مُقَدّمَة الْمُؤلف
الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ على كل شَيْء قدير المبدئ المعيد الْغَنِيّ الحميد الَّذِي يحي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ الْمصير وَصلى الله على مُحَمَّد نبيه البشير النذير المبتعث بِالْكتاب الْمُنِير لينذر يَوْم الْجمع لَا ريب فِيهِ فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير
وَبعد فَإِن علم الْفَرَائِض علم شرِيف قرآني لَا يشْتَغل بِهِ إِلَّا عَالم رباني قَالَ ابْن عَبَّاس ﵁ حِين مَاتَ زيد بن ثَابت ﵀ الْيَوْم مَاتَ رباني هَذِه الْأمة لِأَن رَسُول الله ﷺ قَالَ فِي زيد بن ثَابت
1 / 25
وأفرضهم زيد بن ثَابت وَقَالَ ﵇ الْعلم ثَلَاثَة آيَة محكمَة وَسنة قَائِمَة وفريضة عادلة فَجعل علم الْفَرَائِض ثلث علم الدّين
وكال عمر بن الْخطاب ﵁ أَيَّام كَانَ بِالشَّام يكْتب إِلَى زيد بن ثَابت وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا فَيبْدَأ باسمه على نَفسه لمكانه من الْعلم وَالْفِقْه فِي الدّين وَحين أشكلت عَلَيْهِ مَسْأَلَة الْجد مَشى بِنَفسِهِ إِلَى منزل زيد بن ثَابت يَسْتَفْهِمهُ عَن رَأْيه فِيهَا
1 / 26
فَانْتهى إِلَى قَوْله وَاسْتحْسن مَا سمع من قِيَاسه فِيهَا وَنَظره ﵃ أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُم اجتهدوا للْمُسلمين وتفقهوا فِي الْكتاب الْمُبين وتحروا الصدْق فِيمَا نقلوه من وَحي رب الْعَالمين حَتَّى استقامت قناة الْإِسْلَام فعلى رَسُول الله ﷺ وعَلى أَصْحَابه وَأَهله أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
الْحِكْمَة فِي الْوَصِيَّة بالأولاد
ثمَّ إِنِّي نظرت فِيمَا بَينه الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه من حَلَال وَحرَام وحدود وَأَحْكَام فَلم نجده افْتتح شَيْئا من ذَلِك بِمَا افْتتح بِهِ آيَة الْفَرَائِض وَلَا ختم شَيْئا من ذَلِك بِمَا خَتمهَا بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَولهَا ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ فآخبر تَعَالَى عَن نَفسه أَنه موص تَنْبِيها على حكمته فِيمَا أوصى بِهِ وعَلى عدله وَرَحمته أما حكمته فَإِنَّهُ علم سُبْحَانَهُ مَا تضمنه أمره من الْمصلحَة لِعِبَادِهِ وَمَا كَانَ فِي فعلهم قبل هَذَا الْأَمر من الْفساد حَيْثُ كَانُوا يورثون الْكِبَار وَلَا يورثون الصغار ويورثون الذُّكُور وَلَا يورثون الْإِنَاث وَيَقُولُونَ أنورث أَمْوَالنَا من لَا يركب الْفرس وَلَا يضْرب بِالسَّيْفِ ويسوق الْغنم فَلَو وَكلهمْ الله إِلَى آرائهم وتركهم مَعَ أهوائهم لمالت بهم الأهوء عِنْد الْمَوْت مَعَ بعض الْبَنِينَ دون بعض فَأدى ذَلِك إِلَى التشاجر والتباغض والجور وَقلة النصفة فَانْتزع الْوَصِيَّة مِنْهُم وردهَا على نَفسه دونهم ليرضي بِعِلْمِهِ وَحكمه وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى حِين ختم الْآيَة ﴿وَصِيَّة من الله وَالله عليم حَلِيم﴾
1 / 27
وَقَالَ قبل ذَلِك ﴿فَرِيضَة من الله إِن الله كَانَ عليما حكيما﴾
وَأما عدله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سوى بَين الذُّكُور لأَنهم سَوَاء فِي أَحْكَام الدِّيات والعقول ورجاء الْمَنْفَعَة وان صغر السن لايبطل حق الْولادَة وَلَا معنى النّسَب وان كلا مِنْهُم فلق الأكباد وشجا الحساد وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ وَلم يقل بأولادكم لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعدْل فيهم والتحذير من الْجور عَلَيْهِم وَجَاء بِاللَّفْظِ عَاما غير مَقْصُور على الْمِيرَاث أَو غَيره وَلذَلِك قَالَ النَّبِي ﵇ إِنِّي لَا أشهد على جور وَذَلِكَ أَيْضا قَالَه فِي هبة فضل بهَا بشير بن سعد بعض وَلَده على بعض لِأَنَّهُ رأى الله
1 / 28
تَعَالَى قد أَمر بِالْعَدْلِ فيهم أمرا غير مَقْصُور على بَاب دون بَاب وَلذَلِك رأى كثير من الْعلمَاء أَن لَا يفضل فِي الْهِبَة وَالصَّدََقَة ابْن على بنت إِلَّا بِمَا فَضله الله بِهِ للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ قَول أَحْمد ابْن حَنْبَل
وَكَانُوا يستحبون الْعدْل فِي الْبَنِينَ حَتَّى فِي الْقبْلَة وَرَأى رَسُول الله ﷺ رجلا قَاعِدا فجَاء طِفْل لَهُ فأقعده فِي حجره وَجَاءَت بنت لَهُ صَغِيرَة فأقعدها على الأَرْض فَقَالَ لَهُ ﵊ أليست بولدك أَو كَمَا قَالَ قَالَ بلَى قَالَ فاعدل فيهمَا وَهَذَا كُله منتزع من قَوْله سُبْحَانَهُ ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾
وَأما مَا تضمنته وَصيته من الرَّحْمَة إِلَى مَا ذكرنَا من الْعدْل وَالْحكمَة فَإِنَّهُ جعل للبنات حظا فِي أَمْوَال آبائهن رَحْمَة مِنْهُ لضعفهن وترغيبا فِي نِكَاحهنَّ لِأَن الْمَرْأَة تنْكح لمالها وجمالها ولدينها فَعَلَيْك بِذَات الدّين قَالَ ﷺ اتَّقوا الله فِي الضعيفين يَعْنِي الْمَرْأَة واليتيم فَكَانَ من رأفته بِهن أَن قسم
1 / 29
لَهُنَّ مَعَ الذُّكُور وَكَانَ من عدله أَن جعل للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لما يلْزم الذُّكُور من الْإِنْفَاق وَالصَّدَاق إِذا بلغُوا النِّكَاح وَلما أوجب عَلَيْهِم من الْجِهَاد للأعداء والذب عَن النِّسَاء وَجعل حظهم مثنى حَظّ الْإِنَاث كَمَا جعل حَظّ الرجل مثل حظي الْأُنْثَى فِي الشَّهَادَات والديات لِأَنَّهُنَّ ناقصات عقل وَدين للْحيض الْمَانِع لَهُنَّ فِي بعض الْأَوْقَات من الصّيام والصلوات فَجمع بَين الْعدْل وَالرَّحْمَة وَنبهَ على الْعلم وَالْحكمَة
وانتبه أَيهَا التَّالِي لكتاب الله الْمَأْمُور بتدبره كَيفَ قَالَ ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ بِلَفْظ الْأَوْلَاد دون لفظ الْأَبْنَاء لما سَنذكرُهُ من الْفرق بَينهمَا إِن شَاءَ الله
ثمَّ أضَاف الْأَوْلَاد إِلَيْهِم بقوله ﴿أَوْلَادكُم﴾ وَمَعْلُوم أَن الْوَلَد فلذة الكبد وَذَلِكَ مُوجب للرحمة الشَّدِيدَة فَمَعَ أَنه أضَاف الْأَوْلَاد إِلَيْهِم جعل الْوَصِيَّة لنَفسِهِ دونهم ليدل على أَنه أرأف وأرحم بالأولاد من آبَائِهِم أَلا ترى أَنه لَا يحسن أَن يَقُول العَبْد لِأَخِيهِ أوصيك فِي أولادك لِأَن أَبَا الْوَلَد أرْحم بهم فَكيف يوصيه غَيره بهم وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف أَن يَقُول أوصيك بولدي خيرا فَلَمَّا قَالَ الله ﵎ ﴿يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم﴾ علم أَن رب الْأَوْلَاد أرْحم بالأولاد من الْوَالِدين لَهُم حَيْثُ أوصى بهم وَفِيهِمْ وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة
1 / 30
وَالسَّلَام فِي امْرَأَة رَآهَا قد أَلْقَت نَفسهَا على ابْنهَا فِي بعض الْمَغَانِم الله أرْحم بِعَبْدِهِ الْمُؤمن من هَذِه بِوَلَدِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحمرَة الَّتِى أَخذ فراخها فَأَلْقَت نَفسهَا عَلَيْهِم حَتَّى أطبق عَلَيْهَا الكساء مَعَهم فَقَالَ ﵊ أتعجبون من رَحْمَة هَذِه بفراخها فَالله أرْحم بِعَبْدِهِ الْمُؤمن مِنْهَا وحسبك بقوله سُبْحَانَهُ ﴿وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ﴾ فالأبوان من الرَّاحِمِينَ فَالله تَعَالَى أرْحم مِنْهُمَا فَلذَلِك أوصى الاباء بأولادهم وَإِن كَانَ الْمَعْرُوف أَلا يوصى وَالِد بولده وَإِنَّمَا يُوصي الْإِنْسَان غَيره بِولد نَفسه إِذا غَابَ عَنهُ وَأما أَن يوصى وَالِد بِولد نَفسه فَغير مَعْرُوف فِي الْعَادة لِأَن للْوَلَد أَن يَقُول أَنا أرْحم بولدي مِنْك فَكيف توصيني بهم فسبحان من هُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ وَأَعْدل الْحَاكِمين
1 / 31
فصل
فِي أسرار قَوْله يُوصِيكُم الله
وَقَالَ سُبْحَانَهُ ﴿يُوصِيكُم﴾ بِلَفْظ الْفِعْل الدَّائِم لَا بِلَفْظ الْمَاضِي كَمَا قَالَ فِي غير آيَة نَحْو قَوْله تَعَالَى ﴿أنزلناها وفرضناها﴾ وَنَحْو قَوْله ﴿فرض عَلَيْك الْقُرْآن﴾ وَنَحْو قَوْله ﴿ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ﴾ وَنَحْو قَوْله ﴿كتب عَلَيْكُم الصّيام﴾ و﴿كتب عَلَيْكُم الْقِتَال﴾ وَلم يقل هَهُنَا كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ ﴿يُوصِيكُم﴾ وَالْحكمَة فِي ذَلِك وَالله أعلم أَن الْآيَة ناسخة للْوَصِيَّة الْمَكْتُوبَة عَلَيْهِم فِي قَوْله ﴿كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت﴾ الْآيَة فَلَمَّا نسخ الْوَصِيَّة الْمَاضِيَة واستأنف حكما
1 / 33
آخر جَاءَ بِلَفْظ الْفِعْل المستأنف تَنْبِيها على نسخ مَا مضى والشروع فِي حكم آخر فَقَالَ ﴿يُوصِيكُم الله﴾
وَجَاء بِالِاسْمِ الظَّاهِر وَلم يقل أوصيكم وَلَا نوصيكم كَمَا قَالَ ﴿نتلوها عَلَيْك﴾ و﴿نقص عَلَيْك﴾ لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيم هَذِه الْوَصِيَّة والترهيب من إضاعتها كَمَا قَالَ ﴿يعظكم الله﴾ و﴿ويحذركم الله نَفسه﴾ فَمَتَى أَرَادَ تَعْظِيم الْأَمر جَاءَ بِهَذَا الِاسْم ظَاهرا لِأَنَّهُ أهيب أَسْمَائِهِ وأحقها بالتعظيم وَالله أعلم فصل
فِي سر اخْتِيَار لفظ الْوَلَد دون الابْن
وَقَالَ ﴿فِي أَوْلَادكُم﴾ وَلم يقل فِي أَبْنَائِكُم لِأَن لفظ الْولادَة هُوَ الَّذِي يَلِيق بِمَسْأَلَة الْمِيرَاث فَفِي تَخْصِيص هَذَا اللَّفْظ فقه وتنبيه أما الْفِقْه فَإِن الْأَبْنَاء من الرضَاعَة لَا يَرِثُونَ لأَنهم لَيْسُوا بأولاد وَكَذَلِكَ الابْن المتبنى فقد كَانَ رَسُول الله ﷺ تبنى زيدا قبل النّسخ للتبني فَكَانَ يَقُول أَنا ابْن مُحَمَّد
1 / 34
وَلَا يَقُول أَنا ولد مُحَمَّد وَلذَلِك قَالَ سُبْحَانَهُ ﴿وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم﴾ لِأَن الْوَلَد لَا يكون إِلَّا من صلب أَو بطن غير أَن لفظ الْأَوْلَاد يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث حَقِيقَة فَلذَلِك عدل عَنهُ إِلَى لفظ الْأَبْنَاء فِي آيَة التَّحْرِيم وَأما فِي آيَة الْمَوَارِيث فجَاء بِلَفْظ الْأَوْلَاد تَنْبِيها على الْمَعْنى الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ حكم الْمِيرَاث وَهُوَ التولد فالماء حَيَاة الْبشر كَمَا أَن المَاء حَيَاة الشّجر وَلذَلِك عبر فِي الرُّؤْيَا بِالْمَاءِ عَن المَال وَهُوَ يسري من الأَصْل إِلَى الْفَرْع الْمُتَوَلد مِنْهُ أَشد من سريان المَاء من الْفَرْع إِلَى الأَصْل وَلذَلِك كَانَ سَبَب الْوَلَد فِي الْمِيرَاث أقوى من سَبَب الْوَالِد لِأَن الْوَلَد فرع متولد فاليه يسري المَال أقوى من سريانه إِلَى الْأَب وَهَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه مَرْوِيّ عَن زيد بن ثَابت حيت كَلمه عمر رَضِي اله عَنهُ فِي مِيرَاث الْجد مَعَ الْإِخْوَة فَضرب لَهُ الْمثل فِي الشَّجَرَة لَهَا فرعان وَفِي الْفَرْع الْوَاحِد غصنان فَإِن قطع أحد الغصنين سرت الْقُوَّة وَالْمَاء إِلَى الْغُصْن الْبَاقِي فصل
فِي الموازنة بَين الْجد وَالْأَخ وَفِي دلَالَة الْوَلَد
وَإِذا ثَبت هَذَا فالجد إِذا الأَصْل وَالْأَخ أقوى سَببا لِأَنَّهُ يُدْلِي
1 / 35
بِوِلَادَة الْأَب لَهُ وَقد تقدم أَن الْولادَة أقوى الْأَسْبَاب فَإِن قَالَ الْجد وَأَنا أَيْضا ولدت الْمَيِّت قيل لَهُ إِنَّمَا ولدت وَالِده وَولده قد ولد الْإِخْوَة فَصَارَ سببهم قَوِيا وَإِنَّمَا لم يحجبوا الْجد بِهَذِهِ الْقُوَّة لِأَن الْجد أصل وَولد الْوَلَد ولد غير أَن الْوَلَد أَحَق مِنْهُ مَا دَامَ حَيا
وَقد اخْتلف هَل يَقع على ولد الْوَلَد اسْم الْوَلَد حَقِيقَة أَو مجَازًا وَالَّذِي عِنْدِي أَنه حَقِيقَة وَلَكِن الْوَلَد أقرب من ولد الْوَلَد وَإِن شَاركهُ فِي الِاسْم لِأَن ولد الْوَلَد لم يكن ولدا للْجدّ إِلَّا بِوَاسِطَة الْوَالِد
فَإِن قيل فَإِن تصدق بِصَدقَة على وَلَده أَكَانَ يشاركهم فِيهَا ولد الْوَلَد
قُلْنَا أما الصَّدَقَة فالغرض بهَا التَّمْلِيك فَلَا يتَنَاوَل ولد الْوَلَد إِلَّا بتبيان من الْمُتَصَدّق مُخَصص عُمُوم اللَّفْظ بِقَرِينَة الْغَرَض والمقصد بِخِلَاف التحبيس فَإِن الْمَقْصد بِهِ التعقيب دون التَّمْلِيك فَتَنَاول الْوَلَد وَولد الْوَلَد مَا تعاقبوا
1 / 36
فصل
فِي الموازنة بَين الْبُنُوَّة والولادة
فَإِذا فهمت هَذَا علمت أَن لفظ الْبُنُوَّة أوسع من لفظ الْولادَة لِأَن الْمَقْصُود بهَا الدعْوَة وَالنّسب فَإِذا نسبت فقد تنْسب إِلَى وَالِد وَغير وَالِد أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى ﴿وَابْن السَّبِيل﴾ فنسب إِلَى السَّبِيل وَلَيْسَ بوالده وَكَذَلِكَ قَوْلهم ابْن آوى وَابْن عرس وَبَنَات أوبر للكمأة وَبَنَات نعش فِي النُّجُوم وَلَا يحسن فِي شَيْء من هَذَا لفظ الْوَلَد فَمن هَذَا لم ير زيد ﵀ حجَّة لمن قَالَ من الصَّحَابَة إِن الْجد كَالْأَبِ كَمَا أَن ابْن الابْن كالابن لقَوْله سُبْحَانَهُ ﴿يَا بني آدم﴾ و﴿يَا بني إِسْرَائِيل﴾ وَلقَوْله ﴿مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم﴾ لِأَن هَذَا نسب وتعريف وَلَو ذكر الْولادَة لَكَانَ لَهُم فِيهَا حجَّة ومتعلق لما قدمْنَاهُ من الْمَقْصُود بِلَفْظ الْوَلَد وَلَفظ الابْن وَفرق مَا بَينهمَا وَالْولد يَقع على الذّكر
1 / 37
وَالْأُنْثَى وَالْوَاحد وَالْجمع بِخِلَاف الابْن لِأَنَّهُ على وزن فعل كَالْقَبْضِ والنفض وَالْخلف وَهُوَ قَابل لصورة الْفِعْل من المفعولات فَالْوَلَد مَوْلُود قَابل لصورة الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْولادَة كَمَا أَن النفض من الْوَرق قد قبل صُورَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ النفض فَوَقع على الْوَاحِد والجميع من أجل ذَلِك
غير أَنه قَالَ فِي الْآيَة ﴿فِي أَوْلَادكُم﴾ فَجمع الْوَلَد لِإِضَافَتِهِ إِلَى ضمير الْجمع وَلَو كَانَ مُضَافا إِلَى ضمير الْوَاحِد لجاء بِلَفْظ الْإِفْرَاد وَإِن عَنى الْجمع لقَوْله ﵇ أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وَلم يقل أَوْلَاد آدم فافهمه
وَمن الْفَوَائِد لفظ الْوَلَد دلَالَته على أَن الْجَنِين والسقط المستهل يَرث لِأَنَّهُ ولد قد تولد وقلما يُقَال فِي مثله ابْن فلَان حَتَّى يكبر فينسب إِلَى الْأَب لِأَن لفظ الْبُنُوَّة كَمَا قدمنَا مَوْضُوع للنسب بِخِلَاف لفظ الْوَلَد أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ فِي الْأَنْسَاب ابْن فلَان بن فلَان بن فلَان فصل
فِي استنباط حكم العَبْد وَالْكَافِر من الْآيَة
وَقَوله ﴿فِي أَوْلَادكُم للذّكر﴾ تضمن أَن لَا يَرث الْوَلَد العَبْد الْأَب الْحر
1 / 38
لقَوْله ﴿فِي أَوْلَادكُم﴾ بِإِضَافَة التَّعْرِيف وَلم يقل يُوصِيكُم الله فِيمَا ولدتم وَعرف الْأَوْلَاد بِالْإِضَافَة إِلَى والديهم وَالْعَبْد لَا يعرف بِالْإِضَافَة إِلَى وَالِده إِنَّمَا يُقَال فِيهِ عبد فلَان ومملوك فلَان فَيعرف بِالْإِضَافَة إِلَى سَيّده وَيُقَال فِي ولد الْحر ولد فلَان وَابْن فلَان فَدلَّ ذَلِك على انْقِطَاع الْمِيرَاث بَينهمَا
وتضمن هَذَا الْفِقْه أَيْضا قَوْله ﴿للذّكر﴾ بلام التَّمْلِيك لِأَن لَام الْإِضَافَة هَهُنَا إِنَّمَا هِيَ لإضافة الْملك وَالْعَبْد لَا يملك ملكا مُطلقًا لِأَن السَّيِّد لَهُ أَن ينتزع مَاله مِنْهُ وَأكْثر الْعلمَاء يَقُولُونَ لَا يملك بِحَال من الْأَحْوَال فعلى كلا الْوَجْهَيْنِ لَا يَصح أَن يدْخل العَبْد فِي عُمُوم هَذَا اللَّفْظ أَعنِي قَوْله ﴿للذّكر﴾ وَلَا فِي قَوْله ﴿ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس﴾
وَإِذا منع الرّقّ من الْمِيرَاث فأحرى أَن يمْنَع الْكفْر لِأَن الرّقّ أثر الْكفْر والسباء الَّذِي أوجبه الْكفْر فَخرج من هَذَا أَن لَا يَرث الْكَافِر الْمُسلم فصل
فِي استنباط حكم الذّكر مُطلقًا
وَقَوله ﴿للذّكر﴾ بِالْألف وَاللَّام الَّتِي للْجِنْس مَعَ اللَّفْظ الْمُشْتَقّ من الذُّكُورَة
1 / 39
يدل على الْعُمُوم وعَلى تَعْلِيق الحكم بالصفحة الَّتِي من الذُّكُورَة فَلَو قَالَ للذّكر مِنْهُم مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لَكَانَ هَذَا الحكم مَقْصُورا على الْأَوْلَاد دون غَيرهم فَلَمَّا لم يقلهُ دخل فِيهِ الْإِخْوَة فَكَانَ للذّكر مِنْهُم حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ إِذا ورثوا وَكَذَلِكَ الأبوان للْأُم الثُّلُث وَللْأَب الثُّلُثَانِ إِذا ورثا لعُمُوم قَوْله ﴿للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
فَإِن قيل قد تقدم ذكر الْأَوْلَاد فَمن هُنَاكَ اسْتغنى عَن أَن يَقُول مِنْهُم
قُلْنَا لَو قَالَ مِنْهُم لَكَانَ لفظا يخصص الْعُمُوم تَخْصِيصًا أقوى من تَخْصِيص ذَلِك الْمَعْنى لِأَن دَلِيل اللَّفْظ أقوى من دَلِيل الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَيْسَ من لفظ إِلَّا وَهُوَ مُتَضَمّن لِمَعْنى فَصَارَ أقوى من معنى دون لفظ كَمَا فِي صناعَة النَّحْو الْعَامِل اللَّفْظِيّ أقوى من الْمَعْنَوِيّ فَافْهَم هَذَا فِي صناعَة الْأُصُول
وَاعْلَم أَن خُصُوص أول الْكَلَام لَا يمْنَع من عُمُوم آخِره إِذا كَانَت صيغته صِيغَة الْعُمُوم مثل مَا فِي هَذَا الْموضع وَهُوَ قَوْله ﴿للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فصل
فِي نصيب البنتين
وَقَوله ﴿مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ بلام التَّعْرِيف الَّتِي للْجِنْس دلّ على أَن الْأُنْثَيَيْنِ
1 / 40
قد استحقتا الثُّلثَيْنِ إِذْ الْأُنْثَى الْوَاحِدَة لَهَا مَعَ الذّكر الثُّلُث فَإِذا لم يكن ثمَّ ذكر وَكَانَت اثْنَتَانِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ بِهَذَا اللَّفْظ القرآني فَإِذا ثَبت هَذَا فَمن ثمَّ قَالَ ﴿فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ﴾ مُبينًا لحكم الثَّلَاث وَمَا هُوَ أَكثر مِنْهُنَّ مستغنيا عَن بَيَان حكم الاثنتين لِأَنَّهُ قد بَينه بِدلَالَة اللَّفْظ كَمَا تقدم
وَظن كثير من النَّاس أَن تَوْرِيث الثُّلثَيْنِ للبنتين إِنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ على الْأُخْتَيْنِ وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا عرف ذَلِك بِالنِّسْبَةِ الْوَارِدَة وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا عرف من الفحوى لَا من اللَّفْظ لِأَن الْوَاحِدَة إِذا كَانَ لَهَا الثُّلُث مَعَ الذّكر فأحرى أَن يكون لَهَا الثُّلُث مَعَ عدم الذّكر
وَالَّذِي عِنْدِي أَن اللَّفْظ مغن عَن هَذَا وكاف شاف لما قدمْنَاهُ وَالْحَمْد لله فصل
فِي مرجع الضَّمِير فِي كن
وَقَوله تَعَالَى ﴿فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ﴾
1 / 41
قد يُقَال لم كنى بضمير الْجمع الْمُؤَنَّث وَلم يتَقَدَّم مَا يعود عَلَيْهِ فِي اللَّفْظ
قُلْنَا لَو تقدم ذكر جمع مؤنث فِي اللَّفْظ لاستغنى أَن يَقُول ﴿نسَاء﴾ ولقال فَإِن كن فَوق اثْنَتَيْنِ كَمَا قَالَ فِي الْأَخَوَات ﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ لِأَنَّهُ قد تقدم ذكر أُخْت وَلم يتَقَدَّم هُنَا إِلَّا ذكر الْأَوْلَاد فَقَالَ الطَّبَرِيّ حاكيا عَن الْكُوفِيّين بِعُود الضَّمِير على المتروكات كَأَنَّهُ قَالَ المتروكات وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل وَضعف قَول من قَالَ يعود على الْوَلَد لِأَن الْوَلَد يجمع الْمُذكر والمؤنث والمذكر يغلب على الْمُؤَنَّث فِي الْجمع
وَالَّذِي اخْتَارَهُ عِنْدِي غير صَحِيح لِأَنَّهُ فِيهِ عود الضَّمِير على مَا لَيْسَ فِي اللَّفْظ وَترك اللَّفْظ الظَّاهِر وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم تَغْلِيب الْمُؤَنَّث على الْمُذكر لَو عَاد الضَّمِير على جملَة الْأَوْلَاد وَإِنَّمَا يعود على الْبَعْض وَذَلِكَ الْبَعْض هم النِّسَاء وَالِاسْم الْمُضمر هُوَ الظَّاهِر والمتكلم لَا يُرِيد سوى ذَلِك الِاسْم وَعنهُ يخبر وَحكمه يُرِيد أَن يبين فَلذَلِك قَالَ ﴿كن﴾ كَمَا قَالَ ﴿وَإِن كَانَت وَاحِدَة﴾ فجَاء بضمير الْوَاحِدَة الَّتِي يُرِيد
1 / 42
أَن يبين حكمهَا وَهِي ولد كَمَا أَن النِّسَاء ولد وَهَذَا بَين
وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ من كَانَت أمك بِالنّصب فأنث الِاسْم الأول لِأَنَّهُ هُوَ الْأَخير فِي الْمَعْنى وأعجب من هَذَا قَوْلهم إِنَّه قَامَ زيد وَإِذا أخبروا عَن الْمُؤَنَّث قَالُوا إِنَّهَا قَامَت هِنْد فأنثوا ليشاكل أول الْكَلَام آخِره وَإِن لم يكن الِاسْم الأول هُوَ اثاني
فَإِن قلت إِنَّمَا هُوَ ضمير الْقِصَّة
قُلْنَا وَإِن كَانَ ضمير الْقِصَّة فقد اختاروه على ضمير الْأَمر فِي هَذَا الْموضع للمشاكلة قَالَ الله سُبْحَانَهُ ﴿فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار﴾ وَلم يقل إِنَّه وَقَالَ ﴿إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل﴾ وَنَحْو من الأول قَوْلهم بحسبك زيد فأدخلوا الْبَاء على حسب وهم يُرِيدُونَ زيدا لِأَنَّهُ هُوَ ويعضد هَذَا قَول الشَّاعِر
1 / 43
أَلَيْسَ عجيبا بِأَن الْفَتى ... يصاب بِبَعْض الَّذِي فِي يَدَيْهِ
فَأدْخل الْبَاء على اسْم لَيْسَ وَإِنَّمَا موضعهَا الْخَبَر لِأَنَّهُ هُوَ وَقَول الراجز عَن الْكَرِيم وَأَبِيك يعتمل ... ان لم يجد يَوْمًا على من يتكل ... وَكَانَ حَقه أَن يَقُول من يتكل عَلَيْهِ فَأدْخل الْحَرْف على الأول لِأَنَّهُ هُوَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ جَاءَ بضمير جمَاعَة الْمُؤَنَّث عَائِدًا على الْأَوْلَاد لِأَنَّهُ لم يرد مِنْهُم إِلَّا النِّسَاء وَالَّذِي أضمر هُوَ الَّذِي أظهر وَلَا معنى لإنكار من أنكر فصل
فِي مُتَعَلق الْجَار فِي قَوْله تَعَالَى من بعد وَصِيَّة
وَقَوله ﴿فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك﴾ يَعْنِي مَا ترك الْمَالِك وَلم يتَقَدَّم لَهُ ذكر وَلَكِن لما كَانَ الْكَلَام فِي معرض الْبَيَان لقسم الْمَوَارِيث علم أَن الضَّمِير عَائِد إِلَى الْمَوْرُوث
وَقَوله ﴿ترك﴾ أَي خلف وَلَيْسَ التّرْك هَهُنَا بِفعل وَقد يكون التّرْك فعلا يُثَاب
1 / 44
عَلَيْهِ صَاحبه أَو يُعَاقب كَتَرْكِ الطَّاعَة أَو ترك الْمعْصِيَة لِأَنَّهُ لَا جَزَاء إِلَّا على فعل وَأما هَهُنَا فالترك عبارَة عَمَّا خلف الْمَيِّت أَي يبْقى بعد ارتحاله فَعبر بِالتّرْكِ مجَازًا من مجَاز التَّشْبِيه لشبه حَاله بِحَال الْمُسَافِر فَإِنَّهُ يتْرك مَا يتْرك لأَهله ويسير
وَإِذا ثَبت هَذَا فَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق حرف الْحر من قَوْله فِي آخر الْآيَة ﴿من بعد وَصِيَّة﴾ ب ﴿ترك﴾ وَإِن كَانَ يَلِيهِ فِي الْفظ ظَاهرا وَلذَا تعلقه بالاستقرار الْمُضمر فِي قَوْله ﴿فَلَهُنَّ ثلثا﴾ أَي اسْتَقر لَهُنَّ الثُّلُثَانِ من بعد وَصِيَّة أَي من بعد إِخْرَاج وَصِيَّة
وَيمْتَنع أَيْضا تعلق حرف الْجَرّ بترك لوجه آخر نذكرهُ فِي آخر الْمَسْأَلَة إِن شَاءَ الله
فَإِن قيل مَا فَائِدَة هَذَا النَّحْو فِي هَذَا الْموضع وَمَا فقهه تعلق بِالتّرْكِ أَو لم يتَعَلَّق
قُلْنَا فقه ذَلِك أَن الْكَفَن وجهازالميت لَيْسَ للْوَرَثَة فِيهِ حق لِأَن حَقهم لم يجب لَهُم إِلَّا بعد مَوته وَبعد إِخْرَاج الْوَصِيَّة وَالدّين وَلم جعلنَا حرف الْجَرّ مُتَعَلقا ب ﴿ترك﴾ لَكَانَ الْمَعْنى مُجملا غير مُبين ولكان مَا ترك بعد مَا أوصى يدْخل فِيهِ الْكَفَن وَغَيره لِأَن الْوَصِيَّة إِنَّمَا هِيَ قبل الْمَوْت وَلَو وَجب لَهُم ذَلِك بأثر الْوَصِيَّة وَمن بعد تَركه لما ترك أَن يوصى فِيهِ كَانَ الْكَفَن لَهُم وَلَو كَانَ لَهُم لم يجبروا على تكفينه ولكانوا بِمَا كفنوا مَأْجُورِينَ على إحسانهم بهَا وَلَيْسَ الْأَمر على ذَلِك بِإِجْمَاع وَيدل على ذَلِك أَيْضا قَوْله ﴿يُوصي﴾ وَلم يقل يوصيها وَذَلِكَ لِأَن الْوَصِيَّة
1 / 45