجري على المعصية بالقصد (2) إلى المعصية، فالمصرح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه (3)، وإن كان يظهر من أخبار أخر العقاب على القصد أيضا (4)، مثل:
قوله صلوات الله عليه: " نية الكافر شر من عمله " (5).
وقوله: " إنما يحشر الناس على نياتهم " (6).
وما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار، وخلود أهل الجنة في الجنة، بعزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلدوا في الدنيا (7).
وما ورد من أنه: " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: لأنه أراد قتل صاحبه " (8).
مخ ۴۶