فرح أنطون‏

الكاتب الشرقي وحاجاته الجديدة‏

إنشاء الروايات العربية‏

الروايات وأنفعها لنا‏

بين الفصحى والعامية‏

اللغة العربية الجديدة‏

أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية‏

الشبان وخطرهم وما يجب لهم‏

تربية المرأة‏

تربية البنات‏

عمر الخيام‏

ابن رشد وفلسفته‏

الفيلسوف باكون والشاعر شكسبير‏

سوريا حلقة التمدن‏

إسكندر الكبير‏

عبادة الإنسان النبات‏

خطبة لدى شلال نياغرا‏

مريم وشيشرون‏

الوحش! الوحش! الوحش!‏

فرح أنطون‏

الكاتب الشرقي وحاجاته الجديدة‏

إنشاء الروايات العربية‏

الروايات وأنفعها لنا‏

بين الفصحى والعامية‏

اللغة العربية الجديدة‏

أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية‏

الشبان وخطرهم وما يجب لهم‏

تربية المرأة‏

تربية البنات‏

عمر الخيام‏

ابن رشد وفلسفته‏

الفيلسوف باكون والشاعر شكسبير‏

سوريا حلقة التمدن‏

إسكندر الكبير‏

عبادة الإنسان النبات‏

خطبة لدى شلال نياغرا‏

مريم وشيشرون‏

الوحش! الوحش! الوحش!‏

فرح أنطون

فرح أنطون

حياته - أدبه - مقتطفات من آثاره

فرح أنطون

1874-1922

كان في الثانية عشرة من عمره عندما دخل مدرسة بكفتين يتلقى فيها العلم؛ وهي مدرسة للروم الأرثوذكس بقضاء الكورة في دير فوق طرابلس. وكانت يومئذ على جانب من الرقي والازدهار، تعلم العلوم والآداب والفقه الإسلامي، واللغات العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية، ومع أنها مدرسة طائفية فلم تصطبغ بها أسرتها التعليمية، بل كانت خليطا لا ينتمي إلى طائفة واحدة؛ فالرئيس بروتستنتي، والمدير والناظر مارونيان، وأستاذ العربية والفقه مسلم، ولم يكن فيها سوى معلم أرثوذكسي واحد، كما يخبرنا فرح أنطون في مجلته «الجامعة»، فأقبل إليها الطلاب على اختلاف النحل، تسودهم الألفة والمودة، فتركت هذه المدرسة المختلطة أثرا بليغا في نفسه لبعدها عن التعصب الديني، ويقول في ذلك: «وإنما الأثر الذي أشرت إليه أثر أدبي لم يبرح نفسي قط، ولعله كان ذا تأثير على أفكاري في كل حياتي.» ا.ه.

ولزم الفتى الناشئ هذه المدرسة إلى السنة السادسة عشرة من عمره، فأتقن فيها العربية والفرنسية، وطرفا صالحا من العلوم. وكان لا يميل إلى الإنكليزية فأعرض عنها، وسخر برفاقه الذين يعنون بها دون الفرنسية، إلا أنه ندم على تنكره لها بعدما سافر إلى الولايات المتحدة وشعر بالحاجة الملحة إليها.

وكان شديد الشغف بالآداب الفرنسية، فأكب على مطالعة مصنفات أعلامها منهوما لا يشبع، وجليدا لا يهي له صبر أو يعتريه ملل، فكان من أكثر الأدباء حبا للقراءة، كما يشهد على ذلك الكتب المتنوعة التي نقلها إلى العربية أو لخصها، أو بحث فيها دارسا منتقدا. ويخبرنا عن نفسه أنه صرف عمره في درس الفرنسية، وقرأ فيها ما لا يقرؤه غيره في مائة سنة.

ولم تقتصر مطالعاته فيها على ما أنتجه أبناؤها، بل شملت جانبا مما نقل إليها من آداب الألمان والإنكليز والروس، فكانت له ثقافة غربية متسعة أضافها إلى ثقافته العربية والشرقية، وهي في جوهرها عقلية أكثر منها أدبية؛ فقد كان ينزع إلى حياة الفكر، فيعنى بالفلسفة والتاريخ والاجتماع والدين، وإن لم يهمل الأدب والفن، ولا سيما القصص والتمثيل.

على أن هذه الثقافة المأخوذة من مطالعات سريعة غير متئدة، فوضوية غير منتظمة، متنوعة غير محدودة، مفرطة غير معتدلة، لا يسهل في الغالب هضمها على ملتهمها، فتحدث له اضطرابا في الحفظ، وارتجاجا في التفكير، لا يقتدر معهما على التأمل الصحيح ليبني رأيا ثابتا بعد التدقيق والتمحيص، فيصبح عرضة للتأثرات الطارئة عليه من كل كتاب يقرؤه، أو مذهب ينتهي إليه.

وهذا ما نجده عند فرح أنطون في أبحاثه وقصصه؛ فقد كان متأثرا بروح الثورة الفرنسية، على ما فيها من حسن وقبيح، يلذ له أن يشاكس رجال الدين وأرباب الأموال، وينادي بالمساواة وحرية الفكر وحقوق الإنسان، ولكنه لا يتنكر لسنة تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعي، وسيادة الأفضل. ويكتب عن ابن رشد معجبا بآرائه في أزلية المادة، ملخصا أقوال رينان فيه، ويتطرف إلى بحث ديني جعل الشيخ محمدا عبده يناظره ويرد عليه. وكان - مع ذلك - يميل إلى رأي الغزالي في فصل الدين عن الفلسفة؛ لأن الدين ينبجس من القلب، والفلسفة من العقل. ولخص تاريخ المسيح وأعمال الرسل لرينان، وتحمس له كثيرا وانتحل مذهبه في إنكار المعجزات، دون أن يحاول درسه ونقده ليتبين له الصحيح من الفاسد، على أنه لم يكن معطلا للدين في حقيقته الإلهية، ولا واقعا في الجحود المطلق، ويؤثر الاشتراكية الإنجيلية على الاشتراكية المادية.

ومثل هذا الاضطراب نجده في قصته: «العالم الجديد، أو مريم المجدلية»، فإن خطبة شيشرون مستوحاة من مذهب نيتشه في إتلاف الضعيف، وتحقير الرحمة، وتعظيم القوة والصراع. وخطبة مريم في الرد عليه ترمي إلى تحطيم هذا المذهب، وتدعو إلى رحمة الضعيف كما يدعو إليها الدين.

وله قصيدة عنوانها «على جبل» نظمها في نيويورك، وجعلها بين نيتشه وتولستوي، فذكر أقوال الفيلسوف الألماني في نبذ الشرائع الدينية، وتغليب القوي على الضعيف، ولكنه احترس منها بقوله:

هذا كلام نيتش إن نيتش كا

ن مقوم المعوج والمناد

في زعم بعض الناس. أما مذهبي

فيه، فأبقيه إلى ميعاد

ثم ذكر أقوال الفيلسوف الروسي في نقض آراء معطل الشرائع، وقاتل الرحمة، حتى إذا سكت الفيلسوفان لم يستفد صاحبنا منهما إلا التحير والارتجاج:

لم تستفد غير التحير منهما

فجميعها أمسى أبا مرقال

وكذلك قصة الدين والعلم والمال، حاول أن يشرح فيها المشكلة الاجتماعية بين العمال وأصحاب رءوس المال، فبنى لها ثلاث مدن متجاورة تتجادل وتتخاصم وتتشاتم، فلم يجد وسيلة للتوفيق بينها، فدمرها كلها وتركها خرابا.

كان فرح أنطون وافر الذكاء، متقد الخاطر، واسع الاطلاع على مذاهب روسو، ورينان، وفولتير، وكونت، وداروين، ونيتشه، وماركس، وتولستوي، وابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام وسواهم، فنقل من مصنفاتهم، ولخص آراءهم وحللها، وأحبها كلها، وأشاد بذكرها، وأراد الإصلاح والحرية والخير للإنسان، ولكنه اضطرب في آرائه، وارتج عليه، فلم يقم له مذهب شخصي، ولا نظام فلسفي مترابط، مع ميله إلى الحياة الفكرية، واتسع نشاطه الأدبي إلى القصص والمسرحيات تصنيفا وترجمة، وتشبه بكتاب الفرنجة والروس، فجعل ما صنفه منها وسيلة لبث آرائه الدينية والاجتماعية، فغلبت عليه الخطب والمواعظ والمجادلات، فضعفت في قصصه الميزة الأدبية والفنية.

ولغته سهلة غير متكلفة، لا يعنى باختيار ألفاظها، وحسن تنزيلها، فهي أشبه بلغة الجرائد، وكان يؤثر هذا الأسلوب في الكتابة ويدعو إليه، ويتنكر لتنميق العبارة وتنخلها. ولعل مرد ذلك إلى شغفه بالثقافة العقلية، ثم إلى سرعته في العمل، وكثرة اشتغاله بالتأليف والنقل وتحبير «الجامعة»، فلم تنحسر له أسرار الألفاظ كما انحسرت له أسرار المعاني، وفاتته ملكة التعبير، فلم يدرك جماله كما أدرك جمال التفكير.

وظل يتعهد مجلته «الجامعة» في الإسكندرية حينا، وفي الولايات المتحدة آخر، ويعالج الأبحاث الاشتراكية تصنيفا وترجمة، ويتوفر على القصص والتمثيل حتى تهدمت بنيته وانهارت قواه، ويخبرنا عن نفسه فيقول: «رأيت في بعض الليالي الفجر يطلع علي وأنا وراء مائدة العمل.» فتوفي في مصر وهو دون الخمسين من عمره.

بطرس البستاني

عن: مناهل الأدب العربي، رقم 29

الكاتب الشرقي وحاجاته الجديدة

لكل عصر حاجات، ولو كان العصر اليوم كعصر الهمذاني والزمخشري وابن المقفع والمتنبي، لما كان لأحد أن يذكر للكتاب حاجات جديدة؛ فإن الهمذاني كان يزور خراسان مثلا فينشد بضعة أبيات، ويكتب بضع رسائل، فيعود ممتلئ الأردان، والمتنبي كان يقول قصيدة واحدة فيعطى من أجلها ألوف الدنانير. ومتى كانت سوق الأدب رائجة إلى هذا الحد، فذلك دليل على وجود الاتفاق التام في أذواق القائلين والسامعين.

ولو أن العصر بقي كما كان في أيام من أشرنا إليهم؛ لجاز أن يقال لأدباء اليوم: تحدوا سابقيكم، واقتدوا بمتقدميكم. وحينئذ كان هذا الاقتداء أمرا معقولا مقبولا، ولكن العصر قد تغير من حسن الحظ، ولم يعد المقصود من الأدب وصناعته مدح الملوك والأمراء أو العظماء، بل صار يقصد به أمر أسمى من هذا كثيرا، ونريد بذلك تكوين الأمم، وتكبير نفوسها، وإنهاض ضعفائها، وترقية شئونها.

كان المتنبي لا ينظم شعره إلا لممدوحه ولطبقة الشعراء والمتأدبين، وكان يظن أن هؤلاء الشعراء والمتأدبين هم الدنيا كلها، بدليل قوله: «إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا.» مع أن هؤلاء الشعراء والمتأدبين كانوا جزءا صغيرا من الأمة. أما اليوم فالكاتب العصري عليه أن يكتب لمجموع الأمة كبارا وصغارا، أغنياء وفقراء، رجالا ونساء، تجارا وصناعا وزراعا وأدباء؛ أي إن الأدب والعلم أفلتا من قيدهما القديم الذي كان يحصرها في طبقة واحدة لغرض التسلية والطرب، واندفعا نحو جميع الطبقات لأغراض عمومية يقصد بها فوائد أدبية وعملية؛ فنتج عن ذلك أن رواج الأدب لم يعد متوقفا على طرب أمير كسيف الدولة، ولا على جود الملوك والخلفاء، بل على تأثير أقوال الكاتب في الجمهور الذي صار السيد الحقيقي على الأدب والأدباء؛ فوظيفة الكاتب إذا أن يحسن التأثير في نفوس هذا الجمهور.

وإن قيل إن الملوك والأمراء قد يؤثرون أعظم تأثير في ترويج الأدب لمساعدتهم أهله، فنجيب: إن هذا القول صحيح متى كانوا يقصدون بمساعدتهم لهم مجرد إنماء مواهبهم لتنتفع الأمة بها، ولكن إذا كانوا يقصدون بذلك تقييد تلك المواهب بهم لتنشر نور مجدها عليهم وعلى أعمالهم بالمدح والثناء، فإن الحال تتغير تغيرا عظيما، خصوصا متى كانت مصلحة الملك مخالفة لمصلحة الأمة. ذلك أن صاحب تلك المواهب لم يعط مواهبه من الله ليجعلها وقفا لفرد واحد، ولو كان ملكا، بل أعطيها ليخدم بها جميع بني جنسه، فإذا خطر له وقفها على واحد أو جماعة أو طائفة أو مذهب دون غيره، فإنه بذلك ينقض العهد الذي أعطاه على نفسه وهو في بطن أمه، حين أخذ تلك المواهب عن طريق الطبيعة من يد العناية الإلهية، وحينئذ يقع بين نارين: إما دوس مصلحة الأمة من أجل مصلحة ملكها، وإما ترك الملك وقيوده الذهبية مختارا عليها معيشة الفقر والحرية مع الأمة.

ولا ريب في أن أولئك الكتاب والشعراء المتقدمين الذين كانوا يتزاحمون على أبواب الخلفاء والأمراء، ويتنافسون في إطراء ممدوحيهم، ووضعهم أحيانا في مرتبة الآلهة، ليستدروا منهم ألوف الدراهم والدنانير - تلك الأموال التي كانت مأخوذة من دماء الشعوب والأمم بطرق مختلفة - لو علموا أنهم وجدوا لمساعدة الشعوب والأمم، لا لمساعدة ملوكها على ابتزاز أموالها، ومشاركتهم بعد ذلك فيها بطرق تشبه طرق الشحاذة؛ لعلموا أنهم أضاعوا مواهبهم في غير وجوهها، ولم يأكلوا مالا حلالا.

ومتى ثبت أن أول أغراض الأدب والعلم ترقية الأمم وإنهاض الشعوب؛ ترتب علينا أن نعلم حاجات الكاتب الشرقي الجديدة في هذا العصر.

الحاجة الأولى:

وعندنا أن أولى حاجات الكاتب الجرأة والحرية، ونريد بذلك حرية الفكر والنشر، وتحت الحرية تدخل فضائل كثيرة، فإنه متى كان الكاتب يكتب بحرية واستقلال فكر، فإنه يكون صادقا منصفا عادلا قليل الشذوذ والشرود. ويشترط في ذلك أن تكون الحرية مطلقة في أقواله، لا أن يتكلم بحرية في هذا الموضوع لأن الحرية فيه موافقة لمصلحته، ويداهن ويصانع في ذاك لأن الحرية فيه مخالفة لمصلحته. وكل إنسان يعذر الكاتب

المداراة القانونية، ولكن ما عذر الكاتب الذي يعيش في بلاد أقلامها مطلقة؟ لا عذر له

مدح ما يستحق الذم، وذم ما يستحق المدح، وحينئذ يخرج عن دائرة الوظيفة الحقيقية التي توجد لها الصحافة، وتثقف لها الأقلام.

ولسنا ننكر أن هذه الحالة شائعة في كل العالم؛ لأنها حالة عمومية؛ إذ كل إنسان يطلب تأييد مصلحته قبل كل شيء؛ ولذلك كانت أكثر صحافة أوروبا نفسها مبنية على المصلحة. قال أحد كتابهم في الشهر الماضي: إن جرائدنا صارت عبارة عن وباء حقيقي، فإن المدح والذم يكالان فيها بلا عدل، وقد قتلوا الانتقاد الصحيح المبني على الصدق وحرية الفكر، ووضعوا في مكانه أوراقا يرسلها المؤلفون وأصحاب الكتب، فإذا قرأت انتقاد كتاب، فاعلم أن أكثره مكتوب بقلم المؤلف نفسه أو بقلم صديق له. نقول: ولكن إذا كان في الغرب جرائد هذه حالها، ففيه أيضا جرائد كالتيمس، والطان، وبرلنر تاجبلاط لا يمكن أن يلحقها شيء من هذا الغبار. فنحن نرجو أن تقوى في الشرق صحافة جدية مستقلة كهذه الصحافة؛ لتخرج من الدائرة التجارية المحضة إلى الدائرة الصحافية الحقيقية. ويلوح لنا أن ذلك لا بد منه، وإلا بطل كل تأثير لها في القراء؛ لأن الأقوال لا تؤثر إلا متى كانت خارجة من القلب والضمير.

الحاجة الثانية:

ورب قائل يقول: ماذا يحل بالأفكار في الشرق إذا كان كل كاتب فيه يبسط آراءه بكل حرية دون مراعاة ما هو معروف من تعدد العناصر؟ فنجيب: لا يحل بالأفكار سوء؛ لأن التساهل كالماء يخمد كل حدة وكل نزق، فالحاجة الثانية: التساهل. وليس المراد بالتساهل أن يكون ما يكتبه الكاتب موافقا لكل الآراء، وكل العناصر، وكل المذاهب. كلا، فإن هذا التساهل يفني قوى الكاتب، ويذهب بتعبه أدراج الرياح، ويشوه الحقائق أقبح تشويه. ولقد سمعنا مرة بعضهم يقول: إن موقف الكاتب الشرقي صعب جدا في هذا العصر؛ لأنه يكتب للمصري والشامي والجزائري والتونسي والهندي والفارسي والأفغاني والقوقازي إلخ إلخ؛ ولذلك يجب عليه ألا يكتب إلا ما يرضي الجميع. فضحكنا عند سماعنا هذا الكلام وقلنا: إن وظيفة الكاتب أسمى من ذلك بكثير. أجل، ليست وظيفة الكاتب بتر الحقيقة هنا، وتمويه الكلام هناك إرضاء لهذا أو ذاك، بل وظيفته أن يقول الحق، وينطق بالصدق في أي جانب كان، لكن يشترط عليه في ذلك شرط لا بد منه، وهو أن يترك دائما للقارئ الحكم في المسائل التي يبسطها؛ لأن القارئ قلما يحب أن تضغط عليه لتقنعه. وإذا كنت تطلب منه التساهل فيجب عليك أن تعلمه ذلك بالقدوة؛ أي أن تكون متساهلا في آرائك؛ لأن القدوة خير المعلمين. إذا لا تضع آراءك وأقوالك في منزلة الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد مسه، فإن لكل إنسان نظرا ومذهبا في الأمور، ومتى احتكت هذه المذاهب والآراء بعضها ببعض فلا يبقى منها مع الوقت إلا أفضلها. وهذه هي الطريقة الوحيدة لنشر الحقائق والمبادئ نشرا فعليا بين الناس، وترقية العقول عن الأشياء المألوفة الراسخة في النفوس بحكم العادة. وكن على ثقة من أن كل العناصر التي ذكرتها تقرأ أقوالك ولا تستاء منها إذا راعيت هذا الشرط، ولو وجدت فيها ما يسوء؛ لأنها تعلم أنك لا تقصد بها سوءا ولا سيطرة على عقولها فيما تكتب، وإنما تقصد بسط الآراء والمبادئ بعضها بجانب بعض طلبا للحقيقة في أي جانب كانت.

الحاجة الثالثة:

والحاجة الثالثة أن يحب الكاتب صناعته، ويولع بها، ويطلبها لذاتها. ولا بد هنا من اعتراض قوي، وهو أن جميع الكتاب في كل البلدان يحبون صناعتهم، وكثير منهم لا يجنون منها فائدة كبيرة ، ومع ذلك تراهم متعلقين بها. فالجواب أن هنا إشكالا تجب إزالته؛ إذ شتان بين من يولع بشيء لأنه عمله الذي خلق له، وبين من يريد أن يجعله عمله قسرا، ويرغم طبيعته به ميلا إلى جماله وجلاله. وهذا الخطر موجود في كل مكان، لا في الشرق فقط. وقد وضع المسيو بونيه الفرنسوي منذ بضعة أشهر كتابا سماه: خطر صناعة القلم، أو ثلاثة من عائلة لكران، أثبت فيه أن ألوفا من الأدباء يتهافتون في كل عام على صناعة القلم في فرنسا، وتسوء حالهم لأنهم قهروا طبيعتهم قهرا على عمل لم يكونوا من رجاله، وإنما جذبوا إليه بجاذب جماله.

وإنما أردنا بحب الكاتب صناعته وطلبها لذاتها: مقاومة داءين شديدي الفتك؛ الداء الأول: يأس كثيرين من الكتاب من صناعة الأدب في الشرق؛ ولذلك يولولون عليها ويقيمون المآتم حزنا لموتها. وهذا الأمر يسبب ضررين؛ الأول: الحط من كرامة الأدب لدى قرائه، والثاني: إزالة الثقة من نفوس أولئك الكتاب، ومتى زالت من نفس الكاتب ثقته في نفسه وفي صناعته، فقد قضى على نفسه وعلى صناعته وعلى قرائه، ولم يعد يقدر أن يصنع شيئا مفيدا، فالأجدر به في هذه الحالة أن يترك القلم بسكون وهدوء، ويطلب الرزق من باب آخر. والداء الثاني: اتخاذ الأدب شباكا لصيد الذهب. وهذه آفة الأدب في الشرق. ولسنا ممن يحرمون الغنى على طلاب الأدب، ولكنا ممن يحرمون في الأدب جعل المال في المرتبة الأولى، والعلم والأدب في المرتبة الثانية؛ لأن صناعة الأدب ليست بصناعة تجارية، ومن يريد معاملتها معاملة التجارة فهو غير أهل لأن يكون منها. وسبب ذلك أن موضوع الأدب خدمة الجمهور، كما تقدم، وهذه الخدمة تقتضي أن تعطي الجمهور من قوتك ومن نفسك أكثر ما يمكنك إعطاؤه؛ فالكاتب الذي لا يطلب صناعته لذاتها بل لأجرتها يكتفي في أكثر الأحيان بملء الورق بما يكون قريب المنال؛ إذ غرضه ربح المال لا إبراز أرقى ما يمكنه إبرازه من قوى نفسه. وبذلك يصبح الجمهور مغبونا، والأدب مظلوما؛ لأنه ينحط بهذه الطريقة، ولا يمكن أن يترقى معها، وحينئذ يتساءل الناس: لماذا لا تؤثر الأقلام في النفوس؟ مع أن السبب معروف محسوس. وإن قيل إن التبعة في هذه الحالة واقعة على الجمهور لأنه لا ينشط أهل العلم والأدب التنشيط الواجب ليسد حاجاتهم، ويجعلهم يطلبون صناعتهم لذاتها، فالجواب: إن على الجمهور تبعة عظيمة في هذا الأمر، ولكن هذا لا يخفف التبعة التي على الكاتب؛ إذ متى وجد كتاب يطلبون العلم والأدب لذاتهما، فإنه يكون عندهم الفقر والغنى سببين في هذه الصناعة؛ لأن الغنى الذي في النفوس لا تنقص قيمته عن الغنى الذي في الخزائن، إن لم نقل إنه أفضل منه.

الحاجة الرابعة:

وأما الحاجة الرابعة فهي مختصة بقلم الكاتب، ونريد بها تضلعه من المواضيع التي يكتب فيها.

وهذه الحاجة تقسم عندنا إلى قسمين: المادة ولباسها؛ أي الأفكار والألفاظ التي يعبر بها عنها، والأسلوب الذي يجري هذا التعبير به.

أما المادة فهي تكاد تكون موجودة في كل يد ... فإن كل كاتب يكفيه لخوض أبواب السياسة والتاريخ والعلم الأدبي والعلم الطبيعي والفلسفة أن يفتح أي جريدة أوروبية أو أي كتاب أوروبي ... وهذا من فضل اللغات الأجنبية التي تسهل للكتاب طريق هذه العلوم التي تعب المؤلفون عشرات السنين في سبيل تحصيلها، ولكن الحق يقال: ليس الذنب في ذلك للشرقيين، بل للناموس الطبيعي، فإننا الآن في عصر يسميه علماء العمران: عصر القرود، يريدون به عصر التشبه بالغير والتقليد، وإذا ساعدت الأحوال المعارف الشرقية، فإنها ستنتقل - إن شاء الله - من طور الاتباع إلى طور الابتداع، وحينئذ ينبغ في الشرق المبتكرون والمخترعون، ولا نعود نرى المعارف الشرقية عبارة عن نسخة من المعارف الأوروبية، وصدى لمجلاتها وجرائدها العلمية والسياسية، بل يكون الباحث في الكيمياء معتمدا في بحثه على معمله لا على مجلته، والباحث في التاريخ معتمدا على سياحاته لدرس الآثار في أماكنها الأصلية، لا على الكتب والأوراق، وهلم جرا. وربما وصل الشرق إلى هذا الزمن بعد قرن أو نصف قرن إذا ساعدته الأحوال، وكثر قراء اللغة العربية فيه كثرة تمكن أحد الكتاب من التفرغ لكتابة كتاب واحد في عامين أو ثلاثة؛ أي إن الكاتب يستفيد من كتابه هذا بعد كتابته ونشره فائدة مالية تكافئ أتعابه ونفقاته.

وبما أن المادة صارت اليوم موجودة في كل يد - كما تقدم - فقد صار الفضل والصعوبة في الأسلوب الذي تبرز به، ورب مادة يعطاها كاتبان فيصنع أحدهما منها فصلا ترقص له عجائز وائل، ويصنع الآخر منها فصلا لا يقرؤه أحد. وهنا مذهبان مختلفان يتنازعان الكتاب في كل أمة تقريبا؛ المذهب الأول: مذهب الذين يعتمدون على قواعد السلف وأصولهم في الكتابة والتأليف، فلا يخرجون عنها قيد أصبع، والمذهب الثاني: مذهب الذين يحكمون عقولهم وأفهامهم في جميع شئونهم، ويكرهون التقليد إذا لم يكن في محله، ويرومون أن يكتبوا كما يشعرون، وعندنا لهذين الفريقين كلمة تدل عليهما أحسن دلالة، وهي أن الفريق الأول يهتم بالألفاظ قبل اهتمامه بالمعاني، والفريق الثاني يهتم بالمعاني قبل اهتمامه بالألفاظ.

ومهما صرخ أنصار المذهب الأول، فإن مذهبهم آخذ في الانقراض؛ لأن تلك الأسجاع الضخمة والألفاظ المنتفخة كأنها الهر يحكي الأسد، قد نبتت في المعد، وصارت في كل يد، كما قال الهمذاني، رحمه الله، وإذا قابلت بين أسلوب الكتابة العربية منذ 30 سنة وبين أسلوبها اليوم؛ رأيت الفرق بين الأسلوبين، وإن قيل إنه قد بقي إلى اليوم شيء من تلك الأسجاع والألفاظ المترادفة والتعابير الخطابية التي تسرد منها سطرين أو ثلاثة، ولا يكون تحتها إلا فكر واحد - كأنها صبيرة طمسن - نقول: ما ذلك إلا لأن هذا الأسلوب أصلا مكينا في نفس اللغة العربية، وهذا الأصل لا يموت وينقرض تماما إلا بانقراض طلابه، ولكنه الآن يموت شيئا فشيئا، ولا أمل بإحيائه إلا بطريقة واحدة. وهذه الطريقة يرضى بها حتى أصحاب المذهب الثاني، وهي أن يعود مؤسسو ذلك الأصل من قبورهم الأبدية، ويكتبوا لنا مثل كتاباتهم الماضية، فحينئذ نقبل منهم ذلك بكل سرور ورضى؛ لأن كتابتهم أرقى ما يتصور الإنسان كتابته في هذا النوع.

وكيف إذا قام الهمذاني من قبره وكتب شيئا من رسائله يمكننا أن نقول له اترك هذا فقد ذهب وقته؟ وكيف إذا قام ابن المقفع بلغته السهلة البليغة المفهومة ليعرب عن الهندية كتابا آخر - ككليلة ودمنة - يمكننا أن نقول له عربه بلغة الكتابة العصرية لا بلغتك؟ كلا، إننا لا نقول لهما ذلك، وإنما نقوله بلا تردد للذين يحاولون تقليدهما في هذا العصر ولا يكون لهما مقدرتهما، وقد قيل: بين المقلد والمقلد ما بين التكحل والكحل. وإن قيل إن الأموات لا يعودون، بل ينبغ من الأحياء من يقوم مقامهم ويبلغ منزلتهم، فالجواب: أين الذي يضمن لنفسه نفسا كنفوسهم، ثم يصرف قواها كلها عشرين سنة أو أربعين في درس كتب اللغة والأدب ليبلغ منزلتهم فيها؟ ثم إذا كان مثل هذا الانقطاع ممكنا في الشرق، ألا يكون من الجناية على الشرق جعله للغة والألفاظ بدل جعله للعلم الحقيقي الذي يرقي الأمم وينقلها من حال إلى حال؟

فالأفكار الأفكار، المعاني المعاني. هذا هو الغرض الحقيقي من الكتابة؛ لأن الألفاظ ليست سوى لباس أو قشور للمعاني.

بقى الأسلوب الذي هو صلة بين الألفاظ وبين المعاني؛ لأنه قالبها الذي

قال بعضهم: إن إنشاء الإنسان هو الإنسان نفسه. يعني بذلك أن كتابته تدل عليه؛ لأنها صادرة عن نفسه؛ وعلى ذلك يكون أسلوب الإنسان في الكتابة على نوعين: اكتسابي، وغريزي؛ فالأسلوب الاكتسابي: ما حصله الإنسان بكد الخاطر، وتهذيب النفس، ومعرفة الأصول، ومطالعة أشهر المؤلفين، والأسلوب الغريزي: ما يكون مغروسا في فطرة النفس. وهذا لا يشرى ولا يباع ولا يحصل؛ لأنه ملازم للنفس، وقد قال بوفون وغيره: إن قرائح النوابغ تنشأ عن الصبر والكد والمزاولة. وهو قول غير صحيح من بعض الوجوه، خصوصا في العلوم الطبيعية التي تقتضي من علمائها والمخترعين فيها الكد والصبر والجلد الشديد. وهذا نيوتن وباستور خير مثال على ذلك. ولكن العلوم الأدبية والفلسفية تختلف عن العلوم الطبيعية. وبما أن العمدة في تلك العلوم الأدبية والفلسفية على التأثير في النفوس، فالواجب أن يكون أسلوبها اللطيف أول أسلحتها، وماذا كان عمل روسو وبرناردين دي سان بيير ورسكن ورينان وغيرهم لو لم تكن فطرتهم مسلحة بذلك السلاح اللطيف، الذي كان يهز النفوس كما تهز الزوابع باسق الأشجار؟ فعلينا في الشرق أن نذكر أننا محرومون تلك اللذة الحقيقية التي تتناجى بها نفوس القراء والكاتب لاستطاعته تحريكها من أعماقها، ولا نلقين التبعة في ذلك على القراء، بل على الكتاب - وإن كان لهم بعض الأعذار - لأن أشجار الحدائق إذا بقيت ساكنة ولم تتحرك فالذنب للريح؛ لأنها لم تهب لتحركها.

ولكننا نرى أن هذه الريح محال أن تهب لتحريك الأشجار إذا لم تطلق اللغة العربية من أسر الاهتمام بالألفاظ والسجع والمترادفات وتحدي المتقدمين، ويقدم عليها الاهتمام بالمعاني المقصود إبلاغها إلى فهم القارئ؛ ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يعبر عن العواطف المختلفة التي تختلج في نفسه إذا كان يتعود صرف قواه حين الكتابة إلى الألفاظ لا إلى تلك المعاني. ألا ترى الكاتب إذا تكلم بلغته العامية اندفع اندفاع السيل، وأبرز بكل سهولة صورا جميلة من المعاني كانت تجول في نفسه؟ ولكن اطلب منه أن يبرز تلك الصور الجميلة باللغة الفصحى ملتوتة بالمترادفات الزائدة، والألفاظ الضخمة، والأسجاع الفارغة، فإنه يقيم يوما كاملا لكتابة ما عبر عنه في ساعة واحدة بلغته التي يتكلم فيها، وما يكتبه يجيء باردا.

ولا تقل إن سبب ذلك كونه لم يتعود الكتابة بلغة الهمذاني والحريري. كلا، ما من سبب لذلك سوى أنه مع اللغة العامية يفكر بالمعاني فقط، ومع لغة السجع والمترادفات يفكر بالألفاظ. ولكن أخبرونا من هو الكاتب؟ الكاتب كالشاعر؛ هو الذي يشعر بالمعاني شعورا أشد من شعور سواه، ويبرزها إلى القراء بأسلوب جميل لطيف سهل مفهوم لإبلاغها إليهم. ويتفاضل الكتاب كما يتفاضل الشعراء؛ أي إن أفضلهم أشدهم شعورا، وألطفهم إحساسا؛ ولذلك قالوا إن الكتابة صناعة من صناعات النفس، وما الكتاب العظام الذين أقاموا بني عصرهم وأقعدوهم بما كانوا ينشرونه بينهم سوى نفوس أدق شعورا من باقي النفوس. كانوا يجمعون العواطف التي تختلج في صدور بني عصرهم بوجه مبهم غامض، ويبسطونها واضحة جلية يتناولها القريب والبعيد؛ لأنهم كانوا أشد شعورا بها. فتأملوا في هذه الوظيفة التي هي وظيفة الكتاب الحقيقية، وقابلوها بوظيفتهم متى كان عملهم مقصورا على طلب الألفاظ الغريبة من قواميس اللغة، واقتناص التعابير البدوية والأساليب القديمة التي لم يبق ما يسوغ استعمالها في عصر كهذا العصر. ولا ريب عندنا أن هذا بمثابة ردم معادن المعاني في نفوس الكتاب، وجعل أذهانهم عبارة عن مخازن للألفاظ فقط؛ وبذلك يقضى على الكاتب العربي أن تبقى كتابته بلا تأثير في قرائه مهما أبدع وأجاد في تنسيق التعابير والألفاظ؛ لأن الألفاظ عبارة عن جماد لا يؤثر في النفس؛ إذ النفس لا يؤثر فيها إلا فيض المعاني الخارج من نبعها العذب. ولا تنس أننا قلنا في مقدمة الكلام إن وظيفة الكاتب الكتابة للأمة، لا لنفسه ولا لطبقة واحدة من طبقات الأمة، وإن حسن التأثير شرطها الأول، والفائدة العمومية أساسها الحقيقي.

إنشاء الروايات العربية

كثر في السنوات الأخيرة وضع القصص العربية، فقلما يمر شهر إلا وتصدر بضع منها في البلاد التي فيها مطابع عربية. وهم يسمونها «روايات»، وهذا خطأ في التسمية؛ لأن الروايات في اللغة: الأحاديث المنقولة بالتواتر من فلان عن فلان عن فلان، فيلزم أن يكون هناك راو ومروي عنه وحديث مروي؛ فاسمها الحقيقي إذا: قصة؛ لأنها عبارة عن أحاديث ووقائع يتخيلها المؤلف ويقصها على قرائه. ولكن هذا الخطأ - إذا كان هناك خطأ - كان الأصمعي المشهور أول من وقع فيه في قصة عنترة؛ فإنه يقول هناك في كل صفحة تقريبا: قال الراوي. وقصة عنترة أكثرها اختراع وابتداع، كما هو معلوم. والخطأ أو الاصطلاح الذي يجيزه رجل كالأصمعي يجوز أن يعد من الصواب المقبول. (1) ما يلزم الرواية

على أنه لو لم يكن في الروايات التي تنشر في اللغة العربية غير هذا الخطأ الاصطلاحي الصغير لكان الخطب هينا، ولكن هناك مآخذ لا يصح السكوت عنها وقد كثر انتشارها؛ فإن كل من أمسك قلما في هذه الأيام يرى نفسه قادرا على وضع رواية؛ لأن كل إنسان يقدر على قص قصة وسرد حوادث يتصورها. وجميعهم يعلمون أن فن الروايات علم بأصول، ولكنهم يجرءون مع هذا على وضع هذه الروايات لثلاثة أسباب؛ الأول: انعدام حرية النقد، أو بعبارة أخرى: الجهل بحقيقة هذا الفن للإقدام على نقده، والثاني: اعتبار القراء في الشرق الرواية عالما خياليا يلهى به ساعة أو نصف ساعة، فلا يطلبون فيه غير قطع الوقت، والثالث: قلة القراء في اللغة العربية؛ فالروايات التي تظهر فيها لا يستفيد منها مؤلفوها فائدة حقيقية إلا إذا كانوا أصحاب مكاتب ومطابع صناعتهم التجارة بالكتب؛ ولذلك قلما ترى كاتبا يجهد قريحته، ويكد فكره، وينضج رأيه في وضع رواية مهمة؛ لأنه يعلم أن الفائدة التي تنشأ عنها لا تعدل التعب الذي يبذل في تأليفها وطبعها، والجمهور لا يفهم منها سوى قصتها. وإذا قيل إن حافظ أفندي إبراهيم؛ الشاعر المشهور، قد عرب جزءا صغيرا من رواية الميزرابل فجنى منه - على ما قال - ألف جنيه (5000 ريال)، فالجواب أن ما جناه المعرب من هذه الرواية لم يكن ثمنا للرواية ولا جزاء تعبه فيها، ولكنه كان تنشيطا له من بعض سراة المصريين الذين دفع بعضهم ثمن النسخة الواحدة 50 جنيها (200 ريال).

وقد يظن بعضهم أن الروايات الموضوعة تعريبا تسلم من تلك المآخذ التي تقع في الروايات الموضوعة تأليفا؛ لأن شروط الرواية مستوفاة في الروايات الإفرنجية الكبرى، وما على المعرب إلا أن ينحو نحوها، وينسج بردتها العربية. والحقيقة أن بعض الروايات الموضوعة تعريبا قد تجد فيها من التشويه، وفساد الوضع، والخرق في الرأي، ما لا تجد مثله أحيانا في الروايات الموضوعة تأليفا. وسبب ذلك أن المعرب يتناول قلمه ويغير على تلك الرواية، فيتصرف فيها حذفا وإضافة، فيقطع سلسلة أخلاقها السيكولوجوية، ويشوه طبائع أشخاصها، وينقص فيها ويزيد عليها من الحوادث ما لو رآه مؤلفها لقطع أذنه، وجدع أنفه، ورض ساقيه، وبقر بطنه، تشويها له، وتمثيلا به، كما شوه روايته ومثل بها. وما زلنا نذكر مباحثات كثيرين ممن شهدوا تمثيل رواية «ابن الشعب» في مصر، وقولهم في الجرائد وغير الجرائد أنهم لم يفهموا أغراض هذه الرواية ومرامي مؤلفها، وحقهم أن يقولوا ذلك ؛ لأن الذي ينظر في هذا الفن ولا يكون من أهله لا يدرك منه سوى سياق القصة، وتفوته أغراضها الحقيقية التي بنيت الرواية عليها، وكانت سببا في إنشائها.

وقبل بيان أغراض المؤلف في هذه الرواية، نأتي على بيان الصفات اللازمة للروائي؛ ليصح أن يكون ما يكتبه معدودا في جملة الروايات الحقيقية؛ أي عوالم خيالية تنطبق صفاتها وأخلاقها على العوالم الحقيقية انطباقا كليا كأنها صورة لها، وكأن أشخاصها أشخاصها مع زيادة في الصبغة الأيدياليستية فيها؛ ليكون غرضها رفع النفوس بدل انحطاطها: (1)

قوة الاختراع: أولى تلك الصفات قوة الاختراع، والمراد بها أن تكون مخيلة الكاتب قادرة على اختراع حوادث وأخبار تجعل في الرواية فكاهة ولذة. وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف الكبرى التي تحتك فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكا شديدا يستأسر لب القارئ. وكان ديماس رأس المبرزين في هذه القوة، إلا أنه يجب ألا تتجاوز هذه القوة حد المعقول المقبول، وإلا عدت من سقط المتاع، كروايات بونسون دي ترايل. ولما سئل تولستوي منذ مدة عن رأيه في رواية غوركي «الطبقة السفلى»، التي جعلت له بين كتاب أوروبا منزلة سامية، أجاب: إنها جيدة، ولكن ينقصها قوة الاختراع. ولكن كثيرين يقولون عن روايات تولستوي نفسه مثل هذا القول؛ لأنها إنما تمتاز بمبادئها وآرائها وصبغتها الفطرية، لا باختراع حوادثها. (2)

قوة الحركة: والقوة الثانية «قوة الحركة»؛ فإن تلك الحوادث التي يجيد المؤلف في اختراعها إذا لم يجعلها متحركة سئم قارئها ومل قراءتها. والحركة كانت مزية ديماس الكبرى، فإنك تعرف تاريخ أشخاص روايته، وأخلاقهم ومزاياهم، وماضيهم وحاضرهم مما يقوله غيرهم عنهم في الرواية، لا مما يقوله المؤلف نفسه. وكل من قرأ رواية لا يجهل أنه يفضل قراءة مباحثات أشخاصها على قراءة تعليقات مؤلفها. والإجادة هنا هي في جعل حوادث الرواية منبئة عن أخلاق أشخاصها. وكم من مرة قرأنا فصولا لكبار نقاد الروايات الفرنسوية يقولون فيها عن فصل في إحدى الروايات: إن حوادثه غاية في حسن الاختراع، ولكنه جامد تنقصه الحركة. وهم يعتبرونها في مقدمة شروط الروايات الجيدة . (3)

وحدة السياق وتنوع الموضوع: والشرط الثالث في تأليف الرواية «وحدة السياق وتنوع الموضوع»، والمراد بوحدة السياق: رسم طريق للرواية، تبتدئ في أولها وتنتهي في آخرها، دون أن تخرج الرواية عنها في أثناء تقلباتها، فكأنها سلك يمده رجل بين طرق ضيقة وشوارع واسعة فيوغل فيها، ولكن السلك في يده، وهو يعرف من أين ابتدأ وإلى أين ينتهي. والمراد بتنوع الموضوع جعل مواضيع الرواية التي تتفرع من ذلك السياق متنوعة متفرعة؛ لاجتناب ملل القارئ أولا، واستيفاء البحث في أخلاق أشخاص الرواية ثانيا. ومن أقوال الفلاسفة: إن الطبيعة واحدة من حيث مادتها ونواميسها، ولكنها متنوعة من حيث صورها وأشكالها. وهم يسمون هذا باسم: التنوع في الوحدة. وما يقال في الطبيعة يقال في الرواية؛ لأن الوحدة المقرونة بالتنوع أساس قوة كل شيء وجماله في العالم، وبدونهما تكون الحياة مضطربة مضجرة. (4)

قوة السيكولوجيا والسسيولوجيا: يصح أن يقال إن هذه القوة أهم القوات الضرورية للرواية. ولما كانت مواضيع الرواية تشمل جميع الحوادث والحالات التي تطرأ على أشخاصها، وعلى الوسط الذي يعيشون فيه؛ كانت الرواية محتاجة إلى أكثر أصناف العلوم، فهي تحتاج إلى علم الطبيعة لكي تبنى آراؤها ومبادئها وأخلاق أشخاصها على دعامة علمية؛ أي على النواميس الطبيعية، وإلا كانت نسيج أوهام وخرافات، وتحتاج إلى علم تقويم البلدان «الجغرافيا»؛ لمعرفة البلاد التي يكتب عنها، وطبائع أهلها وأهوائها، وتحتاج إلى علم التاريخ، خصوصا إذا كانت تاريخية. وقد تحتاج إلى سائر العلوم إذا كان لمواضيعها اتصال بها، ولكنها إذا احتاجت إلى جميع هذه العلوم أحيانا، وأمكنها الاستغناء عنها جميعها أحيانا، فهناك علمان لا يمكنها أن تستغني عنهما أصلا؛ وهما: علم السيكولوجيا، وعلم السسيولوجيا.

علم السيكولوجيا أو علم النفس والأخلاق: أول شيء يجب على الروائي الاطلاع عليه، وهو قسمان: مصنوع ومطبوع؛ أي: اكتسابي وغريزي؛ فالسيكولوجيا الاكتسابية يستفيدها الكاتب من مصدرين؛ الأول: درس كتب السيكولوجيا، والثاني: مراقبة الطبيعة والبشر لملاحظة أخلاقهم وأحوالهم في جميع أطوارهم. وقد كان موليير الروائي المشهور يصرف مدة من وقته كل يوم في الجلوس في دكان حلاق ؛ حيث يحتشد الناس عادة من طبقات مختلفة، وهناك يراقب أخلاقهم ويسمع أحاديثهم. والسيكولوجيا الغريزية هي قوة غريزية تكون في نفس الدارس، يقدر بها على استنباط مكنونات النفوس، واستنتاج أخلاقها، وتصوير حالاتها دون أن تدري هي بها. وهي هبة من الطبيعة لتلك النفس، وإن كان بعض علماء الأخلاق يقول: إن الدرس والاختبار قد يؤديان إليها.

قال بوفون العالم الطبيعي الفرنسوي: إن نبوغ أعاظم الرجال ناشئ عن تعبهم وصبرهم على الدرس. قلنا: هذا قول صحيح في العلوم الطبيعية التي لا يستلزم الاكتشاف والاختراع فيها قوة نفسية، بل قوة عقلية، وأقرب شاهد على ذلك باستور وسبنسر. وقد عد الفيلسوف نيتشه نفس سبنسر في جملة النفوس الاعتيادية. ولكن علم النفس والأخلاق، وعلم الأدب، والفنون الجميلة لا تقاس بتلك العلوم؛ فإن ملتن وشكسبير وهيغو ورينان وجوت ورانيير لولا أن الطبيعة خصتهم بنفوس كبيرة جميلة راقية؛ لما قدروا أن يبرزوا شيئا مما أبرزوه في تآليفهم من آيات الجمال والكمال ولو قطعوا أعمارهم درسا. وهل يصير غير الشاعر شاعرا حقيقيا بمجرد الدرس وقرض الشعر؟

فالسيكولوجيا الاكتسابية والغريزية أهم ضروريات الرواية؛ لأنها تصون المؤلف من الوقوع في الأغلاط الفاضحة بشأن أخلاق الأشخاص الذين يتكلم عنهم، وتمكنه من تصوير أخلاق بشرية حقيقية منطبقة على أخلاق البشر في الدنيا سيكولوجيا. وكم من مرة تصفحنا بعض الروايات التي تنشر بالعربية، حتى أهمها وأشهرها، فرأينا الكاتب يصور أخلاق أشخاصه في أول الرواية تصويرا لا ينطبق على أخلاقهم في آخرها من الجهة السيكولوجية! فإنه مثلا يجعل مزاج الشخص في البدء عصبيا، ثم تراه في الخاتمة يجعله يسلك مسلك ذي مزاج دموي محض.

وأغرب من هذا أنك تراه يجمع في نفس أشخاصه صفات متقابلة متناقضة تتبرأ السيكولوجيا منها، وأحيانا تراه يجعل شخصه يجيب أجوبة لو اطلع عليها أصغر كاتب ملم بمبادئ السيكولوجيا، بعد اطلاعه على الأخلاق التي صورها المؤلف له؛ لقال: هذا تخريف لا تأليف. والحوادث المستخرجة من تلك الأخلاق قلما تكون لازمة عنها، خارجة منها، بحكم السيكولوجيا، وإنما هي مجذوبة جذبا لتكون نتيجة لها، وما هي بنتيجة لها. وهذه العيوب الفاضحة لا تظهر في الشرق؛ لأنها لا تظهر إلا لعين الناقد البصير؛ ولذلك يعجب بعض القراء السذج بتلك الروايات، ولو نشرت في الغرب حيث يميز الجمهور بين الفاسد والصحيح لكانت في جملة الروايات الضعيفة التي لا يلتفت إليها أحد من أفراد الجمهور الراقي.

وما قلناه في السيكولوجيا نقوله في السسيولوجيا؛ أي علم الاجتماع البشري. وهذا العلم ضروري لمؤلف الرواية لسببين؛ الأول: أن جميع الروايات المهمة في هذا العصر أصبح غرضها اجتماعيا، وإذا كان الفيلسوف أوغست كونت واضع الفلسفة الحسية أو الوضعية قد أثبت ببراعة مشهورة قبل تلميذه سبنسر أن جميع العلوم من أكبرها إلى أصغرها تنتهي إلى السسيولوجيا، وأن السسيولوجيا هي غرض تلك العلوم، فأحر بالروايات أن يكون غرضها السسيولوجيا أيضا؛ أي البحث في حالات المجتمع البشري لترقيته، وإنماء قواته النافعة، وإفناء قواته المضرة. والروايات بعد الصحف أو قبلها من أهم ذرائع هذه الترقية، بل هي في الشرق أشد تأثيرا من الصحف في هذا الشأن؛ لأن ألوفا من عامة القراء لا يقرءون الجرائد، ولكنهم يقرءون الروايات. فهنا للرواية وظيفة اجتماعية عليا، دونها وظيفة جميع الصحف والمدارس والكليات؛ لأنها المدرسة الأولى للشعب الساذج الجاهل. وإننا نشفق من صميم قلبنا على هذا الشعب حين نرى السم الزعاف المدسوس في بعض الروايات العربية التي يقرؤها. (5)

درس هذا الفن: كما أن العالم لا يصير عالما إلا بالدرس والبحث، والصانع لا يصير صانعا إلا بالإكباب على صناعته، فكذلك الروائي لا يصير راويا إلا بدرس فنه. ولكن ليس للروايات مدرسة تعلم فيها أصول هذا الفن، وإنما مدرسته أمران؛ الأول: مطالعة روايات أكابر المؤلفين، والثاني: مطالعة كتابات مشاهير نقادي الروايات.

أما الأمر الأول، وهو مطالعة روايات أكابر المؤلفين، فأظهر دليل على أنه المدرسة الحقيقية لمؤلفي الروايات ما كتبه إسكندر ديماس الكبير عن نفسه، فقد قال ما خلاصته: إنه لما عقد النية في شبابه على أن يكون مؤلف روايات، أخذ يطالع جميع الروايات المشهورة لأكابر المؤلفين، فرنسويين وغير فرنسويين، فصرف وقتا طويلا في درسها، والتأمل بها، وتدبر أغراضها ومراميها، فأتى عليها كلها حتى انطبعت في ذهنه أساليبها وطرقها، واختلطت في فكره وقائعها ومذاهبها، وبعد ذلك شرع في الكتابة، فكتب الرواية الأولى وأحرقها لعدم رضائه عنها، ثم كتب الثانية والثالثة وأحرقهما أيضا، ولما كتب الرابعة دفعها للتمثيل، فكان لها دوي في باريس. وقد حضرها أحد أمراء العائلة المالكة، وكان ديماس مستخدما عنده، فلما ذكر اسم المؤلف للجمهور نهض الأمير من مجلسه ورفع قبعته لمستخدمه ديماس؛ إكراما وتنشيطا له.

فالروايات المشهورة الجيدة هي خير مدرسة لمؤلف الروايات؛ لأنها خلاصة الاختبار والعلم في هذا الفن. ولكن هذه المطالعة وحدها لا تكفي الراغب في التأليف إذا لم يكب على الأمر الثاني - درس أقوال نقادي الروايات - إكبابه عليها.

من تصفح الجرائد الفرنسوية الكبرى وغيرها وجد فيها فصلا مخصوصا ينشر في كل يوم اثنين في ذيل الجريدة لأحد النقدة المشهورين، وموضوعه نقد الروايات التي تمثل في خلال الأسبوع، ورب أحد هؤلاء النقدة تدفع له الجريدة أجرة للمقالات الأربع في الشهر راتبا يعدل راتب وزير. وقد كان سارسي؛ كبير النقادين في القرن التاسع عشر بعد سنت بوف، يكتب في جريدة الطان، وكان الممثلون والمؤلفون إذا رأوا في وجهه وهو في «لوجه» دلائل الاستياء، وعدم الرضى، ترتعد فرائصهم خوفا؛ لأنه كان على رأيه المعول.

فدرس كتابات هؤلاء النقدة وغيرهم من نقدة أوروبا من أهم واجبات كاتب الروايات؛ لأنه يستفيد من كتاباتهم نتيجة اختبارهم هذا الفن، واختبار مشاهير النقدة الذين تقدموهم فيه منذ نشأته. وقد كنا نقرأ نقد سارسي في الطان بلذة كبرى، فلما توفي أصبحنا نقرأ نقد المسيو أميل فاكه في جريدة الديبا، وهو من رجال الأكاديمي وأشهر النقدة الفرنسويين اليوم، على أن كتب النقد الروائي كثيرة في اللغة الفرنسوية لمن يطلبها، وهي أهم وأصح من الكتب غير الفرنسوية؛ لأن الفرنسويين ما زالوا متفردين في هذا الفن في أوروبا كلها. (6)

عاطفة الجمال: والشرط السادس والأخير من شروط وضع الروايات «التزام عاطفة الجمال فيها»؛ لأن تأثيرها وحلاوتها متوقفان على ذلك ، ويدخل في هذا أمران؛ الأول: جمال موضوعها، والثاني: جمال سبكها. أما جمال موضوعها فمتوقف على الإجادة في الصفات الخمس التي تقدم بسطها. وأما جمال سبكها فالمراد به نسجها بلفظ عذب، ومعنى طلي، وروح جلي، فيجد القارئ حين مطالعتها من الحلاوة والعذوبة ما يستأسر لبه. وإذا كان الجفاف والجمود في الإنشاء مما يغتفر في المباحث العلمية والتاريخية، لأن الغرض منها تقرير الحقائق، سواء كان لباسها من نضار أو كان عليها أطمار؛ فإن ذلك مما لا يقبل في الروايات أصلا؛ لأن العمدة في الروايات إنما هو على التأثير في نفس القارئ؛ لجذبه إلى مبادئها، وشرح صدره بحلاوتها. وهذا الجذب والتأثير لا يتمان إلا بعاطفة الجمال.

الروايات وأنفعها لنا

بسطنا رأينا في وظيفة الروايات والشروط اللازمة لواضعها، فلا نبحث هنا فيها، وإنما نبحث في أهم الروايات وأنفعها لنا. ومتى قلنا: أهم الروايات وأنفعها لنا، خرجت منها الروايات التي يقصد بها التفكه وقطع الوقت، وهي التي يتجر بها أصحاب المكاتب والمطابع الصغيرة، وانحصر كلامنا في الروايات التي يضعها مؤلفوها لفائدة يقصدونها. وبحثنا هنا في أمرين:

الأول:

ما هي الفائدة التي نحن أشد احتياجا إليها في الشرق؟

والثاني:

أي نوع من أنواع الروايات يوصلنا إلى هذه الفائدة؟

الأمر الأول:

كلنا نبحث في داء الشرقيين ودوائه، وكل واحد منا يشخص العلة من وجه، ويصف لها الدواء الذي يراه، فبعضهم يقول: داؤنا السياسة، وغيره يقول: داؤنا الرئاسة، وآخر يقول: داؤنا انحطاط التجارة والصناعة والزراعة، وعدم وجود قوة سياسية تحميها في داخل الأمة وفي خارجها، وغيرهم يقول: إن داءنا تعدد عناصرنا ومذاهبنا واستحكام الانقسام والبغض في نفوسنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا تربية مدارسنا، فإن دروسها وتربيتها لا تنطبق على حاجاتنا وأخلاقنا، وآخر يقول: لا، بل داؤنا منازعة الأجانب لنا الرزق والسيادة في بلادنا منازعة تحول دون إصلاح شئوننا.

على أن المتأمل البصير الذي ألف النظر في أخلاق الأمم ومعرفة الأسباب التي ترفعها وتحطها، يرى بعد إعمال الفكرة في جميع الوجوه التي تقدمت أن هنالك سببا فوق جميع تلك الأسباب. ولا مشاحة في أن تلك الأسباب أسباب حقيقية للانحطاط، ولكنها في الحقيقة أسباب فرعية؛ أي مسببات لا أسباب. وأما السبب الذي أشرنا إليه هنا، فهو الأصل الذي تتفرع منه جميع بلايا المشرق، وهو: عدم وجود الشخصيات الراقية بين أبنائه.

قد يمكن أن ترتفع الأسباب السياسية والدينية، قد يمكن أن تروج التجارة والصناعة والزراعة، قد يمكن أن تتحد عناصر الأمة ومذاهبها بتأثير يد قوية تحسن إدارة أزمة الأحكام، قد يمكن أن تعود أوروبا إلى رشدها، فتنظر إلى بلاد الشرق نظرها إلى أمم تريد لها الحياة لا إلى مستعمرات. كل ذلك قد يمكن أن يقع بأعجوبة أو بغير أعجوبة، ولكن وقوعه وحده لا ينيل الشرقيين ما يتمنونه من صيرورة أممهم أمما عزيزة راقية، بل يقيمون حينئذ على دورانهم في دائرة الانحطاط التي كانوا يدورون فيها حين كانوا أذلاء ضعفاء فقراء، تراهم يركضون ويجدون ويجمعون المال أكداسا إلى أكداس، فتخالهم صاعدين مرتقين، والحقيقة أنهم ما زالوا يدورون ضمن تلك الدائرة. إنهم كانوا من قبل فقراء منحطين، فأصبحوا بعد رواج أعمالهم أغنياء منحطين، وربما زادهم الغنى انحطاطا؛ لأن الثروة تبطر صاحبها إذا لم يكن أهلا لها، فضلا عن أنها تسهل له من إتيان الكبائر والصغائر ما كان عاجزا عنه قبل الوصول إليها.

بعدما تقدم تتضح لنا الأسباب في وجود مسائل نشكو ونعجب منها جميعا، فإننا نعلم بعده لماذا لا نعتبر أممنا أمما مجموعة بجامعة يحترمها الجميع ويخدمها الجميع، بل نعتبرها أفرادا متفرقين، ولكل واحد منهم مصلحة خاصة يسعى إليها، ولماذا يبتسم أكثرنا مزدرين ضاحكين حين يسمعون كلمة «المصلحة العمومية». نعلم لماذا الذين أصبحوا منا قادرين على النفع بثروتهم التي حصلوها بطرق مختلفة ليس لهم هم إلا التمتع بها بوقاحة وبله، دون أن يعملوا شيئا نافعا للأمة التي خرجوا منها وتحمل كل أثقالهم. نعلم لماذا حكامنا ورؤساؤنا، مدنيا ودينيا، متى ولوا شأنا عموميا؛ استخدموه لجر النفع إلى أنفسهم؛ لاعتبارهم الرعية بقرة حلوبا. نعلم لماذا نرى الأقوال عندنا كلها سامية جميلة، والآداب الاجتماعية والسياسية في أرقى مظاهرها في الظاهر، ولكن الأفعال والبواطن مما يضحك ويبكي. نعلم لماذا لا نقدر على الاجتماع والتعاون؛ ففقدنا بذلك أعظم القوات والعوامل في رفع الأمم؛ كإنشاء الجمعيات المختلفة للعلم والأدب والزراعة والصناعة والتجارة التي عليها مدار الارتقاء في هذا العصر، وبدونها لا يقدر الفرد أن يصنع شيئا عظيما، أو يحصل حقا ضائعا، حتى قال بعضهم في أوروبا: إن جمعيات العملة والزراعة والتجارة والصناعة هي التي تسوق اليوم السياسة والساسة في سبيل الارتقاء بقضيب من حديد.

فالدعوة إلى إيجاد شخصيات راقية في الشرق وتسهيل السبيل لها هي خير ما يخدم به الشرق وأبناؤه. وهذه الشخصيات الراقية توجد إما في الهيئة الحاكمة، وحينئذ ترقى الأمة وتوجد فيها شخصيات راقية طوعا أو كرها، وإما في الهيئة المحكومة، فتلزم الهيئة الحاكمة سبل الرشاد والسداد طوعا أو كرها. وارتقاء كل أمة إنما يقاس بعدد الشخصيات الراقية التي فيها، وهي نتيجة تهذيب النفس والعقل، وثمرة اختمار المبادئ الكريمة فيهما، وتأثير الوسط الذي يعيشان فيه جيلا بعد جيل. وما الإصلاح الاجتماعي الذي يدوي صداه في آذان الناس في هذا العصر إلا هذا الإصلاح.

على أن مقدمة رواية كهذه المقدمة لا تحتمل هذا البحث، وليس هو من مواضيعها، وإنما جر الكلام إليه ما قصدناه من بيان المبدأ الأول الذي يحتاج الشرق إليه، وبدونه لا تقوم له قائمة؛ لأنه يبني على غير أساس. فأنفع المطالعات لأبناء الشرق ما كان موضوعه الإصلاح الاجتماعي الذي تقدم ذكره، الذي أهم أغراضه ومراميه إيجاد شخصيات راقية.

الأمر الثاني:

أي أنواع الروايات توصلنا إلى الفائدة التي تقدم ذكرها في مقدمة الكلام؟ وهذا هو موضوع هذه المقدمة الحقيقي.

إن في الطبيعة البشرية عادة مألوفة، وهي: جر الإنسان الحبل لصوبه، كما يقول العوام، فكل إنسان يدعو إلى مبدئه ومذهبه، ويقبح رأي غيره، وأحيانا يكون هذا التقبيح مضحكا، وأحيانا يكون مقبولا، وإنما يكون مضحكا متى كان المقبح لا يرى إلا بعين واحدة، فإما أن يجهل ما في رأي غيره من الصواب، وإما أن يتجاهله لترويج بضاعة ، أو لاعتقاده حقيقة أنه غير صواب. ومذهب «الجامعة» ومبادئها في رواياتها وغير رواياتها معروفة عند قرائها، فلا حاجة إلى بسطها لتبيان فضل الروايات الاجتماعية عندها على سائر الروايات. ولكنا مع هذا لا نجر الحبل كثيرا لصوبنا؛ لكراهتنا هذا الخطأ الذي قد يقع فيه غيرنا.

إن الروايات التي تنشر الآن في اللغة العربية بعضها موضوع للفكاهة والخلاعة. وهذا النوع لا ننظر فيه؛ لأنه لا يستحق نظرا، وبعضها معرب، والقصد منه إبراز أحاسن الروايات الإفرنجية، وهو نادر جدا، وقلما يكون مستوفيا شروط تلك الروايات، وبعضها تاريخي. وهذا النوع التاريخي قسمان: فقسم منه يتضمن تاريخ الأمم الأوروبية، وقسم يتضمن تاريخ بعض أمم المشرق. أما القسم الأول فلا يستحق النظر أيضا؛ لأننا في غنى عن تاريخ أمم أوروبا، ومن يبرز منه شيئا عنده فلا يبرزه إلا للفكاهة، وأما القسم الثاني: وهو تاريخ بعض أمم المشرق، فالكلام فيه حسن؛ لأنه يوقف أهل ذلك التاريخ على تاريخهم، ولكن يتوجه على الروايات التاريخية أربعة اعتراضات:

الاعتراض الأول:

أنها أمر كمالي بالنسبة إلينا، فإن التاريخ لا يخرج عن كونه عبارة عن ذكر أيام مضت وحوادث خلت، والأمم التي لم تتكون بعد أو التي تكونت وانحلت لا يفيدها تاريخها شيئا سوى تذكيرها بعظمة ساقطة ومجد ذاهب، وهي قبل كل شيء تحتاج إلى قوات تنهض بها، وتوجد الشخصيات الراقية التي أشرنا إليها أضعاف حاجتها إلى تاريخها. وإن علم التربية وعلم الاجتماع والنشاط والحماسة للعمل، ونصب أغراض شريفة أمامها، وحثها على السعي إليها، وجمع كلمتها عليها بتأليف رأي عام منها، كل هذه مقدمة على جميع علوم التاريخ البشرية والإلهية، بل إن أصغر مبادئ الزراعة الأولى وأحقر مبادئ الصناعة الأولى مفضلة فيها على جلال التاريخ وعظمته؛ فالذي يصرف فكرها إلى حوادث تاريخها الماضية بكتبه ورواياته قد يفيدها، ولكن فائدتها من ذلك لا تكاد تذكر؛ لأن مثلها حينئذ يكون مثل فقير ذي أطمار يعلق في ثوبه ساعة وسلسلة من نضار. قال برناردين دي سان بيير: أية حاجة بنا إلى التاريخ وكتبه؟ وأي تأثير للتاريخ في سعادتنا في الأرض؟ بل أية علاقة بين السعادة وذكر حوادث مضت وأيام خلت؟ إن تاريخ ما كان لهو تاريخ ما هو كائن وما سيكون. وقال الفيلسوف نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر»: إن المؤرخين لكثرة تفكيرهم في الماضي وتنقيبهم فيه ينتهون إلى أن ينزلوا التاريخ منزلة كل شيء، فيصير مثلهم مثل السرطان الذي يمشي إلى وراء وهو يحسب أنه يمشي إلى أمام. يريد بذلك أنهم يتأخرون وهم يحسبون أنهم يتقدمون.

الاعتراض الثاني:

أن الروايات التاريخية هي سم للتاريخ قتال؛ وذلك لأنها تكون مزيجا من الحوادث المخترعة والحوادث التاريخية، وفي ذلك إفساد التاريخ بدل تحقيقه. ولا بأس من ورود التاريخ في الروايات، ولكن يجب أن يكون وروده عرضا. والعمدة تكون على ما في الرواية من الأفكار والمبادئ الاجتماعية التي هي غرض الرواية الحقيقي؛ لأن الروايات الخطيرة الهامة في هذا العصر إنما هي روايات اجتماعية.

الاعتراض الثالث:

أن كتب التاريخ تكتب للخواص، فالكاتب يجد في نفسه شيئا من الجرأة على الجهر بما يرى الجهر به حقا في التاريخ وإن ساء بعضهم؛ لأن في أفاضل الخواص من كل الأمم ميلا لمسامحة الكاتب ومعذرته إذا كانوا يعتقدون إخلاصه. أما روايات التاريخ فأكثر اعتمادها في رواجها على العوام والسذج، وهؤلاء لا يسامحون ولا يعذرون؛ ولذلك يضطر الكاتب إلى مجاراتهم ترويجا لبضاعته، فيشوه التاريخ في رواياته بكتمان ما كان الجهر به من أول شروط التاريخ، وبتحسين وتزيين أمور تزيد السذج تمسكا بأوهامهم وأغلاطهم، خصوصا إذا كان الكاتب من أمة والقراء من أمة، وعلى الأخص في بلاد الشرق. وبذلك يكون وجود تلك الروايات وعدمها سيين؛ إذ الفائدة الحقيقية في الروايات هي ما فيها من الجرأة والقوة الأدبية التي تحمل قرائها على ترك ضعفهم وأوهامهم لا زيادة تمسكهم بها.

الاعتراض الرابع:

قال المسيو إدوار رود منذ سنتين، في مقالة افتتاحية في جريدة ألفيغارو، في أثناء كلامه عن التاريخ وكبار المؤرخين الفرنسويين كتييرس وتان ورينان وميشله وغيرهم، ما خلاصته: إنه يجب على الناس أن يعلموا أن كتب التاريخ التي يقرءونها باللغة الفرنسوية وغير الفرنسوية لا يركن إليها، مهما ادعى أصحابها التحقيق والتدقيق؛ وذلك لسببين؛ الأول: أنهم يتخذون فيها طرق الاستنتاج والقياس، وفي أكثر الأحيان يجيء استنتاجهم وقياسهم فاسدين؛ ولذلك ترى آراءهم في التاريخ متخالفة متباينة ينقض بعضها بعضا، وكل مؤرخ منهم يكتب التاريخ كما يتراءى له، والثاني: أن المصادر التي يعتمدون عليها ويستقون منها أكثرها خطأ؛ لأن رواتها أخطئوا في النقل والرواية.

وإنك لترى المؤرخين الذين عاشوا في الزمن الأخير إذا كتبوا تاريخه اختلفوا في رواية حوادثه وتفسيرها، فكيف بهم إذا راموا كتابة تاريخ زمن لم يشهدوه، ولا علموا شيئا عنه غير ما نقلته الكتب لهم؟ وليس في التاريخ شيء ثابت يمكن الوثوق بصحته غير الحوادث والأرقام والأوراق الرسمية التي وصلت إلينا من تلك الأزمنة البعيدة. قلنا: وكل من تصفح كتب المؤرخين العربية والإفرنجية، ورأى فيها تناقض الآراء والحوادث والأرقام لا يسعه إلا أن يسلم بصحة هذا القول الذي ساء مؤرخي أوروبا، ولكنه صحيح. وما التحقيق في التاريخ - خصوصا التاريخ القديم، وبالأخص الشرقي منه - إلا خرافة ودعوى لا يقوم عليها دليل.

وليس هنالك تاريخ، بل آراء مختلفة، وظيفة الباحث فيها الترجيح بينها لا تحقيقها، وإنزال تلك الآراء والحوادث منزلة رفيعة من الأهمية، وبذل الإنسان قوته ونشاطه وعلمه ووقته فيها، إنما هو من قبيل الاشتغال بشيء مشكوك به، وفائدته لا تعدل التعب فيه؛ ولذلك قال رينان قبل وفاته: إنني آسف لأنني صرفت عمري بكتابة تواريخ قل أن يتصفحها أحد بعدي. قال ذلك مع أنه إذا لم يكن في كتبه شيء غير جمال إنشائه في كتاباته، فإن هذا كاف - كما قال بعض كتاب الفرنسويين - لأن يبقى جميع ما كتبه خالدا بين أيدي الناس، ومقصدا لطلاب الجمال وحلاوة القلم.

فبعد ما تقدم، لا نرى للروايات التاريخية وظيفة سامية بين الروايات، إلا إذا كان المقصود بها مجموعة قصص وفكاهات لتسلية الخاطر وترويح النفس في ساعات الفراغ. وظاهر بنفسه بعد هذا أن الوظيفة العليا بين أنواع الروايات هي للروايات الاجتماعية الفلسفية .

وقد ذكرنا كل ما تقدم لغرض لم نذكره حتى الآن، وهو الدفاع عن الروايات الاجتماعية الفلسفية، فإن بعض الكتاب رأى أن هذه الروايات روايات كمالية، لا نحتاج إليها في هذا العصر، بل نحتاج إلى روايات عملية. وربما وجد قوله هذا موافقين ومصدقين له دون أن ينظروا في لباب هذا الموضوع؛ لأن الناس اعتادوا موافقة من يعتقدون فيه أصالة الرأي وصدق النظر. وقد تقدم إثبات أن الروايات غير الاجتماعية هي الروايات الكمالية.

وقد يستغرب القارئ اهتمامنا بهذا الموضوع الصغير وتخصيص بضع صفحات به، ولكن الكاتب الذي تتبع آراء الشرقيين ومطبوعاتهم بانتباه وإمعان لا يعده موضوعا صغيرا، بل كبيرا، وربما يراه أكبر موضوع إذا نظر فيما يلي:

أن كثرة الكتاب في الشرق، وتعدد الآراء، وتنوع اللغات والتربيات قد جمعت في كتبه ومجلاته وجرائده جميع الآراء الفلسفية ومذاهب الأدب الكتابي. قد اجتمعت متناقضة متضاربة، وأصبحت خليطا من جميع المذاهب في الكرة الأرضية، فترى فيها مذاهب سبنسر وكونت وداروين وماركس والقديس توما وأفلاطون وأرسطو وأبيقور الكلبي، كما يسميه جمال الدين الأفغاني، وفلاسفة الإسكندرية، وشوبنهور ونيتشه وقنت وزولا وهيغو، ومذاهب القرآن والتلمود والتوراة والإنجيل والفيدا، كلها - أي كل هذه المذاهب المختلفة - تراها فيه متجاورة مشتبكة اشتباك الأسل. وليس هذا بالأمر الغريب العجيب، فإن بابل وجدت قبل اليوم على ما جاء في التوراة.

وإنما الغريب العجيب أمران؛ الأول: اجتماع المتناقضات من هذه المذاهب في حيز واحد دون أن يفطن صاحب هذا الحيز لها، والثاني: تسفيه صاحب أحد هذه المذاهب لمذهب آخر منها من وجه مذهبه، وبطرق مذهبه، بدل أن يسفهه من الوجه الخاص بهذا المذهب. وغني عن البيان أننا نتكلم هنا عن المذاهب الكتابية والفلسفية والأدبية، لا المذاهب الدينية، فترى مثلا بعضهم يكتب يوما كأنه على مبادئ كونت؛ صاحب الفلسفة الوضعية السائد روحها اليوم في أوروبا وأميركا، ويوما تراه يكتب كأنه على مبادئ قنت وشوبنهور الأيدياليستية. تراه يوما ينهج منهج زولا في كتاباته الناتوراليستية (تقليد الطبيعة)، ويوما ينهج منهج فيكتور هيغو في كتابته الرومانتيكية الأيدياليستية. وقد قرأنا يوما في جريدة يومية مصرية كلاما عن الوطنية، قالت فيه: إن الوطنية أثر من آثار الهمجية القديمة، مع أن الرصيفة تدافع عادة أشد دفاع عن جميع المبادئ التي هي عماد الوطنية ودعامتها. وعلة هذا الاختلاط والاختباط عدم وضوح المبادئ بعد لأبناء الشرق للاجتماع حولها أحزابا أحزابا، كل حزب يعرف أصل مبدئه وفروعه، ويجعل خطته الدفاع عنه وعنها لموافقتها مزاجه وأخلاقه وآراءه. وإليك مثالا لهذا الاختلاط والجهل بأصول المبادئ:

قال بعض الكتاب إن الروايات الاجتماعية والفلسفية روايات كمالية، والأهم منها الروايات العملية. وبعد هذا القول قال: إن أحوالنا تحتاج إلى إصلاح، وخير سبل الإصلاح تقبيح الرذائل الشائعة؛ كالكذب والخداع والمجاملة والمقامرة والمسكر والبورصة، وغيرها من الرذائل والمنكرات التي نئن تحت أعبائها.

فالذي وقف على أصول المبادئ الفلسفية والأدب الكتابي يستغرب هذا القول؛ لأنه يعلم أن الأدب الكتابي في الفلسفة نوعان: أيدياليست (مثالي)، ورياليست (واقعي)؛ فالأدب الأيدياليستي مشتق من قوى النفس والعقل، والأدب الرياليستي أو الناتوراليستي مشتق من الطبيعة. الأول يعتمد في التأثير والإصلاح على قوى نفس الإنسان، ويقدم تأثيرها على كل تأثير، والثاني يعتمد على الطبيعة وقواتها وتقليدها. الأول يقول: صوروا ما هو أسمى من الطبيعة لرفع النفوس به، والثاني يقول: إن ما هو أسمى من الطبيعة خيالي وهمي أو كمالي، وحسبنا الطبيعة وتقليدها وتصويرها؛ لأن فوائدها عملية.

فإذا عدت الآن إلى الاعتراض الذي تقدم، وجدت أن المعترض يقول إن المذهب الأيدياليستي أمر كمالي، وهو اعتراض جائز مثلا لمن كان رياليستيا؛ كالفيلسوف نيتشه الذي أدمى الأيدياليست نقدا وتهكما، ولكن متى سفه المعترض المذهب الأيدياليستي ذلك التسفيه، ثم عاد فقال ألفوا في اجتناب الكذب والخداع وما أشبههما من النقائص الاجتماعية، فإنه يخلط بين المبادئ دون أن يشعر؛ ذلك لأن توقع الإصلاح من محاربة الكذب والخداع وما أشبههما هو من مذهب الأيدياليست. ومذهب الرياليست يتساهل أحيانا مع الكذب والخداع، وقد قال نيتشه إنهما حق للضعيف ومن ملازمات العمران. فالنتيجة التي تخرج من هذا هي أن المعترض يسفه من جهة مذهب الأيدياليست؛ لأنه خيالي وهمي في رأيه، ومن جهة أخرى يدعو إلى إصلاح البشر به. وهو منتهى السذاجة والجهل بالأصول.

وليس غرضنا في هذا الفصل شرح مذهب الأيدياليستيين والرياليستيين، وإظهار آثارهما في المجتمع البشري، ومبلغ تأثير كل منهما في إصلاح الأرض؛ فإن ذلك بحث فلسفي طويل، متشعب الطرق، كثير الفروع. وسنغتنم أول فرصة لإبداء رأينا في هذين المذهبين. إنما غرضنا هنا أن نوجه الأنظار إلى وجوب فصل المبادئ في الشرق وترتيبها، ووضع كل واحد منها في مرتبته وبابه؛ تسهيلا للنظر فيها، واختيار أفضلها لنا، فضلا عن أن الخلط بينها دليل على الجهل بها، والجهل بها دليل على انحطاط العلم عندنا وكونه لا يزال في طفوليته.

بين الفصحى والعامية

لم تبق مجلة ولا جريدة من المجلات والجرائد العربية إلا وبحثت في هذا الموضوع الذي فتحت بابه رصيفتنا جريدة المؤيد وجريدة الإجبشن غازيت. ونحن نذكر باختصار لقرائنا تاريخ هذه المسألة ورأينا فيها.

وضع جناب المستر ويلمور - القاضي الإنكليزي في محكمة الاستئناف المختلطة - كتابا إنكليزيا في غاية الأهمية، اقترح فيه على أبناء اللغة العربية أمرين؛ الأول: أن يتخذوا الحروف الإفرنجية لكتابة الكلام العربي بدلا من الحروف العربية؛ وذلك لضبط اللفظ في الكلمات المتشابهة الكتابة المختلفة اللفظ، والثاني: استعمال اللغة العامية في الكتابة بدلا من اللغة الفصحى. وحجته في هذا الطلب أن الرجل الإفرنجي يصرف سنوات في درس اللغة العربية ثم هو لا يفهم اللغة التي يكتب بها كتابها اليوم، ولا اللغة التي يتكلم بها قومها. وفضلا عن ذلك، فإن الذين يفهمون لغة الكتابة اليوم من المصريين لا يتجاوزون 12 بالمائة من السكان. أما باقي السكان، وهم 88 بالمائة، فإنهم لم يتعلموا لغة الكتابة، وإذا وجب أن يتعلموها ليدرسوا بها اضطروا إلى صرف عدة سنوات في ممارستها، فهل من الواجب وضع هذه العقبات في طريق تعليمهم، أو تسهيل هذا التعليم لهم لتلقينهم الدروس بلغتهم؟ ويقول المستر ويلمور إن هذه اللغة العامية لغة مستقلة عن اللغة العربية، وقد جاء عليها وقت كانت فيه لغة بأصول وقواعد، فإذا جمعت أصولها وقواعدها صارت لغة سهلة عمومية لجميع أفراد الأمة، خاصتها وعامتها.

ولكن الكتاب قاموا على المستر ويلمور قومة واحدة، فنقضوا الرأي الذي رآه، وأظهروا له أن اللغة العامية ليست لغة مستقلة، وإنما هي تشويه محلي يعتري كل لغة في العالم، وهو ما يسمونه لهجة، واللهجات متفاوتة في كل أمة وكل بلد تقريبا، فأية لهجة يستعملون؟ وهل جن أبناء اللغة العربية ليقطعوا باللغة العامية الجديدة الصلة الجميلة التي بينهم وبين أسلافهم من فلاسفة العرب ومؤلفيهم وحكمائهم وعظمائهم؟

على أن بعضهم يظن أن اقتراح المستر ويلمور فريد في بابه، والحقيقة أن هذا الاقتراح موضوع اليوم في مجال البحث في كل بلد تقريبا؛ ففي كل ممالك العالم المتمدن اليوم فريقان يتنازعان في مسائل التعليم تنازعا شديدا، وهما يسميان الفريق القديم والفريق الجديد؛ فالفريق الجديد يطلب اختصار التعليم أشد اختصار، وتسهيله أشد تسهيل، وأن يقرن بكل ما يحتاج إليه المتعلم من الدروس العملية؛ ليحصل رزقه في زحام هذه الحياة، وينبذ منه كل ما يثقل دماغ الطالب وذاكرته دون أن يفيده فائدة عاجلة؛ كالإسهاب في الصرف والنحو وآداب اللغة والشعر والهندسة والجبر وغيرها. والفريق القديم يقول إن التعليم مسألة تهذيب وتثقيف لا مسألة تجارة أو صناعة، والابتكار والاختراع في العلم لا ينشآن إلا عن التضلع من أصول العلوم والفنون والغوص في أعماقها؛ ولذلك يوجب هذا الفريق درس أعصى العلوم وأصعبها، ويجعل درس اللغة اللاتينية إلزاميا؛ لأن هذه اللغة كانت منذ قرنين لغة العلم في أوروبا، وبها كتب كثير من أشهر كتب العلم والفلسفة، فضلا عن الكتب التي كتبها مؤلفو الرومان.

وإن قيل أي الفريقين هو المصيب؟ قلنا: إن الفريق الثاني مصيب بالنظر إلى خاصة الأمة الذين يرومون الانقطاع إلى العلم، والفريق الأول مصيب بالنظر إلى العامة وطالبي الرزق. والظاهر أن المستر ويلمور هو من هذا الفريق الذي يبغي التسهيل.

ولكن المستر ويلمور لا يعلم على ما يظهر أن للتسهيل حدا لا يتعداه، وأن ما حصل في اللغة اللاتينية لا يمكن حدوثه في اللغة العربية لاختلاف النسبة بين اللغتين؛ فإنه لما قام ديكارت وخالف العادة التي جرى عليها علماء عصره من التأليف باللغة اللاتينية وجد لغته الفرنسوية لغة صحيحة فصيحة، فيها كثير من كتب الأدب. وهذا ما زاد كتبه رواجا وإقبالا، وأنساه سخط العلماء عليه من أجل تلك البدعة. ولكن ماذا يجد كاتب اللغة العامية اليوم إذا رام التأليف فيها؟ أتكفيه لغة الحمارة والبحارة للتعبير عن أشرف عواطف القلب، وأسمى خطرات الفكر، مع أنه يشكو من ضيق لغة ابن رشد نفسها؟

والحاصل أن المستر ويلمور قد حاول أمرا مستحيلا، ولا خوف على لغتنا منه ومن أمثاله؛ لأنهم لا يحاربون فقط اللغة العربية بهذا الاقتراح، وإنما يحاربون النواميس الطبيعية أيضا؛ ذلك أن النواميس الطبيعية ضدهم في هذه المسألة، وأن اللغة التي قتلت اللغة الآرامية واليونانية في سوريا وفلسطين، واكتسحت لغة المصريين قبل الإسلام، وانتشرت أوسع انتشار في أفريقيا، ودخلت في أثر السيف إلى أواسط آسيا وأوروبا، والتي لا تزال تتغلب حتى اليوم على لغات الهند في عهد الاحتلال الإنكليزي نفسه؛ لهي لغة نافذة كالسيف، فلا تؤثر سطور كتاب إنكليزي فيها.

ولكن هل يؤخذ من هذا القول أنه لا يجب علينا أن ننظر في كتاب المستر ويلمور نظرة اعتبار لنستفيد منه ما يمكن استفادته؟ لا ريب عندنا أن هنالك فائدة في غاية الأهمية، وسنأتي على ذكرها في المقال التالي.

اللغة العربية الجديدة

أتينا على تفصيل المناظرة التي جرت في القطر بشأن ما اقترحه المسيو ويلمور من وضع اللغة العامية في مصر موضع اللغة الفصحى في تعليم الشعب المصري والكتابة له، وذكرنا ردود مناظريه عليه ونقضهم أقواله، ثم قلنا في ختام ذلك الفصل إن في اقتراح المستر ويلمور عبرة وفائدة، ووعدنا بنشر هذه العبرة والفائدة، وإنجازا للوعد نقول:

يزعم بعض فلاسفة العمران أن في كل قول حتى ما كان منه خطأ شيئا من الصواب، واقتراح المستر ويلمور هو من هذا القبيل، فإنه خطأ محض إذا نظرت إليه من جهة لفظه، ولكن فيه شيئا كثيرا من الصواب إذا نظرت إليه من جهة معناه. وغرضنا الآن الإشارة إلى هذا الصواب.

وبعبارة أخرى نقول إن المستر ويلمور مصيب كل الإصابة إذا كان غرضه في اقتراحه هذا إنشاء أسلوب جديد للكتابة يفهمه جميع أبناء اللغة، فإن اللغات لا يمكن استبدالها؛ لأن ذلك فوق طاقة الإنسان، وإنما يكون تغيير أسلوبها؛ كأن يهجر القديم البالي الذي كان حسنا في عصره، إلى الجديد الذي هو حسن ومفيد في هذا العصر. فإذا نظرنا إلى اقتراح المستر ويلمور من هذا الوجه تغيرت مسألته، وصار المقصود بها تسهيل اللغة الفصحى على المعلمين والمتعلمين، لا استبدال اللغة العامية الساقطة بها. وحينئذ يكون صوته الجهوري الذي دوى في فضاء مصر صوتا يدعو إلى أمر في غاية الأهمية، ويشير إلى إحدى مصائب العلم والتعليم في اللغة العربية.

نقول ذلك لأننا لا نجهل المصاعب العديدة التي تعترض طلبة العلم وناشريه في اللغة العربية، فإننا نعرف كثيرا من المعلمين يحسبون العلم محصورا في اللغة؛ ولذلك يصرفون إليها عقول تلامذتهم دون سواها من الفروع التي توسع دائرة العقل، وتنمي الإدراك، فيشب الولد بين أيديهم ويخرج من مدرستهم وهو لا يعرف غير: «ضرب اضرب ضرب ضارب تضرب». وهذا بلاء شديد على الشرق. وإنما كلامنا هنا عن المعلمين في المدارس الابتدائية التي هي بمثابة القوالب الحقيقية الأولى التي تتكون فيها عقول الطلبة ونفوسهم، فإذا كان غذاؤها قويا من لباب العلم وثمار المعارف الحقيقية شبت قوية، وكان في إمكانها بلوغ حد البلوغ والرجولية، وإذا كان غذاؤها ضعيفا من قشور اللغة وما يتبعها من صرف ونحو وشعر، دون سواها من المبادئ التي تقدم ذكرها؛ فإنها تبقى طفلة وإن بلغت في العمر مبلغ الرجال.

وكما أن هذا البلاء شديد على بعض المعلمين والمتعلمين في الشرق، فهو شديد على بعض الكتاب أيضا، فإن هؤلاء الكتاب يصرفون أعمارهم في تصفح كتب اللغة القديمة، وانتحاء مناحي بلغاء المتقدمين، فينطبع في نفوسهم أن صناعة الكتابة لا تقوم إلا بتنميق العبارة، وذكر المترادفات من الألفاظ، وانتقاء الضخم منها، حتى إنك حين قراءتها لتخالها كالبندق الذي قال فيه الشاعر: «خلي من المعنى ولكن له فقش.» وعلى ذلك تصير الكتابة عندهم عبارة عن ألفاظ واسعة الأكمام، ضخمة الأجسام، يضيع فيها المعنى الذي تدل عليه كما تضيع كأس من السكر في بركة من الماء البارد، أو تكون أسلوبا جافا ناشفا تنتظم فيه معان قليلة بسلك معوج لا يفهمه القارئ إلا إذا راجعه عدة مرات، وربما راجعه طول النهار إذا كان ضعيف الفهم ولم يفهم منه شيئا.

فالفضل العظيم الذي يرجع للمستر ويلمور في هذه المسألة هو في رأينا حذفه مسألة اللغة بكلمة واحدة؛ وذلك بقوله استبدلوا العامية بالفصحى، فكأنه قال للذين يقدمون اللغة على كل شيء: إنكم تشتغلون بالقشر وتتركون اللب، فدعوا القشر، وإذا كانت لغتكم تحول دون تركه؛ فاتركوها هي نفسها أيضا، واتخذوا اللغة العامية بدلا منها طلبا للب الذي هو العلم الحقيقي والفائدة الحقيقية.

أما نحن فإننا نقول للمستر ويلمور: إننا نعد هذا القول جناية على اللغة العربية؛ لأن هذه اللغة الجميلة الحلوة لا أسهل منها على من يحسن تسهيلها، ولا أطوع منها على من يحسن التصرف بأساليبها. فالعجز إذا إنما هو في نفوس أهل اللغة لا في أساليب اللغة نفسها.

وهنا نصل إلى النقطة الهامة في هذا البحث، فنسأل المستر ويلمور ألا يعدل عن اقتراحه إذا ثبت له أن اللغة الفصحى قد تقوم بوظيفة اللغة العامية من إبلاغ المعاني إلى أفهام العامة؟ وهذا أمر ممكن. وإيضاحا لذلك نقول:

تقتضى المخاطبة ثلاثة أمور؛ الأول: المعنى الذي في ذهن المتكلم، والثاني: الكلام الذي يراد إيصاله إلى فهم المخاطب، والثالث: فهم المخاطب نفسه. فإذا كان معنى الكلام والكلام نفسه صريحين واضحين مسبوكين بأسلوب على قدر فهم السامع، وصل ذلك المعنى إلى ذهن المخاطب بلا عناء ولا مشقة؛ فالعمدة في ذلك إذا: المعنى والكلام والأسلوب.

وبناء عليه، إذا كان المتكلم ماسكا زمام المعنى، ووضعه في ألفاظ بسيطة حسنة مفهومة لدى العامة، وسبكه بأسلوب بسيط أيضا؛ تحتم وصول ذلك المعنى من ذهن المتكلم أو الكاتب إلى ذهن المخاطب لا محالة.

مثال ذلك العبارة التالية: إن المقصود بالسنن الموضوعة في السياسات كلها هو المدينة والكل لا الشخص.

فهل يعرف القارئ من أين أخذنا هذه العبارة؟ لقد أخذناها من كلام للفيلسوف ابن رشد في تعريبه كلاما لأرسطو، وأصلها هكذا: هذه السياسات كلها المقصود بالسنن الموضوعة فيها إنما هو المدينة والكل لا الشخص. فانظر أيهما أقرب إلى أفهام القراء في هذا الزمان.

وليس المراد بذلك أن العبارة التي بسطناها أولا هي أبلغ من العبارة الثانية التي خطها قلم ابن رشد؛ كبير فلاسفة العرب وأمير البلغاء، ولكن المراد أنها أقرب إلى أفهام القراء في هذا الزمان. وقد قال الجاحظ: كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ولا ساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشيا، إلا أن يكون المتكلم به بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي. ومن ذلك يثبت أن الفهم هو شرط الجواز في استعمال المعاني والألفاظ.

ولكن قد يصيح هنا كثيرون من محبي اللغة ويقولون: إن ذلك يقتل ملكة البلاغة والفصاحة؛ لأنه يضيق دائرة اللغة، ويقضي على أساليبها الجميلة، وتعابيرها الأنيقة؛ إذ ماذا يحل بنا وبلغتنا إذا وجب علينا ألا نخاطب الناس إلا بما يفهمونه؟ فالجواب عن ذلك سهل جدا على المستر ويلمور، وهو قادر على أن يحجهم من كلام أئمة البلاغة أنفسهم، قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد، وأصلها من قولهم: أفصح اللبن: إذا ذهبت عنه الرغوة، وهي بالاصطلاح عبارة عن الألفاظ المبينة الظاهرة، المتبادرة إلى الفهم، والمأنوسة الاستعمال لمكان حسنها.

وقال أبو هلال العسكري: سميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، والبلاغة مأخوذة من قولهم: بلغت الغاية: إذا انتهيت إليها وبلغتها غيري. وقال في الفصاحة: أما الفصاحة فقد قال قوم إنها من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره. والشاهد على أنها هي الإظهار قول العرب: أفصح الصبح: إذا أضاء. وقال في موضع آخر: يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى ، سهل اللفظ، وجيد السبك، غير مستكره فج، ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.

وقال صاحب المثل السائر: إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال.

هذا ما يعتقده في الفصاحة والبلاغة أئمة اللغة وكتابها. وإذا كان فهم السامع كلام المتكلم والقارئ كلام الكاتب هو الشرط في الفصاحة والبلاغة؛ فقد جاز أن يقال إن البلاغة والفصاحة عند الأمم تكونان بحسب أخلاقها وعاداتها وحاجاتها وأساليبها، فما يكون بلاغة وفصاحة في البدو لا يكون بلاغة وفصاحة في الحضر، وما يكون بليغا لدى العرب لا يكون بليغا لدى الإفرنج وبالعكس. فبناء على ذلك، يجب على المعلمين والكتاب ألا يتقيدوا بالماضي تقيد الأعمى، فإن الماضي إنما هو الطفولية، كما قال باكون، والإنسانية تتقدم صاعدة شيئا فشيئا في مراقي الزمن الأزلية، وهي جسم حي كل ما فيه نام: جسمه، ونفسه، ولغته، فإذا تقدمت النفس وارتقت وبقيت اللغة متأخرة جامدة صارت النفس خرساء لا تحسن التعبير عن حاجاتها.

فيؤخذ من ذلك كله أن المستر ويلمور مصيب في طلبه لغة جديدة غير لغة الطفولية، ولكن هذه اللغة الجديدة المطلوبة التي تقتضيها حالة العصر، ويوجب سير التمدن قيامها ليست اللغة العامية؛ لأن هذه لغة ساقطة، ولكنها لغة بين اللغة الفصحى القديمة التي لا يفهمها العامة والخاصة أيضا وبين العامية. وهذه اللغة الجديدة موجودة الآن، وهي لغة المجلات والجرائد التي تحسن اختيار ألفاظها وأساليبها، وتتقي الخطأ فيها، فما طلب إذا المستر ويلمور إلا شيئا موجودا.

نتج إذا أن اللغة الجديدة التي ستكون اللغة العربية في المستقبل هي تلك اللغة البسيطة السهلة التي لا يكون فيها لفظ غير مألوف الاستعمال، ولا تعبير من التعابير البدوية القديمة التي لا مسوغ لاستعمالها في زمن كهذا الزمان. هي تلك اللغة التي تغيب ألفاظها وراء عرائس المعاني كأنها زجاج شفاف يظهر باطنه مع ظاهره، أو نبع صافي الماء تعد في قعره درر الحصى واحدة واحدة. هي تلك اللغة التي يقرأ أبناؤها مقامات الزمخشري والحريري واليازجي ورسائل الخوارزمي والهمذاني، فيأسفون على الوقت والقوى التي أنفقوها في صف الألفاظ بعضها وراء بعض، ويضحكون من تلك الكلمات الغريبة والأساليب العجيبة كما ضحك أعرابي من بيت لأبي تمام تلي عليه فلم يفهمه وقال إنه ليس بعربي. هي تلك اللغة التي إذا مات رجل عظيم من أبنائها قال كاتبها في تأبينه: مات رجل عظيم، لا كسفت الشمس، وخسف البدر، ومادت الجبال، وغارت البحار، بل هي تلك اللغة التي كل كاتب وكل معلم من أبنائها يكتب في دفتره الخصوصي مقال الجاحظ: ليست الفصاحة بالتفصح؛ لأنه لا يزيد متزيد في كلامه إلا لنقص يجده في نفسه.

أساتذة المدارس وتلامذتها في أوقات العطلة الصيفية

قربنا من أيام العطلة المدرسية.

غدا تخلو المدارس الكبرى والصغرى من تلامذتها كما تخلو الأعشاش من صغارها. غدا، هذه الأماكن الطاهرة الجميلة التي تنشأ فيها الأجيال بعضها بعد بعض، والتي يدوي الآن في فضائها صراخ أبناء الإنسانية الصغيرة، تصبح ساكتة هادئة لا يسمع في جنائنها غير غناء الطيور التي تزداد غناء في غياب رفقائها التلامذة، كأنها استوحشت وحدها فقامت تشكو فراقهم.

ولا يخفى ما في منح المدارس فرصها الصيفية (المسامحات) من الحكمة والفائدة، فإن المقصود من إعطاء التلامذة فرصة شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر في السنة هو على ما نرى خمسة أمور:

أولا:

راحة أدمغة الطلبة والمعلمين من تعب الدرس مدة تتجدد فيها قواهم العقلية والجسدية.

ثانيا:

إظهار الفرق للتلامذة والمعلمين بين العمل والبطالة، وكيف أن الأول سار مفيد مع ما فيه من العناء، وكيف أن الثاني مضجر مضر مع ما فيه من الراحة، فيعود كل من الفريقين إلى أعماله المدرسية أكثر نشاطا وأشد شوقا إليها.

ثالثا:

عودة التلامذة إلى المعيشة العائلية مع أهلهم لاستعادة بعض ما أفقدتهم إياه المعيشة المدرسية من الانعطاف العائلي؛ لأنه من الثابت - ويا للأسف - أن المعيشة المدرسية؛ ونعني بها هنا المعيشة في المدارس الداخلية، تسلب من قلب التلميذ قسما من الألفة البيتية.

رابعا:

جعل السنة المدرسية شوطا بعيدا يجري فيه التلميذ على أمل أن يصل إلى الغاية؛ أي الراحة بعد التعب، وإحراز قصب السبق في الامتحان بعد طول الدرس والتنقيب، فإن هذا الأمل مما يخفف عليه مشاق الدرس، ويجعله يقطع تلك الطريق الطويلة بشيء من السهولة.

خامسا:

الفرار من حر الصيف الذي يكون الدرس فيه شاقا متعبا.

فأنت ترى مما مر بك أن العطلة المدرسية نعمة لعنصري المدرسة؛ ونعني بهما المعلمين والتلامذة، فينبغي السرور بها والارتياح إليها، خلافا لما يعتقده بعض بسطاء الآباء والأمهات من أنها تضر الأولاد وتجعلهم ينسون ما تعلموه.

أما نسيان الأولاد ما تعلموه، فهذا أمر لا نحب أن نسمع به من فم عاقل يفهم معنى التعليم. أفتحسبون التعليم هو تلك القواعد الباردة الشاردة الكاسدة التي يحفظها التلامذة في ذاكرتهم، فإذا لم يتذاكروا بها أو لم يراجعوها في كتبهم نسوها، وبذلك يخسرون ما تعلموه؟ كلا ثم كلا! إن التعليم الصحيح غير متوقف على قاعدة أو دفتر أو كتاب، حتى ولا على مكتبة، وإنما يتوقف على المبادئ التي يكون المعلم قد بثها في نفس تلميذه، ونعني بهذا: توسيع نطاق مداركه، وتربية دماغه، وتثقيف نفسه، حتى إذا خرج من المدرسة ونسي كل قواعد التصريف والإعراب، وكل مبادئ البيان وما أشبهها، بقي له معرفة نواميس الحياة، ومقدرة على فهم كل شيء يطالعه، والتمييز بين الفاسد والصحيح، والنافع والضار، والحرام والحلال.

هذا هو التعليم الحقيقي. أما القواعد فليست إلا آلة لهذا التعليم، وينبغي أن تكون كل واحدة منها بمثابة حجر يوضع في أساس هذا البناء العظيم الذي يسمى تربية وتعليما. أما إذا كانت القواعد مما يمنع التربية العقلية والنفسية التي أشرنا إليها، لا مما يؤيدها، فإننا نشفق حينئذ بنية خالصة على معلميها ومتعلميها.

إذا لا خوف من أن ينسى التلامذة في الفرص المدرسية ما تعلموه إذا كان التعليم صحيحا، وإذا لم يكن كذلك فلا أسف عليه إذا نسوه؛ إذ بذلك يطردون الفضول من ذاكرتهم.

وأما قولهم إن هذه الفرص تضر بالتلامذة، فهو قول فاسد، وكلامنا في هذه المقالة عن هذا الموضوع.

فإن العطلة المدرسية تكون مما يضر ويفسد حال التلامذة إذا صرفوها في وجه ضار؛ كالبطالة والمعاشرة الرديئة التي تفسد الأخلاق، وتكون مما ينفع إذا صرفوها في وجه نافع. وهذه أولية لا تحتاج إلى تبيان، وما جئنا لإقامة الدليل عليها، ولكن جئنا للإشارة إلى أمر مختص بالفرص المدرسية، وهو عظيم الأهمية للمدارس ومعلميها وتلامذتها وللهيئة الاجتماعية.

وهذا الأمر العظيم الذي نوجه إليه أنظار جميع أصحاب العقول الناضجة من المعلمين والمتعلمين هو إنشاء مدارس عملية في إبان العطلات المدرسية. ومعنى هذا ألا يصرف المعلمون والتلامذة أوقات العطلة في البطالة والكسل؛ فإن ذلك أمر لا يليق بأصحاب العقول.

وإن قيل إن العطلة المدرسية قد وضعت للراحة: قلنا إن الراحة شيء، والكسل والبطالة الذميمة شيء آخر. ونحن لا نطلب أن ينصرف المعلمون والتلامذة إبان العطلة إلى التدريس والدرس، اللذين يشتغلون بهما في أوقات المدرسة، وإنما نطلب أن يعمل كل من الفريقين في أوقات راحته عملا مفيدا لنفسه ولغيره من غير أن يعاني مشقة وتعبا.

أما التلامذة فينبغي أن يطلبوا الخلاء والهواء النقي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأحسن ما يشتغلون به فيهما مدة الفرصة حراثة الأرض؛ كالبستان أو الحقل، وسقيها من عرق جبينهم، فترد لهم هذا العرق صحة وعافية في العقل والبدن. ولو كان الصيد ملذة طاهرة؛ أي لو لم يكن فيه قتل أرواح، وكان من القبيح أن يعتاد الأولاد من صغر أن يقتلوا ولو حيوانا؛ لأشرنا عليهم بالصيد والقنص. على أننا نفضل الحراثة والزراعة؛ لأنهما فن، وإذا مارس التلميذ هذا الفن اكتسب ميلا إليه. والميل إلى استخراج خيرات الأرض وإجادة ذلك من أهم أسباب الثروة ووسائل العمران.

وإذا لم تكن الفلاحة والزراعة في الخلاء كالقرى في أعالي الجبال ترويضا للجسد وللعقل معا، فلا أحسن من أن يعمل التلميذ بصناعة؛ كالنجارة مثلا، فإن هذه الصناعة التي كان يحبها جان جاك روسو حتى قضى بتعليمها للتلامذة ، والتي كان يحسنها لويس السادس عشر المسكين، الذي تحكى قصته في رواية نهضة الأسد؛ هذه الصناعة مما يروض الجسم والعقل أيضا، فيجب على الطلبة أن يختاروا بينها وبين الزراعة.

هذا فيما يختص بصغار الطلبة، أي الذين لم يبلغوا الدروس العلمية بعد. أما الذين بلغوا الدروس العلمية، فعليهم في أوقات الفرصة ما على معلميهم من الواجب العظيم الذي أشرنا إليه.

وهذا الواجب العظيم هو إنشاء المدارس العامة كما قدمنا، والمقصود بذلك أن نحذو حذو الأمم الحية التي لا تعرف السكون، بل تتحرك دائما، فإن علماء فرنسا ومعلميها والمتقدمين من طلبة مدارسها ينتشرون حين إقفال أبواب المدارس في المدن والقرى والمزارع، يخطبون على العامة وعلى تلامذتهم في المواضيع الصحية والأدبية والعلمية والفلسفية البسيطة، والأمة عامتها وخاصتها تقبل على استماع أقوالهم، والانتفاع بعلمهم، فأي مانع غير التواني وعدم الاكتراث يمنع أساتذة مدارسنا أن يعملوا كذلك في أوقات الفرص المدرسية؟

تصور مدينة شرقية أقفلت مدارسها اليوم، وانتشرت غدا في أسواقها إعلانات من الأساتذة يدعون الشعب فيها إلى استماع خطب بسيطة صغيرة يلقيها كل أستاذ مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، ومتى اجتمع المجتمعون أخذ الأستاذ يلقي على سامعيه كلاما بسيطا في العلم والأدب، وعلم الصحة والجغرافيا والتاريخ، والمبادئ الطبيعية التي يجب اطلاع العامة عليها، والمبادئ الصحية التي من واجبات كل هيئة اجتماعية أن تعلم عامة الشعب إياها. أليس يحضر تلامذة المدارس حينئذ هذه الخطب فيكملوا خارج المدرسة ما بدءوا به في المدرسة؟ ألا يستفيد الشعب من هذه الخطب فوائد لا يستطيع تحصيلها بطريقة غير هذه الطريقة؟ ألا تكون هذه الاجتماعات الأدبية اللطيفة مما يقتل روح الجهل في الأمة، ويدعو إلى الاتحاد والألفة؛ لكثرة اجتماع العناصر المختلفة بعضها مع بعض؟ ألا ترقي هذه الخطب آداب الأمة وذوقها؛ إذ تصرف الأفكار عن المقاهي والحانات إلى طلب مكان أفيد وأسمى؟ ألا تتأثر نفوس أبناء الشعب مما يذكره الخطباء في هذه الاجتماعات من وصف العادات القبيحة، والحث على ترك المسكرات الآفة الكبرى؟ ثم ألا يعتبر العقلاء هذه الخدم الجليلة التي يقوم بها الأساتذة إبان الفرصة المدرسية موازية للخدم الجليلة التي يقومون بها داخل المدرسة؟ وماذا يخسر الأساتذة؟ لا شيء، بل إنهم يربحون اتساع الشهرة، ويكتسبون أميال الناس وحبهم واحترامهم، وفوق ذلك كله يشعرون حينئذ بالكبرياء الساهرة الجميلة التي يشعر بها كل من يصنع خيرا حقيقيا. وهذا خير جزاء لهم.

فإلى هذا الأمر العظيم نوجه أنظار أساتذة المدارس ومعلميها وتلامذتها في الشرق، نوجه أنظارهم إليه ويتنازعنا عاملان: عامل سرور، وعامل كآبة.

أما عامل الكآبة فلأننا نخشى - وا أسفاه - أن يكون كل ما يكتبه الكاتبون ذاهبا أدراج الرياح، فإننا لا نحتاج اليوم إلى من يقول، وإنما نحتاج إلى من يفعل؛ نحتاج إلى أساتذة ومعلمين يعرفون ما يجب عليهم، ويدركون عظم المسئولية التي وضعوها على عواتقهم يوم تسموا معلمين، وجلسوا على كرسي سقراط وأفلاطون وأرسطو، فيقومون إلى العمل بواجباتهم.

وأما عامل السرور فلأننا نرجع بالفكر إلى أوقات بعيدة تختلج لها القلوب في الصدور. سلام يا أوقات التلمذة الجميلة، ما كان أحلاك وأسعد أيامك! يا ربيع الحياة المفروشة طريقه وردا وريحانا! يا عمر الزهر والطهارة وعدم الاكتراث! سقيا لك من جنة لا يراها الإنسان إلا بعد أن يجتازها! يا طيرا ذا ألف لون ولون يطير في فضاء هذا العالم بسرعة الحلم، ولا نراه إلا بعد أن يفلت منا! يا أحلام الصبا الوردية وآماله الذهبية! يا جو الكمال التصوري الذي ترفرف فيه أجنحتنا الرطبة الرخوة في الصغر، حتى إذا أتت حوادث الحياة الحقيقية في الكبر كسرتها، واجتذبتنا إلى الأرض بالرغم عنا.

هذا ما يحلو حين التفكير بالفرص المدرسية، ولكنه يحلو لمن كانوا تلامذة، فأين حلاوته لمن كانوا معلمين؟

يا لك من فن شريف عظيم يا فن المعرفة والحكمة! بيدك يا فن التعليم زمام الأمم ومستقبل الشعوب. أنت القوة الحقيقية، والسياسة الحقيقية. صرفنا فيك أوقاتا لا نذكرها إلا ويصعد الدمع إلى عيوننا؛ ذلك لأننا نذكر رفيقا ساعدنا فيك، وصرف فيك أوقاته وقواه معنا، فنحن نبعث له بالتحية في هذا المقام وإن خرجنا عن موضوعنا. سلام يا روح ذلك الرفيق العزيز. نكتفي الآن بهذا القول ونترك الدمع يكمل تحيتنا.

الشبان وخطرهم وما يجب لهم

نود قبل الكلام عن هذا الموضوع أن نقول كلمة بشأن ما ننشره في هذا الباب، وهي أننا لا نستطيع أن نقول كل ما يجب أن يقال في هذا الموضوع؛ لأن التفصيل والإسهاب من شأن الكتب والمؤلفات المطولة، ونحن لا نستطيع هنا إلا الإشارة، إشارة إلى أهم مسائل التربية، لئلا يستغرق هذا الباب أبواب «الجامعة» الأخرى. فنحن إذا إنما نكتب هنا للأدمغة الناضجة والنبهاء والنبيهات الذين يكفي أن تعرض على أفكارهم الثاقبة عبارة واحدة في أحد المواضيع، فتنفتح بها في أذهانهم أبواب عالم جديد لم يكونوا قد أبصروه أو التفتوا إليه. أما الذين لا يفهمون الأمور إلا إذا فصلت لهم تفصيلا مملا، وبسطت لم تبسيطا كليا، فإنا نشير عليهم ألا يقرءوا هذا الكلام.

والآن نعود إلى الموضوع: نريد بخطر الشبان حالتين يوجد الشاب فيهما؛ الحالة الأولى: تسليم الطبيعة إليه قياد نفسه، والثانية: نزوله إلى العالم.

أما الحالة الأولى، فنريد بها بلوغه سن الرجولية، فإن الشعور الجديد الذي يشعر الشاب به يومئذ إذا لم يحكم عليه، ويصرف أمياله في طريق الخير، أضاع نفسه وأضاع مستقبله معه، فضلا عن جنايته على نسله، وعلى الفضيلة والأدب العام. ومن أنعم النظر وجد أن الآباء والأمهات قلما يلتفتون إلى العناية بأولادهم من هذا القبيل، فإنهم يتركونهم وشأنهم دون مراقبة، وربما تركوهم بلا عمل أيضا، فهنالك الطامة الكبرى؛ لأن «رأس البطال مخزن الشيطان.» كما يقول المثل، والبطالة آفة الآفات، ولا سيما في هذا الشأن الذي نبحث فيه تلميحا لا تصريحا.

وقد وصف جان جاك روسو لهذا الداء دواء نراه ناجعا، وهو أن تشغل أوقات الفتى كلها بما يلهيه عن أمياله الجديدة، وذلك بالصيد في البر والبحر، فإن الصيد لذة، وإذا وجد بإزاء الولد من يحثه عليها ازداد رغبة فيها، ولكن يشترط إبقاء الفتى تحت المراقبة الشديدة ليلا ونهارا، وإخماد ثورة عواطفه الجديدة بالاعتدال حتى بالمأكل والمشرب، وبإبعاده عن المجتمعات التي تثير عواطفه، وتزيدها هياجا واضطراما. وهذا الدواء موضوع لأبناء الأغنياء البطالين.

وليعلم الآباء والأمهات أن مستقبل أولادهم، بل حياتهم نفسها قد تكون متوقفة على هذه المسألة. وننصح لهم ألا يهملوا ذلك، فإنهم إذا أبصروا فتاهم حين دخوله في سن البلوغ قد أخذ ينحل ويتغير لونه؛ فليبحثوا وليسعوا جهدهم إلى معرفة السبب منه نفسه، وليبينوا له الخطر الصحي والأدبي الذي يلقي فيه نفسه ونسله من بعده، وذلك باستسلامه إلى أمياله الجديدة.

وأما الخطر الثاني؛ وهو نزول الشاب إلى العالم، فيمكن اجتنابه بأمر واحد، وهو أن يبقى الولد تحت جنحي أبيه وأمه، فلا يسمح له بالاستقلال بأعماله، وعلى الخصوص بالسفر إلى بلاد أخرى بعيدة، إلا متى رسخت أخلاقه، وثبتت أمياله، واشتدت ألواحه، وأصبح لا يخشى عليه من أن يسقط في تجربة، أو أن يحيد عن الطريق القويم والصراط المستقيم.

هذا ما نقوله الآن في خطر الشبان، وإنما اختصرناه لننتقل إلى البحث التالي؛ وهو نسبة الشبان من الأمة، وماذا يجب لهم.

شبان الأمة هم منها بمثابة دمها، فإذا كان هذا الدم صحيحا نقيا كان جسم الأمة صحيحا قويا، وإذا كان فاسدا كان جسمها ضعيفا سقيما. ولا ننكر أن الكهول والشيوخ - ولا سيما من العلماء والكتاب - لا تنضج مواهبهم إلا بالشيخوخة وتكرار الأيام، فيكونون في آخر عمرهم أكثر فائدة مما كانوا في أواسطه أو في أوائله، ولكن هذه أمور نادرة شاذة، وإنما القياس الصحيح والقاعدة المطردة هما أن قوة الأمة تكون بقوة شبانها؛ أولا: لأن كل عظائم الأمور السياسية والعسكرية والتجارية والصناعية والزراعية يكون الشبان أقدم عليها من الشيوخ، وثانيا: لأن هؤلاء الشبان سيسمون شيوخا، فإذا كانوا أقوياء في شبابهم من الوجه الأدبي ازدادوا قوة في شيخوختهم، فقوتهم إذا تشتمل على قوتين: قوتهم في الحاضر، وقوتهم في المستقبل؛ لذلك قلنا إنهم من الأمة بمثابة دمها، إذا صح صحت، وإذا فسد فسدت.

وإذا كان الشبان هم دم الأمة، كما قدمنا، ومدار صلاح حالها، وجب أن تكون العناية بهم فوق كل عناية. ولا خلاف في أن كل أمة تعنى بتربية شبانها، ولكن عقدة المسألة هي الطرق التي تجري هذه العناية عليها؛ فالشبان في فرنسا يشبون وغايتهم العظمى نيل الشهادة الأدبية أو العلمية والاستخدام في الحكومة، بخلاف إنكلترا، فإن هم مدارسها مصروف إلى تعليم شبانها العظمة والإقدام وحب المعيشة الحرة. فلنبحث ما هي الطريقة المثلى للعناية بالشبان.

إننا نرى لذلك طريقتين متلازمتين؛ الأولى: هي تربية هجوم، والثانية: تربية دفاع. ومعنى هذا أن الشبان في هذه الحياة الطويلة والقصيرة معا يشبهون ركبا في سفر، فيجب أن يكون معهم سلاح للإقدام يمهدون به طريقهم، ويجوزون كل ما فيها من الصعاب، وسلاح للدفاع يدفعون به كل ما يعدو عليهم في سفرهم. وبلا هذا السلاح المزدوج، يشبه الشبان جنودا بلا سلاح أرسلوا إلى ساحة القتال.

وكأننا نسمعكم تقولون: ما هو هذا السلاح؛ سلاح الهجوم؟ فنجيب على ذلك أنه سلاحان: مادي، وأدبي. أما السلاح المادي فهو تقوية أجسام الشبان بالرياضة والعمل؛ أي جعل أجسامهم أجساما صحيحة لتسكنها عقول صحيحة، فإن كل رجال الإقدام والعزائم في العالم هم من أصحاب الأجسام القوية. وأما السلاح الأدبي فتثقيف عقول الشبان بعلوم وفنون تكسبهم رزقهم في هذه الحياة، لا بدروس سقيمة يحفظونها اليوم لينسوها غدا، ولا تفيدهم في دور من أدوار حياتهم.

وأما سلاح الدفاع، فهو القوة التي يجب إدخالها في نفوس الشبان لتكون سلاحا لهم ضد ما قد يطرأ عليهم من الضعف في هذه الحياة؛ فالرذيلة ضعف يطرأ على النفس يقتضي إزالته بقوة الفضيلة، والبطالة ضعف يطرأ يجب أن يزال بقوة حب العمل والمقدرة عليه، والتبذير ضعف يزال بالاقتصاد، وهلم جرا. وإلا فإن الشبان إذا لبثت نفوسهم من غير هذا السلاح - سلاح الدفاع - فإنها تسقط سقوطا هائلا بإزاء أعدائها الكثيرين الذين يهاجمونها من كل جانب في هذه الحياة.

فالطريقة المثلى لتربية الشبان أن نعطيهم سلاحا للهجوم وسلاحا للدفاع.

فهل تعطي مدارسنا هذين السلاحين؟

قلنا مدارسنا، ولم نبدأ بالبيت، مع كون التربية البيتية هي أساس كل تربية، كما مر بنا؛ لأننا يحق لنا أن نقطع الرجاء من التربية البيتية بإزاء ما فيها من الفساد المتأصل. وسبب فسادها أنه لا يوجد في البيت كما يوجد في المدارس عقول نيرة، وأفكار ثاقبة تفهم معنى التربية إن لم يكن حق الفهم فبقدر الاستطاعة، فلا نرجون في هذا الزمان فائدة من التربية البيتية قبل إصلاحها من أساسها.

ولكن ما هو تأثير التربية المدرسية عندنا؟ هل هي تعطي السلاحين اللذين أشرنا إليهما آنفا؟

من الثمرة تعرف الشجرة، وإذا أردنا معرفة أحوال التربية والتعليم في مدارسنا؛ فلننظر إلى تلامذتها الشبان الذين يخرجون منها في كل عام مئات وألوفا، فإن أكثرهم يكونون بعد المدرسة عالة على أهلهم، دأبهم البطالة والإقامة في المقاهي والحانات، المقامرة أحب عمل إليهم، والعمل أكره الأشياء عندهم، ينامون في المسكرات والرذيلة، ويصحون في الكسل والبطالة، وهكذا يصرفون زهرة عمرهم، وينفقون دماء حياتهم في هذه المعيشة السوداء والبلية الدهماء.

وفي وسط هذا الليل المدلهم يوجد من يصرخ أن الأمة فقيرة متأخرة. نعم، وكيف لا تكون الأمة فقيرة تعيسة شقية إذا كان شبانها، وهم دمها الذي به تحيا وتقوى، منغمسين هذا الانغماس بهذه المعيشة القبيحة؟ إن الأمة تعيسة، وستزداد تعاسة إذا بقيت على هذه الحالة من الفساد، وإذا سألتم من هو المسئول عن هذا الفساد، أجبنا أن المسئول فريقان: الأول: المدرسة، والثاني: الهيئة الحاكمة.

أما المدرسة، فلأنها تعلم طلبتها تعليما غير منطبق على حاجاتهم، فبدلا من التعليم الصناعي والزراعي والتجاري الواجب تقديمه على كل تعليم، يعلمون أولئك الشبان تعليما أدبيا ناقصا، يجعلهم قاصرين في كل شيء، ويمنعهم حتى من العمل بشرف لأكل خبزهم بعرق جبينهم. وهذه جناية كبرى لا تلتفت إليها مدارسنا، ولكنها تحمل تبعتها بالرغم عنها. إنكم تعلمون تلامذتكم علوما أدبية من لغات ونحو وصرف، فمثلكم مثل من يثقب الماء أو يضرب الهواء؛ أي إنكم لا تؤثرون فيهم تأثيرا مفيدا، بل تضرونهم من حيث أردتم أن تنفعوهم، فإذا أردتم نفعهم نفعا حقيقيا، فعلموهم مع التعليم الأدبي تعليما صناعيا وزراعيا وتجاريا.

وأما مسئولية الهيئة الحاكمة، فلأنها لا تفتح لأبنائها موارد جديدة للرزق والاستعمار والعمل في أملاكها الواسعة، وأراضيها القفراء المخصبة، فضلا عن أنها لا تعمم المدارس الصناعية والزراعية، وهي بذلك تخطئ إلى نفسها؛ لأن شبان الأمة الذين لا يجدون مصرفا لقواهم وأعمالا لهم ينسبون الخطأ كله إليها لا إلى المدرسة، فينقلبون باللائمة عليها ويسخطون.

فحرام وألف حرام أن تتركوا دم الشباب الذي هو دم الأمة يذهب سدى بلا فائدة، اصرفوه إلى الأعمال النافعة بدلا من تركه ينصرف إلى الشر والبطالة والرذيلة، ويفسد في مستنقعاتها. علموا الشبان تعليما عمليا، وانزعوا في المدرسة من عقولهم بغض العمل، وعلموهم أن كل عمل - حتى أصغر الحرف - أشرف من الكسل والبطالة. مدارس عملية، مدارس عملية. أنشئوا عندنا مدرسة عملية بإزاء كل مدرسة أدبية، ونحن الضامنون لكم أن حالنا تنقلب في أعوام قليلة.

تربية المرأة

يكون الرجال كما يريد النساء ... والذي يزيدنا رغبة في الكلام عن هذا الموضوع طلب كثيرين من القارئات والقراء، فإن بعضهم يرسل إلينا يقول: النساء النساء. تكلموا عن النساء. وغيره يقول: ما معنى قولكم: يكون الرجال كما يريد النساء؟ ونسي هذا السائل أن هذا القول لجان جاك روسو لا لنا، كما أن القول الثاني عن المدرسة هو لأستاذنا الفيلسوف جول سيمون، رحمه الله.

وتقول بعض القارئات: نحب أن نقرأ تفسيركم لهذه العبارة: «يكون الرجال كما يريد النساء.» وسألت واحدة أخرى: لماذا لا تتكلمون عن تعليم البنات في باب التعليم والتربية كما تتكلمون عن تعليم الفتيان؟ وسألت واحدة أخرى: لماذا نسيتم النساء؟ وقالت ثانية: ما هو دواء ضجر ربة البيت؟ وسألت ثالثة: ما هي واجبات الابنة العاقلة؟ ورابعة: ما هي واجبات ربة البيت؟ كل هذه الأسئلة جاءتنا مع كثير غيرها، فأخرناها إلى اليوم لنجيب عنها في مقالة خصوصية.

وأول ما نجيب به أننا لم ننس النساء فيما كتبناه إلى الآن عن التربية والتعليم، ذلك لأننا نعتبر أن الكلام في إصلاح التربية العائلية والتربية المدرسية كلام في تربية الفتيان والفتيات معا. فإذا كان ذلك كذلك، أفنكون قد نسينا النساء؟

معاذ الله أن ننساهن! معاذ الله أن ننسى ملكات الكون، ورياحين الوجود اللواتي في أيديهن مستقبل الأمم، وأزمة الشعوب؛ لأنهن مربيات الأجيال، ومنشئات الرجال. وإنما قصرنا الكلام على الرجال؛ لأن الكلام عنهم يشملهن أيضا.

ولكن لا مندوحة لنا عن الاعتراف بأنه كان الأجدر بنا قصر الكلام على تربية النساء؛ لأن الكلام فيها أعم من الكلام على تربية الرجال لكونهن المربيات المثقفات، فإذا ربين تربية حسنة استطعن أن يربين النسل كله كذلك. وهذا معنى قول إيمه مارتين: متى ربيتم النساء فلا تهتموا بتربية الرجال؛ لأن النساء يربينهم لا محالة، وقول روسو: كما يريد النساء يكون الرجال، فإذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء؛ فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة.

وزيادة في تفسير هذه العبارة وإيضاح المعنى المقصود منها إجابة للسائلين والسائلات نقول: تقسم هذه العبارة إلى قسمين؛ الأول: «يكون الرجال كما يريد النساء.» وهي القضية، والثاني: «إذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء؛ فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة.» وهي النتيجة.

أما القسم الأول فمقتضاه أن المرأة متسلطة على الرجل فتجعله كما تريد. وهو قول فاسد وصحيح معا؛ يكون فاسدا لدى كل الأمم إذا اعتبرناه من حيث الظاهر، ويكون صحيحا لدى كل الأمم أيضا إذا اعتبرناه من حيث الحقيقة الطبيعية.

أما فساده فظاهر من أن الرجل هو المتسلط شرعا على المرأة في كل البلدان وجميع الأديان، لا المرأة على الرجل، وأما صحته فظاهرة من أن المرأة هي المتسلطة أدبيا واجتماعيا على الرجل، لا الرجل على المرأة.

ويكفي لإثبات ذلك أن ننظر إلى أدوار عمر المرأة وتأثيرها في كل منها.

المرأة تكون ابنة، ثم خطيبة، فزوجة، فأما، فجدة.

خمسة أدوار جميلة تتقلب فيها بين طهارة الصبوة، وجمال الشباب، ووقار الشيخوخة، وهي في كل منها متسلطة على قلب الإنسان وحاكمة عليه.

فإنها أول ما تولد يأخذ أبوها بالتفكير والتدبير استعدادا لزيادة رزقه على نسبة زيادة نفقته؛ لأن «المدموازل» إذا كانت اليوم صغيرة، فإنها ستصبح غدا كبيرة، غدا تحتاج إلى الحلل الجميلة، وتطلب القبعات النفيسة. وبعد ذلك يأتي «النصيب»، فيطلب المال فوق الجمال والكمال، وكل ذلك يزيد النفقة. ومعلوم أن توقع زيادة النفقة يزيد اجتهاد الإنسان ونشاطه في الكسب والتحصيل؛ فالابنة إذا تجلب لوالديها يوم ولادتها نشاطا جديدا واجتهادا جديدا يوجبان عليهما أن يفرحا بولادتها لا أن يحزنا، كما يحدث أحيانا عندنا؛ فهي إذا من صغرها تبدأ بالتأثير والتسلط على ما حولها، فما أعظم هذه القوة التي تتسلط حتى في بدء طفوليتها!

ثم ينقضي دور الصبوة بطيشه ونزقه، ويأتي دور الشباب بجماله وكماله، ومن هنا يبدأ التأثير العظيم الذي يفوق كل تأثير في الوجود، والسلطة الكبرى التي تفوق كل سلطة في العالم.

كانت تلك الفتاة أمس ولدا في المدرسة تلعب وتثب غير مكترثة بشيء من هذه الحياة، همها مقصور على رضى أمها ومعلمتها، ودرس مثالتها، وإشباع معدتها، ومداعبة لعبتها، ولكنها اليوم أخذت تهدأ شيئا فشيئا. هو ذا الورد أخذ يتفتح في الخدود، والعيون أخذت تذبل وتتجلل بثوب من البهاء جديد، والنظر صار مطرقا، والفكر مبهوتا، والرأس محنيا كوردة أثقلها الندى، والوجنات شديدة التأثر، كلمة تفضضها وكلمة تعسجدها، فما هذا الانقلاب العجيب الذي حدث؟ لا شيء سوى أن «ملكة» الوجود قد بلغت سن الملك والسلطة. لقد قبلتها الطبيعة الجميلة في فمها القرمزي الجميل، وألبسها الحسن تاج الملك، ودفع إليها الشباب صولجان السيادة.

ثم مر الرجل فأبصر هذا السلطان فخضع صاغرا، خضع لأنه كتب له الخضوع كما كتب لها السيادة، فأصبح همه مقصورا على رضى حاكمته؛ ما يرضيها؟ وأي شيء يسرها؟ هل ترضيها الحلى والحلل؟ والخيل والخول؟ والمراقص والمتنزهات؟ هيا إذا وأنفق المال بلا حساب. أيرضيها المزاح الكثير؟ فاجعل نفسك مزاحا، أو المقامرة الكبيرة؟ فاجعل نفسك مقامرا كبيرا، أو الأدب والحشمة والاعتدال؟ فاجعل نفسك أديبا ومحتشما ومعتدلا، كل ذلك إكراما لعيونها؛ لأنه لا يهمك وقتئذ شيء في هذه الحياة إلا رضاها.

ثم إن هذه الفتاة الخطيبة تصبح زوجتك؛ أي إنك توليها على شرفك وبيتك ومالك، فيكون القول قولها، والأمر في كل ذلك لها، ثم تصبح أما؛ أي إن الطبيعة تهبكما ثمرة حبكما واتفاقكما ، وتوليها على مخلوق لطيف لتربيته، فتكون هي القابضة على مستقبل ولدك وعيلتك، ثم إن هذه الأم يشب أولادها، فتبقى بإزائهم سيدة عليهم، ثم يتزوجون فتبقى مراقبة عليهم وعلى أولادهم، كأنها رمز إلى الماضي والمستقبل، وبركة للبيت الذي يعيشون فيه.

فالآن قولوا لنا: هذه الفتاة التي لها السلطة المطلقة على الرجل وهو شاب خطيب، تتصرف به كيفما تشاء، وتجعله يصنع ما تشاء. هذه الفتاة التي تقبض على زمامه أراد أو لم يرد حينما يصبح زوجا لها، وتزداد سلطة عليه حينما تصير أما ويصير أبا. هذه الفتاة التي نسلمها شرفنا وقلبنا ومنزلنا، والتي تسلمها الطبيعة النسل لتربيه لنا. هذه الفتاة التي يكون لها تأثير عظيم كهذا التأثير، وسلطان قوي كهذا السلطان، أية تربية ربيناها لتحسن القيام بكل تلك الواجبات الصعبة؟ سلمناها شرفنا وشرفها وشرف العائلة، فهل أعطيناها السلاح لتدافع به عنها؟ سلمناها البيت وما فيه ومن فيه، فهل ربيناها التربية اللازمة لتحسن الاعتناء به والقيام عليه؟ جعلتها الطبيعة سيدة الوجود، وريحانة الكون، فهل علمناها كيف تستعمل سيادتها لتفضي بنا إلى الخير بدل أن تفضي إلى الشر؟

كلا، لم نعلمها شيئا من ذلك، بل تركناها تنغمس في الأزياء والملاهي والألعاب، صارفين فكرها عن الأمور النافعة لها ولمنزلها. هذا إذا لم نسجنها بين أربعة جدران هائلة، فأخطأنا بذلك إليها، وإلى أنفسنا، وإلى النسل والهيئة الاجتماعية كلها.

ذلك لأن إهمال تربية المرأة ذنب تقع تبعته على كل مسئول عن هذه التربية، على العائلة أولا، وعلى كل فرد ثانيا، وعلى الهيئة الاجتماعية ثالثا.

على العائلة: لأن المرأة التي هي ربتها ومدبرتها إذا كانت بلا تربية؛ فإن الجهل والإهمال والشقاء يكون سائدا فيها. وعلى كل فرد: لأن كل فرد يجب أن يمر بين يدي الأم، فإذا كانت جاهلة أساءت تربيته فكان جاهلا. وعلى الهيئة الاجتماعية كلها: لأنها مجموع الأفراد، فإذا كانوا جهالا كانت الهيئة مجموعة جهل لا غير.

فالطبيعة إذا تعاقبنا على إهمال تربية المرأة دون أن ندري بهذا العقاب.

ولكن أشد عقاب تعاقبنا به على ذلك هو العقاب الأدبي؛ فإن المرأة ملكة، كما قدمنا، ملكة وكل واحد من الرجال يخطب رضاها، فما هو رضى المرأة؟ وكيف ينال هذا الرضى؟

هنا عقدة المسألة، فإن السيكولوجيين يقولون: إن رضى الإنسان ينال بمجاراة أهوائه ومشاركته فيها، فإذا كان سكيرا وجعلت نفسك سكيرا مثله أصبحت صديقا حميما له، وربما أغنتك صداقة الكأس والطاس عن كل شيء. وهذا أمر من الأمور المشاهدة في كل يوم، إذا كان نماما فنم معه، ومحبا للتمليق فملقه، وكذابا فاكذب؛ فإنك بذلك تكتسب صداقته لا محالة. وكذلك إذا كان فاضلا وأديبا وعاقلا، فكن مثله تكتسب صداقته؛ لأنك تصيب هوى نفسه، وتكون شاعرا بعواطفه، ومن أجل هذا قال الشاعر:

إن الطيور على أشكالها تقع

فالآن والرجل محتاج إلى رضى المرأة، كما ذكرنا، احتياجا جنسيا، واحتياجا أدبيا واجتماعيا، كيف تكون حاله معها إذا كانت جاهلة لا يهنأ لها عيش إلا بالطيش، والمزاح، والإسراف، واللعب، والنميمة، والمراقص، والجمعيات، وإهمال المنزل، وإلقاء حمل الأولاد على الخدمة والمراضع؟ ألا يضطر طلبا لرضاها إلى مجاراتها في كل ذلك، فيكون طائشا مزاحا مسرفا لاعبا، وهلم جرا إلى آخر ما في دركات الهيئة الاجتماعية؟ إذا كانت امرأة تضحك من الأدب والمتأدبين في قاعة، ألا يسبقها إلى ذلك كل الشبان والرجال الحاضرين إرضاء لها؟ إذا كانت تضحك من فلانة لأنها لا تلعب، ومن فلان لأنه لا يغني ويصرخ ويمزح إضحاكا للحاضرين. ألا يصبح جميع الرجال الجالسين في ذلك المجلس صراخين مزاحين أضاحيك؟ نعم؛ لأنه يجب أن يرضوا النساء، ينبغي ألا تضجر النساء، يلزم أن تسر النساء. وهذا معنى قول روسو: «يكون الرجال كما تريد النساء، فإذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء؛ فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة.»

فأنتن إذا يا سيداتنا الجميلات رئيسات الهيئة الاجتماعية، أنتن ملكات الملوك، وسلطانات السلاطين، فرحماكن لا تصرفن هذه القوة والسيادة اللتين في أيديكما إلى الأمور التافهة المضرة بكن وبالهيئة الاجتماعية، بل اصرفنها إلى الأمور المفيدة لكن ولمنزلكن وذويكن والهيئة الاجتماعية.

رحماكن! وبعيشكن أوجدن لنا عالما جديدا غير عالمكن الذي أصبح العقلاء لا يستطيعون المعيشة فيه، بل أصبحوا - واسمحن لنا أن نقول ذلك - يأنفون من المعيشة فيه. عفوا، إنهم يأنفون ذلك لا من أجلكن، فإن الورد في الرياض، والأنجم في السماء، والطيب في القارورة لا يملها إلا البله، ولا يأنف منها غير الحمقى، ولكنهم يأنفون من خشونة الذين يتخذون في تلك المجالس بساطتكن وخفة أرواحكن ذريعة لإظهار ثقل أرواحهم وفساد آدابهم.

وهذا العالم الجديد الذي نطلبه هو عالم يكون ميلكن فيه مصروفا إلى الأمور النافعة المفيدة، عالم يتقرب فيه الرجال إليكن بالأعمال الحميدة، وطيب الأحدوثة، والأدب والفضيلة، والعلم والمعرفة، فتكون هذه الفضائل هي الرائجة لديكن، المقربة منكن، لا نقيضها من ضروب الخلاعة والجهالة. ومتى صارت هذه أميالكن تلطفت خشونة الرجال، وتغيرت أميالهم؛ حرصا على رضاكن؛ لأنه «يكون الرجال كما يريد النساء.»

ونحن لا نجهل اعتراضكن على هذا الكلام، فإنكن تقلن أولا: لماذا لا تعكسون القضية فتقولون: «يكون النساء كما يريد الرجال، فإذا كانوا فضلاء وعظماء كان النساء فاضلات وعظيمات.» فإننا نحن إنما نظهر للرجال بالصفات والحالات التي يحبونها.

وتقلن ثانيا: إذا كنتم ترغبون أن نكون فاضلات وعظيمات، أفلا يجب أولا أن تطلبوا من الرجال أن يربونا تربية تجعلنا كذلك؟

نقول: أما الاعتراض الثاني فأنتن مصيبات فيه. وسنتكلم عن هذه التربية بالتفصيل في البحث التالي، إن شاء الله.

وأما الاعتراض الأول فأنتن غير مصيبات فيه؛ لأن الهيئة الاجتماعية لا تربح إذا جعلت الرجل مرجع الذوق والأدب والعظمة والفضيلة في هذا العالم. الرجل من طبعه الخشونة، ومن طبعكن اللطف، ومن طبعه الأثرة والقسوة والطمع، وأنتن من طبعكن الشفقة والحلم وصنع الجميل. وإن لم يكن ذلك من طبعه، فأعماله ومصالحه تشجعه على ذلك، إن لم نقل إنها تقضي به عليه. فإذا كان في أيديكن ميزان اللطف والأدب والشفقة والحلم وصنع الخير وسائر الفضائل البيتية، فكيف نجعل الرجال مرجعها ومقياسها؟!

كلا ثم كلا، ليس من أحد غيركن دعامة هذه الفضائل في هذه الحياة، أنتن بيننا المربيات المهذبات المسعدات المعزيات، إذا رأى الإنسان أن كل شيء في هذا العالم يسقط كمنازل مبنية على الورق، أو بيوت مؤسسة على الرمال، إذا رأى الراحة خيالا لا يقبض عليه، البشر وهم إخوان يتقاطعون ويتذابحون كالذئاب الضارية، الأصدقاء ينسى بعضهم بعضا، الأقربون يقوم بعضهم على بعض، العالم فوضى، فيه شياطين الظلم والطمع والغش والاعتداء والسلب تتسابق لإفساد الأرض ومن عليها، إذا رأى الإنسان كل ذلك لا يسعه إلا أن يفتش بنظره عن وتد يتمسك به في وسط هذه الزوابع الهائلة، وكوة يدخل منها إليه النور وسط ذلك الظلام الحالك، فلا يرى حينئذ إلا وجهك الباسم أيتها السيدة؛ يا أيتها الأخت والابنة والزوجة والأم والجدة، فبالحال ينقلب ذلك السواد بياضا، والعناء هناء بنظرة أو نظرتين من عينيك السحريتين، وبسمة أو بسمتين من شفتيك الجميلتين؛ فأنت إذا ممثلة الكمال والهناء والراحة والأدب والفضيلة في هذا العالم لا الرجل؛ لذلك نطلب منك أن تكوني أكثر منه كمالا؛ لتكوني له قدوة وجمالا ومثالا؛ ولذلك نقول مع روسو ولو غضب الرجال: «كما يريد النساء يكون الرجال.»

تربية البنات

إذا أردتم إصلاح الهيئة الاجتماعية فأصلحوا النساء

أبنا سابقا أهمية مقام المرأة في الهيئة الاجتماعية، فثبت معنا يومئذ أن «الرجال يكونون كما تريد النساء»، وأنه يجب أن يكن عظيمات وفاضلات ليكون الرجال عظماء وفضلاء، فبناء عليه تكون تربية النساء أهم من تربية الرجال في الهيئة الاجتماعية.

وإذا كانت تربية النساء أهم من تربية الرجال، فمن دلائل التأخر والانحطاط إهمال تربيتهن، واعتبارها أمرا ثانويا، ومن دلائل الاستمرار في هذا التأخر الاستمرار في هذا الإهمال.

وليس من غرضنا الآن تبيان وجوب تربية النساء، فإن ذلك أصبح أمرا مسلما به، وإنما نود أن نشير إلى أصول هذه التربية.

ذلك أننا نرى أن كثيرين يحسبون أنه يكفي لتربية النساء حتى الرجال أن تنشأ المدارس، بصرف النظر عن حالتها؛ ولذلك تراهم قد نعموا بالا ورقصوا طربا كلما فتحوا مدرسة. وهذا الأمر فاش في مصر والشام وفي كل البلاد الشرقية. وسببه عدم معرفة الناس المهم من الأهم في مسائل التعليم والتربية. افترضوا أننا نفتح في القاهرة أو الإسكندرية أو بيروت مائة مدرسة كل يوم، أي أن يكون مجموع ما نفتحه في السنة 36500 مدرسة، ولم يكن في كل هذه المدارس الكثيرة واحدة تعلم تعليما صحيحا، وتربي تربية صحيحة، فما هي الفائدة منها كلها؟ فالأمر المهم إذا في التعليم والتربية حسن اختيار المعلمين الذين يعرفون كيف يغرسون المبادئ العظيمة في نفوس الطلبة، وحسن تأليف جدول الدروس (البروغرام)، الذي هو بمثابة «الدفة» من المركب؛ لأنه يوجه عقول الطلبة ونفوسهم إلى حيث يريد، والمعلم هو الربان الذي يدير هذه الدفة.

فعبثا تحاولون النفع من هذه المدارس كلها إن لم يكن فيها معلمون يفهمون معنى التعليم ومعنى التربية. وهذا الكلام يطلق على تربية الفتيان والفتيات معا، وقد أشرنا إليه هنا في عرض هذا البحث؛ تمهيدا لما نريد أن نقوله في هذا الموضوع.

وأول ما نقوله إن تربية النساء عندنا ناقصة، ويجب سد هذا النقص عاجلا، والنقص في أمرين؛ الأول: عدم وجود مدارس كافية لهن، وعدم إقبالهن على التعلم، والثاني: إصلاح مدارسهن الموجودة.

أما الأمر الأول، فليس من ينكر أهميته عندنا؛ ولذلك أخذ العاملون بفتح هذه المدارس تدريجا، على أن البحث في الأمر الثاني يتناول الأمر الأول؛ ولذلك نقول:

أولا:

ما هي وظيفة المرأة؟

الجواب:

إن وظيفتها أن تكون زوجة وأما؛ لهذا خلقت في هذه الحياة لا لأمر سواه، فتربيتها إذا يجب أن تعلمها واجبات الزوجية والأمومة.

وواجبات الزوجية نحصرها في أمرين؛ الأمر الأول: تدبير منزلها، فإنه من الواجب عليها ألا تدع خادمتها في المنزل تعرف من هذا الفن أكثر منها، ولا أن تعمل فيه أكثر منها. ومن دلائل شرف المرأة ونشاطها ومعرفتها واجباتها ألا تأنف من الأعمال البيتية، بل تسر بعملها، كما أنه من دلائل صغر العقل وإنكار الواجبات التنازل عن تلك الأعمال كلها إلى الخدم لغير ضرورة لا بد منها. ولا يخلو من فائدة أن تعلم المرأة أن عظمتها متوقفة على نظام منزلها وحسن حاله وحال الساكنين فيه، فإن هذا المنزل هو مملكتها الصغيرة، فماذا يقول العقلاء في ملكة تهمل مملكتها، أو تتكل على غيرها في إدارتها وتدبيرها؟

والأمر الثاني: إرضاء الزوج، وهو أمر لا يقل عن الأول أهمية؛ لأن عليه مدار سعادة العائلة، ونحن الآن تجاه مسألة كبرى، وهي مسألة سلطة الزوج وسلطة الزوجة في العائلة. نعم، إن النزاع في هذه السلطة قليل في بلادنا خلافا لما يحدث في الغرب، ولكنا نجد من الفائدة أن نشير إلى آراء فلاسفة الغرب في هذا الموضوع على سبيل المقابلة، فإنهم يقولون إن كل شركة وكل هيئة وكل حكومة يجب أن يكون فيها إدارة تتولى الاهتمام والتدبير، وأعضاء يخضعون لها مقابل اهتمامها وتدبيرها، والزواج شركة، فيه الرجل عامل قوي خشن؛ لأنه مخلوق للعراك والزحام، والمرأة لطيفة نحيفة عملها في منزلها. الأول يكسب ويقوم بأود العائلة، والثانية تعطيه هذه العائلة، فمن الحق الطبيعي والناموس الاجتماعي إذا أن يكون الرجل هو مدير العائلة. وإذا كان الرجل هو المدير تحتمت الطاعة على المرأة، وصارت سلطته فوق سلطتها. بهذا النظام تقوم المنازل، وإلا تنهدم ويتفرق من فيها أيدي سبأ.

فإذا كان هذا ما يقوله فلاسفة الغرب، والمرأة عندهم أرقى من المرأة عندنا، وجب أن يقال مثله على الأقل في حالة منازلنا، فالرجل إذا هو صاحب السلطة في الظاهر، وإن كانت المرأة في الحقيقة هي صاحبة السلطة في الباطن، كما مر بنا، فترتب عليها إرضاؤه ليرضيها هو أيضا.

هذان الواجبان هما أعظم واجبات الزوجة. بقيت واجبات الأم، وهي عندنا ثلاثة؛ الأول: تربية أجسام الأولاد، والثاني: تربية عقولهم ونفوسهم، والثالث: القيام بأودهم.

أما الأمر الأول:

فهو عمل هيجيني محض؛ ولذلك تجب أن تعلم الفتاة منذ صغرها في المدارس التي تتعلم فيها كيف يجب أن تكون تربية الأولاد نظريا وعمليا، وما أحسن أن يبنى بإزاء كل مدرسة للبنات ملجأ خيري صغير لأطفال الفقراء؛ لتصرف فيه كل تلميذة ساعة أو ساعتين من يومها تتعلم فيهما عمليا تربية الأطفال، وتنمي في نفسها الميل الطبيعي الذي فيها لتلك المخلوقات الصغيرة الجميلة التي سيمنحها الله منها.

والأمر الثاني:

عمل أدبي سيكولوجي، يقتضي معارف واسعة وخبرة وملاحظة، وهو فن مستقل بنفسه، بل هو الفن الأعظم الذي يسمونه فن التربية النفسية.

والأمر الثالث:

وهو القيام بأود الأولاد، يقتضي أن تكون المرأة حين الحاجة نصف رجل، لتكسب رزق أولادها حين الحاجة.

هذه هي واجبات المرأة في العائلة على وجه الإجمال، ولكننا نرى هنا بعض السيدات يحملقن ويقلن: ماذا؟ أهذه أعمالنا فقط؟ أيبلغ بكم الظلم أن تضعوا على ظهورنا النحيفة كل هذه الأحمال دون أن تأذنوا لنا بشيء يخففها؟ كلا أيتها السيدات، لا تقلن أن تأذنوا لنا؛ فإن ذلك من حقكن، والحق مباح لا يقتضي إذنا. نعم، من حقكن رئاسة المنزل والعائلة في بعض الأوقات رئاسة عليا، تكون فيها سلطتكن فوق سلطة الرجل نفسه، بل إن ذلك من واجباتكن؛ لأنه عمل من الأعمال المنزلية المهمة.

ونريد بهذا العمل: تحبيب المنزل إلى زائريه.

أي نعم، إن استقبال الزائرين واجب من الواجبات البيتية الجميلة، وعمل لطيف نحيف، مملوء شوكا كما أنه مملوء زهرا. أما الزهر فإن السيدة تتصل بالعالم بواسطته، وتتعرف بالناس، وترأس مجالس الحديث في القاعات، وتكون ملكة المنزل الحقيقية. ويا حبذا لو كان في الاستطاعة الآن نقل الفصل الجميل الذي كتبه الفيلسوف جول سيمون في كتابه «المرأة في القرن العشرين»، بخصوص هذه المجالس وهذه القاعات، ولكننا نكتفي بالإشارة، فإنه قال فيه: إن قاعة المرأة هي مصدر التمدن في العالم إذا كانت قاعة حقيقية، والقاعة الحقيقية هي مجالس يأتيها أصدقاء المنزل وجميع من لهم علاقة بالزوج من الرجال، وبالمرأة من السيدات، فيقطعون أوقاتهم - عفوا أيتها السيدة - لا بلعب الورق، ولا بالأزياء، ولا بالكلام عن الناس، ولكن بالمسائل المفيدة والمفكهة معا، من أدبية وسياسية وعلمية وفلسفية. فهناك يتنافس الرجال ليظهر كل واحد منهم فضله في هذه الأمور الفاضلة أمام النساء، وتتنافس النساء لتظهر كل واحدة منهن معرفتها وأدبها وفضلها أمام الرجال، فتكون القاعات التي على هذا المنوال مدرسة سامية، وحكما عظيما في الذوق وفي كل الأمور. القاعات حينئذ ترقى إلى مرتبة الوزراء، القاعات ترفع إلى عضوية الأكاديمي، القاعات تنشر شهرة كل مستحق، وتقلص شهرة غير المستحق، وفيها السيدات ملكات جالسات على عرش الأدب واللطف والظرف، يرأسن الحديث فيها، وإذا خرج واحد من الرجال في حركة أو إشارة أو كلمة عن حد الأدب أو الحشمة، فإن الواحدة منهن على لطافتها وضخامته، وضعفها وقوته، قادرة على إرجاف قلبه في صدره بكلمة واحدة، ونبذه من الهيئة بإشارة واحدة.

هذا هو الزهر الذي تجده المرأة في هذه المجالس، وهو يقتضي أن تكون عارفة بأساليب الحديث تعطي كل ذي حق حقه، ولا تترك أحدا يمل في قاعتها. وهذا أمر لا يجب تعليمه في مدرسة؛ لأنه طبيعي في المرأة كما لا يخفى.

وأما الشوك فإنه مؤلم وذو خطر عظيم، ونعني هنا بالشوك تلك التجارب التي تعرض للمرأة في خلال هذه المجالس، فإن كل الناس ليسوا - من سوء الحظ - أدباء كرام النفوس، بل إن كثيرين منهم يتخذون هذه الزيارات والمجالس حبائل للاقتناص، وأنت تعلم ما هذا الاقتناص، فبإزاء هذا الخطر العظيم على راحة العائلة وفضيلة المرأة يجب أن تربى المرأة تربية خصوصية تقيها هذا الخطر؛ وذلك بإيقافها على أخلاق الرجال، وتدريعها بدرع الفضيلة والدين والأدب ومعرفة الواجبات.

والآن هل تمت واجبات المرأة بعد ما ذكرناه منها، أم بقي منها شيء؟

إذا كان المراد التفاصيل فقد بقيت أشياء؛ لأننا هنا نشير إلى أمهات المسائل إشارة فقط، وإذا كان المراد هذه الأمهات، فإننا نرى أنه لم يبق إلا مسألة واحدة، ولكنها من أهم المسائل النسائية.

وهذه المسألة هي: هل يجب أن تبقى المرأة داخل البيت، أم يجب أن تخرج منه للعمل كالرجل؟

فنجيب على الفور أن المرأة قد خلقت لتكون زوجة وأما قبل كل شيء، وبعد ذلك يأتي ما بقي، ومقام الزوجة والأم هو في المنزل، فعلى المرأة أن تبقى ملازمة منزلها؛ لزيادة النسل وتربيته، وغرس الفضائل البيتية فيه؛ لنشرها منه في العالم.

هذه حقيقة يؤيدها جميع أنصار النساء الحقيقيين وكل محبي خير الهيئة الاجتماعية، ولكن لدينا مسألة مهمة تتفرع منها، وهي: أن امرأة خضعت للناموس الطبيعي والإلهي القاضي بأن يكون عمل المرأة داخل المنزل وعمل الرجل خارجه، فتزوجت وأقامت تربي أولادها، فرزقت ستة منهم، ثم في يوم من الأيام وهي مطمئنة الخاطر، باسمة الثغر، هبت على منزلها إحدى زوابع الأقدار الهائلة السوداء، وسودت حياة وخربت عمارا، فمات زوجها ولم يترك من يعولها، ولم يخلف لها سوى أولاد صغار على يديها الضعيفتين، فماذا تصنع حينئذ؟

لا خلاف في أنه يجب عليها حينئذ أن تشمر عن ساعد النشاط والهمة، وبرأس مرفوعة عظمة كأنها تناطح الأقدار التي تدلت عليها لسحقها، تقوم إلى العمل بشرف وجد، لتكسب خبزها وخبز أولادها بعرق جبينها. فعلى المرأة إذا أن تكون مستعدة للعمل إذا انتدبتها العناية الإلهية له متى انهدم سندها. ويجب عليها أن تضع هذا الأمر دائما نصب عينيها، وهي مسألة خطيرة توجب الاهتمام بتعليمها عملا تعمله يكون منطبقا على استعدادها النسائي وذوقها ومواهبها، وجميع فلاسفة العالم يجيزون عمل المرأة حتى خروجها من البيت لهذا العمل في حادثة كهذه الحادثة.

هذه أهم واجبات النساء في الهيئة الاجتماعية، فلننظر الآن ماذا تعلم مدارس البنات منها.

ولكن قبل ذلك لا بد لنا من الإشارة إلى أهمية الأمور التي مرت بنا، والتصاقها بالنساء دون سواهن؛ فإن تدبير المنزل وتلطيف معيشة الزوج فيه، وتربية الأولاد التربية البدنية والأدبية، ورئاسة العائلة في أيام الاستقبالات العائلية لتحبيب المنزل إلى الزائرين، وإدارة الحديث ومراقبته لئلا يقال فيه ما لا يجب أن يقال في منزل سيدة؛ كل هذه أمور من شأن المرأة، والرجل لا يستطيع أن يعمل منها شيئا.

فيا لجهالتنا وتعاستنا إذا أهملنا تعليم المرأة إياها! يا لشقائنا وشقاء أولادنا من بعدنا إذا تركنا النساء بلا علم ولا أدب ولا فضيلة تقودهن بين صخور هذه الحياة الهائلة! أتعرفون ما هي المرأة؟ كلا، إنكم لا تعرفونها، وإن كنتم ترونها كل يوم. المرأة مخلوق يمر أمامكم ضعيفا نحيفا باسم الثغر أو مبهوتا، ولكن بين جنبيه قلبا لا يعرف عمقه إلا الله، ونفسا متسعة أوسع من الفضاء لتناقض الأميال التي فيها . وهذه الأميال تتجاذبها وتتقاذفها كما تتقاذف الأمواج في البحر زورقا صغيرا فوقها. أفتسلمون الزورق للأمواج تذهب به كل مذهب، وتطرحه على الصخور فتكسره؟ أم تضعون فيه «دفة» وربانا لإيصاله بأمن وسلام إلى بر السلام؟ وهذه الدفة وهذا الربان هما: المعرفة والضمير، المعرفة التي تنير الضمير، والضمير الذي يدير المعرفة، ونعني هنا بالمعرفة: المعرفة الأدبية التي تري المرأة أنها إذا لم تكن فاضلة، فإنها تكون تعيسة محتقرة مهما كانت جميلة. المعرفة بأصول تربية أولادها وتدبير منزلها. المعرفة بأخلاق الرجال لإرضاء رجلها، واجتناب إشراك سيئي الأدب من الرجال. المعرفة التي تجلو عن النفس غياهب الجهل، وتعلمها كل فضيلة، وتدنيها من أبواب السماء. المعرفة عدوة الظلمة وصديقة النور، عدوة التوحش وصديقة التمدن، عدوة الضلال وصديقة الحقيقة، عدوة الرذيلة وصديقة الفضيلة. هذه هي المعرفة التي نعنيها هنا. فوا أسفاه عليكم وعلى هيئتكم الاجتماعية إذا كنتم لا تعطون النساء هذه المعرفة!

عمر الخيام

(1) ترجمته

يسميه الإفرنج عمر الخيام، ويسميه العرب عمر الخيامي، كما رواه بهاء الدين العاملي، واسمه الحقيقي شيعة الدين أبو الفتح عمر بن إبراهيم، سمي الخيامي نسبة إلى أبيه الذي كان يصنع الخيام ويبنيها. وقد ولد في نيسابور سنة 408 للهجرة 1017 للميلاد، وتوفي فيها سنة 517ه/1123م؛ أي إنه عمر فوق المائة سنة. أما قبره فلا يزال في نيسابور، ولكنه لم يكشف إلا بعد وفاته بمدة طويلة، والذي اكتشفه تلميذ له يدعى: نظامي، ولم يترك له أستاذه من علامة يعرفه بها سوى قوله: إن قبري سيكون في مكان تهب عليه ريح الشمال فتدفنه بالورد.

ومما رواه مؤلفو العرب والفرس من ترجمة عمر الخيام في صباه، أنه تلقى العلم على علماء نيسابور، أخصهم الإمام الموفق، وكان يتلقى العلم معه فتى يدعى حسن صباح، وهو الذي صار بعد ذلك إمام الإسماعيلية، وفتى آخر يدعى أبا علي حسن الطوسي، وهو الذي رقي بعد ذلك إلى دست الوزارة للدولة السلجوقية العظيمة، وسمي نظام الملك. فهؤلاء الرفاق الثلاثة اتفقوا وهم في المدرسة على أن الذي يسبق رفيقيه إلى ولاية أمر، أو رفعة شأن، يرفع شأن رفيقيه معه، فلما ارتقى نظام الملك إلى الوزارة ذكر عهده، فاستدعى حسن صباح وقربه إليه، ورام تقريب عمر، فأبى عمر ذلك لرغبته في الانقطاع إلى درس الرياضيات. وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح، فمما لا ريب فيه أن ملكشاه الذي كان نظام الملك وزيرا له استدعى عمر الخيام بعد ما سمعه عن علمه وحذقه في الرياضيات، واطلاعه على رسالته العربية في علم الجبر، وفوض إليه إدارة مرصد بغداد الفلكي.

وكان عمر قد اكتسب بانصبابه على الدرس والبحث علما واسعا، وشهرة بعيدة، فلما ولي إدارة مرصد بغداد دون علماء وقته؛ ازداد مقامه رفعة عند بني عصره، وصارت مرتبته عندهم مساوية لمرتبة الشيخ ابن سينا؛ الفيلسوف المشهور الذي توفي وعمر الخيام 20 عاما، فكأنه كان خلفا له.

وتقسم معارف الخيام إلى ثلاثة أقسام: علمه، وفلسفته، وشعره. (2) علمه

أما علمه فحسبنا أن نقول فيه إنه كان أول عالم رياضي بحث في مقاييس المكعبات، واتخذ لها مقياسا خصوصيا، ورسالته العربية في الجبر كانت مشهورة بين علماء الشرق حين كانوا يعنون بدرس الرياضيات. وفي أثناء إدارته مرصد بغداد الفلكي وضع خرائط فلكية سماها زيج ملكشاه، نسبة إلى هذا السلطان الذي قربه إليه وولاه إدارة المرصد. وهو الذي وضع حساب الوقت وأصلح التاريخ الفارسي بإضافة سنة كبيسة إلى كل أربع سنوات من سني الحساب الفارسي، ويعرف هذا الإصلاح الحسابي بالإصلاح الجلالي، نسبة إلى جلال الدين، وهو لقب لملكشاه. قال المسيو سلمون الذي اعتمدنا عليه في هذه التفاصيل: إن حساب السنة الجلالية التي أصلحها الخيام أصح من الحساب الغريغوري الذي وضع بعد ذلك بخمسة قرون.

ولا يقدح في فضل الخيام أن يوجد في معلوماته الرياضية والفلكية أغلاط كثيرة، فإن العلم كالطفل ينمو ويشب شيئا فشيئا. ولقد مر على الخيام سبعة قرون ونصف قرن والعلم لم يشب عن طوق الصبا بعد، مع جميع ما وجدوه حديثا من الأصول الجديدة؛ لأنه - كما قال تولستوي في رده على أهل العلم الذين يتكبرون بعلمهم الناقص - متى صار العلم علما حقيقيا لم يبق لديه شيء مجهول. وإذا كان الله قد قدر للإنسان هذه السعادة والكمال في الأرض، فذلك لا يكون إلا بعد ألوف وعشرات ألوف من السنين. (3) فلسفته وشعره

لا نقصد بقولنا فلسفته إنه كان للخيام مذهب فلسفي خاص به، ولكنا نقصد بذلك رأيه في الواجب والوجود والحياة والآداب والحكمة وما وراء الطبيعة. وهذا بمثابة قولنا إنه لم يكن فيلسوفا، بل مفكرا وباحثا؛ لأن الفيلسوف لا يدعى فيلسوفا إلا إذا كان له في تلك الأمور مذهب فلسفي خاص به، وهنا نصل في ترجمة الخيام إلى آرائه الدينية.

يظهر أن الخيام لم يستطع أن يضع لعقله شكيمة تشكمه، وحدا يقف عنده؛ ولذلك كان بينه وبين رجال الدين في حياته نزاع شديد. وكان الصوفية أشدهم اضطهادا له؛ لأنه كان يتهكم على تقشفهم وزهدهم في الدنيا تهكما جارحا، وكل ديوانه الفارسي رباعيات الخيام مداره على الغزل ووصف الخمر وصفا غريبا مهيجا، والاستهزاء بالزهد والقناعة والدين ورجاله. وأحيانا يجترئ على الألوهية نفسها. وإليك بعض الأمثلة من رباعياته، قال ما ترجمته:

سمعت في الفجر صوتا يصيح: إلي إلي يا أهل الشراب والسرور. يا أيها الفتيان المجانين، انهضوا واملئوا كأسا أخرى من الخمر قبل أن يملأ القدر كأس حياتكم.

ومنها: يا رفاقي الأحرار، إذا مت فاغسلوني بخمر حمراء مشرقة، ولا تدفنوني إلا في ظل كرمة.

ومنها: أصبحت شاردا عن الدين كدرويش، قبيح المنظر كالبغي، ولم يبق لي دين ولا مال ولا أمل في جنة.

فلا ريب أن قارئ هذه السطور يظن أن صاحبها سكير معتوه يهذي بها في إبان نشوته، ولكنه في موضع آخر يسمعه يقول راجعا إلى الله رجوع الضال إلى الصراط المستقيم: ليست هياكل الأصنام والكعبة سوى أماكن للعبادة، وما أصوات الأجراس إلا تسبيح بحمد القادر على كل شيء. وكذلك محراب الجامع والكنيسة والهيكل والصليب، كلها ليست في الحقيقة إلا أشكالا مختلفة لحمد الله وعبادته.

فهذا القول ليس بقول رجل سكير معتوه يهذي، بل هو قول رجل حكيم طار بأجنحة الحكمة إلى ما فوق عادات البشر وتقاليدهم. ومن العجيب أن يلتقي الخيام في هذا الموضوع بالإمام المشهور العارف بالله الشيخ محيي الدين بن العربي الذي يقول من قصيدة:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

قوله فالدين: يعني الدين المطلق، وهو ما يسميه فلاسفة أوروبا «الديانة الطبيعية». فرحم الله الإمام التقي الشيخ محيي الدين على هذا القول الجميل الذي أظهر به تساهلا تطرب له عظام الفيلسوف رينان في قبرها، وغفر الله للخيام بهذا كثيرا من سيئاته. (4) كيف نتصور الخيام

وكان الخيام مشهورا في بلاد الفرس والعرب بعلم الرياضيات والفلك، ولكن شهرته بالشعر كانت أعظم وأوسع، فإن بني عصره من الفرس على الخصوص كانوا يلتقطون رباعياته ويتناقلونها من بلد إلى بلد، ومن منزل إلى منزل، فتملأ البلاد سرورا بما فيها من الدعوة إلى لذة الحياة، والتمتع بالطيبات، والتغزل بالنساء والخمر والهوى النفساني الشديد، الذي لم يصفه أحد كما وصفه الخيام. وهنا موضع للسؤال عن غرض الخيام من شعره هذا؟ وقد انقسمت الآراء في ذلك إلى ثلاثة: الرأي الأول أن الخيام كان بتغزله في الخمر ودعوته إلى ملاذها لا يقصد إلا مقاومة الشرائع الدينية. قال المسيو درمستتر؛ المستشرق المشهور، في حكمه على الخيام: إن أغاني أوروبا الخمرية ليست إلا أغاني جماعة من السكيرين. أما أغاني الفرس الخمرية فهي بمثابة حرب تشهر على التقاليد الدينية الضاغطة على طبيعة الإنسان وحريته وثورة عليها، فشرب الخمر عندهم عبارة عن طلب الحرية، والرأي الثاني، وهو رأي كثيرين من الفرس قالوا به بعد وفاة الخيام: إنه إنما كان يتغزل بالخمر الإلهية لا خمر الكرمة، فإن هذه الخمر عند الصوفية عبارة عن رمز إلى الخمرة الإلهية. ولكن يكفي لرد هذا الرأي أن الخيام كان والصوفية على طرفي نقيض، وما جاز قوله في ابن الفارض لا يجوز في الخيام. ولقد حكم المسيو باربيه دي مينار؛ المستشرق المشهور، في هذه الآراء حكما مبهما، فقال: سواء كان هذا الكتاب - يعني رباعيات الخيام - اعتراضا على التقاليد الإسلامية، أو كان ثمرة تصور عليل، وخليطا غريبا من الشك والتهكم والنفي المؤلم؛ فإنه من الغريب المدهش أن نجد في بلاد الفرس منذ القرن الحادي عشر رجالا سبقوا جوت وهنري هين إلى كثير من أفكارهما.

فبعدما تقدم تظهر لنا صورة الخيام بعد ثمانية قرون من وفاته واحدة من اثنتين: فإما أنه رجل كبير من رجال العقل والنقد، كان يطلب محاربة التقاليد والأوهام ليطلق العقل البشري من عقاله، ويهدم النظام الاجتماعي الذي كان في عصره؛ لأنه قائم على ظهور الصغار لمنفعة الكبار. وإما أنه رجل منتفخ الجسم، دموي المزاج، شديد الشهوة إلى المسكرات وما وراءها، اتخذ عقله سبيلا إلى إشباع شهواته حين لم يجد وراء هذه الحرية شيئا. وهذا شأن النفوس الصغيرة التي تطلب تحرير عقولها، والانطلاق من قيد المعتد، لتبيح لنفسها المرح في ميدان الملاذ والشهوات في هذه الدنيا. وحينئذ يكون بين الخيام وبين أبي العلاء المعري؛ فيلسوف شعراء العرب وحكيمها، من الفرق ما بين التراب والتبر، فإن المعري كان يبحث في تحرير عقله ونفسه ليضعهما تحت نير أشد وأصعب من نير الدين، وهو نير الحكمة، وكراهة الشر، والتقوى الأدبية التي تقوم عند العقلاء المخلصين متى كانت حقيقية مقام الشريعة الدينية والتقوى الدينية. (5) شهرته في أوروبا وأميركا

ولقد عاصر الخيام كثيرين من علماء العرب وفلاسفتهم، أشهرهم الفيلسوف ابن سينا، وحجة الإسلام الإمام الغزالي، وأبو العلاء المعري. ولم نعثر في أثناء مطالعتنا أنه التقى بابن سينا ولا بالمعري، فإن ابن سينا توفي وعمر الخيام 20 سنة، كما تقدم، وإنما وجدنا أن الخيام توفي وهو يقرأ الشفاء، كتاب ابن سينا المشهور. أما المعري فقد كانت وفاته في عام 449 للهجرة، كما روى ابن خلكان. وحيث إن الخيام ولد في سنة 408، فيكون عمره يوم وفاة أبي العلاء 41 سنة، وإنما ذكرنا هذه التفاصيل للسبب التالي:

اطلع علماء أوروبا منذ سنة 1742 للميلاد على معارف الخيام الرياضية والفلكية بما نقله عنه المسيو جيرار ميرمان في كتاب له نشره في ليدن. وفي سنة 1851م، نشر سديلو وشاسل ووبك ترجمة رسالة الخيام في الجبر، وهي خمسة أقسام. وفي سنة 1857، نشر المسيو كارسين دي تاسي شرحا على رباعيات الخيام. وفي سنة 1867، نشر المسيو نقولا الرباعيات نفسها باللغة الفرنسوية. والمسيو نقولا هذا يعتقد في الخيام أنه كابن الفارض متغزل بالخمرة الإلهية، وقد قال في مقدمة كتابه إنه تلقى هذا الرأي من رجل تقي من طهران. وفي سنة 1898، ترجم تشوفوسكي الرباعيات إلى اللغة الروسية، غير أن الترجمة التي أطارت شهرة الخيام في أوروبا وأميركا والعالم أجمع هي ترجمة الشاعر الإنكليزي فيتس جرالد للرباعيات في سنة 1859، فإن جرالد ترجم الرباعيات شعرا إنكليزيا وتصرف بالترجمة، فأعجب الإنكليز والأميركان بشعر الخيام وأقبلوا عليه إقبالا عجيبا؛ لأنهم وجدوا فيه ما يعجبهم بالأكثر في شاعريهم بيرون وسوينبر من الآراء السامية في ذم الفساد في الدنيا، وسطوة الشر على الخير، والقبيح على الجميل فيها، فنال المترجم جرالد بهذه الترجمة شهرة واسعة، وراجت كتبه وشعره بواسطتها رواجا كثيرا. وقد بلغ ببعضهم الإعجاب بالخيام ومترجمه أن اجتمعوا في لندن في سنة 1896، وأنشئوا ناديا خصوصيا دعوه: كلوب العمريين، نسبة إلى عمر الخيام، ولعل هذا الكلوب لا يزال قائما حتى اليوم. وأول ما ظهرت الرباعيات في أوروبا وأميركا سمى قراؤها الخيام: فولتير الشرق.

ويظهر أن الشهرة التي نالها الخيام في إنكلترا على الخصوص قد نال مثلها في أميركا أيضا. وهنا وصلنا إلى السبب الذي جعلنا نقرن اسم الخيام باسم أبي العلاء المعري، على ما تقدم، فإن أحد الكتاب السوريين المجيدين في اللغة العربية والإنكليزية في نيويورك، ظهر له أن الخيام مستمد كثيرا من أفكاره وآرائه الدينية من شعر أبي العلاء المعري؛ ولذلك ترجم إلى اللغة الإنكليزية شيئا من شعر أبي العلاء بعنوان «رباعيات أبي العلاء»، ونشره في نيويورك. ومن المحتمل أن يكون كل من الخيام وأبي العلاء قد روى شعر صاحبه، إلا أننا لا نجزم بأن الخيام قد تحدى المعري واقتبس شعره. والأصح أنهما كلاهما كانا يتناولان إلهاماتهما من مصدر واحد، وهو العقل وحب الحرية والبحث؛ ذلك الحب المشترك بين جميع النفوس، وإنما ينقطع إليه بعضها دون بعض بحسب استعدادها والمؤثرات التي تؤثر فيها.

ابن رشد وفلسفته

بين الفلاسفة مسألة يسمونها مسألة إنكار العدالة في العالم أو إثباتها؛ فمنهم فريق يرى أن العالم إنما هو عبارة عن بطون تدفع وأرض تبلع، فلا نظام ولا ناموس، وإنما الحياة عراك شديد بين البشر يتغلب فيه القوي ويسقط الضعيف، وليست الفضيلة والخير والصلاح شرطا للانتصار في هذا العراك، وإنما القوة هي الشرط الوحيد. وبناء على ذلك، كثيرا ما تسلحت الرذيلة بالقوة فانتصرت أعظم انتصار، وانكسرت أمامها الفضيلة أقبح انكسار. وكفى دليلا على ذلك سقراط وأريستيذس وابن الإنسان سيد البشر. أفما سقى الأثينيون سقراط سما لأنه جهر بحقيقة من أبسط الحقائق، وهي وحدانية الخالق؟ أما أهانوا أريستيذس، مثال الصدق والاستقامة، ونفوه من وطنه من أجل صدقه؟ فهل كانت الفضيلة تسقط هذا السقوط وتداس بهذه الوقاحة لو كان في الكون عدالة ساهرة؟

فيرد على ذلك أنصار العدالة بقولهم وهم يبتسمون: أتحسبون أن سقراط كان مغلوبا مع الأثينيين؟ كلا، بل إنه انتصر عليهم وإن كان قد شرب السم من أيديهم. ذلك أن الانتصار الحقيقي لا يتوقف على ظلم ساعة، ولا على عذاب يوم. قال الفيلسوف بلوتين: مم تشكو أيها الإنسان؟ أمن ظلامة؟ ولكن ما تأثير الظلامة في النفس الخالدة؟ فظلامة الأثينيين لم تضر سقراط، بل عاد شرها عليهم. ذلك أن كل فرد من أفراد الإنسانية منذ تلك الحادثة الفظيعة إلى هذه الأيام لا يذكر على مسمع منه اسم سقراط واسم الأثينيين إلا ويعظم الحكيم سقراط، ويحقر أولئك الذين سمموه. إذا فمن الغالب ومن المغلوب من الفريقين؟ أليس الغالب ذلك الذي يعيش ذكره مبجلا معظما في نفوس بني البشر إلى آخر القرون والأجيال؟ وهل تريدون دليلا أفضل من هذا على أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، كما قال الإمام الغزالي؟ وعلى وجود عقل عام يدبر الكون بمبادئ ونواميس ثابتة، ويجعل النصر فيه للفضيلة دائما ولو بعد حين؟

إذا رمتم دليلا آخر فإليكم ابن رشد؛ فيلسوف الإسلام العظيم، فإن معاصريه كفروه ومنعوا كتبه وأهانوه ونفوه. ولكن أي شأن لهذا كله في نظر العاقل الحكيم الذي ينظر إلى جواهر الأمور لا إلى أعراضها؟ ألا ينسى ابن رشد كل تلك الهنات الصغيرة إذا تسنى له أن يشاهد من مكانه الأبدي ما يقوله البشر عنه اليوم في اللغة العربية وغيرها؟

وإليك ترجمة هذا الفيلسوف العربي الذي يعتقد الإفرنج أنه الفيلسوف الحقيقي الوحيد الذي نبغ في الإسلام: (1) ترجمته

هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد. وكانت أسرته من أكبر الأسر في الأندلس (إسبانيا)، وقد ولي أبوه وجده منصب قاضي القضاة فيها. وكانت ولادة صاحب الترجمة في قرطبة في سنة 520 هجرية؛ 1126 مسيحية، وتوفي في بلاد المغرب (مراكش) في 9 صفر من سنة 595 هجرية وعمره 75 سنة.

وقد تلقى ابن رشد في صغره علم الكلام - وهو في الدين الإسلامي بمنزلة اللاهوت في الدين المسيحي - غير أن عقله المطبوع على طلب الحقيقة وحب التوسع في العلم لم يكتف بذلك، فأقبل برغبة شديدة ونشاط عظيم على درس الطب والرياضيات والفلسفة. وكانت مدارس قرطبة والأندلس في ذلك الزمان مصابيح علم وهدى لجميع الأمم.

ولما شب ابن رشد جعل قاضيا في قرطبة. وكانت دولة الموحدين قد أسقطت دولة المرابطين في مدة شبابه وحلت محلها. وكان ابن طفيل صديق ابن رشد من أعظم أخصاء الدولة الغالبة، فقرب صديقه من الخليفة يوسف؛ الذي خلف الخليفة عبد المؤمن. وفي سنة 548 هجرية، عبر ابن رشد البحر بين الأندلس وبلاد المغرب (مراكش) وأقام فيها مساعدا على إنشاء مدارسها وإنارة مصابيح العلم فيها. وفي عام 565ه، جعل قاضيا لإشبيلية في الأندلس. وفي عام 567ه، عاد إلى قرطبة، ثم سافر إلى بلاد المغرب في عام 1182 وقد استدعاه إليها الخليفة يوسف وجعله طبيبه الخاص مكان ابن طفيل، ثم رقاه إلى منصب قاضي القضاة في قرطبة؛ عاصمة الأندلس، فتربع ابن رشد في كرسي أبيه وجده. (2) تكفيره

وفي عام 1184 للميلاد ، ولي يعقوب المنصور بالله الخلافة في الأندلس خلفا ليوسف أبيه، فبلغ صاحب الترجمة لديه أسمى منزلة في بدء حكمه، وأصبح في ذلك الزمان سلطان العقول والأفكار، لا رأي إلا رأيه، ولا قول إلا قوله. ولكنه مكتوب لكل أصحاب العقول الذين يمتازون عن البله والبلداء وأصحاب الدعوى في هذا العالم أن يتكاثر حسادهم لسبب ولغير سبب؛ ولذلك حسد ابن رشد جماعة من الذين قصروا عن شق غباره وبلوغ منزلته، فوشوا به لدى الخليفة يعقوب المنصور بأنه يجحد القرآن، ويعرض بالخلافة، وينشط الفلسفة وعلوم المتقدمين بدلا من الدين الإسلامي. ولا غرابة في هذه التهمة بعد انصراف ابن رشد إلى الفلسفة وطلبه الحقيقة من طريق العقل في زمن كذلك الزمن، وإنما الغرابة ألا تحدث يومئذ تهم كهذه التهمة؛ ولذلك فكل فيلسوف أهل لأن يلقب بهذا اللقب يحتمل هذا العدوان من المعاصرة احتماله أمرا طبيعيا لا مفر منه ولا مهرب. وبناء على ذلك يكون أولئك الكبراء العظماء الذين عذبوا في بدء نشأة العلم في كل أمة لاعتقادهم اعتقادات تناقض اعتقاد بسطائها، بمثابة شهداء يحق لهم علينا اليوم كل إكرام واحترام؛ لأنهم كانوا طليعة جيش العلم الذي لم ينتصر إلا بجهادهم وبدمائهم، حتى كأنهم ما خلقوا إلا لتلقى على ظهورهم أحمال العلم والإنسانية كلها. (3) نصبه أمام الجامع للبصق عليه

أما الخليفة يعقوب المنصور فإنه لما رفعت إليه الشكوى على ابن رشد أمر فاجتمع لديه أعظم فقهاء قرطبة وقضاتها، ثم طرح عليهم الخليفة قضية ابن رشد - وقد حضر ابن رشد نفسه هذا الاجتماع - فقرر الفقهاء أن تعاليمه كفر محض، ولعنوا من يقرؤها وقضوا على صاحبها بالنفي من قرطبة. ومن الأسف العظيم ألا يكون لدينا تفصيل هذه الجلسة التي جرت محاكمة الفيلسوف فيها. فنفي ابن رشد إلى لوسنه؛ وهي بلدة قريبة من قرطبة، وقضي عليه بالتزامها وعدم الخروج منها. وهنا اختلفت الروايات، فمن قائل أن ابن رشد أقام فيها حتى رحل الخليفة يعقوب المنصور إلى بلاد المغرب، ومن قائل أنه سار منها يروم الخلاص من الأسر، فقبض عليه في فاس وأوقف على باب الجامع ليبصق عليه الناس في دخولهم وخروجهم. فإذا كان هذا الخبر صحيحا فقد أهينت الفلسفة والحكمة والعقل في شخص ابن رشد أقبح إهانة؛ وذلك مما يجعل له حقا جديدا في الكرامة والاحترام فوق حقه الفلسفي الكبير.

ولسنا نزعم أنه يجوز لكل واحد من العلماء أن يضع مذهبا جديدا، ويدعو الناس إليه وإن كان مناقضا لمعتقدات الناس وهادما لأساسها. كلا، فإن ذلك أمر لا يخلو من مضرة من بعض الوجوه، وإن كان نافعا من وجوه أخرى، ولكن كما أنه لا يجوز للعالم الجالس في غرفته وراء مائدته وهو يبحث بإخلاص وإمعان عن الحقيقة، أو ما يظنه حقيقة، أن يدعو الناس إلى ترك ما في أيديهم للتمسك بالأمر الجديد الذي يظن أنه قد وجده، ويحقر كل من لا يعتقد معتقده، كذلك لا يجوز للناس أن يمنعوا العقل البشري من الانطلاق في جو الفكر لطلب الحقيقة والعلم والنور بالآلات العقلية، التي منحه الله إياها، دون تضييق على هذه الآلات أو إيقافها في مجراها.

ولا ريب أن الأمر الأول ضرب من الغرور والطياشة؛ إذ ليس في العالم أحد قادرا على إثبات أن الحقيقة في يده ومعتقده؛ ولذلك يجب على كل واحد من البشر أن يحتمل رأي غيره وإن كان مخالفا لرأيه. وهذا - وا أسفاه - لقصور العقل البشري وضيق ذراعه عن الإحاطة بفضاء الأسرار الإلهية التي أمامه، ولكن إذا كان الأمر الأول غرورا وطياشة، فالأمر الثاني ضرب من ضروب الكفر بنعم الله - تعالى - لأنه يقتضي إطفاء نور العقل الذي خلقه الله ووضعه في الإنسان كما توضع المنائر على شواطئ البحار. أفتطفئون المنارة في الإنسان ثم تقولون له: سر واعتقد أنك سائر في الطريق القويم؟! (4) عوده إلى مقامه

وليس يسوء الحق شيء مثل اتخاذ الهوى مركبا في أمور مقدسة كهذه الأمور، فإنه إذا كان كل معارض ومعترض يعارض ويعترض دفاعا عن مبادئ مقررة في نفسه وهو يقوم بهذا الدفاع، ولا غرض له غير طلب الحقيقة المجردة؛ فهذه المعارضة وهذا الاعتراض أمر مقدس يجب على كل عاقل أن يحترمه، ولكن من سوء حظ البشر أنهم يقدمون الهوى دائما على الحق، وقلما تجد شهيدا من شهداء العلم الذين بذلوا في سبيله كل مرتخص وغال إلا وترى أنه كان للحسد اليد الطولى في معارضته واضطهاده. والذي يدل أحسن دلالة على أن تكفير الفيلسوف ابن رشد كان من هذا القبيل، أن المنصور لما عاد من قرطبة إلى بلاد المغرب (مراكش)، ووجد نفسه بعيدا عن أعداء ابن رشد الذين أثروا فيه فجعلوه يكفره وينفيه، ذكر فضل هذا الفيلسوف الكبير وعلمه، وسعة صدره، وحسن أخلاقه، فأمر من المغرب بإلغاء الحكم الذي حكم به عليه، وبإباحة الفلسفة والإذن للناس في الاشتغال بها، فعادت إلى فيلسوف الأندلس كرامته ومنزلته، ولكنه لم يتمتع بهما بعد ذلك مدة طويلة؛ إذ أدركته المنية في بلاد المغرب فدفن فيها، وبعد ذلك نقلت جثته إلى قرطبة التي تفتخر به لأنها مسقط رأسه. (5) مؤلفاته

كان ابن رشد مولعا بالتأليف والمطالعة، ولم يكن له لذة في غيرهما. ولقد تمنى أن ينقطع عن منصبه إليهما لو أن ذلك كان في إمكانه، وكان يقول في كتبه إنه يشبه رجلا اتصلت النار بمنزله فأخذ يخرج منه أهم أثاثه شيئا فشيئا.

أما مؤلفاته فهي كثيرة يضيق المقام دون تعدادها كلها، فنكتفي إذا بذكر كتبه الجليلة التي جعلت له في عالم الفلسفة والعلم هذه الشهرة الطائرة. وهذه الكتب قسمان: قسم في الطب، وقسم في الفلسفة. فشهرته في العالم مبنية إذا على هاتين الصناعتين: الطب والفلسفة. على أنه قد ألف أيضا في علم الكلام والصرف والفقه وعلم الفلك عدة مؤلفات، منها في علم الفلك مختصر المجسطي، وفي الفقه كتاب دروس كاملة، وفي الطب الكليات؛ وهو ستة أجزاء تتضمن دروسا كاملة في صناعة الطب. ولقد بقي لهذا الكتاب أهمية كبرى مدة طويلة. على أن أهم كتبه كلها شروح أرسطو، التي بلغ بها مؤلفها أسمى منزلة. (6) شرحه أرسطو

ولقد قلنا مؤلفها ولم نقل مترجمها؛ لأن ابن رشد لم يترجم فلسفة أرسطو، ولكنه شرحها شرحا. ولقد أخطأ من قال إنه ترجمها؛ لأن ابن رشد لم يكن يحسن اللغة اليونانية، فضلا عن أنه كان في دار الخلافة في الأندلس أطباء من النساطرة الذين كانوا قد ترجموا كتب أرسطو إلى اللغة العربية، وكان كثيرون من علماء السريان والكلدان قد ترجموا هذه الكتب إلى العربية قبل عصر ابن رشد بثلاثة قرون؛ فلا ريب أن فيلسوف الأندلس قد اعتمد في شرح أرسطو؛ أستاذه وأستاذ فلاسفة العالم إلى عهد باكون، على هؤلاء المترجمين.

وقد شرح ابن رشد فلسفة أرسطو بطرق ثلاث؛ الأولى: الشرح الوجيز، والثانية: الشرح المتوسط أو الواسطة، والثالثة: الشرح الكامل أو المطول.

أما الشرح الصغير فإن ابن رشد يتناول فيه مواضيع أرسطو، ويؤلف فيها من عند نفسه مقالات في غاية الأهمية، فهو في هذا الكتاب مؤلف لا شارح. وأما الشرح المتوسط فإنه يذكر في صدر كل فصل منه بضع كلمات من كتاب أرسطو ثم ينطلق في الشرح والتأليف، فيختلط قوله بقول أرسطو حتى يصعب فصلهما. وأما الشرح المطول فإن ابن رشد يذكر فيه فقرات أرسطو فقرة فقرة، ثم يشرح أجزاءها شرحا كافيا. ومما لا ريب فيه أن ابن رشد لم يكن يضع الشرح الكبير إلا بعد فراغه من الشرح الصغير، وقد قال فلاسفة الإفرنج إن ابن رشد أعظم فلاسفة القرون الوسطى الذين تبعوا أرسطو وشرحوا أقواله.

ومن الكتب التي نقلها عن أرسطو ما يلي: الكون والفساد، وما وراء الطبيعة، والبرهان، والنفس، والأخلاق، والسماء، والكون، وغيرها. وله أيضا كتاب التهافت، وهو رد على كتاب للإمام الغزالي عنوانه: تهافت الفلاسفة. (7) طبع كتبه وترجمتها

ومما يحق لأبناء اللغة العربية أن يخجلوا منه أنهم إذا طلبوا كتب هذا الفيلسوف بين ما طبع ونشر من الكتب بلغتنا في النهضة الحديثة لم يجدوا شيئا منها، ولما قامت شركة طبع الكتب العربية في القاهرة لإحياء المؤلفات القديمة الجليلة الشأن أعرضت عن مؤلفات هذا الفيلسوف كل الإعراض، مع أنه كان يجب جعل كتبه في مقدمة الكتب التي طبعتها؛ وذلك لعدة أسباب: أولها: أن القراء أكثر إقبالا عليها منهم على سواها كما ظهر بعد الاختبار، وثانيا: لأنها أهم الكتب العربية على الإطلاق، وحسبك أنها كتب الفيلسوف الحقيقي الذي نبغ في الإسلام، وثالثا: لأنه كان يجب في هذا العصر الذي جاز العلم فيه كل ما قام في سبيله من العثرات، وظهر مصباحه ساطعا من وراء الظلمات، أن يكون صوت ابن رشد الجهوري؛ ذلك الصوت الذي حاول الناس خنقه ولم يفلحوا، أول صوت يطرق مسامع الأبناء ليذكرهم بمجد الأجداد القديم، لعلهم يذكرون عنده الأسباب التي محت ذلك المجد فيجتنبوها، والأمور التي نقلته منهم إلى تلامذتهم الأوروبيين فيقتبسوها، فإنه لا أعرف من ابن رشد بتلك الأسباب وهذه الأمور، ولا أرشد من كتبه إليها، وأدل منها عليها.

أما الإفرنج فإنهم عنوا بترجمة كتب ابن رشد أشد عناية، فترجمت مؤلفاته كلها إلى اللغة اللاتينية؛ لغة العلم والعلماء في ذلك الزمان. وكذلك الإسرائيليون فإنهم ترجموا كتبه إلى العبرانية؛ لأنهم كانوا من حملة العلم في إسبانيا وأوروبا، وكان منهم أكثر تلامذة ابن رشد. ويكفي لبيان الأهمية التي كانت لهذا الفيلسوف لدى الإفرنج في صدر تمدنهم أن نقول إن في مدينة البندقية وحدها اليوم أكثر من 50 طبعة من مؤلفاته. (8) فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود

وقبل إيضاح فلسفة ابن رشد نأتي على آراء المتكلمين الذين عارضوها؛ إذ في هذه المقابلة تمام الفائدة، فنقول:

إن المتكلمين (أي علماء الكلام في الدين الإسلامي) قد وضعوا فلسفة خاصة بهم، وربما لم يكن من الصواب أن تدعى تعاليمهم فلسفة؛ لأنها عبارة عن مباحث دينية محضة، ولكن كل ما جرى فيه كلام عن الخالق عز وجل وعالم الغيب وما وراء الطبيعة فهو فلسفة. ومن المعلوم أن كلمة فلسفة يونانية الأصل، وهي مشتقة من كلمتين: فيلوس: ومعناها محبة، وسوفيا: ومعناها الحكمة؛ فالفلسفة معناها إذا: محبة الحكمة، وهل في عالم الفكر - الذي هو أشرف العوالم - شيء يستحق أن يسمى حكمة غير البحث في أصل الحكمة ومصدرها الأعلى؟

ففلسفة المتكلمين هذه مبنية على أمرين؛ الأول: حدوث المادة في الكون؛ أي وجودها بخلق خالق ، والثاني: وجود خالق مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له. وبما أن الخالق مطلق التصرف في كونه فلا تسأل إذا عن السبب إذا حدث في الكون شيء؛ لأن الخالق نفسه هو السبب، وليس من سبب سواه. إذا فلا يلزم عن ذلك قطعيا أن يكون بين حوادث الكون روابط وعلائق، كأن ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث تحدث بأمر الخالق وحده. وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصور بها الآن؛ وذلك بقدرة هذا الخالق. (9) روح جديد عصري

هذا لباب تعاليم المتكلمين، ولسنا الآن في مقام البحث فيها، بل إننا نبسطها لمقابلتها بتعليم ابن رشد، وإنما نقول في معرض الكلام: إنه يلوح لنا أن كثيرين من علماء الكلام المعاصرين ومن إخواننا الكتاب المسلمين قد أدخلوا شيئا من النظام في تلك الفوضى، فإننا نطالع بإمعان لا مزيد عليه كل ما تنشره رصيفتنا مجلة المنار الغراء من الدروس التي يلقيها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ مفتي الديار المصرية، في الجامع الأزهر تفسيرا للقرآن، فنجد في كل صفحة من صفحاتها روحا جديدا، إذا تم انتشاره كان بمنزلة إصلاح عظيم في العالم الإسلامي.

ومقتضى هذا الروح الجديد تقييد الكون بنواميس طبيعية وضعها الخالق له، فلا يحدث شيء في العالم إلا بها، غير أن الأستاذ لا يذهب في ذلك مذهب الماديين الإلهيين الذين يعتقدون أن الله - سبحانه وتعالى - قد خلق نواميس الكون وأجراها في مجراها الطبيعي، وقضى بألا تخرج عنه أبدا. كلا؛ لأنه يعتقد أن الخالق الأبدي الذي وضع تلك النواميس قد ينقضها حينا من الزمن كلما شاء، وذلك من أجل المرسلين الذين يختارهم لإصلاح حال البشر وهدايتهم إلى منافعهم.

ومهما يكن من هذا الأمر، فكفى هذا الرأي أهمية وجلالا أنه يجعل للكون نظاما طبيعيا ثابتا يجري عليه، فالبشر الذين يدرسون هذا النظام ويعملون به ينعمون ويسعدون في هذه الحياة، والذين يجهلونه ويخالفونه استنادا إلى أن الخالق يفتقدهم وهم جالسون في بيوتهم، سواء سعوا أم لم يسعوا، فإنهم يشقون وينحطون. ولقد كان علماء الأديان في العصور المتقدمة ينكرون هذا الرأي ويكفرون صاحبه؛ لاعتقادهم أنه غير لائق بالخالق - عز وجل. أما اليوم فلم يبق مجال لهذا الإنكار بعد الاكتشافات العلمية التي كشفت النقاب عن وجه النواميس الطبيعية التي تحكم الكائنات كلها من جماد وحيوان ونبات.

ولكن ليس الفضل للبشر اليوم في التسامح وقبول هذا المبدأ الصحيح الجديد، وإنما الفضل لأولئك الذين خاطروا في العصور المتقدمة في كل ملة وأمة بمناصبهم وحياتهم وكرامتهم، ولمن يحذو حذوهم في هذا العصر لإيصال عالمنا المطبوع على الجهل والقسوة والتعصب إلى هذه الدرجة من الاعتدال والتسامح، ومعرفة الحقائق الأزلية الأبدية. (10) فلسفته ورأيه في المادة وخلق العالم

أما فلسفة ابن رشد فإنها تناقض الفلسفة التي تقدمت. وإليك خلاصة منها:

المادة وخلق العالم

إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات، وهو يرى في ذلك رأي أرسطو، فيقول: إن كل فعل يفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة، والحركة تقتضي شيئا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق، وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها. ولكن ما هي هذه المادة؟ هي شيء قابل للانفعال، ولا حد له ولا اسم ولا وصف، بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه. وبناء عليه يكون كل جسم أبديا بسبب مادته؛ أي إنه لا يتلاشى أبدا؛ لأن مادته لا تتلاشى أبدا، وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل لا بد له من هذا الانتقال، وإلا حدث فراغ ووقوف في الكون؛ وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شيء قط. وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو مصدر القوة والفعل؛ أي الخالق سبحانه وتعالى، يكون غير مختار في فعله؛ لأن الحرية والاختيار يقتضيان كونه محدثا، والخالق تنزه عن أن يكون حديثا.

اتصال الكون بالخلق

هذا فيما يختص بخلق العالم، وهو مذهب قريب جدا من مذاهب الماديين كما ترى، ولكن كيف يستولي العامل الأول على الكون ويدبره؟

لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة، فإنه يشبه حكومة الكون، أي تدبيره، بحكومة المدينة، فإنه كما أن كل شئون المدينة تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة، وهي نقطة الحاكم العام فيها، فيكون هذا الحاكم مصدرا لكل شئون الحكم ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون. كذلك الخالق في الأكوان، فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات، فبناء على ذلك لا يكون للكون اتصال بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده، وهذا العقل الأول هو عبارة عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب.

وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كون حي، بل أشرف الأحياء والكائنات، وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصلية للحياة، والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر. أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها فهو في قلب هذه الدوائر، ولكل دائرة منها عقل، أي قوة تعرف بها طريقها، كما أن للإنسان عقلا يعرف به طريقه. وهذه العقول الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض، والتي تلي بعضها بعضا محكومة بعضها ببعض، إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه، وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناء على ذلك يكون للعقل الأول الذي هو مصدر كل هذه الحركات علم بكل ما يحدث في العالم.

طريق الاتصال

وإن قيل: ما هي علاقة الإنسان بالخالق؟ فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد أيضا عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه: النفس. وخلاصة ذلك أن في الكون عقلا فاعلا وعقلا منفعلا؛ فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة، وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس، وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين؛ ذلك أن العقل المنفعل يميل دائما للاتحاد بالعقل الفاعل، كما أن القوة تقتضي مادة تنفذ فيها، والمادة تقتضي شكلا توضع به، وأول نتيجة تحصل من هذا الاتحاد تدعى: العقل المكتسب.

ولكن قد تتحد النفس البشرية بالعقل العام اتحادا أشد من هذا، فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج بالعقل القديم الأزلي، ولا يتم هذا الاتحاد بالعقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره، فإنما وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به، وأما إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق العلم، فالعلم إذا هو سبب الاتصال بين الخالق والمخلوق، ولا طريق غير هذا الطريق. ومتى اتصل الإنسان بالله صار مثله عارفا بكل شيء في الكون، ولم يعد يفوته شيء، ولكن كيف يتصل الإنسان بالله؟ يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب، ويخرق بنظره حجاب الأسرار التي تكتنف الكون، فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كنه الأمور وجد نفسه وجها لوجه أمام الحقيقة الأبدية.

أما المتصوفة فإنهم يقولون إن هذا الاتصال يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد، وليس العلم ضروريا له.

وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم، والكون في رأيه - كما مر بك - إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض، وكلها مرتبطة ارتباطا مبهما بقوة عليا. ومن هذه المبادئ شيء يستولي على العالم ويضع فيه العقل، فهو عقل الإنسانية. وهذا الشيء الذي يسميه عقلا أيضا هو عقل ثابت لا يتغير؛ أي إنه لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، والناس يشتركون فيه ويستمدون منه بكميات متباينة، على أن من كان منهم أكثر استمدادا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة.

الخلود

ولكن هل إن نفس الإنسان خالدة أم لا في هذا المذهب؟ وهل كان ابن رشد يعتقد بحياة ثانية؟

ربما كان لابن رشد جوابان على هذه المسألة الخطيرة، التي هي الآن دعامة عظيمة من دعائم الإنسانية، فإننا في أثناء مطالعاتنا لبعض كتبه قبل الإقدام على ترجمته ، رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية، حتى بالعقاب والثواب أيضا؛ فعجبنا كل العجب من تكفير الناس رجلا يرى هذا الرأي، ولكنا لما وصلنا إلى مذهبه الفلسفي ورأينا متابعته لأرسطو فيما يختص باعتقاده بالنفس وخلق الكون تغير وجه المسألة؛ ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده، فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل، فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي؛ ولذلك قلنا إنه ربما كان له في ذلك جوابان.

أما الجواب الأول فيما يختص بالعقاب والثواب، فهو قول مشهور، وإنما يزيد عليه ابن رشد وجوب التأويل، وأما جوابه الثاني؛ أي الجواب الفلسفي الذي طلبه بالعقل دون سواه، فإليك خلاصته:

قال: إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره، من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة، وغير قابل للفناء والملاشاة، والعقل الخاص المنفعل من صفاته الفناء مع جسم الإنسان. وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالدا، والعقل المنفعل فانيا. ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد في رأي ابن رشد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية؛ فالإنسانية إذا هي خالدة وحدها دون سواها. وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية. (11) فلسفته الأدبية

أما الفلسفة الأدبية فلم تشغل سوى حيز صغير في مذهب هذا الفيلسوف بإزاء فلسفته المادية، وقد صرف همه في تلك الفلسفة إلى نقض مذاهب المتكلمين الذين يقولون إن الخير في يد الله، وإنه يصنعه بالبشر حينما يشاء وكيفما يشاء، وبقدر ما يشاء من غير علة ولا سبب؛ بل لأن إرادته تقتضي ذلك. فمن رأي ابن رشد في ذلك أن هذا المبدأ ينقض كل مبادئ العدل والحق؛ لأن ذلك يجعل حكومة العالم فوضى، ربما شقي فيها الحكيم الفاضل، وسعد الشرير اللئيم.

أما حرية الإنسان فهو يذهب فيها مذهبا معتدلا، فإنه يقول إن الإنسان غير مطلق الحرية تماما، ولا مقيدها تماما؛ وذلك أنه إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيدا بها؛ لما لها من التأثير في أعماله. (12) تلخيص أحد كتبه

وإتماما للفائدة نلخص في هذه المقالة كتابا لابن رشد عنوانه: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»؛ ليقف القارئ على مذهب هذا الفيلسوف لفظا ومعنى، خصوصا لأن هذا الكتاب متعلق بالموضوع الذي بحثنا هنا عنه. وغرض المؤلف في هذا الكتاب ثلاثة أمور؛ الأول: إثبات أن الشرع الإسلامي يجيز اعتبارات الموجودات بالعقل وطلب معرفتها به؛ أي النظر فيها نظرا فلسفيا، والثاني: وجوب تأويل آيات القرآن التي ظاهرها يخالف البرهان والعقل، والثالث: وجوب عدم ذكر هذه التأويلات في الكتب التي تكتب لعامة الناس؛ لأن ذلك يجر العامة إلى الكفر. ولا ريب أنه بهذا القيد الأخير قد دل على اعتداله ورزانته، وأضعف به حجج أعدائه، اللهم إلا أن يكون غرضه فيه الحط من مقام الإمام الغزالي، الذي كان مقاما للفلسفة اليونانية، كما تقدم؛ وذلك لأن هذا الإمام قد بسط تلك التأويلات في كتبه.

وقد ابتدأ المؤلف الكتاب الذي نحن في صدده بقوله: أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد عبده المطهر المصطفى ورسوله. وبذلك اعترف اعترافا صريحا بالأصلين العظيمين من أصول الدين الإسلامي، الذي كان يتهمه حساده بالمروق منه والزيغ عنه. ثم إنه بعد ذلك يقول:

وجوب النظر بالقياس العقلي والأخذ عن غير المشاركين: إن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وقد جاء في القرآن:

اعتبروا يا أولي الأبصار . وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معا. وقوله:

أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء . وهذا نص بالحث على النظر في الموجودات. وقوله:

وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض

الآية، وأيضا:

أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت ، وأيضا:

ويتفكرون في خلق السماوات والأرض .

قال: وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه. وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وليس لقائل أن يقول إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة؛ إذ لم يكن في الصدر الأول من الإسلام، فإن أكثر أصحاب هذه الملة مثبتون القياس العقلي، إلا طائفة من الحشوية قليلة، وهم محجوجون بالنصوص. وإن كان لم يتقدم أحد ممن قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه، فيجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتقدم بالمتأخر حتى تكمل المعرفة به. وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك. وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام. ولما كان القدماء قد فحصوا عن أمر المقاييس العقلية أتم فحص، فينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان صوابا قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منه غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.

نقول: أما كلمة عذرناهم هنا فإنها في الحقيقة كلمة فيلسوف، وهي أجمل ذلك القول الجميل.

ثم قال: لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة (علم الفلك)، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض؛ لما أمكنه ذلك ولو كان أذكى الناس طبعا، إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي. وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط، بل وفي العملية، فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع؛ وهي الحكمة؟!

قد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء - يعني الكتب اليونانية - واجب بالشرع، إذا كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا للنظر فيها؛ وهو الذي جمع أمرين؛ أحدهما: ذكاء الفطرة، والثاني: العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية؛ فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله؛ وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة. وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى. (13) وجوب التأويل

ثم انتقل من هذه القضية بعد إثباتها إلى قضية التأويل، فقال: وإذا كانت هذه الشرائع الإسلامية حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له؛ أي إن العلم موافق للدين كما أن الدين موافق للعلم. وبناء على ذلك، قال الفيلسوف: ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وإذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد؛ ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها من ظاهرها بالتأويل. والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما؛ ولهذا المعنى ورد في القرآن:

هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ، إلى قوله:

والراسخون في العلم .

وكثير من الصدر الأول قد نقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهرا وباطنا، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه، مثلما روى البخاري عن علي (رضي الله عنه) أنه قال: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟» ونحن نعلم قطعا أنه لا يخلو عصر من الأعصار من علماء يرون أن في الشرع أشياء لا ينبغي أن يعلم بحقيقتها جميع الناس.

رده على الإمام الغزالي

ولكن هل إجماع الآراء في التأويل ممكن؟ قال الفيلسوف: كلا. إذا فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام كأبي نصر وابن سينا؟ فإن أبا حامد الغزالي قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بالتهافت في ثلاث مسائل؛ أولا: في القول بقدم العالم. ثانيا: بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، تعالى عن ذلك. ثالثا: في تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد. قال الفيلسوف في ذلك: ليس تكفيره في ذلك قطعا؛ إذ قد صرح في كتابه «التفرقة» أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال. ثم تناول ابن رشد مسألة علم الله بالجزئيات، وهي المسألة الثانية، فقال:

علم الخالق بجزئيات الأمور

وقد نرى أن أبا حامد الغزالي قد غلط على الحكماء المشائين فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه تقدس وتعالى لا يعلم الجزئيات أصلا، بل يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها؛ وذلك أن علمنا معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره. وعلم الله بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل.

العالم قديم أو حديث؟

ونظر بعد ذلك في المسألة الأولى؛ أي قدم العالم، فقال: إن فيها ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة بين الطرفين. وقد اتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة، فأما الطرف الواحد فهو موجود وجد من شيء غيره وعن شيء؛ أعني عن سبب فاعل، ومن مادة. والزمان متقدم عليه؛ أعني على وجوده. ويدخل في ذلك النبات والحيوان والأرض والهواء والماء. وقد اتفق الجميع على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان . وهذا أيضا اتفق الجميع من الفرقتين القدماء والأشعريين على تسميته قديما، وهو الله - تبارك وتعالى - فاعل الكل وموجده والحافظ له. بقيت الواسطة وهي: موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء؛ أعني عن فاعل. وهذا هو العالم بأسره. والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، والمتكلمون علماء الكلام متفقون أيضا مع القدماء (اليونان) على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الموجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناه.

وأصحاب هذه المذاهب: من غلب عليه ما في الزمان من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا، وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم من سماه محدثا أزليا، وهو أفلاطون وشيعته، لكون الزمان متناهيا عندهم في الماضي؛ فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر.

وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع، فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين، أعني غير منقطع، وذلك أن قوله تعالى:

وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء

يقتضي بظاهره وجودا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك، وقوله تعالى:

يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات

يقتضي أيضا بظاهره وجودا ثانيا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى:

ثم استوى إلى السماء وهي دخان

يقتضي بظاهره أن السموات خلقت من شيء.

ولكن إذا كان التأويل واجبا، فهو لا يكون في الأصول؛ مثل الإقرار بالله - تبارك وتعالى - وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، بل يكون في الفروع، وإن كان في الأصول فالمتأول له كافر؛ مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ها هنا ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط.

وإذا تقرر هذا فقط فقد ظهر لك من قولنا أن ها هنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر، وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وهنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة. وفي هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول؛ ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله في السماء: أعتقها؛ فإنها مؤمنة. إذ كانت ليست من أهل البرهان. والسبب في ذلك أن الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق إلا من قبل التخيل؛ أعني أنهم لا يصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه، يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبا إلى شيء متخيل.

المعاد وحملته على الغزالي

ثم إنه بعد هذا التمهيد تناول المسألة الثالثة من مسائل الغزالي؛ أي مسألة المعاد، فقال: يشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورا، والمصيب مشكورا أو مأجورا، ثم قال: إن التأويل في هذه المسألة الخطيرة يجب أن يكون في صفة المعاد لا في وجوده، على شرط أن يكون التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود؛ لأن جحد الوجود في هذه كفر؛ لأنه في أصل من أصول الشريعة. وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب حملها على الظاهر، وتأويلها في حقه كفر؛ لأنه يؤدي إلى الكفر.

وهنا حمل حملة شديدة على الإمام الغزالي، فقال ما نصه:

ولذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر، فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر، فمن أفشاه له من أهل التأويل فقد دعاه إلى الكفر، والداعي إلى الكفر كافر؛ ولهذا يجب ألا تثبت التأويلات إلا في كتب البراهين؛ لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان، وأما إذا ثبتت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية، كما يصنعه أبو حامد، فخطأ على الشرع وعلى الحكمة، وإن كان الرجل إنما قصد خيرا؛ وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك، ولكن كثر بذلك الفساد بدون كثرة أهل العلم. وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة، وقوم إلى ثلب الشريعة، وقوم إلى الجمع بينهما. ويشبه أن يكون هذا أحد مقاصده بكتبه. والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، وحتى إنه كما قيل:

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن

وإن لقيت معديا فعدناني

نقول: وكأن الفيلسوف قد خشي أن يؤاخذ بما آخذ به الإمام الغزالي؛ لبسطه هو نفسه مبادئ الفلسفة والتأويل في كتب تقع بين أيدي العامة، كما في هذا الكتاب، فقال تبرئة لنفسه: ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استخرنا أن نكتب في ذلك حرفا؛ لأن شأن هذه المسائل أن تذكر في كتب البرهان. ولكن لو عاش الفيلسوف في هذا الزمان ورأى السكك الحديدية التي قربت الأبعاد واختصرت المسافات، والصحافة التي هي السكك الحديدية المعنوية للأفكار، لسرعة نشرها إياها، ومزجها بعضها ببعض من جنوب الكرة إلى شمالها، ومن شرقها إلى غربها؛ لتحقق أن الطريقة التي أشار بها من ستر وجه الفلسفة عن الفئة الكبرى من البشر طريقة لم يكن الكرة الأرضية قادرة على التزامها وقتا طويلا.

رغبته في وضع كتاب مهم

ثم عاد إلى مسألة التأويل التي هي دعامة هذا الكتاب، فقال: إنه إذا وقع إشكال في ظاهر القول الديني ولم يكن ظاهرا بنفسه للجميع، وجب أن يصرح ويقال إنه متشابه لا يعلمه إلا الله. وإن الوقف يجب هنا في قوله عز وجل:

وما يعلم تأويله إلا الله . وبمثل هذا يأتي الجواب بالسؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور إلى فهمها، مثل قوله تعالى:

ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

ولذلك ليس يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية، فضلا عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هو الأمانة التي حملها الإنسان، وأبى أن يحملها وأشفق منها جميع الموجودات؛ أعني المذكورة في قوله تعالى:

إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال

الآية.

وهذه التأويلات في الشرع هي التي كانت سببا في نشأة فرق الإسلام، حتى كفر بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا، وبخاصة الفاسد منها. ومن أتى بعدهم لما استعملوا التأويل قلت تقواهم، وكثر اختلافهم، وارتفعت محبتهم، فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كلفنا اعتقاده، ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئا، إلا إذا كان التأويل ظاهرا بنفسه؛ أعني ظهورا مشتركا للجميع.

ويعني الفيلسوف بذلك أن يستخرج من القرآن في كتاب خصوصي كل العقائد الواجب الاعتقاد بها من دون تأويل، أو بتأويل ظاهر أجلى ظهور للخاصة والعامة؛ لتكون أساسا مشتركا لجميع المسلمين يبنون عليه معتقدهم بلا نزاع ولا جدال، فلا تؤثر فيه مجادلاتهم في التأويلات الأخرى المفهومة وغير المفهومة. قال: وبودنا لو تفرغنا لهذا المقصد وقدرنا عليه، وإن أنسأ الله في العمر فسنثبت فيه قدر ما يتيسر لنا منه، فعسى أن يكون ذلك مبدأ لمن يأتي بعد؛ فإن النفس في غاية الحزن والتألم مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة، والاعتقادات المحرفة، وبخاصة ما عرض لها من ذلك من قبل من ينسب نفسه إلى الحكمة، فإن الأذية من الصديق هي أشد من الأذية من العدو؛ أعني أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة؛ فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية.

هذا ما رأينا تلخيصه من هذا الكتاب للدلالة على مبادئ ابن رشد، وعلى منحاه في التأليف وأسلوبه في المناظرة. وقد جمعنا في هذه الخلاصة كل أغراض المؤلف. (14) الفلسفة بعد ابن رشد وأخلاقه

كان من المنتظر بعد ظهور ابن رشد في الأندلس أن يقوم بعده نوابغ من بني قومه يتوسعون في الدروس الفلسفية، وينتفعون بالشروح التي وضعها ابن رشد على أرسطو، وبذلك يكملون الحركة الاجتماعية والفلسفية، ويقومون مقام فلاسفة الإفرنج الذين جاءوا بعدهم فأخذوا عنهم وكملوها. وإنما كان ذلك منتظرا؛ لأنه من الصعب على العقل البشري أن يصدق أن تلك البذور الفلسفية التي بذرها هذا الفيلسوف تجف ذلك الجفاف في التربة الأندلسية، وتختنق هذا الاختناق.

ومع ذلك فقد جفت واختنقت، جفت واختنقت لأن شبهة الكفر كانت تقع بعد ابن رشد على كل مشتغل بالفلسفة. وبناء على ذلك، انصرفت العقول عن صناعة الحكمة، ولم يقم بعد ابن رشد فيلسوف كبير مثله ليكمل عمله.

على أن تلامذة ابن رشد الذين نشروا مبادئه بعده وترجموا كتبه إلى العبرانية واللاتينية كان أكثرهم من اليهود والنصارى. ولقد انتشر في أوروبا مذهب ابن رشد في ذلك الزمان انتشارا عظيما، حتى اضطر أحد البابوات أن يحرم من الكنيسة كل من يعتقد بمذهب ابن رشد في الفلسفة.

بقي أن نذكر شيئا عن أخلاق هذا الفيلسوف، فنقول إنه كان لطيفا عفيفا، ميالا للعزلة، منقطعا إلى الدرس والمطالعة. وإليك منه عبارة تدل على مبلغ شغفه بالدرس والتأليف، قال: إن الدين الخاص بالفلاسفة هو درس الوجود والكائنات؛ ذلك أن أشرف عبادة تقدم لله - تعالى - هي معرفة مخلوقاته ومصنوعاته؛ لأن ذلك بمثابة معرفته. هذا أشرف الأعمال التي يرضى الله عنها، في حين أن أقبح الأعمال عمل من يكفر ويخطئ الذين يقدمون لله هذه العبادة التي هي خير العبادات، ويتقربون منه بهذه الديانة التي هي خير الديانات.

وكان بسيط المعيشة، متقشفا في حياته، كارها للظلم. ولقد تولى القضاء سنوات عديدة دون أن يحكم قط بالإعدام على أحد من الذين حوكموا لديه، بل إنه كان حين وجوب الحكم بالإعدام يتنازل عن ذلك لسواه. فكأنه يفر من الدماء لكي لا تقع في عنقه. (15) هل مذهب ابن رشد صحيح؟

هذا ما رأينا ذكره عن ابن رشد، ولقد آن أن نختتم هذه المقالة لأنها قد طالت، ومع ذلك فقد رأيناها قصيرة ونحن نكتبها؛ لأن القلم لو ملأ كل صفحات هذا الجزء عن هذا الفيلسوف لما أروى غليله.

ولكن قبل الختام، لا بد أن يحضر القارئ سؤال، وهو: هل مذهب هذا الفيلسوف صحيح؟ فالجواب عن ذلك أن القارئ يخطئ إذا كان يسأل عن صحة كل مذهب من مذاهب الفلاسفة أو عن فساده؛ فإن لكل واحد من الفلاسفة الذين يقفون حياتهم للبحث فيما وراء الطبيعة مذهبا خاصا، وفلسفة خاصة يناقضان مذهب الآخر وفلسفته، فمثلهم في ذلك مثل قوم يجلسون على شاطئ البحر، ويأخذون في بناء بيوت من الرمل والصخر والحجارة التي على الشاطئ؛ ولذلك تجد في بناء كل واحد منهم رملا وصخرا؛ أي ضعفا وقوة، وذلك إما لأن الحقيقة المحجبة قد آلت على نفسها أن تبقى محجوبة عن أرض فيها ما في أرضنا من الصغائر والدنايا، أو أن العقل البشري خلق محدودا، وما كان محدودا لا يحد ما لا حد له.

الفيلسوف باكون والشاعر شكسبير

مشاهير الناس آلهة للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهة لا تعبد في أكثر الأحيان إلا بعد أن تلقى الممات، فمثلهم مثل تلك الجبال الشامخة؛ كالمقطم وجبل لبنان، فإنك إذا كنت قريبا منها أو مقيما فوقها ظهرت لك صغيرة منخفضة، ولا تظهر لك شامخة كبيرة إلا إذا بعدت عنها.

ومن أشهر هؤلاء المشاهير الذين رفعتهم الإنسانية بعد موتهم إلى أعلى عليين: الفيلسوف باكون؛ أشهر فلاسفة الإنكليز، والمؤلف شكسبير؛ أشعر شعرائهم. ويسرنا أن نترجم هذين الرجلين لما في ترجمتهما من الفوائد الفلسفية والأدبية، لا سيما إذا صيغت بقالب بسيط سهل يحل أعقد عقد الفلسفة، ويجلو غوامضها، فيجعلها سهلة المنال لعقول الشيوخ والأطفال، كما قال صاحب الزبور عن أصول الحكمة.

ونبدأ أولا بترجمة باكون؛ لأن للفلسفة حق التقدم. (1) فرنسيس باكون

ترجمة باكون

هو الفيلسوف الشهير فرنسيس باكون؛ بارون دي فاردلام، وفيكونت دي سان البانس، وأحد وزراء المملكة الإنكليزية. ولد في لندن من نقولا باكون؛ المحامي المشهور، في 22 كانون الثاني من عام 1561، ولما بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره دخل كلية كمبريدج، حيث تلقى العلم ثلاث سنوات، ثم ألحق بالسفارة الإنكليزية لدى البلاط الفرنسوي، فزار باريس وباقي المدن الفرنسوية الكبرى، وأخذ يجمع شذرات عن حالة أوروبا في ذلك الزمان. وفي عام 1579 توفي أبوه، فعاد إلى لندن، وكان المال الذي ورثه منه لا يقوم بحاجاته للنفقات الكثيرة التي كان ينفقها تأييدا لمركزه، فعمد إلى درس الحقوق، فنجح فيها نجاحا سريعا، فعين في عام 1587 مستشارا خاصا للملكة إليصابات. وكان عصر هذه الملكة في إنكلترا شبيها بعصر لويس الرابع عشر في فرنسا من حيث النهضة العلمية والأدبية، وكفى عصر إليصابات فخرا أن يكون قد نبغ فيه رجلان كباكون وشكسبير.

ولكن باكون رأى أنه لا يكسب من وظيفته لدى الملكة كسبا يسد نفقاته الطائلة، فرام احتراف المحاماة، وطلب وظيفة تمكنه من الكسب فلم يجب إلى طلبه، ولكن جاءه الكونت ديسه ووهبه أملاكا ذات دخل كاف، فرضي باكون وسكت. ولكن لماذا وهبه الكونت هذه الأملاك؟ وهل إن الملكة هي التي أوعزت إليه بأن يهبه إياها؟ الله أعلم.

وفي عام 1592، اختارته مقاطعة ميدلسه نائبا عنها في البرلمان، فكان هذا الزمن أشد الأزمان عليه؛ لأن باكون كان فيه أشد اضطرابا، فإنه كان تارة يتملق الشعب، وطورا يتملق الوزارة، وآونة يبعث بقصائد المدح إلى الملكة إليصابات تزلفا وتملقا. وفضلا عن ذلك فإنه اضطر أن يكتب يومئذ عريضة ببيان التهم التي وجهت إلى الكونت ديسه الذي أحسن إليه. وبعد ذلك اشتدت الحاجة به حتى صدر الأمر بالقبض عليه وسجنه مرتين من أجل ديون عليه. ولم يسترح من هذه المصائب حتى ارتقى جاك الأول إلى العرش. وبعضهم يزعم أن الملكة إليصابات كانت تقصد اضطهاده لتتخلص منه؛ بناء على أسباب سنذكرها فيما يلي.

ولما ملك جاك الأول قرب باكون إليه، ووهبه ما كان قد طلبه، فاحترف باكون المحاماة وكسب منها أموالا طائلة، ثم تزوج بفتاة ذات غنى واسع، وتراكمت الرتب على رأسه، فجعل في عام 1617 وزيرا للعدلية، ثم جعل في رتبة بارون وفيكونت. وسبب هذه النعم كلها نشره في أثناء ذلك كتبا في الأدب والفلسفة وجهت إليه أنظار الناس في جميع أقطار العالم، وجعلته في أعلى ذرى المجد العلمي.

ولكن هذا الفيلسوف الذي هدم أساس الفلسفة القديمة بقوة عقله، ووضع أساسا حديثا للأدب والفلسفة، كان عاجزا عن تدبير نفسه، وحفظ قواعد الأدب والفلسفة؛ فإنه لما عين وزيرا للعدلية جعل يبيع بعض الوظائف بيعا بالثمن لحاجته إلى المال الكثير بناء على إسرافه. وكان يقبض كثيرا من الأموال من أصحاب الدعاوي والقضايا ليسرع في إنجاز قضاياهم. وجاءه يوما صديقه وحاميه بكنكهام يسأله وظائف لصانعيه والمقربين إليه، فاضطر إلى إجابته مكرها، ولم يقدر على رفض طلبه. فبناء على ذلك أخذ المظلومون يصرخون ويشكون، ورفعوا شكواهم إلى مجلس العموم، فأمر المجلس بإجراء تحقيق في هذه التهم، فثبت بعضها على باكون، فصدر الأمر بمحاكمته لدى مجلس اللوردات.

أما بكنكهام والملك فإنهما خشيا عاقبة الأمر؛ لتداخلهما فيه، فأوعزا إلى باكون أن يتوارى فرارا من المحكمة، ولكن باكون رفض القرار وقال إنه يستسلم إلى عدالة المجلس، فحاكمه مجلس اللوردات في 3 أيار من عام 1621، وحكم عليه بغرامة قدرها 40 ألف جنيه، وبتجريده من كل وظائفه، وقضى عليه بأنه غير أهل لأن ينوب في البرلمان بعد تلك الحادثة، ولا أن يولى منصبا عموميا، وبألا يقيم في مدينة يقيم البلاط الملكي فيها، وبسجنه في سجن لندن، فسجن باكون، ولكن الملك لم يطل مدة سجنه، بل عفا عنه وأعاده إلى لندن. ولما ارتقى الملك شارل الأول إلى العرش أعاد إلى باكون شرفه، وأرجعه في عام 1625 إلى البرلمان، غير أن باكون لم يضع هذه السنوات التي صرفها بلا عمل؛ لأنه انصرف في أثنائها إلى مراجعه كتبه الفلسفية وإتمامها. وهذه الكتب أساس مجده، ودعامة فخره، ولولاها لما كان شيئا مذكورا. وقد توفي باكون بعد مرور سنة على عودته إلى البرلمان؛ أي في 9 نيسان من عام 1626.

ولا يسعنا بعد ما تقدم من فساد تدبير باكون وسوء تصرفه إلا أن نلقي هذا السؤال على القارئ: أي أوجب للاستغراب: إنزال فيلسوف عظيم كباكون نفسه في هذه المنزلة من أخذ الرشوة وإفساد الأحكام؟ أم قيام طبقة عالية من نفس الأمة الإنكليزية سورا كثيفا دون البلاط ومقربيه، حتى إن الملك نفسه يخافها ويداريها؛ لمعرفته بأنها تحمي شرف الدولة، وتمنع حدوث الشر فيها؟ لا ريب أن هذه الطبقة - طبقة النبلاء - هي التي حفظت إنكلترا إلى اليوم، ورفعت شأنها في أقطار الأرض، وإذا أسقطت الديمقراطية في إنكلترا هذه الطبقة العالية في هذا القرن أو الذي يليه، ولم تضع مكانها ديمقراطية حقيقية «لا سطحية» كالديمقراطيات التي في أوروبا اليوم، فإن إنكلترا تسقط يومئذ عن قمة مجدها سقوطا حقيقيا.

آراؤه الفلسفية التي أحيت الفلسفة

أما فلسفة باكون فقد تضاربت الأقوال فيها؛ ففريق الفلاسفة الماديين يعتبرونه هو وديكارت زعيمين للفلسفة الحديثة، وواضعين لأصولها، وينزلون باكون في أسمى منزلة بين فلاسفة العالم. وفريق الفلاسفة الإلهيين - ولا سيما الكاثوليك - لا يرونه شيئا مذكورا، ولا يجدون في فلسفته - كما يقولون - إلا غموضا. وقد طعن عليه زعيمهم جوزف دي ماستر الفرنسوي طعنا شديدا. أما الفلاسفة الإنكليز وعلماؤهم فلا يعرفون لهم زعيما ورئيسا غير باكون مهما قيل فيه.

والسبب الذي جعل خصوم باكون يجترئون عليه، أن هذا الفيلسوف لم يضع فلسفة جديدة ولم يكتشف أمرا جديدا، ولكنه اقتصر على وضع قواعد فلسفية جديدة تنقض القواعد القديمة، فكأنه اقتصر على الهدم دون البناء. ولبيان ذلك نقول:

ميزان أرسطو: كانت الفلسفة قبل باكون وديكارت مبنية على الفلسفة اليونانية التي وضعها أرسطو، وهي المعروفة بالفلسفة المدرسية (سكولاستيك)، وكان يكفي أن يقال: «قال أرسطو» لينحسم كل جدال، فكانت العقول خاملة لا تتصرف بشيء ولا تجترئ أن تحدث شيئا حذرا من الخروج عن القواعد المقررة. وكان رأس هذه القواعد: «القياس»، وهو المعروف «بآلة أرسطو» أو ميزانه؛ لأن الحقائق لا تدرك بدونه. مثال ذلك: إذا أخذت النار ووضعت فيها ماء فإن الماء يتبخر. فكرر هذه التجربة عدة مرات، فإذا تبخر الماء في كل مرة وجب أن تجزم بأن التبخر ناموس من نواميس الطبيعة، ثم إنك تقيس اللبن على الماء فتقول : بما أن اللبن سائل كالماء ، فهو يتبخر أيضا مثله. وبناء عليه تكون قد عرفت طبيعة اللبن من قياسه على الماء. هذا هو القياس.

فلما جاء باكون وجد أن هذه القواعد متضعضعة، فأخذ على نفسه إصلاحها، فكتب في ذلك عدة كتب؛ منها كتابه «الإصلاح العظيم» - وهو أهم كتبه، ولم يصدر منه سوى جزأين، وذلك في عام 1597 - وكتابه «كتاب في الأدب»، وغيره من المؤلفات الفلسفية. وإليك خلاصة الآراء التي نشرها في كتبه:

رأيه في التمدن اليوناني وفلسفته: يحمل باكون في كتبه على الفلسفة السكولاستيك اليونانية حملات شديدة. ومن اعتراضاته أن كل ما يدرسونه اليوم؛ أي في أيام باكون، يدرسونه بناء على أقوال اليونان، ولا سيما أرسطو، مع أن اليونان لم يعرفوا شيئا من نواميس الطبيعة، ولم يقرءوا شيئا في كتابها السامي، فكيف يريد الفلاسفة تقييد العقل البشري بمعارف اليونان إذا كان هؤلاء لم يدرسوا الطبيعة نفسها؟ وفضلا عن ذلك فإن اليونان أمة قديمة، وقد كان البشر في عصرهم في دور الطفولية ونحن الآن في دور الشيخوخة، فلمن نسمع؟ وممن نتعلم؟ من الأطفال أم من الشيوخ؟ فالواجب علينا إذا أن نطلق العقول من قيود فلسفة اليونان، ونترك كل واحد منا يمتحن الأمور بنفسه، ويشاهد نواميس الطبيعة بعينيه، ويزن أحكامها بعقله. ومع ذلك، فإن الفلسفة اليونانية لم تثمر شيئا إلى الآن، ولم نحصل بواسطتها على فوائد ومنافع عملية، وكل ما استفدناه منها أنها تعلمنا طرقا سفسطائية في الجدل تجعلنا لا نطلب الحقيقة في مباحثنا، ولكن حب الفوز والغلبة، فيجب تغيير هذه القاعدة التي جعلها العلم دعامته، ووضع دعامة عملية جديدة له ليثمر ثمارا عملية. وقد جرب اليسوعيون واستبدلوا دعامة أرسطو بدعامة جديدة فنجحوا في تعليمهم، فليجرب العلم ذلك أيضا، فإنه لا بد أن ينجح.

ولكن قبل هدم هذه القاعدة القديمة يجب إنشاء «ترتيب» جديد للعلم أصولا وفروعا لوضع أصول كل فرع منه على الترتيب، وبناء على ذلك وضع باكون «الترتيب» المنسوب إليه، وعليه يعتمد العلماء.

الترتيب المشهور بترتيب باكون: قسم باكون قوى نفس الإنسان في هذا الترتيب إلى ثلاثة أقسام: «الذاكرة، والتصور، والعقل»، وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث، فمن «الذاكرة» يشتق التاريخ، ومن «التصور» يشتق الشعر، ومن «العقل» تشتق الفلسفة.

ثم إن باكون يأخذ «التاريخ، والشعر، والعقل» كلا بمفرده، ويفرع منه فروعه، فالتاريخ: طبيعي وبشري، والطبيعي يشمل درس الطبيعة ما فوق وما تحت من علم الهيئة (علم الفلك) والجيولوجيا والجغرافيا إلخ. والتاريخ البشري: يشمل التاريخ الديني، والتاريخ الاجتماعي (غير الديني)، وتاريخ الأدب والفنون. وأما الشعر فإنه يكتفي بقسمته إلى ثلاثة أقسام، وهي: الشعر للوصف، والشعر للروايات، والشعر للأمثال. وأما الفلسفة فهي ثلاثة فنون: فن معرفة الله، وفن معرفة الطبيعة، وفن معرفة نواميس الإنسان، ثم يفرع باكون من كل واحد من هذه الفروع فروعا عديدة يضيق المقام دونها، ولو أتينا عليها كلها لوجد القارئ أنه لا يبقى أصل للعلم ولا فرع خارج هذه الدائرة.

ميزان باكون ضد ميزان أرسطو: فبعد وضع باكون هذا الترتيب للعلم، وشرحه كل أصوله وفروعه شرحا كافيا وافيا، وجه همته إلى وضع قاعدة لبنائه، فقال بوجوب ترك قواعد اليونان وأرسطو والاعتماد على العقل في ذلك البناء. وكانت قاعدة أرسطو تقضي - كما تقدم الكلام - بأن كل أمر يجرب عدة مرات ويفضي إلى نتيجة واحدة يجب أن يعد ناموسا طبيعيا. وقد ذكرنا مثال ذلك في تبخير الماء وقياس اللبن عليه. أما باكون فإنه قال إن التجربة والامتحان إلى ما شاء الله حتى لا تبقى زيادة لمستزيد، واستئناف التجربة في كل جزء من أجزاء المادة، ومطاردة الأسرار الطبيعية إلى أبعد مكامنها، وثانيا: عدم الاكتفاء بالامتحان الإيجابي، بل إجراء امتحان سلبي معه، مثال ذلك: بخر الماء بالنار يتبخر، فأعد التجربة عدة مرات تجده يتبخر دائما. هذا هو الامتحان الإيجابي. أما الامتحان السلبي فهو أن تأخذ بخار ذلك الماء وتبرده، فإذا عاد ما كان العمل صحيحا، وجاز لك أن تعد التبخر ناموسا طبيعيا.

وإليك مثلا آخر، وهو: اضرب 2 في 2 في 2، فإن الحاصل 8، ولكن إياك أن تعتقد أن الحاصل هو 8 قبل إجراء الامتحان السلبي، أي قسمة هذا العدد على 2 ثم قسمة الخارج على 2 أيضا وهلم جرا. ولا يخفى أن ذلك يهدم قياس أرسطو من أساسه؛ لأنه يوجب عليك في المثل الذي تقدم عن الماء واللبن أن تأخذ اللبن وتفصحه بنفسك فحصا إيجابيا وسلبيا عدة مرات بدلا من قياسه على الماء، وألا تعتمد إلا على مشاهدتك وامتحانك. ويعرف هذا الامتحان بامتحان باكون، وقد أطلق به واضعه عقول العلماء والفلاسفة من قيود الماضي، وأعد للعلم ميدانا فسيحا قرن فيه المعرفة بالعمل، فنشأت عنه الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها في عالم العلم والصناعة والزراعة، فكأنه روح الحرية بث في العقل والعلم فأحياهما معا.

باكون وحجر الفلاسفة: ويعتقد باكون اعتقادا غريبا، فإنه يرى - كما تشهد بذلك عدة سطور من كتبه - أن غرض العلم والفلسفة البحث عن حجر الفلاسفة؛ أي المادة التي تحول المعادن إلى ذهب، وهو لا يذهب هذا المذهب طلبا للذهب، ولكن استنادا إلى درسه المادة، فإنه رأى من درسه المادة الطبيعية أن أصلها واحد، وأن المادة التي صنع منها الحصى شبيهة بالمادة التي ركب منها الذهب؛ ولذلك يقول: إننا متى حصلنا على المادة المشتركة بين جميع المواد (وهي ما يسمونه حجر الفلاسفة)، فإننا نتحقق حينئذ من أن أصل المادة واحد، ونقدر بسهولة على تحويل أي معدن كان إلى ذهب.

اعتقاد باكون بالله وبالنفس

هذا ما رأينا إثباته عن أكبر فلاسفة الإنكليز فرنسيس باكون، ومنه يرى القارئ أنه لم يكتشف أمرا جديدا عظيما، ولكنه هدم عالما قديما. وسبب شهرته الواسعة أنه قادم في زمن كانت فلاسفته مستعدة لخلع نير أرسطو، وكان أعلاهم صوتا وأقدرهم على ترجمة ما في نفوسهم، فنجح النجاح الذي مر ذكره.

بقي علينا أن نذكر معتقد هذا الفيلسوف فنقول إنه كان يؤمن بالخالق - سبحانه - وله في ذلك كلمته المشهورة: «القليل من العلم يبعد الإنسان عن الله، والكثير منه يقربه إليه.»

يعني بذلك أن من درس نواميس الطبيعة ونظام الكائنات درسا صحيحا لا يسعه إلا أن يعجب بذلك الترتيب البديع، الكائن في كل شيء، حتى في ذرات الرمل ونقط الماء وأوراق النبات، وحينئذ يسلم بالطبع من غير بحث ولا سؤال بوجود صانع حكيم، ويقول مع فنلون وفولتير عن تشبيه الأرض ونظام كائناتها بساعة وجدت دائرة في رمل الصحراء: «هل يمكن وجود هذه الساعة من غير ساعاتي؟»

وكان باكون يعتقد بوجود النفس أيضا، ويقول إن من قواها علم الغيب؛ أي معرفة الحوادث قبل حدوثها، والتأثير في نفس أخرى إذا تسلطت عليها، كما يحدث في التنويم المغنطيسي.

هذا ما نقوله عن باكون، فلننتقل الآن إلى شكسبير: (2) وليم شكسبير

تمهيد في فن الروايات

اشتقت الروايات من أصل ديني؛ أي إنها وضعت حين نشأتها لغرض ديني، فإن الفرس والآشوريين واليونان كانوا يمثلون بها قصص آلهتهم، ولكن لما قامت النهضة اليونانية في الأدب والفلسفة والشعر، خرجت الروايات من الحيز الديني إلى الحيز الاجتماعي، فنبغ في هذا الفن كثيرون من اليونان أخصهم: أشيل، الذي يلقبونه: أبا التراجيدية اليونانية، وقد أخذ عنه موليير وراسين وكورنيل وغيرهم من الروائيين. وقد ارتقى هذا الفن عند الرومانيين أيضا، ومن مؤلفيهم: بلوت، وترانس؛ الشاعران الهزليان الشهيران.

أما النهضة الأوروبية في هذا الفن فهي حديثة العهد، وقد كان شأنها في ذلك شأن النهضة الروائية اليونانية والرومانية؛ أي إنها كانت في بدء أمرها عبارة عن تمثيل ديني، وذلك أن رجال الدين المسيحي كانوا يمثلون الأعياد المسيحية التي يعدونها اليوم تمثيلا. وكان هذا التمثيل على نوعين: نوع محزن، ونوع مضحك. ومن النوع المحزن تمثيل رواية صلب السيد المسيح في جمعة الآلام، بما فيه من المحاكمة أمام بيلاطس، وصعود السيد إلى الجلجلة، ووقوف النساء يبكين لصلبه. ومن النوع المضحك تمثيل العادات والتقاليد الدينية؛ كحادثة اليهودي التائه، وحادثة برباس، ونطق أتان بلعام. ومما يستغرب ذكره أنهم كانوا إذا راموا تمثيل حادثة الأتان جاءوا بحمارة حقيقية إلى مكان الاحتفال؛ أي المعبد، وجعلوا يعالجونها لتصرخ، وكانوا ينشدونها قصيدة، منها:

غني يا جلالة الحمارة

يا أيها الفم الجميل غني

فنقدم لك كفاية من التبن

وقدر ما تطلبين من الشعير

وكان بعضهم ينشد هذا النشيد والشعب يجاوب عليه بفرح وابتهاج بلازمة ملازمة.

ولما اعتاد الشعب هذا التمثيل ألفه، فتألفت منه جمعيات للقيام به في أيام الآحاد والأعياد في خارج المعابد، فكان الشعب يقبل على حضور هذا التمثيل ويشترك فيه، وكانت الروايات مكتوبة بشعر عامي. وقد روي أن أحدهم كان يمثل الصلب، فصلب نفسه بالفعل لإتمام الشبه، وكاد يلقى حتفه لو لم يتداركه رفاقه. ولما تمادى الشعب الفرنسوي في هذا التمثيل، أصدر البرلمان في 17 تشرين الثاني من عام 1548 قرارا بمنع تلك الجمعيات من التمثيل الديني وإباحة ما سواه. ومنذ هذا الحين دخل التمثيل في دور جديد، وانتقل من الحيز الديني إلى الحيز الاجتماعي، ونشأ من الكتاب والشعراء: شكسبير، وكوث، وشيلر، وراسين، وكورنيل، وموليير، وفولتير، وفيكتور هيغو، ودوماس الكبير والصغير، وهين، وغيرهم، فأبلغوا بمؤلفاتهم هذا الفن إلى المقام السامي الذي صار إليه في أوروبا في هذه الأيام.

وقد قابل الإمبراطور غليوم الممثل الفرنسوي الشهير كوكلين الكبير، فقال له إنه من أنصار الروايات وكتابها؛ لأنه يعرف ما لهم من الفضل والتأثير في آداب الأمة وفي أخلاقها. وكفى ذلك شهادة بفائدة فن التمثيل إذا أجاد مؤلفوه وممثلوه، وكان غرضهم نشر الآداب والسرور معا في المسارح، لا إثارة عواطف العامة والحاضرين بمناظر وأقوال تشبه فقاقيع الصابون بسرعة زوال تأثيرها.

ولا ريب أن في ترجمة شكسبير من هذا الوجه عبرة وفائدة لجميع محبي هذا الفن الجميل.

ترجمة شكسبير

ولد وليم شكسبير من أب تاجر في قرية سترتفورد، القائمة على أيفون، في 22 نيسان من عام 1564، وكان له إخوة ثلاثة، فدخل معهم في إحدى المدارس المجانية، وتلقى فيها شيئا من اللغة اللاتينية، ولكن لم تأت عليه السنة الثالثة عشرة حتى أخرجه أبوه من المدرسة لاختلال أشغاله التجارية، واستخدمه في أحد البيوت التجارية. ومن ذلك يظهر أن شكسبير لم يتلقن في المدارس شيئا من الدروس العليا التي ظهرت ثمارها في رواياته بعد ذلك.

ولما بلغ شكسبير السنة الثامنة عشرة اقترن بفتاة عمرها 26 عاما، وتدعى مس حنة هاتاواي، وقيل إنها كانت عشيقته. وبعد انقضاء ستة أشهر على زواجهما، ولدت له هذه الزوجة ابنة، وبعد ثلاث سنوات ولدت له توءمين، فدعاهما: همنت، وجوديت. ولكن الأولاد جاءوه بالضيق إلى البيت؛ لأنه لم يكن يكسب من خدمته شيئا يذكر، ففر من سترتفورد في عام 1583 وعمره 21 عاما. ولما صار بعيدا عن أهله رام الصيد والقنص في الأحراج التي حرم الصيد فيها، فطلبه الخفراء للقبض عليه، ففر من وجههم وسار مشيا إلى لندن، وانخرط في سلك الممثلين فيها.

وبعد أن صرف شكسبير مدة في التمثيل جمع جوقا وتولى إدارته. أما الروايات التي كان يمثلها فكان بعضها من الروايات القديمة، يتصرف بها جريا مع ذوق العصر، وبعضها من تأليفه. ويقال: إن أول رواية ظهرت من قلمه كان ظهورها في عام 1591؛ أي بعد انقضاء 8 سنوات على فراره من وطنه. وقد قال شراح هذه الرواية إن شكسبير أظهر فيها من المعرفة بعادات الطبقات الاجتماعية يومئذ، والتلميح إلى بعض الحوادث العصرية اللندنية ما وجه الأنظار إليه، ودل على عظيم استعداده. نقول: فهل كانت تلك السنوات الثماني التي صرفها في لندن كافية لجعل ذلك الفتى الطائش، الذي لم يتلقن علما في المدرسة، في ذلك المقام من المعرفة والاستعداد؟

ومنذ هذا الحين بدأت شمس شهرة شكسبير تطلع في سماء الأدب، فصار له أصدقاء في البلاط، ورغبت الملكة إليصابات في حضور إحدى رواياته، فمثل في البلاط إحداها في ليلة عيد الميلاد من عام 1597، فأعجب الملكة هذا الجوق ووعدته بحمايتها، فازدادت بذلك شهرته انتشارا.

وكان المال يرد عليه مع الشهرة لكثرة مكاسبه من رواياته، فعاد شكسبير إلى وطنه سترتفورد، فوجد أحوال عائلته في اختلال تام، فتلافى تلك الحالة، وزاد على ذلك أن ابتاع أحسن قصر في المدينة سنة 1597، ثم أخذ يبتاع كثيرا من الأراضي ويؤجرها للفلاحين من أبناء وطنه، فضلا عما كان يقرضهم إياه من الأموال تحسينا لأحوالهم، ولكنه مع مساعدتهم على هذا الوجه كان شديد الوطأة عليهم فيما يختص باستيفاء أمواله، وكثير التفنن في طرق كسب المال؛ ولذلك يتخذ فلاسفة العمران شكسبير مثلا حينما يرومون بيان المزايا التي خصت بها الأمة الإنكليزية ، من حيث المعرفة بطرق الكسب والتزام هذه الطرق، فإنهم يقولون إن أسمى رجالهم فكرا لا يهملون الأمور المادية، ويطلبون الكسب من كل وجوهه المشروعة. أما الفرنسويون فإنهم يغارون من هذا القول؛ لأنهم مشهورون بعدم اعتدادهم بالمال، وتفضيلهم الشرف والمجد عليه؛ ولذلك يذكرون شاعرهم فيكتور هيغو كلما ذكر الإنكليز شكسبير؛ لأن فيكتور هيغو كان شبيها بشكسبير من حيث الجمع بين سمو الفكر والمعرفة بطرق الكسب.

وفي عام 1603، توفيت الملكة إليصابات التي كانت حامية لصاحب الترجمة، فلم يخسر صاحب الترجمة شيئا بوفاتها؛ لأن الملك شارل الأول شمله بعنايته وحمايته، فأبرز يومئذ شكسبير أفضل رواياته، وهي: «كما تريد»، و«هملت»، و«أوتلو»، و«مكبث»، و«الملك لير»، فبلغ بها شكسبير ما لم يبلغه في إنكلترا شاعر ولا مؤلف لا قبله ولا بعده. ولكن بعد هذه الروايات الجميلة خمد فكر المؤلف أو فرغت جعبته، فصار يكتب فصولا متقطعة. وفي عام 1611، أحس بحاجته إلى الراحة، فعاد إلى وطنه سترتفورد، فزوج ابنتيه سوسان وجوديت، وانصرف إلى إدانة الأموال وشراء الأراضي حتى أدركته الوفاة في 23 نيسان، أو 3 أيار من عام 1616 وعمره 52 عاما فقط، فدفن في كنيسة سترتفورد. ويقال إن وفاته كانت بسبب السكر، وهو حديث خرافة على الأصح.

أما عائلة شكسبير فقد انقرضت بعده؛ إذ مات كل أولاده وحفدته دون أن يتركوا عقبا، ولكن من ترك مؤلفات كمؤلفاته فإن اسمه لا ينقرض ما دام الإنسان إنسانا.

مؤلفات شكسبير ومواضيعها

وهذه المؤلفات كثيرة يضيق المقام دون ذكرها بالتفصيل، فنكتفي بالاختصار، فنقول إنه ظهرت بين عام 1591 وعام 1611؛ أي بين السابعة والعشرين من عمره والسابعة والأربعين، فيكون شكسبير قد اشتغل بعد سن الأربعين سبع سنوات فقط، ولا يخفى أن سن الأربعين هي السن التي تنضج فيها مواهب الإنسان، وتبلغ فيها قوى نفسه أشدها، فيظهر حينئذ بما خلقه الله من القوة.

وكانت أولى رواياته رواية «شقاء ضائع في الحب»، مثلها في عام 1591، وهي التي أشرنا إليها آنفا، وموضوعها غرامي هزلي انتقادي. وتلتها رواية «كريم فيلونه» في سنة 1591 أيضا، وقد أخذ موضوعها من رواية هزلية قديمة. وكذلك رواية «الخطأ». أما رواياته المحزنة (التراجيدية) فقد كانت أولاها رواية «روميو وجوليت»، وقد مثلها في عام 1592 بعد رواية الخطأ، فكان لها تأثير عظيم ولا سيما في السيدات؛ لما حوته من العواطف الرقيقة التي يتبادلها الحبيبان روميو وجوليت. وفي عام 1592 أيضا، وضع روايته التاريخية «هنري السادس»، ثم تلتها في عام 1593 رواية «ريشار الثالث»، التي وردت فيها العبارة المشهورة المذكورة بالتفصيل في روايات «نهضة الأسد»، وهي: «علي بجواد! علي بجواد، فإنني أهب مملكتي لمن يعطيني جوادا.» وفي عام 1594 أبرز روايته «طيطس أندرونيكوس»، وبعضهم يرى أن هذه الرواية لم تكن من قلمه. وفي عام 1594 كتب رواية «تاجر البندقية»، ومدارها على رجل إسرائيلي يقرض الأموال، ثم كتب رواية «الملك حنا» في عام 1594، ورواية «لوكريس». وكلتا الروايتين نتيجة دخول المبادئ اليونانية إلى إنكلترا في تلك الأيام. وفي عام 1591 و1594 مثل «الشذرات أو المقاطيع»، وهي رواية ودادية أظهر فيها فضل الصداقة على الحب. ومما قاله فيها عن لسان صديق يوبخ صديقه لأنه خطف عشيقته:

خذ كل حب لي أيها الصديق. نعم، خذه كله، وقل لي الآن: ماذا زاد على ما كان عندك؟ اعلم أن كل حب لي وكل خير لي ليس لي فيه شيء؛ لأنه لك من قبل أن تأخذه، وأنا أصفح لك عن سرقتك، أيها اللص اللطيف، وإن كنت قد سلبتني كل ما ملكت يداي.

ومما يجب ذكره هنا أن شكسبير كان يشير بهذا الكلام على ما يظهر إلى اللورد سوتنتون أو اللورد بمبروك؛ لأنهما فعلا تلك الفعلة. أما المرأة ذات العينين الدعجاوين التي ورد ذكرها في هذه الرواية فلم يعرف لها خبر.

وفي عام 1595 أبرز روايته الجميلة «حلم في إحدى ليالي الصيف»، فكانت خير ذيل «لمقاطيعه» التي تقدم ذكرها. وإليك ما قاله في هذه الرواية البديعة في وصف الحب:

ولما رأى كوبيدون الملكة العذراء تناول سهما ورشقها به. أما أنا فتبعت السهم بنظري، فوجدته قد طاش وانطفأ في نور القمر الطاهر الذي كان يحف بها؛ ولذلك نجت العذراء المكللة من الحب، وأتمت سيرها وهي تفكر أفكارا طاهرة، غير أنني بحثت عن المكان الذي وقع السهم فيه، فوجدت أنه وقع على زهرة صغيرة من أزهار الغرب كانت بيضاء اللون كاللبن، فجعلها السهم حمراء من شدة الطعنة، وتسمي العذارى هذه الزهرة: زهرة لا تنسني.

وفي عام 1595 برزت روايته «كل ما حسنت خاتمته فهو حسن»، وفيها قصة امرأة باسلة تكره الاستسلام إلى حوادث الحياة، وتنشئ لنفسها مركزا باجتهادها ونشاطها. وفي العام التالي 1596 مثل رواية من أحسن رواياته، وفيها أظهر أنه يكره إعطاء المرأة حقوق الرجال. ومن قوله عن لسان النساء: «لماذا نرى أجسامنا ضعيفة، وأعضاءنا واهنة لا تحتمل متاعب الحياة واضطرابات العالم؟ الجواب: لأن أجسامنا وأعضاءنا يجب أن تكون على اتفاق تام مع عاداتنا وحالة نفوسنا الداخلية.»

وفي عام 1597 أبرز شكسبير رواية «هنري الرابع»، وفي عام 1598 رواية «هاذيات وندسور»، وفيها طبيب فرنسوي يتكلم باللغة الإنكليزية كلاما مشوها مضحكا، وكاهن فرنسوي يقول أقوالا مضحكة، وفي عام 1599 وضع «هنري الخامس». ومنذ هذا الحين بدأت أحاسن رواياته.

فوضع أولا رواية: «عناء كبير بشيء صغير»، ومدارها على رجل آلى على نفسه أن يكره النساء، وامرأة لا تطيق رؤية الرجال، ولكن الرواية تجعلهما بطرق مضحكة يحب بعضهما بعضا في النهاية حبا شديدا. وبعد هذه الرواية، ظهرت روايته «الليلة الحادية عشرة»، وذلك في عام 1600، ومدارها على امرأة تتزيا بزي رجل وتخدم حبيبها وتحميه وتسهر عليه على غير علم منه، وهي بذلك تمثل الحب الخفي السكوت، الذي يكمن في النفس كمون النار في حجارة الزناد.

وفي عام 1601 برزت رواية «يوليوس قيصر»، وأهم ما فيها وصف أخلاق بروتوس قاتله وصفا بديعا، وفي عام 1602 مثل «هملت»؛ أشهر رواياته. وهي رواية فلسفية تسمو عن مدارك الشعب، ومع ذلك فقد طرب الشعب الإنكليزي لها أشد طرب، واختارها على ما يقال على جميع رواياته. ومدار هذه الرواية على فتى يكره الحياة لمصابه بأمه التي قتلت أباه لتستبد بالملك بعده. ومن ينسى صراخه في وسط أحزانه ويأسه وهو يستعد للانتقام : «لله يا ملاذ الحياة! كم تظهرين لي فارغة باردة!» وهذه الحالة هي نتيجة استغراق الفكر والهم كل عواطف النفس وإيباسها إيباسا.

وبعد «هملت»، كتب شكسبير «تروالوس وكريسيدة»، وذلك في عام 1603. وقد وصف في هذه الرواية حرب تروادة، وجعل مدارها على حب فتى صادق في حبه، وفيها تقول إحدى نسائها:

ليست السعادة واللذة إلا في الطلب، ومتى بلغ الطالب غرضه منا فكل شيء قد ذهب. فلتعلم ذلك الحبيبات؛ فإن التي لا تعلم ذلك لا تعلم شيئا. إن الرجال يخضعون ويذلون لنا قبل استيلائهم علينا، ولكنهم يصيرون أسيادا لنا بعد الاستيلاء.

وفي عام 1604، كتب شكسبير «قياس للقياس»، ثم كتب في هذا العام أيضا روايته: «أوتلو»، فأبرز فيها كل قوى نفسه؛ ولذلك قالوا إنها أبلغ رواياته وإن كانت «هملت» أشهرها. ومدار «أوتلو» على حب شديد يغار من نسمات الريح من جهة، وعلى الخيانة من جهة أخرى، ولكن الحب لا يجيز لنفسه أقل شكوى ولا ضجر مع معرفته خيانة الحبيب له. وتلك غاية في الحب ما بعدها غاية.

وبعد «أوتلو»، برزت «مكبث»، وذلك في عام 1605، ومدارها على درس سيكولوجي في تأثير الرذيلة والجناية في نفس مجبولة على الفضيلة. وفي عام 1606، برزت روايته «الملك لير»، وموضوعها مصائب وفظائع تصيب شعبا بأسره. وهي من أفضل رواياته أيضا. وبعدها ظهرت في عام 1607 «تيمون الأثينوي»، و«بريكليس»، ولكنهما أحط من الروايات الكبيرة التي تقدم ذكرها، لا سيما وأن شكسبير ارتكب فيهما كثيرا من الأغلاط فيما يختص بتاريخ اليونان، لاقتباسه تفاصيله من الكتب الخرافية التي كانت تطبع يومئذ. وفي عام 1608، مثل رواية «أنطونيوس وكليوباترة» و«كوريولن». وفي عام 1610 «سمبيلين». وفي عام 1611 «حكاية الشتاء»، والرواية البديعة التي ختم بها مؤلفاته، وهي «الزوبعة»، كأنه قصد جعلها مسك الختام.

شهرة شكسبير في العالم ومناظروه

وإذا كان في العالم كاتب يصدق فيه قول شاعرنا العربي:

لا يعرف القوم الفتى إلا إذا

قضى فيعطى حقه تحت الثرى

فإنما ذلك الكاتب هو وليم شكسبير؛ صاحب الترجمة، فإن مناظريه من الكتاب لم يعرفوا له فضلا كبيرا في حياته؛ لأنهم أخذوا عليه الابتداع في التأليف وترك الاتباع. ومما كانوا يأخذونه عليه عدم مراعاته وحدة السياق في رواياته، وما دروا أن ذلك الاختلاف كان سرا من أسرار نجاحها، وهكذا الناس في التأليف وسواه، متى كانوا لا يحسنون الابتداع لضعف قواهم، أو لألفة أذواقهم للقديم البالي، انقلبوا على المبتدع ونادوا بفضيلة الاتباع.

ولكن شمس شكسبير لم يطل انحجابها بهذه السحب في إنكلترا أكثر من قرنين، فإنه ما أتى آخر القرن الثامن عشر حتى سكتت جميع أصوات المنتقدين، ولم يبق غير المعجبين والمستحسنين، وبذلك انتصر اسم شكسبير انتصارا تاما.

أما أوروبا فإنها كانت أسرع من إنكلترا في إعطاء شكسبير حقه؛ ففي عام 1614؛ أي قبل وفاته بسنتين، انتشرت شهرته في ألمانيا. وفي عام 1767، وضع لسنغ فوق كورنيل وراسين اللذين كانت أوروبا تعجب بهما في ذلك الزمان. وفي عام 1762 ترجم ويلند كل رواياته، واقتبس منها «كوث» المشهور في سنة 1801 رواية روميو وجوليت، وأخذ شيلر رواية مكبث، وكتب هنري هين كتبه عن «أبطال روايات شكسبير». أما فرنسا فقد كان فولتير أول مترجميه فيها سنة 1731، وقد قال في الكلام الذي بسطه للجمهور الفرنسوي عنه: «إنه كورنيل لندن، ولكنه مجنون كبير، ومع ذلك فله أقوال بديعة في غاية السمو.» أما شاتوبريان فإنه كان يقول إنه لا «يذوقه»؛ أي لا يستحسنه.

ولكن لما جاءت مدام دي ستايل وقالت ما قالته عنه، انتصر اسم شكسبير، وأقبل الجمهور الفرنسوي عليه. وقد أجمع الناس اليوم على أن شكسبير أعظم مؤلفي الروايات في العالم، والصفة التي يميزونه بها عن باقي المؤلفين ما ظهر منه من سعة الاطلاع في كل شئون الحياة. فإذا مثل ملكا مثلا عرف ما يختلج في نفس الملك، وإذا مثل صعلوكا عرف ما يناجي الصعلوك به نفسه. وقس على ذلك باقي حالات البشر من الحب والبغض، والرذيلة والفضيلة، والحلال والحرام، والغنى والفقر، وكل ذلك مكتوب بأسلوب يسحر الألباب. وبذلك كان لشكسبير تأثير عظيم في فن الروايات، وفي الحركة الأدبية في جميع أقطار العالم، لا في إنكلترا فقط . وقد نقلت بعض رواياته إلى اللغة العربية. (3) هل كان باكون كاتب روايات شكسبير؟

ولكن كأنه قدر لشكسبير ألا يكمل مجده أبدا، فإنه قام منذ مدة عدة من أنصار باكون يزعمون أن الروايات التي تقدم ذكرها ليست من تأليف شكسبير، وإنما كان هذا ممثلا لها فقط، وإذا سألتهم: فمن ألف إذا تلك الروايات البديعة؟ فإنهم يجيبون أن مؤلفها هو الفيلسوف باكون.

وبناء على ذلك تألف في إنكلترا حزبان عظيمان أكبر من حزبي المحافظين والأحرار: أحدهما ينتصر لباكون، والآخر ينتصر لشكسبير، ولكن أنصار شكسبير أشد غضبا، وأنكى سهاما، وأفرغ صبرا من رفاقهم الباكونيين؛ لأن هؤلاء هم المهاجمون.

أما الأدلة التي يتخذها الباكونيون لإثبات أن باكون هو الذي كتب روايات شكسبير، فهي كثيرة؛ منها: أولا: أن شكسبير لم يتلقن في المدرسة دروسا تجعله قادرا على كتابة روايات فلسفية سامية كتلك الروايات، بل كان من أصله رجلا جاهلا، ولم يذكر التاريخ عنه شيئا. ثانيا: أن في أكثر تلك الروايات تلميحا وإشارات إلى حوادث الطبقات العالية في لندن، ولا سيما حوادث حياة باكون التي مر تفصيلها. وقد سألت الملكة إليصابات شكسبير غير مرة إذا كان أحد يساعده في تلك الروايات. ثالثا: أن باكون كتب إلى أحد أصدقائه كتبا خصوصية يقول له فيها إنه يؤلف تلك الروايات ويدفعها إلى شكسبير ليمثلها باسمه. هذه بعض أدلة الباكونيين. وأما الشكسبيريون فإنهم يقولون لهم: إن أقوالكم هذه مزاعم لا أدلة؛ فهاتوا شهودكم إن كنتم صادقين.

وبينما كان الفريقان في هذا الجدال إذا بصوت رنان من أميركا يقول: «قد وجدت الدليل الذي لا يرد على أن باكون هو الذي كتب روايات شكسبير.»

فالتفت الجميع، فأبصروا مسز غالوب الأميركية قادمة من نيويورك إلى لندن، وبيدها مفتاح ذلك السر. وهذه السيدة تقول إنها وجدته في كتب باكون. وإليك التفصيل:

من المعلوم أن باكون هو الذي وضع أصول المخابرات الخفية بالأرقام التي تستخدمها الدول في مخابراتها الرسمية، وكل من وقف على نسخ من الطبعة الأولى التي نشرت من كتبه في حياته وجد في بعض صفحاتها أرقاما عديدة مختلطة اختلاطا لم يظهر الغرض منه. فلما وقفت مسز غالوب على تلك الأرقام قام في نفسها أن تستعمل الأرقام السرية التي وضعها باكون في قراءة هذه الأرقام المختلطة في كتبه الأولى، فجربت ذلك، وعند أول تجربة صاحت كما صاح أرخميدس: «وجدتها، وجدتها.»

ذلك أن مسز غالوب تقول إنها استخرجت بواسطة مفتاح الأرقام السرية من تلك الأرقام المختلطة العبارة التالية:

إن أمي الحقيقية هي الملكة إليصابات، وأنا وارث العرش الحقيقي. تعقب تاريخي السري المنشور بالأرقام في كتبي تجد فيه أسرارا عظيمة، لو بحت بأحدها لباتت حياتي في خطر.

التوقيع: فرنسيس باكون

فلما ظفرت مسز غالوب بهذا التفسير الغريب استأنفت القراءة بالمفتاح السري الذي وجدته، فاستخرجت من أرقام أخرى في مكان آخر العبارة التالية: «إن فرنسيس دي فاردلام هو الذي ألف كل الروايات التي نشرت إلى الآن بأسماء مارلو، وغرين، وبيل، وشكسبير.»

ولما نشرت مسز غالوب هذا الاكتشاف قامت له الجرائد الإنكليزية وقعدت، وانبرى الشكسبيريون يوسعون الباكونيون طعنا وتقريعا حتى غصت الجرائد بمناظرات الفريقين، ولكن الطعن والتقريع لا يقومان مقام الدليل والبرهان؛ ولذلك رأى أحد مراسلي جريدة التيمس امتحان أقوال مسز غالوب، فأخذ الصفحات التي زعمت هذه السيدة أنها اكتشفت فيها تلك الأقوال، وصار يبحث في أرقامها بواسطة المفتاح السري الذي ذكرته ويضيق المقام عن بيانه. ولا يخفى أن ذلك عمل شاق لما فيه من جمع الأرقام المختلفة الشكل، فضلا عما يستغرقه من الوقت. ولما فرغ هذا المراسل من عمله ظهر له أنه ينقص الفقرة الأولى التي ذكر فيها باكون ابنا لإليصابات مائة حرف إيطالي، لتكون كلماتها منطبقة كل الانطباق على الكلمات التي ذكرتها مسز غالوب، وينقص الفقرة التالية التي ذكر فيها أن باكون مؤلف روايات شكسبير 119 حرفا إيطاليا، ليكون المعنى تاما، كما ذكرته هذه السيدة.

فاستنتج كل واحد من الفريقين من هذا الامتحان نتيجة تؤيد رأيه؛ فالشكسبيريون قالوا إن هذا الاكتشاف باطل لنقص الحروف، والباكونيون قالوا إن هذا الاكتشاف صحيح؛ لأن باكون لم يكن يطلب منه أن يذكر سره كاملا، فإذا ترك بعض حروف ناقصة، فإنما ذلك من خوفه أن يكتشف أحد هذا السر في حياته.

وتأييدا لهذا الزعم يقول الباكونيون إن باكون كان ابنا للملكة إليصابات من اللورد ليستر، وإنها عندما وضعته ألقت به إلى المحامي نقولا باكون - الذي تقدمت الإشارة إليه - بعد أن شملته بالنعم، فتبناه نقولا باكون وسماه باسمه. ولما شب هذا الغلام ظهر أنه نابغة عصره، فدارته الملكة في بدء الأمر وسهرت عليه، ولكنه لما درى بأنه ابنها انقلبت عليه وصارت تروم التخلص منه؛ لأن وراء أمره أمورا سرية أخرى - نضرب صفحا عن ذكرها - فكبر هذا الأمر على فرنسيس باكون، وأخذ يكتب روايات يلمح فيها بحوادث حياته وحوادث البلاط ويدفعها إلى ممثلي عصره كشكسبير وغيره. وكان قد ورث عظمة النفس من أمه وأبيه، فطلب العلا من طريق العلم والفلسفة، فنبغ فيهما وكتب كل الكتب المنسوبة إليه وإلى رجال النهضة الأدبية الإنكليزية في ذلك العصر؛ كشكسبير وماريو وبيل وغرين. فبناء عليه يكون فرنسيس باكون ملكا وابن ملك، من حيث النسب ومن حيث العقل، والوارث الحقيقي للعرش الإنكليزي. فليحذر جلالة الملك إدوار على عرشه من ورثة باكون، وليطأطئ الفلاسفة والعلماء والأدباء رءوسهم أمام ملك العلم والأدب والشعر والفلسفة الذي اجتمع فيه هوميروس وأفلاطون وإليصابات وغرين وشكسبير.

هذا ما يزعمه الباكونيون. ولا ريب أن باكون جدير بهذا الشرف العظيم، ولكنهم لم يثبتوه له بحجة قاطعة لا تقبل الرد. بقي لتمام هذا البحث أن نقول إن كثيرين من أعاظم الإنكليز، وفي جملتهم بيرون وبالمرستن وبيكنسفيلد وبريت وكلريدج وإيمرسن، يعتقدون أن الروايات المنسوبة لشكسبير ليست من قلمه، استنادا إلى أن شكسبير كان أجهل من أن يؤلف مثلها. ولا تزال الحقيقة ضائعة بين الفريقين.

سوريا حلقة التمدن

جمع صاحب كتاب التمدن الإسلامي أسباب عظمة العرب واتساع فتوحهم في أحد عشر سببا؛ وهي: نشاطهم وخفة أحمالهم، اعتقادهم بالقضاء والقدر وأن الإنسان لا يموت إلا إذا جاء أجله، مهارتهم في ركوب الخيل ورمي النبال، نبوغ رجال عظام في صدر الإسلام، صبرهم ومطاولتهم في الحرب، إنجادهم بعضهم بعضا ، حفظهم خط الرجعة، واقعة اليرموك التي شددت عزائمهم، انقسام الروم والفرس يومئذ وفساد أخلاقهم، انحياز اليهود إليهم، عدلهم ورفقهم وزهدهم.

وبديهي أن هنالك أسبابا أعظم من هذه الأسباب لم ينتبه المؤلف إليها، منها مسألة التوحيد التي كانت كبرق خلب تخطف الأبصار، ومنها - وهو أهمها كلها - النفس السامية العربية التي صاغتها عوامل بلاد العرب الطبيعية وغير الطبيعية. ولو أن أمة غير أمة العرب اجتمعت فيها كل الأسباب التي ذكرها المؤلف لما استطاعت أن تقوم بما قامت أمة العرب به إذا لم تكن سامية؛ ولذلك قال رينان وجميع المستشرقين إن النسل الذي صدر عنه الدين والحرية والنزاهة والإخلاص وتصورات النفس الغزلية إنما هو نسل هنود أوروبا والساميين.

أما الساميون فهم جميع الشعوب التي كانت تتكلم بلغة من اللغات التي يسمونها سامية؛ وهي: العربية، والسريانية، والعبرانية، والآرامية، والكلدانية، والآشورية، والحميرية. فمن هذين النسلين - هنود أوروبا والساميين - خرج تمدن العالم وأديانه الراقية. أما هنود أوروبا فقد كانت ثمار عقولهم تصورات رقيقة وحنانا وعواطف جدية؛ أي عواطف من ألزم لوازم الآداب والدين، ومع ذلك فإن الدين لم يخرج منهم؛ لأنهم كانوا شديدي التمسك بتقاليدهم الدينية القديمة، وإنما خرج من الساميين الذين كان لهم في ذلك فضل عظيم على الإنسانية؛ فالذين أعدوا إذا سبيل الدين للإنسانية في العالم هم أولئك البدو الذين كانوا سارحين في بلاد المشرق وتحت الخيام والأطناب، بعيدين عن فساد العالم واضطراباته. يعني رينان بذلك القبائل الإسرائيلية التي خرجت منها الديانة اليهودية والديانة المسيحية، والقبائل العربية التي خرجت منها الديانة الإسلامية.

نقول: وكما أن الساميين - أي الشرقيين في عرفنا اليوم - كان لهم فضل عظيم على الإنسانية من حيث خروج الأديان منهم، كذلك لهم فضل عظيم عليها من حيث تعزيز الصناعة والتجارة، وانتشار الفنون والمعارف. ولا ريب أن القارئ قد أدرك من هذا القول أننا لا نعني به أحدا غير الفينيقيين.

والذي أخطر هذا الموضوع في بالنا كتاب علمي كبير، نشره العالم الفرنسوي فيكتور برار، وعنوانه: الفينيقيون والأوديسة . وقد قصد به الكاتب أمرين؛ الأول : تأييد ما قاله سترابون من أن هوميروس؛ الشاعر اليوناني المشهور، اعتمد على الفينيقيين في وصف البلاد الخارجية التي وصفها في قصيدته الأوديسة، فهم إذا أساتذته، والثاني: أن حوادث الأوديسة المبنية على نكبات البطل اليوناني عولس أبي تليماك، بعد خروجه من جزيرة كاليبسو، ليست بحوادث خرافية. وقد ذكر المؤلف أنه اكتشف البلاد التي حدثت فيها تلك النكبات ونشر رسومها.

أما الأمر الأول فيؤيده المؤلف بإقامة عدة أدلة على أن الفينيقيين هم الذين مدنوا اليونان، وعلى الخصوص جهات الأرخبيل؛ وذلك أن قرصان اليونان كانوا يخطفون الفينيقيين، أي سكان صور وصيدا وغيرهما من الثغور الفينيقية السورية، ويأخذونهم إلى بلادهم فينشرون فيها الميل إلى الفنون والتجارة. وإليهم - أي إلى هؤلاء الأسرى الذين نبغوا في اليونان وعاشوا فيها - ينسب المؤلف نفائس الفنون اليونانية التي ظهرت في النهضة اليونانية.

وعلى ذلك فإن فينيقية أو سوريا تكون الوصلة الكبرى بين التمدن القديم والتمدن اليوناني الذي تلاه، بل إنها تكون أستاذ اليونان وأصل نهضتها.

ولا يخفى أن هذا القول لا يرضي أنصار التمدن اليوناني؛ لأنه ينفي عن النفس اليونانية صفة الإبداع؛ ولذلك أكثروا من الصياح بالمؤلف واستهزءوا به، ولكن الصياح والاستهزاء لا ينقضان الدليل والبرهان.

وأما إثبات صحة الحوادث التي نسبها هوميروس إلى عولس في الأوديسة، فلسنا في صدده الآن، ونكتفي بأن نقول إن المؤلف ذكر في كتابه أن جزيرة الآلهة كاليبسو، التي سافر منها عولس، هي جزيرة واقعة في المدخل الشرقي لجبل طارق، وتدعى اليوم جزيرة بريجيل، وأن الشاطئ الذي قذف عليه عولس بعد سفره منها هو شاطئ جزيرة كورفو في بلاد اليونان. وقد وصف المؤلف مواقع هذه الجزيرة التي زارها بنفسه وصفا ينطبق على وصف هوميروس.

ولكن إذا ثبت أن هوميروس لم يكن قادرا من تلقاء نفسه على وصف البلاد البعيدة التي وصفها، وأنه اقتبس وصفها من الفينيقيين الذين كانوا يعيشون في بلاد اليونان، بقي علينا أن نعلم السبب الذي أوجب على الفينيقيين تعليمه إياه، وجعله يرضى بنظمه، فنقول إن هنالك واحدا من ثلاثة: فإما أن هوميروس أراد بذلك خدمة بني جنسه اليونان وإفادتهم بمعلوماته الجديدة، وإما أنه أراد بإغراء من الفينيقيين تحذير قومه اليونان من أخطار السفر التي أكثر من ذكرها ووصفها في قصيدته صرفا لهم عن البحر؛ ليبقى الفينيقيون منفردين فيه، فلا يزاحمهم اليونان عليه.

وإما أن الفينيقيين راموا اتخاذ شعره البليغ بمثابة إعلان لبضائعهم وفضائلهم. وفي هذه الحالة تكون الأوديسة؛ تلك القصيدة البليغة السامية التي يقتبس منها شعراء الإفرنج أفكارهم وأساليبهم، عبارة عن إعلان تجاري، ويكون الفينيقيون أول من اخترع هذه الإعلانات البليغة التي كثرت في هذا الزمان.

وإذ ذكرنا الحلقة الفينيقية التي ربطت التمدن القديم بالتمدن اليوناني، وكانت أساسا له، فإننا نذكر معها مدنية أخرى كانت سوريا حلقة لها أيضا. وإليك البيان:

لما دب سوس الفناء في التمدن اليوناني والروماني على إثر الانقسامات والمشاحنات الدينية التي قامت بين أهله، قامت في العالم دولة جديدة لتجديد شباب العالم، وهي دولة العرب؛ فقيامها كان طبقا للنظام الأزلي الذي تديره اليد الأزلية. وكان روم القسطنطينية وروم روما في تلك الأزمان في نزاع شديد بشأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية؛ ففي أوائل القرن الخامس أظهر نسطوريوس؛ بطريرك القسطنطينية، رأيه في أن طبيعة المسيح البشرية منفصلة عن طبيعته الإلهية؛ ولذلك لا يجوز تسمية العذراء مريم والدة الإله، بل يجب أن تدعى والدة يسوع، فعارضه في ذلك البطريرك الإسكندري وأسقف روما لأغراض خصوصية غير الأغراض الدينية مما يطول شرحه، ثم اجتمع مجمع في أفسس وقرر تكفير نسطوريوس وعزله، من غير أن يحضر هذا المجمع أساقفة سوريا والشرق؛ لأنهم كانوا من حزب نسطوريوس، وكان أنصار البطريرك الإسكندري يخشون من ارتفاع كلمتهم. ولما عزل نسطوريوس ونفي إلى وطنه سوريا تفرق حزبه السوري في أنحاء آسيا كلها، وراح رجاله ينشرون معارفهم اليونانية وعقائدهم في جميع الأقطار، فبلغوا الهند والصين وبلاد العرب. وقد عرف صاحب الشريعة الإسلامية وأبو بكر الصديق بعضا منهم.

ولما قويت شوكة العرب كانوا يحمون هؤلاء النساطرة؛ لأن اعتقادهم بالسيد المسيح كان قريبا من اعتقاد المسلمين به من بعض الوجوه ، وربما كان يومئذ بين الاعتقادين شيء من العلاقة، فكان النساطرة يستخرجون علوم اليونان ومعارفهم وهم آمنون في حمى الإسلام، وراتعون في قصور خلفائه، وهم الذين كانوا أول من ترجم الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، وهم الذين أنشئوا في مدينة أدسيس؛ الواقعة فيما بين النهرين، المدرسة المشهورة التي خرج منها العلماء للنهضة البغدادية. وقد ذكر مؤرخو العرب هؤلاء النساطرة، فقالوا إنهم قوم يحكمون في كل شيء بعقولهم، ويفحصون كل الآراء بأنفسهم. وقد ذكرنا في ترجمة ابن رشد أن هذا الفيلسوف لم يعرف فلسفة أرسطو إلا من الكتب التي ترجموها، فكأنه كتب لسوريا أن تكون حلقة ثانية بين مدنية اليونان ومدنية العرب، كما كانت حلقة بين المدنية القديمة والمدنية اليونانية.

إسكندر الكبير

في لبنان وفلسطين

بعد تغلب إسكندر الكبير على الفرس في معركة أيسوس الكبرى، أراد أن يذيق جنوده لذة النصر، فأرسل فريقا منهم إلى دمشق والشام ليأتوا بالأموال والنفائس التي كان داريوس قد وضعها فيها قبل زحفه إليه. وبعث إسكندر في جملة هؤلاء الجنود فرسان تساليا مكافأة لهم على ما أظهروه من البسالة والشجاعة في ساحة القتال، حتى قيل عنهم إنهم سبب النصر. فاغتنى الجنود الذين ساروا إلى دمشق لفرط ما نالوه من النفائس والأموال، ودب الطمع في نفوس المكدونيين، فأصبحوا يرغبون في طلب الفرس حيثما وجدوهم؛ للتمتع بأموالهم ونفائسهم. وبذلك كان إسكندر كأنه زاد حمية جنوده ورغبتهم في القتال.

غير أنه رأى وجوب الاستيثاق من الثغور البحرية قبل الإيغال في داخلية البلاد. وكانت قوى هذه الثغور في قبضة الفرس، وهي مؤلفة من أساطيل المدن الفينيقية: صور، وصيدا، وجبيل، وأرواد، وقبرص. فخضعت له هذه البلاد لما رأته من بأسه وبطشه، ولأنها كانت تطلب التخلص من نير الفرس، ولكن صيدا أبت الخضوع وطلبت أن تكون على الحياد بين الفريقين المتحاربين، فكبر ذلك على إسكندر، لا سيما وأن بلاد اليونان أخذت تتحرك وصارت سبارطة تستعد للقتال، فقصد إسكندر صيدا لإخضاعها، إلا أن إخضاع صيدا كان يقتضى أسطولا بحريا لحصرها من البحر، فأمده ملوك قبرص بأسطول مؤلف من 250 مركبا حربيا. ولو لم تمده قبرص بهذه السفن واتحدت عمارات فينيقية كلها لما كان لإسكندر سبيل إليها. ولكن المدن الفينيقية وإمارات قبرص كانت يومئذ في تحاسد وشقاق عظيم؛ ولذلك تمكن منها الفاتح باستعمال بعضها في محاربة البعض الآخر. وهذا شأن الشقاق في كل زمان ومكان، فهو يفرق القوي، ويحكم الغريب الأجنبي في رقاب أبناء البلاد.

ولما حصل إسكندر على تلك السفن حصر بها مرفأ صيدا، وأقام في البحر استحكامات كبيرة، ثم أخذ يقاتل الصيداويين البواسل قتالا متتابعا، فثبتوا أمامه ثباتا عظيما حتى كاد يعيل صبره. وقد ورد في التقاليد اليونانية أن إسكندر رأى في نومه وهو مقيم على هذا الحصار، أن هرقل وقف على أسوار صيدا وأشار إليه بيديه أن يذهب إليه، ففسر ذلك مفسرو الأحلام بقرب استيلاء الإسكندر على المدينة. وروى الصيداويون أن بعضهم سمع تمثال أبولون؛ إله الشمس، الذي كان في المدينة يصيح بهم أنه عازم على الفرار من مدينتهم إلى الإسكندر، وذلك لما صنعوه فيه من الشرور، فكبر هذا الأمر على الصيداويين، فجاءوا بسلسلة وقيدوا بها التمثال المذكور لئلا يفر من عندهم، ثم سمروا التمثال بقاعدته ولقبوه «إسكندري»؛ إشارة إلى أنه من حزب الإسكندر.

ولما ضجر الإسكندر من حصر صيدا أراد الذهاب إلى جبل الكرمل لمقاتلة العرب الذين كانوا نازلين فيه، فسار مع قسم من جيشه وأبقى القسم الثاني في الحصار. وقد صحب في هذه الحملة مؤدبه ليزيماكوس؛ صاحب الجسم الضخم والحركات الثقيلة، فلما وصل إسكندر إلى ذلك الجبل أراد أن يصعده راجلا لا راكبا، فقدم جنده أمامه وتأخر مع مؤدبه المذكور وشرذمة منهم، ولكن ما لبث أن أمسى المساء وأدرك بعض العرب إسكندر وشرذمته، فجعل إسكندر يحث مؤدبه على السير السريع للنجاة من العرب، ومؤدبه يلهث من التعب؛ لأنه لا يستطيع السير لضخامة جثته، فأوشك إسكندر يومئذ أن يقع في شر عظيم.

ولما مد الليل أطنابه وأضرم العرب النيران، رأى الإسكندر أنه لا ينجيه شيء غير الشجاعة، فتناول حسامه وهجم على أقرب النيران إليه، فطعن اثنين من العرب فجندلهما، ثم تناول من أمامهما عودا من الحطب مضطرما وعاد إلى رجاله، فأوقد معهم نيرانا عظيمة، ولبثوا ليلهم يحرسون، فلما رأى العرب تلك النيران العظيمة ظنوا أن عدوهم كثير العدد والعدد، فارتد أكثرهم تاركين إسكندر وشأنه، وأقدم بعض منهم على جنوده ففرقهم المكدونيون، ثم ساروا في اليوم الثاني ولحقوا بسواد الجيش. هكذا ورد في رواية المؤرخ شاريس.

ثم عاد إسكندر إلى صور، وكانت جنوده ترسل إلى حاميتها شراذم من الجند لمناوشتها في كل يوم؛ رغبة في أن تتعبها ولا تترك لها سبيلا للراحة، فذات يوم وقد طال الحصار؛ لأنه قد تجاوز ستة شهور، قال العراف أريستاندر لإسكندر وجنوده: إنني أتنبأ لك بأنك ستفتح المدينة في هذا الشهر. فقهقه جميع الحاضرين؛ لأنهم كانوا يومئذ في اليوم الأخير من الشهر، فرأى إسكندر أن يغتنم هذه الفرصة شأنه في اغتنام كل فرصة، وقال للحاضرين: لا تضحكوا، فإن عرافنا صادق، إلا أنني أطلب إليكم ألا تحسبوا هذا اليوم اليوم الأخير من الشهر، بل احسبوه الثامن والعشرين. ثم نفخ في الأبواق وجمع جنده وهجم بهم على المدينة هجمة شديدة لم يهجم مثلها قبل ذلك اليوم، حتى إنه كان كأنه جمع قوة جميع جيشه في تلك الهجمة، فاستطاع إبلاغ استحكاماته إلى الأسوار، فأخذت الآلات تعمل فيها، ففتحت فيها ثغرة، فصد الصيداويون أعداءهم عن الدخول إلى المدينة في المرة الأولى، ولكن ما لبثت قلوبهم أن ضعفت، فدخلها المكدونيون عنوة واقتدارا، وصدقت نبوءة العراف. وقد قتل من الصيداويين في تلك المعركة ثمانية آلاف رجل، وباع إسكندر منهم ثلاثين ألفا. وبذلك قتل هذا الفاتح صيدا الجميلة؛ عروسة البحار يومئذ، وهدم تمدنها.

وكانت العمارة الفارسية في خلال هذا الحصار قد تفرقت، وعادت السفن إلى مدنها إلا فريقا منها هاجمه أنتيباتر؛ أحد قواد الإسكندر، وقهره، فعفا أثر العمارة الفارسية.

وبعد صيدا قامت غزة، فرفض حاكمها الخصي باتيس الخضوع للإسكندر، فقصده إسكندر على عجل، وأقام أبراجا شامخة تحت الأسوار لتوازيها في الارتفاع، ثم أقام على حصرها ، فطال الحصر وكان شديدا كما كان في صيدا. وفي أحد الأيام، مر عصفور فوق رأس إسكندر، فوقع منه على كتفه قليل من طين الأرض، ثم ذهب العصفور فوقع بين الحبال المنصوبة للآلات والاستحكامات، فاستدعوا المفسر أريستاندر، ففسر ذلك بأن إسكندر سيصاب بجرح في كتفه ثم يأخذ المدينة. وبعد أيام والمكدونيون يحصرون أهل غزة خرج المحصورون إليهم وردوهم عن المدينة في معركة دموية جرح فيها إسكندر في كتفه، فاستشاط غيظا؛ لأنه خاف أن ترى باقي أمم الشرق هذا الثبات الشديد الذي ثبتته صيدا وغزة أمامه فتقوى قلوبها على مقاومته، وبذلك يمتنع عليه ما أراده من فتح الشرق، فهاجم غزة بعد ذلك هجمات متتالية وفتحها، ثم دخلها بجنده مستشيطا غيظا للسبب الذي مر بنا، فأمعن في أهلها قتلا حتى في شوارع المدينة، ثم قبض على حاكمها وربطه بفرسه وسار يجره عدوا حول المدينة. وكأن ما رآه إسكندر كان حقيقة؛ فإن اليهود كانوا مترددين قبل فتح صيدا وغزة بين أن يكونوا مع الفرس أو مع إسكندر، ولكنهم ما لبثوا بعد فتح غزة أن خضعوا له. وهم يقولون: إنه سار إلى أورشليم باحتفال عظيم، فخرج رئيس أحبارهم وبشره بأنه يقهر كل خصم له؛ لأنه رأى آية النصر مكتوبة على جبهته، ويقولون أيضا: إنه دخل إلى هيكلهم وذبح ذبيحة فيه.

وبعد الاستيلاء على غزة، بعث إسكندر إلى أمه أولمبيا وكليوباترة وبعض أصدقائه كثيرا من التحف والنفائس التي وجدها في هذه المدينة، وفي جملتها نحو 60 ليبرة من البخور، بعث بها إلى مؤدبه القديم ليونيداس؛ ولذلك قصة لا تخلو من فكاهة، فإن مؤدبه هذا رآه يوما في صغره يقبض البخور ملء راحته ويحرقه في النار، فقال له: يا إسكندر، ليس لك أن تبذر هذا البخور الثمين بهذا القدر إلا متى فتحت البلاد التي يرد منها. فذكر إسكندر قول مؤدبه حين فتحه غزة وبعث إليه بالبخور، كما مر بنا، مع كتاب قال له فيه: إنني مرسل إليك الآن كمية كثيرة من البخور لكي لا تكون شديد التقتير على الآلهة. ذلك لأن البخور يحرق لها.

ويروى عنه في حصار غزة حكاية ثانية، وهي أنهم جاءوه بصندوق ذهبي أغلى ثمنا من جميع النفائس التي وجدوها إلى ذلك اليوم، فأخذه بين يديه وقال لأصحابه والمحيطين به: فليقل كل واحد منكم كلمة في أي شيء أحق بأن يوضع في هذه الصندوقة، فقال كل واحد كلمة حتى أتت نوبة الإسكندر فقال: أما أنا فإنني أضع فيها الإيلياذة. والإيلياذة - كما مر بنا - قصيدة الشاعر

الرواية التي رواها ثقات المؤرخين ومنهم هيراكليدس، كان هوميروس قد أفاد إسكندر ودربه في حروبه هذه؛ لأنه لا بد أنه كان يطالع هذه القصيدة.

ثم برح إسكندر غزة بعد أن أنزل فيها نزالة يونانية تستعمرها وسار إلى مصر.

عبادة الإنسان النبات

كان العالم الطبيعي الشهير داروين يسيح في سنة 1833 في أفريقيا الجنوبية؛ ففي 11 آب من هذه السنة كان قاصدا بونس أيرس، فنظر في سهل فسيح هنالك منظرا عجيبا وصفه بما يلي، قال: بعد انقضاء بضع ساعات على مروري بالبئر الأولى لمحت شجرة شهيرة في ذلك السهل الفسيح، وكان الوقت شتاء، فدنوت من الشجرة فلم أجد فيها ورقا، ولكني وجدت مكان الورق خيوطا لا يحصى لها عدد معلقة بها، وقد ربطت بهذه الخيوط هدايا كثيرة من السكائر والخبز واللحم والأنسجة وما أشبهها. وهذه الهدايا يقدمها إليها الأغنياء. أما الفقراء الذين لا يستطيعون أن يقدموا مثلها، فيكتفون بأن يسحبوا من ملابسهم خيطا ويربطوه بها، وأما الممتازون في الغنى، فإنهم يصبون في ثقوبها المشروبات الروحية المصنوعة من الحبوب أو من نبات عندهم يدعى «ماته»، ثم يقفون تحت أغصانها ويدخنون مرسلين دخانهم فوق رءوسهم؛ لاعتقادهم أن تلك الشجرة التي هي إلههم ترتاح إلى ذلك. وحول هذه الشجرة شيء كثير من عظام الخيل التي كانوا يقدمونها ضحايا لها.

وقد سأل داروين بعض الهنود هناك عن اسم هذه الشجرة، فقالوا له إنها إلههم «واليشو»، ولكن داروين يعلم أن الشعوب مهما انحطت أخلاقها الدينية، فإن الألوهية تبقى لديها في مقام سام؛ فلذلك ولما كان يعلمه من أن الإله واليشو إنما يقيم في بطن الأرض، ويتمثل أحيانا في النباتات، قال: إن الهنود كانوا يعتبرون تلك الشجرة بمثابة هيكل لواليشو، لا واليشو نفسه.

غير أنه مهما يكن من أمر هذا القول، فإن عبادة هذه الشجرة وسواها من النباتات التي روى المؤرخون أن الشعوب قد عبدوها لا تخرج عن كونها مسألة علمية في غاية الأهمية، يجب النظر فيها لمعرفة الأسباب التي دعت إليها. وتوصلا لذلك يجب النظر في تاريخ بعض النباتات التي عبدها الأقدمون. (1) مقاومة الإسلام لها

على أن هذه العبادة كانت عامة في الدنيا كلها؛ فإن قبائل الأشانتي في جهات النيجر كانت تذبح منذ بضع سنوات الذبائح لأشجار مقدسة عندها تدعى «الميموزا المقدسة»، وهي الشجرة المستحيية، ويعلقون الهدايا بأغصانها. وكان سكان الداهومي في القرن الماضي يضعون المرضى في ظل أشجار عندهم ليشفوا من أمراضهم. وروى مونغو بارك أنه وجد في إحدى سياحاته شجرة قال له الدليل عنها إن الإنسان إذا مر من أمامها دون أن يلقي إليها شيئا، فإنها تغضب عليه. وقد نقل ريشارسون أنه كان يوجد في مملكة البورنو غربي بحيرة تشاد أشجار يعدم الأهالي تحتها المجرمين، وكانوا يعبدونها قبل دخولهم في الديانة الإسلامية، وكان عدد هذه الأشجار خمسا أو ستا. والسلطان ملك البلاد كان يخرج إليها مرة في السنة للاحتفال بإكرامها وعبادتها، وذبح البقر والغنم ضحايا لها، فلما دخل أهلها في الإسلام بطلت هذه الخرافات كلها.

وروى العالم قسطنطين الذي نعتمد عليه في كتابة هذه المقالة أنه لا يزال يوجد في القطر المصري أثر لعبادة النبات، قال: منذ بضع سنوات كان الإنسان يستطيع أن يشاهد في ضواحي القاهرة شجرة كبيرة يعتبرها أهل القاهرة مقدسة، ويسمونها الحكيم الكبير؛ لأنها تشفي من الأمراض، وهم يقصدونها أفواجا أفواجا للاستشفاء من الحمى وغيرها من الأمراض الالتهابية. وطريقة استشفائهم أنهم يجثون لدى جذورها ويتلون الصلوات. وهذه الشجرة قديمة العهد، ضخمة الجذع والأغصان، وعلى فروعها أمتعة كثيرة يلقيها الناس إليها على سبيل الهدية، ومن فرط احترامهم لها يمنعون الناس من تصويرها.

انتهى قول الراوي، وكان بودنا ألا يتورط المسيو قسطنطين في هذا القول، فإنه إذا كان بعض البسطاء في بلد يعتقدون أن الزيارة لإحدى الأشجار والصلاة عندها مما يشفي المريض من مرضه، فليس يصح ذلك على جميع أهل البلد.

وكما وجدنا عبادة النبات في أفريقيا نجدها في آسيا، فإن السائح برلوارو في سنة 1471، والسائح بطرس دل فال في سنة 1622 قد وجدا في بلاد الفرس أشجارا كثيرة عليها الأنسجة المختلفة، ويقال إن هذه العادة لا تزال موجودة هناك إلى هذه الأيام. على أن العرب كانوا يقطعون كثيرا من هذه الأشجار إبطالا لبدعها، وربما قطعوا معها رءوس بعض المعارضين في قطعها. (2) مقاومة المسيحية لها

وقد قاومت الديانة المسيحية هذه البدع كما قاومتها الإسلامية؛ فقد كان في القرن الرابع للميلاد المسيحي قرب أوكسر - على مسافة 175 كيلو مترا من باريس - شجرة كانوا يعلقون بها الأسلاب التي يغنمونها من العدو في ساحات القتال، والأسلحة المختلفة التي كانوا يزينون منازلهم بها. وكان الشعب يكرمها إلى حد اعتبر عنده قطعها فوزا للدين المسيحي الذي كان يومئذ يضطهد أنصاره. وكان أهل الجهات الجنوبية في فرنسا يعبدون المغاور والأشجار في عهد القديس أماندوس، وكان من الفضائل المسيحية يومئذ تخريب هذه المغاور وتقطيع هذه الأشجار. وقد قررت مجامع أرل وتور وننت قرارا تحرم فيه إكرام الأشجار والينابيع والحجارة، وقس على ذلك في الهند وبلاد اليونان والأقطار الأميركية مما يصح أن يقال فيه مع العالم لانج: إن الإنسان قد عبد النبات منذ أزمنة المصريين الأولى إلى أزمنة المتوحشين في هذا الزمان.

فما أصل هذه العبادات كلها؟ وهل إن الإنسان عبد النبات اتفاقا أم وجدت أسباب حملته على هذه العبادة؟ وما هي هذه الأسباب؟ إن البحث في هذا الموضوع الطبيعي الجليل في غاية الأهمية؛ لما فيه من الفائدة واللذة.

أما الاتفاق فليس له وجود في الطبيعة حقيقة، بل لكل معلول علة، ولكل نتيجة مقدمة؛ ولذلك ننظر في الأسباب والمقدمات التي حملت الإنسان على عبادة النبات. (3) أصل عبادة الدبق والسنديان

فننظر أولا في نباتات الدبق وأشجار السنديان التي كان يعبدها سكان غاليا في العصور المتقدمة، فقد قال المؤرخ بلين إن كهنة الغاليين كانوا يحتفلون أعظم احتفال بقطف أثمار الدبق ويقدسونها، ويعزون إليها مزايا دينية كثيرة، وهم يقطفونها عادة بواسطة سكين من الذهب، ومن المحرم عليهم قطفها بآلة حديدية لئلا ينجسها الحديد. وهذا الأمر الأخير يدل على أن عبادة نبات الدبق كانت قديمة جدا؛ أي إنها سبقت العصر الحديدي حتى حرم الحديد في قطفها. ولكن ما أصل هذه العبادة؟

أصلها أن هذا النبات حلمي يعيش بلا جذور على الأشجار التي يعلق بها. وقد كان يعلق في بلاد غاليا بأشجار السنديان، فيمر الإنسان الأول فيجد على هذه الشجرة نباتا مستقلا عنها وهو يعيش عليها، فيتساءل: من أين أتى هذا النبات المستقل؟ ثم إنه يأخذ بمراقبة مصدر هذا النبات، فيجد أن عصفورا يأتي ببذور منه ويلقيها على أغصان بعض الأشجار فتنبت عليها وتنمو. ولا يخفى أن الأقدمين كانوا يعزون إلى المشيئة الإلهية كل ما يقع تحت حواسهم من الأعمال العجيبة التي يعملها الحيوان والنبات، فأخذوا يعتقدون منذ ذلك الحين أن ذلك العصفور الذي يأتي ببذرة الدبق إلى تلك الشجرة مرسل من الآلهة، وتلك الشجرة مختارة منها؛ فهي مقدسة. وبناء عليه عبد الغاليون القدماء شجرة الدبق أولا، ثم السنديانة التي تحملها. وقد جاء في الأمثال الرومانية قولهم: إن العصفور يأتي هو نفسه بالدبق الذي يؤخذ به.

هذا أصل عبادة الدبق والسنديان في غاليا؛ أي إن استغراب الإنسان الأول النبات الحلمي الذي يقع على السنديانة باختيار طائر غريب مرسل؛ هو الذي نبه العقل البشري إلى تقديس ذلك النبات، ثم انتقل التقديس من النبات نفسه إلى الشجرة التي ينمو عليها. هذا هو الأصل الأول. (4) أصل عبادة التين الهندي

والأصل الثاني نجده في عبادة شجرة مقدسة شهيرة في الهند معروفة بشجرة «التين الهندي المقدس» أو تين الهياكل. وقد كانت عبادة هذه التينة من أهم العبادات الآسيوية. أما صفتها فهي شجرة ضخمة تنتشر أوراقها وفروعها انتشارا بعيدا، حتى إنها قد تظلل لسعة انتشارها مئات من الناس، ولكن ليست هذه مزيتها الكبرى، وإنما مزيتها الكبرى بروز أغصان من وسطها وتدليها إلى الأرض على شكل الجذور، ثم غوصها في الأرض كما تغوص الجذور، وقيامها مقام هذه من حيث امتصاص الغذاء. وقد تبلغ هذه الجذور البارزة مئات، كما تشاهد ذلك في أشجار من هذه الفصيلة موجودة في حديقة الأزبكية في القاهرة. وقد ورد لهذه الشجرة ذكر في الكتب الهندية المقدسة، فإنهم يسمونها شجرة الحكمة التي جذعها فوق وأغصانها تحت، تستند إليها الأرض ومن عليها. وقد جاء في التقاليد البوذية أن ولادة بوذة كانت بمثابة بروز جذر عظيم في وسط شجرة العالم، وروي أيضا عن أمه مايا أنها لما نقلت من فراشها لتلده نقلت إلى إحدى قمم جبال حملايا، ووضعت تحت شجرة منتشرة الأغصان والأوراق، فكانت إذا مدت يدها لتقطف ثمر الشجرة تدلت إليها أغصانها من نفسها. ولا يخفى ما في ذلك من الرمز إلى التينة الهندية.

فهذه الأمور إذا أضفت إليها مزية بروز الجذور من فوق إلى تحت، وهي المزية التي تميز هذه الشجرة عن سائر العالم النباتي، وجدت أنها كافية لإكرام الهنود إياها والاهتمام بها. وفضلا عن ذلك، فقد كان لهذه الشجرة مزية أخرى على باقي الأشجار؛ مما جعل الإنسان الأول يزداد بها اهتماما، وهي أن بذور هذه التينة كانت كثيرا ما تنبت بإزاء شجرة فتلتف عليها وتستند إليها، ولكنها لا تشب وتقوى حتى تأخذ جذورها الظاهرة - التي أشرنا إليها - بالتدلي إلى الأرض، فتضخم التينة وتنمو، وتزداد التفافا على تلك الشجرة حتى تخنقها وتقتلها؛ ولذلك سميت خانقة الأشجار أيضا، فكانت ذات مزية غريبة.

وكما أن الريح ألقت بذرة التين بإزاء شجرة فنبتت وخنقتها بعد بلوغها أشدها، كذلك قد يحتمل أن يحمل العصفور تلك البذرة إلى هياكل الهنود، فتنبت على سطوحها أو في جدرانها، فيحسب الهنود أن الآلهة قد أنبتتها هنالك. وقد وجدت نقوش كثيرة في الهياكل البوذية في الهند تمثل نمو شجرة التين المذكورة في جدران الهياكل وبروزها من نوافذها.

هذا هو أصل تقديس الهنود شجرة التين الهندي، وزد على ذلك أن ورق هذه الشجرة كثيف ثخين يقي المستظل بها من هبوب الرياح وانهمار المطر الشديد في تلك البلاد، فضلا عن اعتقادهم بأن الصاعقة لا تسقط عليها؛ لأن الآلهة تحميها. ولعل سبب ذلك - إذا صح - وجود كهربائية دافعة فيها. (5) القضبان السحرية

ثم إنه ورد في التقاليد الأسوجية ذكر لقضبان سحرية يكشف بها الإنسان المخبآت، وطريقة الحصول على هذه القضبان الثمينة مذكورة في أوراق وجدت في القرن السابع عشر، ومنها هذه العبارة: متى لقيت على جدار أو على صخرة أو في جوف شجرة نبتة «السوبريه» نابتة من بذرة، تكون قد سقطت من منقار عصفور، فاذهب إليها في مساء اليوم الثالث من عيد نوتردام واقطف قضيبا منها، فيكون له مزية اكتشاف المخبآت ومعرفة الأراضي التي فيها ينابيع. فأنت ترى من ذلك أن هذه الشجرة التي لها مزية الاكتشاف إنما هي من النباتات الحلمية، أو النباتات التي تبرز من جذعها جذور على طريقة التينة الهندية. (6) تولد عبادة الأشجار من عبادة النار

ويمكن الاستدلال على تقديس الأشجار بمسألة النار، فإن الأقدمين كانوا يحترمون النار ويقدسون أنواعها، فقد ورد عن الرومانيين أنهم كانوا يضعون النور المقدس في الهياكل، ويقيمون عليه العذارى حارسات، ويسمونهن الفستال. وورد عن أهل المكسيك قبل اكتشاف الإسبانيين بلادهم أنهم كانوا يقيمون في كل سنة حفلة عظيمة على جبل فيه أشجار كثيرة من اليو كساستين، فيأتي كاهنهم بأضخم رجل من أسرى الحرب الذين لديهم ويلقيه تحت الشجرة، ثم يضع على صدره شيئا مثقوبا ويأتي بغصن شجرة، ثم يأخذ بحكه في ذلك الثقب حكا عنيفا شديدا متتابعا، حتى تظهر النار ويلتهب العود بشدة الاحتكاك، فيشق حينئذ صدر الأسير ويستخرج قلبه؛ ليكون هدية للنار المقدسة الجديدة. ويكون الشعب مجتمعا في سفح الجبل، فعندما تظهر له النار الجديدة يتعالى هتافه وصراخه؛ لأنه يتخذها في كل عام علامة لعدم انطفاء الحياة في هذا العالم .

وقد ورد في كتب الفيدا الهندية أن احترام النار أمر مقدس، وله عند البراهمة حفلة عظيمة، ولا سيما النار المقدسة التي يضرمونها باحتكاك غصنين يؤخذان من شجرة معلومة. ويقول الفيدا: ضع رباطا في أحد الغصنين كما يوضع اللجام في رقبة الجواد. هذا هو الذي يعيد الحياة. ثم جئ بسيدة النسل وحك الغصنين لتوليد «أنيي»؛ وهي النار. إن أنيي كامن في الغصن كما يكمن الجنين في جوف أمه.

وقد عثرنا على تفسير بديع للذبائح التي كان يذبحها الهنود وغيرهم من الأقدمين ويستخرجون أحشاءها، فإنهم كانوا يرمزون بالحيوانات المذبوحة إلى مبدأ الحياة العظيم، فيقولون إن غيوم السماء هي البقر التي في أحشائها النار، ومتى اضطرمت النار وانفجرت في الغيوم بشكل صاعقة اتخذت شكل الماء، ثم نزل الماء مطرا إلى الأرض فتحول إلى عصير النبات، ثم متى جف العصير ويبس النبات بقيت النار فيه، وهي موجودة في كل حي لأنها مبدأ الحياة. ومن أغرب الغرائب أن يكون العلم الحديث قد توصل إلى شبه هذه النتيجة، فإنه يقول إن كل جرثومة حية تفرز الحرارة ولا تبرد إلا متى عدمت الحياة.

فالنتيجة التي تظهر من كل ما تقدم عن تقديس النار بسيطة، وهي أنه إذا كانت النار مقدسة؛ فالأشياء التي تتخذ لإضرامها يجب أن تكون مقدسة. وهكذا قدست الأشجار. والغريب أن النار المقدسة - التي مر ذكرها - عند المكسيكيين والهنود إنما كانت تستخرج بأغصان من النباتات الحلمية، والأشجار التي يبرز من جذعها جذور إلى الأرض، على طريقة التينة الهندية. وهذا مما يزيد الأقوال السابقة ثبوتا. (7) عبادة الأشجار لمنفعتها

وفي استطاعتنا أن نضع في جملة أسباب تقديس الأشجار: انتفاع الإنسان بها؛ فإن من أثمار بعض الأشجار ما يعصر منه شراب طيب مسكر؛ كشراب «الصومه» الهندي الذي يقدسه الهنود، ثم إن الإنسان الأول كان يقتات من أثمار الشجر فقط، فكان عليه بحكم الطبع أن يكرم مادة رزقه. ومعلوم أن من الأشجار ما هو مثمر كثير الإقبال، وما هو عاقر لا يثمر أو قلما يثمر؛ فبديهي أن الإنسان الأول قد انتبه إلى ذلك وأكرم المثمرة وأهمل العاقرة. وإنما يصح هذا القول بالخصوص على أشجار آسيا التي كانت جبالها وأوديتها تغص بها في الزمن القديم، وكلها مثمرة تكفي البشر. وقد أثبت الباحثون أن في أذهان البشر في كل البلاد المتوحشة والمتمدنة ذكرى وطن قديم، فيه خضرة دائمة، وجنات لا يجف لها ماء ولا يفنى لها ثمر، فاستنتجوا من ذلك أن الإنسان إنما يذكر بذلك جنات آسيا التي كان يعيش فيها في بدء أمره، ومنها هاجر بعد ذلك إلى البلاد القاصية، وبعضهم يسمي تلك الجنات عدنا. (8) الشجرة المدافعة والتي تخلق الحيوان

ومن الأشجار المقدسة شجرة تعرف باسم «سكروبيا» كان لها شأن عظيم في أميركا الجنوبية، وليس ذلك فقط لأن أهل تلك البلاد كانوا يستخرجون النار منها بحك عود في ثقب يكون في جذعها، بل لأنها كانت ذات مزية أخرى عظيمة.

ذلك أن النمل - كما هو معلوم - يكون خطرا شديدا على النبات في الأقاليم الحارة، لهجومه عليه جيوشا جيوشا وقطعه أوراقه؛ مما يوقف نموه وينتهي بإيباسه. وهكذا كان شأن النمل في أميركا الجنوبية مع أشجارها، إلا مع شجرة «سكروبيا»؛ فقد كانت هذه الشجرة وطنا دائما لنوع من الحشرات يشبه النمل، ولكنه عدو لدود له، فإذا صعد النمل إلى السكروبيا ليؤذيها هاجمته الحشرات الصغيرة التي فيها، وحدث بين الفريقين قتال ينتهي دائما بانغلاب النمل وارتداده، فكأن تلك الحشرات حراس للشجرة.

ثم إن الغريب في أمر هذه الشجرة سوى ما ذكر أنها تجازي هذه الحشرات عن دفاعها عنها أحسن جزاء، فإنه يتولد على أطراف غصونها العليا حويوينات أو هنات نباتية صغيرة، تتخذها تلك الحشرات طعاما لها، فكأن الشجرة تهيئ لها الطعام جزاء عن دفاعها عنها. وقد أعجب علماء النبات بهذا الاتفاق بين الشجرة والحشرات.

ومعلوم أن الإنسان الطبيعي الأول كان شديد الملاحظة لما حوله؛ إذ لم يكن لديه شيء يشغله عنه كما لديه الآن في الاجتماع، فلا بد أن يكون قد انتبه إلى هذا الاتفاق، ولا بد أنه يكون حين انتباهه إليه قد حكم بأن الشجرة تخلق من تلقاء نفسها هذه الحشرات للدفاع عنها، فهي إذا مباركة؛ إذ لو لم تكن كذلك لما كانت لها هذه المزية العجيبة. وهكذا قدسها وعبدها.

ثم إنه يوجد أمثلة أخرى على الأشجار التي كان يعتقد الأقدمون أنها تخلق حيوانات، فإن السائح نورنفور شاهد في سياحته في الشرق في القرن الثالث عشر طريقة كان يتخذها اليونان لزيادة نماء ثمار التين عندهم. وذلك أنه كان يوجد لديهم نوعان من التين: التين الجيد، والتين الرديء البري، فكانوا يقطفون التين الرديء في شهري حزيران وتموز، ثم يربطون ثماره بخيوط ويعلقونها في التينة الجيدة فتعطي ثمارا كثيرة، وربما تجاوز حاصل التينة 280 ليبرة، على حين أنهم إذا لم يضعوا التين الرديء عليها مربوطا بالخيط؛ فإن التينة لا تأتي بربع هذه الكمية.

فما سبب ذلك؟ سببه أن ثمار التين الرديء تحمل إلى التينة الجيدة لقاحا لتلقيح ثمارها، ومن غير هذا اللقاح لا ينضج للتين ثمر. وقد كان هذا التلقيح يتم في العصور الماضية بواسطة الحشرات، التي كانت تنتقل من الثمار الرديئة إلى الجيدة فتلقحها، فالظاهر أن متوحشي ذلك الزمان قد راقبوا ذلك وشاهدوا أن الحشرات تخرج من جوف الثمرة، فاستنتجوا منها أنها تخلقها، فأكرموا التينة وعبدوها. (9) شجرة الخلد المصرية

ويوجد في تاريخ المصريين مثال مهم على اشتقاق الحيوان من النبات، فإنهم قد وجدوا في كتاب الأموات، الذي يعتبرونه دليل النفوس التائهة بعد الموت، قولا غريبا يؤيد ذلك. وهذا نصه: إن الميت يحمل عصاه في يده ويذهب في الآفاق مفتشا عن ضالته، ولكنه لا يلبث أن يصل إلى طرف الدنيا الحقيقية، فيجد نفسه تجاه جميزة ممتلئة من أثمار تين الجميز، وعليها امرأة نابتة من جذعها، وفي يدها إناء يتضمن ماء الحياة، فإذا رفض أن يأخذ منها عجز عن إتمام سيره؛ لأن هذه الشجرة شجرة الخلد، وهذه المرأة هي الإلهة نوت إلهة الخلد، التي تحمل في يدها كوز ماء الحياة؛ فالذي يشرب منه يحيا، والذي لا يشرب يموت.

وقد بحث المسيو ماسبرو في سبب عبادة المصريين القدماء لشجرة الجميز وتقديسهم إياها، فقال: إنهم في بدء الاجتماع كانوا يستغربون انفراد شجرة من أشجار الجميز في سهل فسيح دون أن يكون لها رفيقة في الحياة، فيكرمونها ويعتقدون البركة فيها. وكانت السهول الواقعة قرب الجميزة تدعى مكان الجميز، وكانت مصر نفسها تدعى في أيام الفراعنة أرض الجميز. (10) اشتقاق الإنسان من النبات

هذا ولاشتقاق الإنسان من النبات مثال آخر أدل مما تقدم، وهو أن كثيرين من متوحشي أميركا وآسيا يعتبرون أنفسهم أنهم إخوان للأشجار والنباتات التي حولهم، ويعتقدون أن لها أرواحا تحس وتشعر. وقد وجدت في الهند وغيرها رسوم كثيرة تمثل أشجارا معلقة بها رءوس بشرية، وكانت العادة في أوروبا منذ القديم أن يزينوا الأشجار بوجوه صناعية من جلد ملون. وكان سكان جزائر بحر إيجة يعبدون البحر، ويزعمون أنه مصدر كل شيء؛ إذ فيه كل ما في الأرض، ففي الأرض أفراس وبشر وأثمار كالخيار وما أشبه، وكذلك في البحر، وإنما قالوا هذا القول لما وجدوه من الشبه بين مخلوقات البر والبحر. وفي تقاليد كثير من الشعوب أن زبد البحر الطافي على وجهه هو مادة الحياة الأولى، ومنها خلق كل ذي حياة. وكان الرومانيون والهنود والمصريون أيضا وغيرهم من المتقدمين يعتقدون كما قال المسيو لنورماند: إن العالم شجرة عظمى، الأرض جذعها، والسماء أغصانها، وثمرتها النار. ولما قام الرجل الأول الذي علم الناس كيف تستخرج النار من الشجرة حسبته الآلهة كافرا؛ لأنه سرق من الشجرة المقدسة ثمرتها الممنوعة. وهو قول يقرب مما جاء في التوراة.

ولكن أين الشجرة التي اعتقدت شعوب كثيرة أن الإنسان مشتق منها؟ الجواب الذي تجيب به كل تلك الشعوب أنها كائنة في قعر البحر؛ فمن البحر يخرج كل شيء، البحر هو مصدر الحياة وصانع المخلوقات. وقد كان هذا الاعتقاد شائعا كل الشيوع في الهند والصين واليونان، ووجدت في هياكل بوذة والبراهمة في الهند والصين رسوم كثيرة تمثل الشجرة الخالقة العظمى نابتة من قعر البحر، ورافعة فروعها فوق الأمواج، ومنها مشتق الإنسان. ومما ينطبق على هذا الاعتقاد ما رواه فلوطرخوس نقلا عن عامة اليونان؛ فقد روى أنهم كانوا يعتقدون أن سنديانة زوس نبتت من قعر البحر بعد الطوفان. وقوله بعد الطوفان يدل على الزمن الذي تلاشى فيه البشر وقام بشر غيرهم. فكأنه قال إن الإنسان الجديد نبت من تلك السنديانة الجديدة.

هذا أهم ما عثرنا عليه في موضوع عبادة الإنسان النبات، ومنه يستدل القارئ أن البشر الأول لم يعبدوا أشباههم من المخلوقات إلا لما كانوا يرونه فيها من المزايا، ويشاهدونه فيها من الرموز أو المقدرة أو المنفعة. وفوق كل ذي علم عليم.

خطبة لدى شلال نياغرا

سلام أيها الشلال، حدثني لأحدثك؛ فقد جئتك من مكان بعيد. لقد جئتك من البلاد الشرقية البعيدة التي سمعت بك وأنت لم تسمع بها، ولقد قرأت عنك في صباي ما أدهشني، فلما وطئت قدماي بلادك العظيمة هذه كانت زيارتك إحدى أماني نفسي، ولما بلغت ماء أمس بلدتك المسماة باسمك، وسمعت في الفندق صوتك يملأ الفضاء، لم أستطع الرقاد، مع أن الليل كان في منتصفه، وكان صوتك مع كونه شبيها بصوت أم تهمهم في أذني طفلها لتنومه يهيج أعصابي في فراشي، ويمنعها من السبات بدل أن يسكنها. وخيل لي مرارا أنه يدعوني إليك، وألا أؤجل زيارتك ومصافحتك إلى الغد، فنهضت إلى ملابسي فلبستها، وانحدرت في ظلام الليل إلى الحديقة التي على شاطئك بين حبال الأنوار الكهربائية التي زينوا بها الطريق إليك؛ زينة تتجدد في كل يوم بجمال وسلامة ذوق، كأنهم يحتفلون بك احتفالا أبديا. ولما صرت على شاطئك في الحديقة بين أصوات قبلات العشاق في الخمائل، ولفتات بنات أميركا ليرين هل يرى أحد تلك القبلات المسروقة من وجناتهن، هبطت إلى مائك بسرور ولذة لا مزيد عليهما، كأنني هابط إلى ماء أعظم من ماء الأردن، وغمست فيك كفي أصافحك قائلا: سلام يا صاحب الماء.

أي نعم، سلام وألف سلام. لقد جئت أسألك سرك العظيم. أنا تعبت ولم أتجاوز ثلث قرن، وأنت لم تتعب وقد تجاوزت مئات قرون، فما السر في ذلك أيها الشلال؟

ولم يكن تعبي من الحياة وحياتك، فقد كنت تعبا منها من قبل حين كنت في زمن الشباب، أعني شباب الروح لا شباب الإهاب. أما الآن وقد بدأت أفهمها - عفوا، ولا تبتسم إن كنت تستطيع الابتسام - فقد أصبحت أحبها كحب الإنسان لشيء لا مفر منه، فإن حضر تمتع به، وإن غاب لم يسأل عنه ... وإنما تعبت لأنني أركض وراء شيء وهو يركض أمامي.

فلعل هذا سبب تعبي بعد ثلث قرن، وعدم تعبك أنت مع أنك ابن مئات قرون.

أنت لا تركض وراء شيء، ولا تطمع في شيء، مياهك تجري من حيث لا تدري إلى حيث لا تدري، مندفعة بقوة الصواعق وأصوات الرعود، وهي لا تبالي بمصيرها ولا بما يصيبها أو تصيبه في طريقها، فلا غرض لك ولا غاية، وأما أنا فمع أن لا غرض لي ولا غاية أريد بالرغم من الطبيعة (أمنا جميعا) إيجاد غرض لي وغاية ... وهذا هو التعب العظيم. فهل أنا طالب مستحيل؟ أم غايتي لا تدرك إلا بعد عناء طويل؟

صعدت الجبال أطلبها، وهبطت الأودية أخطبها، واستوقفت في الأحراج نسيم المساء أسأله عنها، وناجيت أجرام السماء وسكان المدن والقرى أستخبرهم خبرها، فوجدتهم جميعا لا يعلمون، والآلهة الذين يعلمون ذهبوا فلا يعودون.

أنت عاصرتهم منذ ألوف من السنين، فأخبرني هل أسروا إليك خبرا؟ وهل تعلم شيئا مما سيجري ومما جرى؟

لما كان كهنة المصريين يحيطون هياكلهم بالأسرار، ويسجدون فيها للأبقار، وموسى يقود شعبه في التيه، وإسكندر يفتح المشرق والمغرب، ويسوع يحمل على مبادئ الكهنة المادية حملته المشهورة التي كوتهم في جباههم بنار أبدية، ومحمد يدعو إلى السيف أو القرآن، وبوذة وكونفوشيوس وبرهما يجتذبون إليهم أكثر من ثلثي بني الإنسان، ونابوليون يقتحم أوروبا التي اتحدت عليه ليدوسها بسنابك خيله، والعلم والفلسفة بين كونت، وقنت، وسبينوزا، وشوبنهور، وهجل، وسبنسر، ونيتشه، وروسو، وديكارت، وفولتير، وباكون وداروين يضطربان، ورينان يبتسم لأقوال الجميع ويقول بلغته البديعة: «لكل مسألة وجهان.» لما كان كل ذلك أيها الشلال كنت تجري كما تجري الآن، ومعاصرا لهؤلاء الأعاظم من بني الإنسان، فقل لي هل بلغك أن أحدهم وجد تلك الغاية المنشودة واليتيمة المفقودة؟ وهل أسر أحد منهم إليك شيئا من تلك الأسرار الهائلة التي لا يبوح بها الإنسان لأحد غير نفسه؟ حدثني لأحدثك يا جد الأرض وشيخها الأعظم، وقل لي ما علمت لأقول لك ما أعلم.

ولكن مهلا ولا تصغ إلي، فليس ما أعلم بذي شأن، وتكلم أنت أولا؛ فللجبابرة حق التقدم على الأقزام. أف، ما أحقر الإنسان وأصغره لديك! وما أقبحه لدى جمالك! لقد جلست بجانبك ساعة أنظر إلى نفسي وإلى مياهك الفضية، فهممت أن ألقي بنفسي فيك لأكون جزءا منك، لاصقا بك إلى الأبد لا أنفصل عنك، ولكن أنى لي ذلك؟ تكلم أولا يا شيخنا الناطق الصامت، فما لدي شيء تافه ساقط.

وماذا عسى أن يقول لك ابن ثلث قرن يا ابن مئات قرون؟ وماذا تستفيد من معاصر الصغار يا معاصر الكبار؟ اسمع أيها الشيخ، أتعطيني كل ما في صخورك من الجماد الذي لا يحس وتصوغ لي منه أجمد نفس؟ إذا تمكنت من ذلك قلت لك قولا هائلا يستحق أن يصغى إليه ... وإلا فلا تسلني إلا ما أقدر عليه.

ليس هذا بجبن، أيها الشيخ الشجاع، ولكنه كراهة للألم وخوف من الانفصال عن العالم. إنك أنت تقدر أن تعيش في فراشك الرحب الجميل وحيدا فريدا كإله جليل، وما فتئت الآلهة تعيش وحدها، ولكن بني الإنسان اجتماعيون طبعا وتطبعا. ثم هل أنت تقدر على الخروج من مجراك وارتقاء الآكام التي حولك؟ فكيف يقدر رجل مثلي على الخروج عن طريقه المألوفة لصعود جبل أصعب وأشد خطرا من آكامك؟

أتذكر أيها الشلال يوم كان شاطئاك مرتعا لأولئك الهنود المساكين قبل أن يصل إليك البيض، ويغتصبوا أرضهم هذه ظلما وعدوانا؟ لا ريب في أنك تذكره، لأنك كنت فيه معبودهم. فأولئك البشر السذج المساكين الذين كانوا يصطادون التمساح من مياهك وهم عراة الأبدان، يكسو الريش رءوسهم، وتحمل أيديهم الفئوس والحراب، ويعيشون بالغزو والسطو في قفر يباب؛ كانوا أسعد حالا وأنعم بالا من هؤلاء البيض الوافدين على شاطئيك من جميع أقطار الدنيا، وقد ملئوهما بالمدن العامرة، والمنازل الفاخرة، والحدائق الزاهرة، والمركبات الكهربائية، والسفن البخارية، وراحوا يتبخترون بينها تبختر الطاووس بثياب جميلة، وشعور صقيلة. وصدقني، أيها الشيخ، إن أولئك كانوا أسلم طبعا وأبعد عن الخبث من هؤلاء.

قد غيروا أرضك ومن عليها، أيها الشيخ، وهم يظنون أنهم حسنوها وحسنوك، وجملوها وجملوك، وما جمالهم إلا كجمال المرأة الدميمة: زخرف خارجي وطلاء سطحي. حك هذا الطلاء قليلا فتجد تحته جيفة منتنة. أظنني غير مخطئ ولا مسيء إليك أيها الشيخ إذا قلت لك إنك كنت أجمل منك اليوم حين كان شاطئاك ملجأ للمتوحشين، ومعتركا للأسود والنمورة، ومسبحا للذئاب والتماسيح، ومرقصا للدببة والقردة؛ فقد كان جمالك يومئذ وحشيا طبيعيا، يقشعر له جلد التصور، ويرتد عنه طرف الخيال مذعورا. لقد كان جمالك يومئذ جمالا حقيقيا.

أما اليوم فقد أسروك كما تؤسر الأسود في الأقفاص، وتجعل فرجة للناس، فأصبح شاطئاك مرتعا لذئاب ونمورة ودببة وقردة من جنس جديد لها طباع تلك، ولكنها تمشي على قائمتين لا على أربع. إن روحا مادية هائلة هبت على العالمين، فضعضعت المبادئ، وزعزعت الشرائع، وسحقت الأديان والآداب، وساقت الناس بعصا الحاجة الحديدية إلى مبادئ هائلة جعلتهم ذئابا هائلة. فإن الأمم الآن تتعادى وتتسلح تأهبا لاقتتال أفظع من اقتتال الذئاب، والشعوب يأكل في داخلها كبيرها صغيرها، وقويها ضعيفها كما تفعل أسماكك. فروكفلر يملك من المال ألف مليون بينما ملايين من البشر يستعطون الخبز الآن ولا يجدون، وهو يستخدمهم بأجور تافهة لزيادة ثروته الملطخة بدمائهم وعرقهم، وهم يسكتون ويعملون لأنهم مضطرون.

والسلطة في الأرض ضعفت وكادت تنحل؛ فإن الناس أسقطوا العروش والملوك، ولكنهم أقاموا مكانها ملوكا لكل واحد منهم ملايين من الرءوس، فقويت بذلك سلطة المشعوذين والدجالين والجهلاء الناصحين الذين يتملقون الشعوب ويضلونهم، كما كان أخصاء الملوك يتملقونهم ويضلونهم. والأفراد يتخاصمون ويتعادون ويفترس بعضهم بعضا بأيديهم وألسنتهم وأقلامهم تنازعا على الرزق والسيادة. وقبح هذا الرزق وهذه السيادة إذا كان لا يبلغ إليهما إلا بالرجوع إلى وحشية وهمجية أشد من الوحشية والهمجية الأولى .

فإذا كان كل هذا هكذا أيها الشلال، فأين الارتقاء الذي يزعمونه؟ وما فائدتك في استبدال ذئابك القديمة بهذه الذئاب الجديدة التي لها طباع تلك؟ وما هذا القبح الذي يدعونه جمالا؟ من أجل هذا صرخ حكيم مشهور قائلا: يا وحوش البر، وأفاعي الغابات، خذيني إليك آكل من طعامك، وأشرب من مائك؛ فإن صحبتك أهون على الإنسان من صحبة الإنسان.

كل متحمس لمبدأ أو فكر أو فضيلة أو فضل يعد الآن بين تلك الذئاب الجديدة ساذجا مخدوعا؛ لأننا أصبحنا ولا فضل غير الفضة، ولا مذهب غير الذهب، ولا كمال غير الريال. ويا للأمر المدهش! فإن المتحمسين القادرين المخلصين للمبدأ والفكر يضطرون إلى كتمان حماستهم وفكرهم وإخلاصهم لئلا يرموا بتلك التهمة، وطلاب المنفعة المادية الجهلاء العاجزون المراءون ينادون على السطوح بالمبدأ والفكر والإخلاص، ويمدونها كشرك للاقتناص. البوم يصرخ، أيها الشيخ، والبلبل يسكت، والناس لا يفرقون بين صوت البلبل وصوت البوم ... بل مبادئ الناس الواطئة أكثر موافقة لصوت البوم منها لصوت البلبل. الناس لاهون بمعدهم وخزائنهم وأنانيتهم، فلا تحدثهم عن شيء آخر. لا تذكر لهم الحياة العالية العقلية والأدبية، ولا تستنزل لهم من الملأ الأعلى همس الآلهة والملائكة، ولا تترجم لهم أصوات الطبيعة وعواطف النفس الجميلة، فإن كل هذه لا تهمهم، ولا تحرك أوتار قلوبهم؛ لأنها أصبحت لا تتحرك إلا عن طريق المعدة والخزانة والأنانية. إن الشراهة والجهالة والكبرياء قد اتحدت عليهم، وطوقت نفوسهم بأسلاك من فولاذ لتربطها بتراب الأرض، منعا لها من الارتفاع إلى الآفاق العليا التي تعيش فيها النفوس العليا. فأخبرني أيها الشيخ الخبير: من من الفريقين هم الضالون المخدوعون؟ ومن يكون المنتصرون الفائزون؟ أفدني لأستفيد وأفيد، وأمزق ذلك القناع بيد من حديد.

إنني أيها الشيخ من أمة صغيرة، هجر كثيرون منها بلادهم إلى بلادك طلبا للرزق والارتقاء. وقد بدأ كثير من تلك المبادئ الهائلة يتسرب إليهم في بلادهم قبل هجرتهم إلى بلادك، وزاد تسربها إليهم بعد هجرتهم زيادة هائلة؛ فقد كانوا يعيشون منذ خمسين سنة مع سائر الأمم الشرقية بسذاجة، ودعة ، وتضامن، وطمأنينة، واحترام للنظام الاجتماعي بين الناس، كما يعيش الطفل في سرير أمه. ولما دخلت إليهم مبادئ قومك وبلادك تغيرت حالهم ونفوسهم كما تغيرت أحوال جميع الأمم الشرقية ونفوسها بعد دخول مبادئ قومك إليها، فأفدني أيها الشيخ ما سألتك إياه لأبلغه إليهم، فنعلم جميعا هل نحن على هدى أم ضلال؟ وما هو الغث والسمين في تلك المبادئ، وثق أنني لا أخشى في هذا البلاغ لومة لائم، وإن كان مما تضطرب له الشيوخ في القبور، والأطفال في التمائم، ولا تخش التثقيل علي أيها الشيخ، فإن حرفتي البلاغ ووظيفتي النشر، ومن سوء طالعي أنني اتخذت هذه الحرفة سبيلا لي في الحياة في بلادنا ولغتنا.

عفوا أيها الشيخ، ولا تلمني لقولي من سوء الطالع، فإنني ما أردت ما ظننت. إن طيور السماء تكتفي بقطرة ندى وحبة قمح، ونحن طيور الخيال نكتفي بما تكتفي به طيور السماء. وهذه الطيور تعيش بسلامة جسما وروحا في أصغر بقعة جدباء كما تعيش في الرياض الفيحاء، وتغرد بأنغام سماوية في تلك كما تغرد في هذه، فما أردت بكلامي الكسب المادي أيها الشيخ، وإنما أردت الكسب الأدبي. إن صناعتنا شقية في بلادنا ولغتنا، ومن طلبها لذاتها حرم لذاتها وجميع اللذات، فهو يضطر في سبيلها إلى مسالمة الفساد، والإغضاء عن أهل الأوهام والخرافات والاستعباد، ومعاداة الأصدقاء ومصادقة الأعداء، والخلط بين الكرام والغوغاء، وتسمية الانحطاط ارتقاء، ورؤية الجهل سائدا والسكوت عنه، والحق ضائعا والابتعاد عنه. وإذا جاشت في النفس تلك النار التي توقدها الآلهة في بعض النفوس، وأضرمت الغضب المقدس في الصدور والرءوس، وحركت اليد لاستنزال صواعق الفكر على الطروس، سكن العقل الجاف البارد تلك الصواعق قبل وقوعها بالابتسام وعدم المبالاة، وقال للنفس الغضبى: إياك والسذاجة والغرور. وأنشدها ذلك القول المشهور: «مكانك تحمدي أو تستريحي.» فتصبح النفس وفيها ما في مياهك، بعضها في المرتفع ثائر هائل كثورة شلالاتك، غال غليان أمواجك، يطلب السدود والحواجز والعقبات لكنسها بقوته كنسا، فلا تجترئ الجبابرة ولا الآلهة على الدنو منه، وبعضها في السفح على الشاطئ هادئ ساكن، كأنه ماء في بركة تلعب بجانبه الأطفال وهو بها غير مبال. وبين ذاك الهياج وهذا السكون قوة الآلهة، أيها الشيخ، وآلام المنون.

أنت قوي وتستطيع الثبات على هذا السكون والهياج معا، وإنما مزيتك العظمى وقوتك الكبرى ثباتك هذا، فثبتنا في ثبات كثباتك. إنك أيها الشيخ لو انقطعت عن الجريان منذ عام أو مائة أو ألف، لكان نياغرا الآن في خبر كان، ولضحك منك الأمازون والمسيسيبي، بل النيل والدجلة ضحكا ملأ السهول والأودية. فيا لهذا الثبات العجيب مدة ألوف من السنين! كل شيء في الحياة حولنا؛ نحن معاشر البشر، يتغير ويتغبر، أصدقاؤنا يخونون، وأحبابنا يسلون، وأجدادنا وآباؤنا وأبناؤنا يذهبون، وأعداؤنا يعادوننا بسبب وبلا سبب ولا يعودون، وأمم تنقرض وأمم تقوم، والأسافل يستعلون، والأعالي يسفلون، والسلاطين على العروش يرتعدون، وكل شيء في الأرض يتزعزع ويتضعضع حينا بعد حين، حتى المبادئ التي خلناها أزلية أبدية، بل حتى الأرض التي نمشي عليها يوم تزلزل زلزالها وتخرج أثقالها. نعم، كل شيء يتغير إلاك. فبارك الله في عظمة ثباتك، وحياك وبياك.

يا روح نياغرا وإلهة مياهه: بعيني قد أبصرتك، وبعد هذا اليوم أصبحت أعتقد أن لك نفسا كنفسي، ولست أعني بهذا مسألة الخلود، فأنت خالدة كما دل على ذلك تاريخك، وقد استدللت عليك حين صافحت ماءك بغمس يدي فيه، وتجلى لي بين رشاشه المتطاير كالغبار أمامي قوس قزح بديع. يا لذة الحياة العقلية الكبرى، حين رأيت قوس قزحك هذا، كأن نفسك تنتصب ضمنه للترحيب برجل جاءك تعبا ملولا متألم الضمير، ولا يعزيه في الدنيا لذة أو جمال غير جمالك وجمال أمثالك. إنني بعد أن رأيت هذا القوس، وسمعت على الأثر هديرك الهائل كأنه طبول بعيدة تضرب، ووقع في أذني تغريد العصافير في أشجارك، ورأيت الأزهار تتمايل على شاطئيك وحولها الفراش يطير ويقع، وماؤك بينها كلها مسرع تحت الجسر إلى حيث لا أعلم ولا هو يعلم، خيل لي برهة - لغروري ودهشتي - أن روحك حية حاضرة في هذا الاحتفال الطبيعي العظيم، وقد أقامته استقبالا لي، وردا لتحيتي، واستعدادا لإجابة طلبتي.

ولكنني لما رأيت في أشجارك السنجاب يصيح وهو ساكن على الغصن ينظر إلي، وصوته شبيه بصوت الضاحك ضحكا مستترا، والغراب على الشجر البعيد ينعب نعيبا شبيها بأنين الثكلى وبكاء الباكي جهرا، وقفت حائرا أمامك أستنطقهما وأستنطقك؛ إذ خيل لي أن ذلك الضحك والبكاء إنما هما ضحك من حجي إليك أطلب سرا وغاية، حيث لا سر ولا غاية، وبكاء على آمال الصبي الذهبية والأماني السماوية التي خلتها أبدية، وإذا بها كالسراب جميل في العين، ولكن لا أثر له ولا عين. وبين الأمل في روحك المتجلية في قوس قزحك، واليأس لضحك سنجابك وبكاء غرابك، أطرقت على الجسر أمامك ولبثت صامتا، ولم يبق حينئذ في نفسي لذة ولا ألم، ولا يأس ولا أمل؛ إذ هي كادت تصبح جمادا كجمادك.

أي نعم أيها الشيخ الذي ما عضه ناب الهرم، وإن كان قد طال عليه القدم، ستبقى على مرور الزمان حجا لبني الإنسان كما كنت حتى الآن، فسيأتيك جمهورهم من بعدي كما جاءوا قبلي، ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء، ومنهم العاشق عشقا شرعيا يتساقى هو وعروسه في شهر العسل في الفنادق المشرفة عليك كئوس سعادة وقتية، ومنهم العاشق السارق، يجعل ظلال أشجارك على شاطئيك في ظلام الليل مخبأ لسرقاته، ومنهم سياح لا صناعة لهم غير السياحة، بل لا صناعة لهم ولا عمل أصلا؛ لأنهم من أهل الترف والكسل والبطالة، يقصدونك لقتل أوقاتهم؛ لأن غيرهم يتعب ويعمل لهم، ولا يفهمون منك غير جريان مياهك، ومنهم جمهور متوسطي العقول الذين سمعوا بأنك جميل عظيم، فاختلسوا فرصة من أوقاتهم وساروا إليك مع السائرين، والتهوا بالملاهي الصبيانية التافهة عن جلالك وجمالك.

ومنهم الحزين أو المنكوب أو التعب من الحياة، أو جريح القلب جرحا أبديا بكارثة من كوارث الدهر الغادر والزمان القاهر، يجيء إليك وهو يجر ذيول آلامه التماسا للقوة في ظلالك، وطلبا لتبريد نفسه المتقدة بشيء من رشاش مائك، ومنهم - وهم المتأخرون المقدمون - جمهور أهل الفكر، يزورونك كزيارة الكاهن الهيكل، ويقفون عندك يستنطقون آثارك ، ويستجلون أسرارك، ويسألونك أخبارك، ويذكرون ويتذكرون . وأنت يا أيها الشيخ الجائر ترد هؤلاء إلى بلادهم جامدين صامتين منقبضين؛ لأنك لا تفتح لهم خبايا أسرارك، وأما جميع أولئك فتردهم فرحين نشيطين معجبين، فلا تحالف الزمان على خياره وخيارك.

لقد طفت في ربوعك وحادثتك وسألتك فلم تجب، وها أنا عائد عنك، فوداعا أيها الشيخ. تذكر في المستقبل رجلا جاءك من أقصى الشرق، وأجال في ضفتيك مزيجا غريبا من روح الشرق والغرب ممزوجا في نفسه، وأفكارا قد تستأهل الإهمال وعدم المبالاة، ولكنها لا تستأهل الضحك والهزء، وإذا هزأت بها فاهزأ، فقد هزأت قبلها بالدهر، وضحكت من الزمان. ولكن قبل أن تهزأ تذكر أنها نتيجة تأثير قومك وأجداد قومك، فنحن تلامذتكم في الصغائر كما نحن تلامذتكم في الكبائر. صدقني أيها الشيخ، غير مجراك واذهب إلى بلادي، فهناك تجري خاملا مجهولا، لا يعكر ماءك ذئاب قديمة أو ذئاب جديدة، ولا يستأسرك الناس ليجعلوك «فرجة» وألعوبة، بل تعيش على هواك معيشة الخمول والسلامة بعيدا عن الناس. هناك تسمع حفيف أشجار الأرز، وتهب عليك ريح الأهرام، وينبت زنبق البر على شاطئيك. إذا مر بك اتفاقا بعض الناس مروا باحتشام. ولا تسلني أيها الشيخ لماذا أتيت منها إلى بلادك إذا كان هذا حال بلادي، فللتقادير أحكام.

مريم وشيشرون

فقالت مريم: فاسمع إذا يا صاحب، تقول إنك لم تتخذ اسمي إلا وسيلة لإظهار مبادئك، وأنا أيضا لم أتخذ إهانتك لي إلا وسيلة لإظهار ما في نفسي، فلا تظن أنني غضبت هذا الغضب تأثرا بإهانتك لي، كلا! - وضحكت - فإن رأيك وآراء جميع الناس لا تهمني. أما قلت لك إنني أعدهم خنازير قذرة؟ فمن يعتد برأي الخنازير؟ وإنما الذي أغضبني في كلامك وأضحكني معا شنك غارة شعواء على أمثالي من الضعفاء والمساكين والساقطين كما تدعوهم، وتجريدهم من التعزية الكبرى والعذر الأعظم الذي لهم في هذه الدنيا، فإن كلامك يوهم أن هؤلاء الضعفاء والمساكين والساقطين إنما سقطوا لضعفهم وانحطاطهم فقط؛ ولذلك توجب نبذهم، بل دوسهم؛ لكي لا يبقى في الهيئة الاجتماعية إلا الأقوياء الأشداء ترقية لها.

فيا صاحبي ، إنك تتحكم في البشر كأنك خالقهم. إنني امرأة ساقطة كما تقول، ولمجرد حكمك بأني ساقطة تقضي بإهلاكي وإفنائي من الوجود دون أن تبحث هل أنا أسقطت نفسي أم غيري أسقطني؟ إنك ترى على شاطئ النهر حمامة جميلة بيضاء تستحم في مياهه، فتغدرها أفعى وتنقض عليها وتفترسها، فتقول: الخطأ في جانب الحمامة لأنها افترست، وهي ضعيفة يجب أن تهلك وتفنى. أما الأفعى فهي قوية، فيجب أن تعيش وتلد أفاعي أخرى لتفترس حمامات أخرى. هذا ما تسمية ترقية يا صاحب؟ وأي عقل سليم وقلب ذكي يسلم معك بتجريد الحمامة المفترسة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم، بينما يتقطع لحمها ويتحطم عظمها تحت أنياب الأفعى؟ أما تعزيتها الكبرى فهي اعتقادها بأن الأفعى غدارة خائنة قاتلة، تستحق لعنة الله والناس، وأن جميع الناس يعتقدونها كذلك، وكلما ازدادت الأفعى سمنا، وانتفخت شحما ولحما، يصبح جوفها المملوء بجثث فرائسها لاعنا ذلك الشحم واللحم الذي اكتسب بالغدر والخيانة والقتل. هذه تعزيتها. أما أنت فتقول - بحسب مبادئك وفلسفتك الراقية - إن الحمامة مستأهلة نصيبها من الغدر والقتل؛ لأنها ضعيفة.

فاضحكي يا أفاعي الأرض من هذه الفلسفة الجديدة، وابكي لها يا حمام. هبك، يا صاحب، خالق الكون، أنسيت أن خليقتك خلقت طبقات طبقات بعضها أضعف من بعض؟ وما لي أتكلم عن الحيوان، فإنني بذلك أقصر حجتي؛ لأن غدر الحيوان وقتله أمران مألوفان، وأنت تعلم أنني ما قصدت بكلامي إلا التمثيل والقياس على الإنسان.

فالبشر يخلقون أقوياء وضعفاء، وليس فيهم ضعيف إلا وترى أضعف منه، ولا قوي إلا وترى أقوى منه: أفاع وحمام، ونعاج وذئاب، فما ذنب النعجة إذا لم تستطع مقاومة الذئب؟ وكيف تطلب مقاومتها له وهي خلقت أضعف منه؟ إذا كان هنا ذنب فالذنب هائل، وهو واقع على خالقها لا عليها؛ لأنه خلقها أضعف من الذئب. هذا هو العذر الأعظم للضعيف يا صاحب، وأنت تريد تجريده من هذا العذر، وجعل عذره هذا ذنبا له.

ثم يا صاحب، ما تعني بالقوة والضعف؟ إن القوة والضعف في الحيوان قوة عضلية وضعف عضلي ، أعني قوة بدنية وضعفا بدنيا. لا تستغرب معرفتي بهذه الأمور، فلدينا - نحن بني إسرائيل - علماء كما لديكم علماء، وقد سمعت كثيرين من علمائنا يردون على علمائكم، ويقبحون مدنيتكم، فالحيوان قوي أو ضعيف بحسب نوعه، وتركيب جسمه، وقوة عضلاته.

أما الإنسان فالقوة البدنية إحدى قواه لا قوته كلها، وقوته الكبرى هي قوة عقله.

بهذه القوة يتحكم في الأرض وكائناتها، ويخضع جميع قواتها، ألا تراه قد استأسر بها الفرس والثور والرياح، وهي أقوى منه؟ أما سمعت أن إسكندر المقدوني غلب الفرس وجيشه أقل عددا من جيوشهم؟ أما قهرنا واستأسرنا قائدكم بومبيوس بجيش قليل، وعددنا نحن بني إسرائيل أضعافه؟ ففي المجتمع البشري قوة فوق القوة البدنية؛ وهي قوة العقل. فاسمع الآن، ما قولك في رجل بليد جاهل لا يعرف من الدنيا شيئا غير جمع المال بالطرق المحللة والمحرمة، وهمه في غش الناس للربح منهم، جسمه كجسم الثور غلاظة وضخامة، وعقله كعقل العصفور، ورجل آخر ضعيف الجسم، ولكنه قوي العقل صحيح الأخلاق، يخترع لقومه آلات حربية يردون بها أعداءهم عن الأسوار، ومطاحن لطحن حبوبهم، ومناسج لنسج أنسجتهم، ومحاريث لحراثة أرضهم؟

أيهما في شرعك هو القوي الذي يجب أن يعيش في الدنيا؛ لأنه أنفع لها، وأيهما الضعيف الذي يجب أن يتلاشى في شرعك؟ هل عندك شك في أن الثاني هو القوي الحقيقي؛ لأن القوة الحقيقية الكبرى هي للعقل لا للبدن، كما تقدم؟ ولكن انظر ماذا يحدث في الدنيا يا صاحب، فقد خبرت منها ما لم تخبر، يحدث أن الأول تكون أفكاره متجهة إلى جهة واحدة، وهي التغلب على غيره بكل الطرق، فعنده الغش، والاحتيال، والسرقة، وتعمد ضرر الغير، وخرق حرمة كل نظام وشريعة بطرق يعرفها، ويعرف أنها لا توقعه تحت طائلة الشريعة، والاستئثار بكل شيء، واستخفاف كل شيء في الأرض والسماء؛ إذ لا قيمة لشيء عنده غير المال.

كل هذه تبلغ لديه أشدها وتوجه جميع قوى نفسه إلى نقطة واحدة تنحصر كلها فيه؛ وهي ربح المال والوجاهة، وهو في هذا السبيل يجود بكل رخيص وغال ، ويسلك هذا المسلك بهمة مشحوذة كهمة ذئب يطلب الفرائس في كل مكان. ويحدث أن الثاني تكون أفكاره منصرفة إلى وجهة أخرى، فإن العاقل ذو ميل إلى الاستزادة من العقل، كما أن صاحب المال ذو ميل إلى الاستزادة من المال، فعقله متجه على الدوام إلى طلب صفات العقل، وهي أولا نصبه أمام عينيه غرضا شريفا يسعى إليه فيما يسعى إليه من منافعه الذاتية، والجد في نفعه الذاتي، ولكن ضمن دائرة الشريعة، واحترام ملك غيره وعرضه وشرفه؛ ليحترم غيره ملكه وعرضه وشرفه، وترك العدوان والغش والاحتيال والكذب والسرقة؛ لأن عقله ينهاه عنها، وطبيعته لا تطاوعه عليها، بل تنفره منها؛ لأنها لم ترب في ممارستها والتوجه إليها. فالآن إذا التقى هذان الرجلان في عمل؛ أيهما تظنه يغلب رفيقه فيه؟ أيهما يكون فيه الضعيف؟ وأيهما يكون القوي؟

إن الرجل الثاني يحارب في ذلك العمل حرب رجل مقيد بقيود ضمن حدود، وهي الحدود التي يرسمها له العقل، واعتاد أن يعيش معه ضمنها. وأما الرجل الأول فيحارب حرب رجل مطلق من كل قيود وحدود، فبالكذب والاحتيال والغش والسرقة والنهب والسلب يبلغ مناه، ويتغلب على رفيقه المأسور ضمن سور مبادئه. وهكذا تصبح الأرض ولا حق فيها إلا للقوة؛ إذ لا حق، وتنمو فيها وتسود الغلظة والقسوة والغش والعدوان والسرقة وجميع مظاهر القوة، بينما تمحى منها مظاهر العقل والحق تدريجا، كما في ميدان تقتتل فيه وتتنازع حيوانات مدنية، لا فرق بينها وبين الحيوانات الوحشية إلا في أن تلك تمشي على ساقين وهذه على أربع.

فهل الإنسانية الجديدة التي تريدها، يا صاحب، هي على شاكلة هذه الوحوش البشرية التي لا قيود لها ولا حدود؟ أنا معك في هذا؛ لأني تلميذتك. ألا تراني أعيش بلا قيد ولا حد؛ أمرح في الدنيا كأنها فضاء أطير فيه من أفق إلى أفق، ولا حدود فيها توقفني عند شيء، أو تمنعني من أن أضع يدي فيها على شيء؟ فلتحي الحرية يا صاحب، ولتحي مبادئك وفلسفتك. إنك تبرئ بها القتلة وتذنب القتلى، تعطي الحق للظالم وتلوم المظلوم، توافق على فعل السارق وتستهزئ بالمسروق، وكأنك تقول لهم: لا تنصفون إلا إذا كنتم تقتلون وتظلمون وتسرقون؛ فالضعيف أو الشهيد الذي يقع في جهاد الحياة هو المذنب الجاني، فيجب حذفه من الوجود، فكونوا كلكم قتلة وظلمة وسارقين فلا تحذفوا ...

كانت مريم تلقي هذا الكلام كصخر حطه السيل من عل وهي قائمة بأوداج منتفخة، وعينين ثائرتين يلوح فيهما الغضب ويختفي طبقا لموضوع كلامها، وكان شيشرون جالسا أمامها على العشب وعيناه شاخصتان في جهتها. أما يوسف، فإنه كان قد تحمس لكلام مريم تحمسا شديدا، فقام واقفا وخطا خطوة نحوها كأنه يود ألا يفوته كلمة منه، وكان من حين إلى حين ينتقل بنظره من مريم إلى يوسف، ومن يوسف إلى مريم، معجبا بحماسة مريم ومعاني كلامها، ومراقبا وقع ذلك الكلام لدى رفيقه شيشرون، وقد رفع رأسه فخارا بأن مبادئه صدمت على شفتي مريم تلك الصدمة مبادئ شيشرون التي صدمته وأعيته، فدهش وسر معا.

فإنه دهش لأنه سمع من فم تلك المرأة ذلك الكلام السامي، وتلك الحجة القوية، وسر لأنه رأى أن الظلام الذي أحاط بنفسه بعد سماعه مبادئ رفيقه قد انقشع عنها، وحل النور محله، ولكن دهشته هذه وسروره هذا فسحا مجالا في نفسه لعاطفة ثالثة أخرى، فإن القارئ رأى - فيما تقدم - أن يوسف مال إلى مريم أول ما لقيها تحت الرمانة، فلما سمع منها هنا هذا الكلام، ورأى ارتفاع نفسها إلى مبادئ الفكر والخير؛ ازداد ميلا إليها، وتعلقا بها، فكان وهو واقف أمامها خافق القلب، تائه الفكر، مدهوشا، حائرا، يشبه صبيا مدهوشا رأى وهو واقف أمام مزبلة ملاكا يخرج من المزبلة بين الأقذار، ويرتفع في جو النقاء والسناء نقيا طاهرا.

فأخذ يقول في نفسه وهو يمر يده على جبينه لمسح العرق الذي كان يتصبب منه لثورة نفسه واضطراب باطنه: قالوا إن نوابغ الأرض يكونون إلها عظيما أو شيطانا رجيما، على أني أرى هذه المرأة الغريبة الأخلاق قد جمعت الأمرين معا.

ولما سكتت مريم لتمسح العرق عن وجهها بينما كان يوسف يفكر ويحلم مدهوشا، كما تقدم، تململ شيشرون في مكانه ثم التفت إلى مريم وقال: هل فرغت من كلامك أيتها السيدة؟ إنك أخطأت في ظنك أنني أقول ما قلت، ومعاذ الله أن يكون غرضي ما ذكرت في بدء كلامك عن تجريد الحمامة المفترسة من تعزيتها الكبرى وعذرها الأعظم. كلا، وإنما غرضي أن تحتاط الحمامة لنفسها لئلا تفترس ... أفهمت الآن أيتها السيدة مريم؟ ليس عمدة كلامي أن يدوس القوي الضعيف. واعلمي أيتها السيدة أنه إذا وردت هذه العبارة بمعناها ومبناها في أثناء كلامي، فما هي إلا تهديد نافع نقول به، لا من أجل مصلحة القوي، بل من أجل مصلحة الضعيف ليتشدد ويتقوى، فلا يعتمد إلا على نفسه في دفع الأذى عنه، فكأننا نقول له: كن على حذر، واشحذ عزيمتك، ونبه نشاطك، وإلا فانسحاقك ودوسك أمر محتم. هل تأذنين لي أن أتكلم بحرية كما تكلمت؟ لقد سرني اشتغالك بكلامي بجد، ولا تظني أنه يسوءني منك شيء. وهذا الرفيق الذي خبرته في يوم واحد ذو قلب كريم، وعقل سليم، وهو جدير بثقتك، فلا يسوءنك كلامي أمامه، فاسمعي ما كنت أريد قوله لك منذ زمان، وأغتنم الفرصة لقوله لك الآن؛ إذ لا لأجد فرصة أفضل من هذه.

أنت أيتها السيدة مريم امرأة جميلة أنيقة، جسمك صحيح قوي، ونفسك جميلة لطيفة؛ لأنني أرى في عينيك شعاع جمالها ولطفها، ولا عبرة بحدتهما وشراستهما أحيانا، ولم يلذ لي شيء في حياتي قط كرؤيتي إياك يوما جالسة بجانب الأكمة القريبة من منزلك، ويمناك على كتاب مفتوح على ركبتك، ويسراك تسند رأسك، وعيناك تتيهان في الفضاء تحلمان وتفكران كأنهما تبحثان في أعالي الجو عن شيء مجهول فرارا من شيء مملول.

أي نعم يا مريم، إن حلمك وتفكيرك هكذا يجعلني أحلم وأفكر أيضا، فإنني أتصورك حين كنت في السادسة عشرة من عمرك فتاة ساذجة القلب حيية، إذا رشقك رجل بنظرة توردت وجنتاك خجلا، وخفق قلبك وجلا. إنك لم تقصي علي إلا طرفا من تاريخ حياتك ، ولكنني الآن أحلم وأتصور كما قلت لك، فدعيني أكمل حلمي وتصوري. إنني أراك في صباك - كما قلت - فتاة حيية طاهرة القلب، تخرجين مع أمك العجوز وأخواتك إلى الحقل لمساعدتهن في أعمالهن، وكانت أمك أشد عناية بك منها بسائر أخواتك؛ لأنها كانت ترى فيك شيئا ممتازا عنهن؛ وهو بشاشتك، وعذوبة حديثك، وسلامة قلبك، وشدة اندفاع عواطفك، حتى إنه كان كل ما في قلبك على لسانك، وكله كان جميلا طاهرا، فكانت تقول: إن مريم وردة البيت، فإذا دخلته وكان مظلما استنار ببشاشتها وورد خدها؛ ولذلك كانت

إلى أرض أمامه مغروسة ببعض الأزهار، فتقطف وردة ثم تعود وتغرسها في شعرك وأنت نائمة، وتقول: انظروا، ورد على ورد! فكنت أول انتباهك من النوم تستنشقين ريحين: ريح الورد في شعرك، وأنفاس أمك الحنون التي كانت تستقبلك، ثم توفيت أمك وانفرط عقد منزلك؛ إذ تزوجت أخواتك وتزوجت أنت أيضا، ولكن كان نصيبك هائلا ... أصبحت وحيدة فريدة في الدنيا ترين الناس يقومون ويقعدون، ويروحون إلى أعمالهم ويجيئون، وأنت منفردة ساكنة ليس لك أحد تعتمدين عليه، وتستندين إليه، فماذا تفعلين؟ وكيف تعيشين؟ هنا وصلت إلى الحمامة المفترسة التي استشهدت بها في كلامك، فماذا كان ينبغي للحمامة أن تفعله لئلا تفترس؟

لقد كان أمامها طريقان: الأول أن تكون قوية، فتتسلط على عقلها وقلبها وتبادر بنشاط النحلة ودأب النملة إلى كسب رزقها بيديها؛ للاستغناء عن غيرها إذا لم تجد كفؤا لها يصونها ويغنيها. ولكسرة خبز تؤكل في هذه الحالة من الاستقلال وعزة النفس، وشرف الاسم، وطيب الأحدوثة بين الناس؛ خير من جميع ثروات الدنيا وترفها إذا كانت - أي هذه الثروات - غير مقرونة بها. والطريق الثاني: الاستسلام إلى العواطف والأوهام ووهن العزيمة ... على أن تلك الحمامة لم تقدر على حسن الاختيار بين هذين الطريقين؛ لأنها لم تهيأ لهذا الاختيار ولم تعد له. وهذه عقدة المسألة.

هنا تظهر بأجلى بيان مبادئي التي سمعتها وأنت متوارية وراء الشجرة، وغضبت هذا الغضب من أجلها؛ فمبادئي توجب على الحمامة أن تختار الطريق الأول؛ أعني أن تكون قوية وتحذر، وتنبه نشاطها، وتقوي إرادتها، وتختط خطة تسير عليها دون أن تترك للصدفة سبيلا للعبث بها. القوة والإرادة والدربة، هذا ما كان ينقص الحمامة؛ فما كل حمامة تفترسها الأفعى مع قوتها وغدرها، وإنما تفترس الأفعى الحمامة التي لا تحتاط لنفسها، ولا تحسن الدفاع عنها.

فماذا تقول الحمامة يا مريم إذا قلت لها هذا القول: إنك أجمل الطيور الأليفة، فلا تتركي الأفاعي تدنسك وتسطو عليك ... لقد خلق الله لك جناحين تطيرين بهما إلى حيث لا تصل الأفاعي إليك ... وإذا احتطت لنفسك وأعملت فكرتك ونشاطك ودربتك، واستعملت إرادتك، فليس لجارح أو كاسر في أعالي الجو قوة على الوصول إليك؛ لأنك مع ضعفك وشدة ذلك الكاسر قد أعطيت قوة على التخلص منه، على شرط أن تشحذي قوتك وإرادتك وتنبهيهما فيك على الدوام، ولكن إذا نمت عنهما وتركتهما تنامان، واستسلمت إلى الضعف والوهن والصدفة والاتفاق، فعدم وجودك خير من وجودك في هذا الزحام الهائل في الحياة؛ لأن في عدم وجودك راحة لك، وفي وجودك ضعيفة بين الجوارح والكواسر ألم دائم وعذاب أبدي.

هذا ما كنت أقوله يا مريم وأغضبك ذلك الغضب، هذا ما كنت أقوله في حمامة السماء، وأقوله الآن لحمامة الأرض أيضا ... أمن حقك أن تثوري علي تلك الثورة بعد هذا؟ ألا ترينني في كلامي نصير الضعفاء لا نصير الأقوياء؟ ألا تعتقدين أن مبادئي هذه هي الوحي الجديد الذي يحتاج إليه شرقكم الذي أفنته تلك المبادئ القديمة، وأضعفت فيه كل حماسة للحياة الراقية، وأصابت روحه بالشلل؟ لقد كنت في هذا صديقك لا عدوك يا مريم، فاحكمي بعد أن سمعت.

قال شيشرون هذا الكلام ثم سكت وشخص في جهة مريم ليرى فعل كلامه فيها، وكانت لوائح الألم تلوح في وجه مريم من حين إلى حين في أثناء كلامه، فتارة يغور دمها إلى قلبها فتبرد أطرافها ويصفر وجهها، وطورا يثور دمها ويفور فيصطبغ وجهها بلون قرمزي، ويتوارد الدم إلى دماغها تواردا يكاد يخنقها؛ ذلك أن شيشرون أثار فيها بكلامه هذا عاطفتين هائلتين: الأولى عاطفة الكبرياء الذاتية، والكبرياء أم الفضائل، كما أنها أم الرذائل، فإنه بثنائه عليها، ووصفه جمال جسمها ونفسها، وطهارة حياتها السابقة حرك ما كان كامنا فيها من الأشجان، ورد إليها نفسها الأولى التي كانت لها قبل دخولها في وادي الشقاء ...

ولكن هذه العاطفة كانت ضعيفة بالنسبة إلى العاطفة الثانية التي أثارها فيها كلام شيشرون البارع، فإنه لما أخذ يصف تربيتها في صباها، ويذكرها أمها وحنوها عليها، وحبها لها، وتعلقها بها، وتفانيها من أجلها، ثار كل ما كان مكنونا في نفس هذه المرأة المسكينة من العواطف الطيبة، والتذكارات العيلية الجميلة، كأن زوبعة هائلة هبت في داخلها فنسفته نسفا؛ ولذلك لم يفرغ شيشرون من كلامه ويلقي عليها قوله الأخير: فاحكمي بعد أن سمعت. حتى ارتخت أعصابها بعد توترها، وانحنت قامتها بعد انتصابها، وبقيت شاخصة في جهة شيشرون، ساكتة جامدة جمود الصنم. وبعد انقضاء عشرين ثانية عليها وهي في هذه الحالة ارتعشت ارتعاشا شديدا، ورفعت بغتة يديها إلى عينيها، ثم استخرطت في البكاء كأنه أصابها ألم فجائي.

فدهش شيشرون ويوسف لما أصابها، ونظر أحدهما إلى الآخر وقد تحركا كلاهما نحوها، إلا أن مريم لم تمهلهما أن يصلا إليها فانتفضت وصاحت وسقطت إلى الأرض مغمى عليها؛ إذ أصابتها نوبتها العصبية.

وبينما كان يوسف وشيشرون يعنيان بمريم وينبهان حواسها وهما في حزن وأسف لما أصابها، كان راعي الغنم في أعلى شرفة الوادي ينادي قائلا: يا قديس يوسف، سيعلق بك شياطينها. الحمد لله أن غنمي بعيدة عنها.

ثم إن الراعي تناول مزماره ونفخ فيه في وسط ذلك الهدوء أنغاما مطربة، فكان مثالا لفراغ البال والهناء في الخلاء، بينما كانت مريم تحت الشجرة أمامه تتشنج وتصيح كمثال لآلام الهيئة الاجتماعية وشقائها واضطراباتها.

الوحش! الوحش! الوحش!

أو سياحة في أرز لبنان (1) على طريق الجبل

أشهر الطرق من البحر إلى أرز لبنان طريقان: واحدة عن طريق أهدن فبشري، أو الحدث فحصرون فبشري، وهي من أمام الأرز ، وواحدة من طريق بعلبك من وراء الجبال الشامخة المحيطة بهذا الحرج. والطريق الأولى طريق الثغور من طرابلس حتى البترون، والطريق الثانية طريق السياح الذين يصعدون من بيروت إلى بعلبك لمشاهدة آثارها، ثم يعطفون

ففي ليلة 8 آب من السنة التي نكتب تاريخ حوادثها، هنا قرع مكار في آخر الليل باب غرفة عالية كائنة في غربي قرية قلحات فوق طرابلس الشام وهو ينادي: يا خواجة كليم، يا خواجة كليم. فدوى صوته في القرية في صفاء ذلك الليل دويا هرت له الكلاب التي كانت راقدة في الشارع قرب تلك الغرفة، فساعد هريرها على تنبيه النائمين فيها؛ ولذلك لم يلبث أن فتح الباب وأطل منه الخواجة كليم وهو يفرك عينيه ويقول: هل ظهر نجم الصباح يا جرجس؟ فأجابه المكاري: أظنه سيظهر بعد نصف ساعة على الكثير، والأرجح أن الشمس تشرق لنا عند بطرام، فقال كليم: فلنعجل إذا؛ فإننا نروم الوصول إلى الجبل قبل اضطرام وطيسها فرارا من الحر.

وحينئذ التفت كليم لينبه رفيقا له كان نائما معه في الغرفة، فوجده واقفا وراءه، فقال له: هلم نركب يا سليم؛ فإن مطيتينا حاضرتان، ولنلبس ملابسنا أولا.

وبعد ثلث ساعة كان كليم وسليم على جوادين قويين سائرين في صفاء الليل تحت أشعة النجوم الضئيلة، ولا أنيس لهما غير المكاري يسير وراءهما وهو تارة يحدو فرسيه بكلام مشجع، وتارة يزجرهما لأنهما صدما حجرا في طريقهما. ولم يكن يسمع في ذلك الهدوء ما عدا وقع حوافر الجوادين وصوت المكاري سوى أصوات الحشرات الصغيرة التي تنتشر في لبنان على أشجار الزيتون والتوت، وتنشد في الليل والنهار أناشيد متواصلة.

ويظهر أن جفون كليم وسليم كانت لا تزال مثقلة بالنعاس؛ لأنهما كانا يتثاءبان من حين إلى حين. فرغبة في طرد النعاس، ابتدأ كليم قائلا: اسمع يا صاح أصوات هذه الحشرات الصغيرة التي تهكم عليها لافونتين تهكما شديدا. حقا إنه ظلمها بهذا التهكم، ترى ما عساها تجيبه لو درت بتهكمه؟

فتثاءب سليم وقال: لا ريب أنها كانت تجيبه جوابا جميلا، فإنها تقول له: ليس بالخبز وحده تحيا الكائنات الحية، بل الحياة الحقيقية هي الحياة الروحية. وحياة الروح عند هذه الحشرات نشيدها المستمر الدال على أنها في حالة الانبساط والراحة، ولو خيرت في أيهما أحب إليها: فقدانها هذه الحياة الروحية التي هي فطرتها وطبيعتها، أم فقدانها الخبز اليومي الذي هو حياتها البدنية، فإنها لا شك تختار فقدان هذه الحياة على تلك، وما الذنب في ذلك ذنبها؛ لأنها هكذا صنعت وهكذا فطرت. ومع ذلك فإن لافونتين لم يقدر على قهرها بتهكمه في ذلك المثل إلا لأنه قاس معيشتها على معيشة البشر، وبذلك جاءت حجته قوية، ولكنه لو أنعم النظر لرأى أن هذا الحيوان الصغير لا يحتاج إلى القوت بعد مرور أيام الحصاد حتى في أشد أوقات الشتاء؛ فإن قطرة من قطرات المطر كافية لشربه، وورقة واحدة من أوراق الشجر كافية لإيوائه وتدفئته، وأقل حشرة صغيرة أو دودة حقيرة كافية لتغذيته، ولو عقل هذا الحيوان لأجاب ذلك الشاعر: عندنا في الطبيعة ليس من حيوان ولا نبات يحتاج إلى قوت ويبيت بلا غذاء، فإن فظائع كهذه الفظائع لا تحدث إلا بين البشر في الاجتماع.

نعم، نحن نأكل بعضنا بعضا أحيانا، ولكنا نفعل ذلك حين الحاجة فقط قياما بسد عوزنا. أما أنتم فمع كونكم ذوي عقول تعقل ونفوس تدرك، فإنكم تأكلون بعضكم بعضا بحاجة ومن غير حاجة، وكثيرا ما يكون ذلك إرضاء لكبريائكم فقط لا لضرورة؛ ولذلك قال أحد حكمائكم: يا وحوش البر وأفاعي الغابات، خذيني إليك آكل من طعامك، وأشرب من مائك؛ لأتخلص من صحبة الإنسان.

فقهقه كليم هنا وقال: نعم هذا خير ما يعتذر به عن طياشة ذلك الطوير المطرب.

وكأن المكاري ضجر من هذه اللغة التي لم يكن يفهم منها شيئا، فتحول ضجره إلى غضب على جواده، فصاح به بأعلى صوته: ديه سوق ... وهم بإتمام عبارته، فصاح به كليم: إياك أن تكملها يا جرجس، فقال جرجس: وما هذا يا معلمي؟ فقال كليم: أنت فهمت كلامي بلا تفسير.

فسأل سليم كليما: وما معنى كلامك؟ فأجاب كليم باللغة الإنكليزية: هي نادرة مضحكة تحدث بين بعض هؤلاء المكارين والعائلات المدنية التي تصيف في قراهم، فإنهم يسمون هذه العائلات: سوقة، وحينما يرومون التهكم عليهم في الطريق يقول أحدهم لرفيقه: سوق يا أخي سوق يلعن هالسوقة. يظهر أنه غير راض عن سير الدواب، والحقيقة أن مراده سب السوقة في وجوههم دون أن يدروا بذلك.

فضحك سليم وقال: يظهر أن صاحبنا غير راض عنا حتى رام إهانتنا، والذنب في ذلك ذنبنا؛ لأننا لم نهتم بملاطفته لنستميله إلينا. ثم التفت سليم إلى جرجس ليفاتحه بالحديث، فقال: لماذا سرت بنا يا جرجس على هذه الطريق من الوادي؟ خذنا من فوق عن طريق فيع.

فقال جرجس: لا يا معلمي، لا نستطيع الآن المرور عن طريق فيع لحدوث خصام شديد بين قريتنا وأهل تلك القرية منذ يومين.

فقال سليم: نعم سمعنا بهذا الخصام، ويقال إنه قد جرح رجلان وأسقطت امرأة في أثنائه، فما سببه؟

فقال جرجس: سببه يا معلمي خصام بين أولاد فيع وأولاد قلحات؛ فقد كان خمسة أولاد من أولاد فيع يلعبون بإزاء حقول العنب الكائنة بين القريتين، ويأكلون من العنب بلا حق، فأسرع إليهم ثلاثة من أولادنا لردعهم عن الاعتداء على رزقنا، ففر أولاد فيع ووقفوا بعيدا، فصار أولادنا يتغنون بغناء قديم عندهم، وهو:

يا رايح إلى فيع

دبدب لا تضيع

يا بسين قلحات

أحسن من شيخ فيع

وكان بين أولاد فيع ابن شيخ فيع نفسه، فاغتاظ لإهانة أبيه، فركض إلى شجرة توت قريبة فتسلقها وقصف منها غصنا، ثم اندفع نحو أولادنا بينما كان رفاقه يتغنون بغنائهم:

يا رايح إلى قلحات

تمتلي منها ... اط

يا بسين فيع

أحسن من شيخ قلحات

ولما وصل ابن شيخ فيع إلى أولادنا أمسكوه «ونزلوا فيه» ضربا، فأسرع رفاقه إلى نجدته فدار الضرب بين الفريقين، فجرح منهما بضعة أولاد، فركض حينئذ أحد أولادنا ووقف فوق القرية وصاح: إن أهل فيع قتلوا أولادنا. فهب كثيرون من الرجال إلى محل الحادثة، وكذلك ركض أحد أولاد فيع وأبلغ أهلها مثل ذلك الخبر، فأسرع بعض رجالها أيضا. ولما التقى الفريقان في محل الحادثة دار الضرب بين الكبار بعد أن كان بين الصغار، ولو لم يحضر الآغا مع نفرين لاشتبك القتال بين أهل القريتين جميعا؛ ولذلك لا نقدر أن نمر الآن بجانب فيع لئلا يتحرشوا بنا، كما أنهم أيضا لا ينفردون بالمرور بجانب قريتنا.

وكان الجوادان قد صعدا في ذلك الحين من وادي قلحات وجانبا قرية فيع؛ ذلك أن قرية قلحات كائنة على أكمة منخفضة بين واديين من أشجار السنديان: واحد من جهة الشرق، وواحد من جهة الغرب، وهي على مسافة ربع ساعة من دير البلمند المشهور المشرف من جبله العالي على مدينة طرابلس الشام، وهواء هذه القرية جاف نقي؛ لأنها واقعة بين حرجين من السنديان، كما تقدم.

وقطع سليم وكليم الطريق حتى فوق فيع دون أن يطلع نجم الصباح الذي وعدا بطلوعه قريبا، فقال كليم لجرجس: لم تطلع نجمة الصبح بعد يا جرجس، فأجاب جرجس: ستطلع قريبا. فضحك كليم وقال لرفيقه: يظهر أن صاحبنا عملها معنا، فقال سليم: وأي شيء عمل؟ فقال كليم: للمكارين عادة، وهي أنك إذا طلبت من أحدهم السفر في الغد قبل طلوع نجمة الصبح بنصف ساعة يجيئك قبل طلوعها بساعتين، ويقول لك إنها ستطلع بعد ربع ساعة، وهكذا تركب معه في ظلمة الليل وتقطع الطريق كلها وتصل إلى مكان قصدك قبل أن تطلع نجمة الصباح، وبذلك يكفي نفسه ودابته عذاب الحر في أثناء الطريق، فالظاهر أنه صنع معنا ما يصنعه غيره مع غيرنا، وربما وصلنا إلى الجبل قبل أن تطلع الشمس مع أن بيننا وبينه نحو خمس ساعات.

فتثاءب سليم وقال: أف، لأجل هذا أشعر بنعاس شديد وأكاد أنام على ظهر الجواد.

ولما رأى صاحبنا جرجس أن الحديث لا يطول بينه وبين رفيقيه، بل هما يتحادثان معا وحدهما، رأى أن يسلي نفسه بنفسه، وكان الجو صافيا كأنه مرآة الغريبة، والنجوم تسطع فيه كمصابيح بعيدة معلقة في قبة الفلك، فلا تكاد تنير طريق الجوادين في سيرهما، ولكن الجوادين كانا قد اعتادا السير في ظلام الليل؛ ولذلك كانا يبصران الطريق المخططة كأنهما في نهار، وهذا ما جعل الفارسين يعجبان له. وكان الهواء يهب في خلال نور النجوم الضئيل باردا ضعيفا، فيشرح الصدر وينعش الفؤاد.

وتلك الطبيعة القروية الساذجة كانت ساكنة هادئة، كأنها تستريح تحت جنح الليل من عناء النهار، فأثار هذا المنظر الجميل في نفس جرجس عاطفة الجمال الكامنة فيها، فاندفع ينشد الأناشيد التي يعرفها، فهل درى حينئذ ذلك القروي الجاهل الساذج أنه بعمله دل على أن نفسه كانت في تلك البرهة أرقى من نفسي رفيقيه الحضريين؟ إن نفسه لدى مناظر الليل البهية ثارت على غير علم منها واندفعت تترجم بالغناء والنشيد عما كان يختلج فيها حينئذ من عاطفة الجمال بسبب تلك المناظر.

وأما نفسا رفيقيه الحضريين، فقد كانتا مشغولتين بالتثاؤب والنعاس عن الجمال الذي كان يحيط بهما. فلا ريب أن ذلك كان من أفضل الأدلة على أن النفس الأولى ربيت في أحضان الطبيعة قليلة الحاجات، قوية على كل متاعب الحياة، والنفسان الأخريان ربيتا ضعيفتين بين جدران المدن، لا تستطيعان مقاومة سلطان ضعيف كسلطان النعاس الذي هو - لمن نام ساعتين أو ثلاثا - أخف الحاجات الطبيعية.

ولما أخذ جرجس في الإنشاد أصغى إليه كليم وسليم، وقال كليم: اسمع أغاني الجبل. وكان جرجس ينشد:

حنينا يا حنينا يا حنينا

يا قمر سلم على غيابنا

فضحك كليم وقال: من سوء الحظ أن القمر غائب أيضا. فضحك سليم لهذه الحاشية. أما جرجس فإنه كان مستمرا في الإنشاد:

يا ظريف الطول وقف تقولك

رايح عالغربه وبلادك أحسن لك

خايف يا محبوب تروح وتتملك

بتعاشر الغير وتنساني أنا

فهنا التفت سليم إلى جرجس وصاح به: ما هذا؟! ما هذا الغناء؟ أعده. فأعاد جرجس، فتنهد سليم وقال: لله در قائل هذين البيتين، فكأنه خرق بنظره حجاب الغيب وتنبأ عما يكون من المهاجرة إلى أميركا. خايف يا محبوب تروح وتتملك. نعم قد راح المحبوبون وتملكوا هناك . بتعاشر الغير وتنساني أنا. نعم لقد عاشروا الأميركيين وامتزجوا بهم، وكثيرون منهم نسوا بلادهم وتجنسوا بغير جنسيتهم. فيا أيها الشاعر العامي الذي كشف له الغطاء عن المستقبل قبل وقوعه، إنك شاعر عظيم وإن كنت لا تعرف القراءة والكتابة.

وفي خلال تبادل هذه الأفكار بين سليم وكليم، كان جرجس يجد في الإنشاد في هدوء ذلك الليل فيدوي صوته دويا:

يا ظريف الطول يا سن الضحوك

يا مربى الدلال بحضن امك وأبوك

جاني خبر يا حبيبي خطبوك

تخطب يا عيني وتتزوج بالهنا

ميجانا علميجانا علميجانا

يا حبايب لا تغيبوا جيت أنا

واقفة بالباب والباب صغيار

تنظر لي بعينها وصرت أنا محيار

وياللي مفارق حبيبو كيف حالو صار

ما حد فارق حبيبو غيري أنا

وكأن جرجس سئم هذا القد بعد دورين، فدخل بأعلى صوته في القد الآتي الذي يحلو لحنه على الخصوص في هدوء الليل:

هلولولوليا هلولولوليا عيني يا موليا

يا نائمين انهضوا جتكم حراميا •••

وتقولي صابوني وتقولي صابوني

مروا علي العدا وبالعين صابوني

ولو قطعوني شقف كألواح صابوني

ما بحيد عن عشرتك يا نور عيني •••

هلولولوليا هلولولوليا عيني يا لابنية

يا نار قلبي اشعلي واشوي لحم نيا •••

ومن هون لأرض الدير ومن هون لأرض الدير

السر اللي بيننا إيش وصلوا للغير

وإن كان ما فيه ورق لاكتب على جناح الطير

وإن كان ما فيه حبر بدموع عيني

وتحوشي بالكمره وتحوشي بالكمره

يا خدود بنت لكم يا زهرة الحمرا

وإن عيروني وقالوا محبوبتك سمرا

سمرة تشيل الحمل قنطار وشويا •••

هلولولوليا هلولولوليا عيني يا لابنية

يا نار قلبي اشعلي واشوي لحم نيا •••

والبنت تقول لأمها يا امي ظلمتيني

أول عريس طلب ليش ما عطيتيني

وثاني عريس اللي طلب دينو على ديني

وثالث عريس اللي إجا يا نور عيني

ثم انتقل إلى القد الآتي:

يا دوم عيني يا دوم

تعذبني وتقول اليوم

يا طير ياللي طاير

ياللي اسمك عبد الله

بوسه ما بيحصل منك

ياللي ما تخاف من الله

يا طير فاينك طاير

قاعد براس الزعروره

جيب من حبي علامه

الله يخلي ها الصوره

ولما سئم الفارسان صوت مكاريهما أخذا في الحديث، فقال كليم: إنني أشعر بأن جوادي صار بعد الغناء أنشط مما كان قبله، فهل تظن ذلك لأنه طرب لصوت صاحبه؟ فقال سليم: دع المزاح جانبا، فإنني أنا نفسي صرت أشعر بشيء من النشاط، وذهب عني النعاس تقريبا بعد سماعي هذا الغناء، ولا شك أن ذلك من تأثير الشعر في، فقال كليم: وهل أعجبك هذا الغناء؟ فقال سليم: إن الأمر الذي أدهشني في هذا الغناء رقته وتجرده من الأقوال الباردة التي تخدش الأدب، وظاهر أن هذا الغناء غناء عامي، وهو من ملاهي الطبقات الضعيفة، فاقتصاره على وصف العواطف الحبية بكلام رقيق أدبي خال من الألفاظ القبيحة والتلميحات الفظيعة دليل مدهش على ارتقاء الآداب هنا بين العامة وصلاح نفوسها؛ لأنك تعلم أن الأناشيد العامية قد تكون أفضل دليل على أخلاق الأمم، وحقا إن من يسيح في أقطار العالم، ويشاهد قبائح بعض طبقات العامة فيه، ثم يعود إلى بلاد كهذه البلاد، ويسمع أناشيد كهذه الأناشيد يفضل آداب هؤلاء السذج على آداب كثير من عامة الغربيين المتمدنين.

وكان الجوادان قد قطعا عند هذا الكلام قرية فيع وانحدرا في سهل بطرام، فالتفت كليم إلى المكاري وصاح: يا جرجس، لم تطلع نجمة الصبح بعد، فأجاب جرجس وهو يحك رأسه بأظافره: ستطلع قريبا يا معلمي. ثم لطم كفل الجواد بيده صارخا: ديه، ديه، فقال سليم: إن سوقك الجواد يركضه هو. أما نجمة الصبح فتبقى في مكانها دون أن تركض، فركضها هي إذا قدرت. فتنهد جرجس هذه المرة. ولا شك أنه قال حينئذ في نفسه شيئا لا يحلو للرفيقين.

وبعد سكوت خمس دقائق، التفت كليم إلى سليم وسأله: على أي شيء عزمنا الآن في سفرنا هذا؟ هل نذهب إلى أهدن لمشاهدة أصحابنا فيها أم لا؟ فقال سليم: الأمر إليك، فقال كليم: بما أننا ذاهبون الآن إلى الأرز عن طريق الحدث، وهي الطريق الغربية، فإننا نعود منه عن الطريق الشرقية طريق أهدن ، فسأل سليم: إذا لا نعود إلى الحدث بعد مبارحتها؟ فقال كليم: كلا، فإن طريق أهدن مقابلة لطريق الحدث، فقال سليم: إذا يجب أن نقيم عشرة أيام في الحدث بدل الخمسة التي اتفقنا عليها؛ وذلك إكراما لصاحبنا فيها، فقال كليم: سنرى ذلك بعد وصولنا، فقال سليم: وكم يوما عزمنا على الإقامة في الأرز؟ فأجاب كليم: بقدر ما تطيب لنا الإقامة، فقال سليم: هل وزنت نفسك قبل السفر من طرابلس؟ فقال كليم: نعم، فكانت زنتي 61 أقة، وأنت؟ فقال سليم: أنا وزنت نفسي قبل سفري من بيروت فكانت زنتي 59 أقة، فقال كليم هازا رأسه: كأنما وزننا وزن طيور لرقة أجسامنا، فقال سليم ضاحكا: لا تعب الرقيق ولا تستضعفه؛ فالرعود والصواعق لا تنشأ إلا عن رقيق السحاب، فقال كليم: لا ريب عندي أنك بعد نزولك من الأرز تغير رأيك، فتمدح السمان لا الرقاق؛ لأن كل واحد منا سيزيد على الأقل 5 أقات.

وبعد نصف ساعة انقضى في سكوت تام؛ لأن كل واحد من الرفقاء الثلاثة كان يناجي نفسه، إذا بجرجس يصيح ملء صوته: الحمد لله! فقال كليم: ماذا؟ فقال جرجس: طلعت النجمة.

فالتفت كليم وسليم إلى جهة الشرق وكانت أمامهما، فأبصرا الزهرة في طرف المشرق من وراء الجبال تتهادى بجمالها الفتان ونورها الباهر، تتيه به على جميع النجوم الزواهر التي كانت تزين حينئذ قبة الفلك الدائر، فصاح كليم وسليم لدى هذا المنظر الفخيم: تبارك الخالق! تبارك الخالق! أما جرجس فإنه رفع يديه نحو رفيقته في أسفاره وقال: هلك

يوما مبارك. فنسي لفرحه أن هذا الكلام يقال للهلال حين ظهوره في أول الشهر لا لنجم الصباح، ولكن ما الذي يمنع جرجس أن يقول لرفيقته المحبوبة ما يقال للهلال عادة؟! هل هو أفضل منها؟

كلا؛ لأنها تهدي في آخر الليل كما يهدي الهلال في أوله، وإذا كان لأحدهما مزية على الآخر؛ فالمزية للنجمة الجميلة؛ ذلك لأن صحبة الهلال تنتهي بالاستياء منه لأفوله، ويبقى المسافر حزينا بعده لما يجده من الوحشة. أما صحبة الزهرة فتنتهي بالسرور؛ لأنها رسول الصباح ومقدمة النور . وكل الذين عانوا مشاق السفر في الظلام في ليالي البرد والمطر والريح وأخطار الطريق يعرفون قدر الزهرة متى طلعت تبشر بدنو الشمس التي تنعش وتدفئ، والنهار الذي يبعد الأخطار، فهي عندهم رسول الأمل وابتسامة الطمأنينة، وعهد من الخالق على نفسه ألا يجعل ظلام الليل ظلاما أبديا.

فهي إذا عندهم حاجة وضرورة لا مسرة يلهى بها وتفرج النفس بمشاهدتها؛ ولذلك كانت حياتهم ومعيشتهم مرتبطة بحياتها. وهذا هو السبب في أنه بينما كان سليم وكليم يخاطبانها بقولهما: يا إلهة الجمال التي عبدها الأقدمون، يا عروس كواكب السماء، يا مضيعة ابن رشد، كان المكاري جرجس ينظر إلى دليلته السماوية نظر المرءوس إلى رئيس له تربطه به مصالح ومنافع متبادلة، لا لمجرد الاستحسان فقط. ولو مثلت الزهرة حينئذ فتاة كما كان يمثلها المتقدمون؛ لشوهدت تبتسم للمكاري جرجس وتهتم به أشد من اهتمامها برفيقيه الحضريين الظريفين. (2) كلام عن الدير أمام الدير

وبعد برهة أخذت ذرات الفجر تنتشر في الفضاء، وصارت نجوم السماء تبهت خجلا من سلطانة النهار القادمة على هودجها الناري ببهائها العادي. وقد طلعت الشمس لأصحابنا الثلاثة عند قرية كسبا حين دخولهم بين الجبلين في الطريق المؤدية إلى أعالي لبنان. وإن من لم تطلع عليه الشمس في ذلك المكان، بعد السير أربع ساعات في ظلمة الليل، لا يدرك اللذة التي شعر بها سليم وكليم حين استقبالهما تلك الطريق الصاعدة، فقد كان عن يمينهما جبل عال يمران بجانبه، وعن يسارهما جبل آخر عال بعيد عنهما، وعلى قمة هذا الجبل الشمالي بناء حوله أشجار باسقة، ولكنها تظهر صغيرة لبعد المسافة والبناء بينها، كأنه عش طائر بني هناك في مأمن من الزوابع والعواصف.

وفي الحقيقة إنه كان عشا بني للأمن من العواصف، ولكنه عش إنساني بناه البشر الذين يحبون الانفراد عن معارك الاجتماع وعواصفه، وهو الدير المعروف بدير حنطورة، وعلى موازاة الطريق إلى اليسار تحت الدير يسمع الراكب هديرا شديدا ناشئا عن مرور نهر أبي علي في واديه المقدس منحدرا إلى طرابلس، وكلما صعد الراكب بين ذينك الجبلين على ألحان النهر بين نسمات الصباح التي تداعب وجهه باردة أكثر من هواء السهل، يشعر أن جبل لبنان الحقيقي إنما يبتدئ من ها هنا، وحينئذ يخطر في باله أن سكان هذا القسم من الجبل كانوا في كل الأزمنة والعصور قذى في عيون الفاتحين، فإن جبالهم كانت تحميهم أكثر من كل الحصون والمدافع؛ ولذلك كانت تلك الأرض عبارة عن حرم الحرية المقدس.

نعم إن هذا الحرم قد فتح مرارا ولطخ مرارا، ولكن الغلبة كانت دائما للمدافعين عنه؛ ذلك أن الطبيعة نفسها كانت تحارب معهم بين صفوفهم، ورب مائة رجل من أهله فقط لقوا بين تلك الآكام والوهاد عشرة آلاف جندي بمدافعهم دون أن يتركوا لهم سبيلا إليهم. فثارت عواطف سليم وكليم وتصوراتهما لدى هذه الأفكار وهذه المناظر الجميلة، فأحسا أنهما صاعدان إلى عالم آخر غير هذا العالم، ويظهر أن نفسهما قد خفت حينئذ ونشطت عما كانت فيه أولا، فنزلا عن جواديهما ليتلذذا بالسير على أقدامهما فوق تلك الأرض الجديدة. وكان سرورهما بالمشي في تلك الساعة على تلك الأرض المؤدية إلى الأماكن، التي تنطح السحب ويعممها الضباب دائما، يعادل سرور الأولاد حين انصرافهم من المدرسة إلى نزهة خصوصية.

وبعد ربع ساعة كثرت العقبات في الطريق، فعاد كليم وسليم إلى جواديهما، فنبههما جرجس أن ينحرفا على ظهر الجواد قليلا إلى أمام في عقبة الصعود، وينحرفا قليلا إلى وراء في عقبة النزول، فضحك سليم وقال: هذا درس في طريقة الركوب في العقبات. ثم أخذ الرفيقان يتحادثان لقطع الوقت، بعد أن وجدا في المشي شيئا من الراحة. ولا عجب، فكما أن السكون بعد الحركة فيه راحة، كذلك الحركة بعد السكون.

فقال سليم: ما رأيك أيها الصديق في الإقامة طول العمر في هذا الدير الجميل الذي شاهدناه؟ هل تعرف مكانا أجمل من هذا المكان للراحة والسعادة؟

فقال كليم: سؤالك هذا يذكرني سؤالا آخر: يقول كتاب العرب أن الحواريين (الرسل) سألوا المسيح: من أفضل منا؟ إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا، فأجاب : أفضل منكم من يأكل من كسب يده؛ فالأفضل والأجمل من الإقامة في هذا الدير الدخول في العالم، والأكل من كسب اليد؛ لأن خبز الإحسان خبز دنيء، كما قال روسو.

فثار هنا جرجس وقال: أرجوك يا معلمي ألا تجدف على الدير والرهبان، فإننا في طريق، وأخاف على أفراسي لا على نفسي، وبالأمس كان جارنا أبو يعقوب سائرا قرب البلمند قادما من المدينة (يعني طرابلس)، وكان الراكب على حمارته واحدا من السوقة لا يحب الرهبان، وكان يتهكم عليهم، فبركت الحمارة في الأرض قرب الدير، ولم تنهض حتى نذر أبو يعقوب للدير نصف الأجرة التي يأخذها من الراكب.

فصاح كليم بصاحبه: أسمعت قول الرجل؟ هذه هي المبادئ التي يعلمها للشعب الرهبان الذين نسلمهم أرزاقنا، وننفق على تسمينهم.

فقال سليم: هذه مسألة أخرى غير تلك؛ فإننا لا نبحث الآن في هل هم قائمون بوظيفتهم التي وجدوا لها، ولكني أسألك هل تحب المعيشة في الدير إذا كان الدير قائما بحسب النظام الذي وضع له، للغرض الحقيقي الذي يجب أن يوضع له؟ فأجبتني أنك تفضل على هذه المعيشة معيشة الإنسان الذي يأكل من كسب يده.

فقال كليم: نعم، هذا هو رأيي؛ لأني أكره الكسل والبطالة، ولا أستطيع أن أتصور أناسا كالبعوض والبق والعلق والبراغيث يعلقون على جسم الهيئة ليمتصوا دماءها وهم قاعدون بلا عمل؛ بحجة أنهم يخلصون أنفسهم ويصلون لغيرهم.

فسكت سليم برهة يفكر، ثم قال: كل من يسمع هذا الكلام يوافقك عليه لأول وهلة، ولكن لدى التأمل يظهر أنك ظلمت المعيشة الديرية بهذا الوصف الذي لا ينطبق عليها، إلا إذا كانت بلا عمل أرضي ينفع كما قلت. قلت أرضيا؛ لأن السماوي ليس من بحثنا الآن، وعندي أن معيشة الدير لها صورتان كل واحدة منهما جميلة بحد ذاتها. ويطيب لي الآن في هذه الأرض؛ أرض الأديرة والرهبان، أن أرسم معك هاتين الصورتين. وإذا كان في الهواء الذي يحيط بنا آذان خفية تسمع ورامت إيقاف صوتنا، فنحن باسم إله الحرية الساكن في هذه الجبال نقوى عليها؛ ذلك لأنها لا تستطيع إنكار إله الحرية ؛ إذ طالما استنجدت به في هذه الجبال. وبما أن الحرية واحدة لا تتجزأ ولا تنقسم، سواء كانت في الفعل أو في القول، فمن الحق والعدل أن تخضع لهذا الإله بعد أن أخضعت له غيرها.

فالصورة الأولى للمعيشة الديرية هي ما ذكرت: بشر ضعفاء من طبقات لا تقدر على كسب رزقها ينسد في وجهها باب الرزق في العالم، وترهب معارك الحياة وتنازع البقاء، فتطلب مكانا تلتجئ إليه وتعيش فيه بأمان. وهي للحصول على هذه المعيشة تتنازل عن أشرف وأثمن ما لدى الإنسان؛ أريد حريته الشخصية، فتصبح آلة في يد الرئيس لا إرادة لها ولا قوة؛ ذلك أنها تنذر أول شيء الطاعة العمياء، ثم الفقر، ثم ترك الزواج. وبهذه النذور الثلاثة المشهورة تحرم الهيئة الاجتماعية قوات ضرورية.

فبنذر الطاعة تضع ضميرها بين يدي الرئيس. وما أدراك ما هو التنازل عن الضمير؟ فإن ذلك يفني شخصية الإنسان ويحقر الإنسانية فيه، ويجعل تحت سلطة ذلك الرئيس جيشا كثيفا مطيعا، يؤثر أشد تأثير في الهيئة المدنية لفائدة الهيئة الدينية، وبنذر الفقر يحرم الإنسان نفسه وغيره ثمار تعبه من خيرات الأرض التي حلل له التمتع بها، فيعيش ذليلا وضعيفا، وبنذر العفاف يجني على أمته؛ لأن الأمم يهمها تكثير النسل، وهي لا تألو جهدا في الحث عليه بالطرق المحللة؛ فالنذور الثلاثة إذا تعارض المدنية الحاضرة وتعاكسها، لا سيما وأن هذه المدنية جلبت معها مبادئ جديدة مناقضة لمبادئ الهيئة الدينية كل المناقضة في كثير من شئونها الأساسية.

والصورة الثانية للمعيشة الديرية: أن ينقطع بعض البشر عن البشر لنفع روحي ومادي. أما النفع الروحي فلا يدركه حق الإدراك إلا كل من رمته عواصف الدهر بين معارك الحياة اليومية، ورأى ما في هذه المعارك من الهمجية والخشونة والفظاعة، فهناك - وا أسفاه - يكون البشر حيوانات وحشية لا بشرا، هناك الظفر والغلبة لا يكونان بالاستقامة والفضل وشرف المبادئ والأخلاق، فإن هذه الفضائل التي هي جميلة في المجتمعات الرسمية والنوادي الأدبية تكون سببا لضعف صاحبها في وسط تلك المعارك، لا لقوته، وإنما يكون الظفر والغلبة للأكثر وقاحة، والأكثر ظلما، والأكثر اعتداء، والأكثر خداعا؛ ولذلك قال رينان: إن الإنسان لا يكون دائما قويا في الحياة إلا متى كان يظهر دائما أنه كان مغشوشا فيما صنعه من الخطأ، مع أنه كان غاشا.

فماذا تصنع النفوس الحساسة اللطيفة التي جبلها الله لا تحب الغش والظلم والاعتداء حين وجودها في هذا الوسط الهائل؟ هل تسلم سلاحها خافضة جناح الفضيلة أمام وقاحة الرذيلة، وتقع في ميدان العراك في جملة الأسرى أو القتلى؟ أم تخلع عنها ثوب الفضائل السماوي الذي ألبستها إياه اليد الجميلة الأبدية، لترتدي بدله ثوب الظلم والاعتداء والغش والنهب والسلب، وتصنع ما يصنعه غيرها؟ وهل يجوز أن تبخل عليها الأرض والسماء حينئذ بزاوية صغيرة في إحدى زوايا الأرض؛ لتعيش فيها بأمن وسلام دون أن تضطر إلى ذلك الانتحار، وهذه الجناية؟

إن هذه الزاوية هي الدير؛ فالدير وجد لسد فراغ في نفوس فريق من البشر في الأرض، وهو موجود قبل الديانة المسيحية بقرون عديدة؛ لأن انفراد بوذة وأنصاره في جبال الهند نوع من المعيشة الديرية. وستبقى هذه الحاجة لازمة في الأمم ما دام فيها نفوس تتألم، وجهاد في تحصيل الرزق والطمع يحكي جهاد الفاتحين. وقد احترم صاحب الشريعة الإسلامية هذه الحاجة؛ لأنه أوصى بالصوامع والرهبان خيرا، وكذلك الخلفاء الراشدون، فضلا عن أن التكايا التي أنشئت بعد ذلك في أنحاء العالم الإسلامي إنما هي نوع من المعيشة الديرية أيضا. وهذا يدل على أن هذه المعيشة الاشتراكية للزهد والانقطاع إلى الله كانت حاجة من حاجات النفوس في كل الأزمان.

أما النفع المادي فهو اعتبار الدير قوة ممدنة تستعمر الجهات التي يكون الدير قائما فيها، والديورة إنما تقام عادة في القفار والجبال والقرى البعيدة؛ أي في الأماكن المحتاجة أشد احتياج إلى تعمير وإحياء. فتأمل مقدار الخير الذي يستطيع ذلك الدير صنعه في تلك الجهات، إذا جعل نفسه عبارة عن شركة عظيمة يجتمع حولها أهل القرى ليتلقوا منها طريقة زراعة الأرض، ويتعلموا صناعات جديدة، ويعتمدوا عليها في جميع شئونهم العملية اعتمادا متبادل النفع بين الفريقين، فإن الدير يصير في هذه الحالة عبارة عن مركز أعمال القرويين ومستشارهم في جميع أشغالهم.

وكيف لا يحلو للمتأمل أن ينظر ذلك الراهب الذي كان يصلي إلى الله منذ مدة يأخذ معوله وفأسه، ويقصد حقول القرية؛ حيث يقابله أهلها كرسول العلم والثروة والمدنية بينهم، ويسترشدون بإرشاداته التي اكتسبها بالدرس والمطالعة، والتي لا تصل إلى هؤلاء القرويين بدونه؟ لا ريب أن هذا الأمر يساوي عندي على الأقل خروجه من الدير وبيده الإنجيل لعيادة مريض في القرية أو تسلية حزين. ولست أعرف شيئا في العالم يعادل نفعه نفع هذه الديورة في التمدين والتعمير، إذا سلكت بإخلاص ونزاهة هذا السبيل.

هذا فيما يختص بالاشتراك الخارجي بين أهل الدير وأهل القرى في تعمير الأراضي ونشر الخير والثروة حولهم. بقي هناك اشتراك آخر داخلي، وهو تعاون الأفراد المجتمعين في ذلك الدير على جعل معيشتهم فيه عبارة عن مثال لأرقى حكومة في الأرض، فإن أهل الدير قد ارتفع عنهم عند دخولهم إليه هم تحصيل الرزق والطمع والجهاد في سبيله؛ وذلك مما يسكن النفس وينقي قواها، ثم أضف إلى ذلك الانفراد عن معارك الحياة، تجد أن النفس تصفو في ذلك الانفراد عن كدوراتها اليومية، وتتملص من كل أهوائها الفاسدة التي كانت تضغط عليها وتعذبها في حالة الاجتماع.

وهكذا يصبح أهل الدير عبارة عن بشر فوق البشر؛ لأنهم خرجوا عن دائرة البشر، ويصير البشر في الاجتماع ينظرون إليهم نظرهم إلى معلمين مرشدين موضوعين فوقهم، فكأن الإنسانية في هؤلاء المنفردين قد تكررت وتصفت وصارت إنسانية جديدة لا هم لها في الأرض غير صنع الخير ومساعدة الضعفاء. وهذه الحالة تسوقهم بالطبع إلى الاشتغال بالعلم والأدب. وهنا مسألة المسائل الجديرة بكل اهتمام، هنا مفتاح ترقية العلوم والفنون والصناعات المختلفة؛ إذ ماذا يصنع الرهبان في كل أوقاتهم الطويلة؟ وبأي شيء يقطعونها؟ هل من شيء يقطع به الوقت ما عدا صنع الخير أنفس من الاشتغال بالعلم والأدب؟ وبذلك يكمل الرهبان المنفردون في أديرتهم الجميلة نقصا ظاهرا اليوم في هيئتنا الاجتماعية.

انظر إلى الحركة العلمية والأدبية عندنا، تجد أنها مطلوبة للمال لا لذاتها، وبما أن طالبي العلم والأدب يهتمون بالمال أكثر من اهتمامهم بالعلم؛ فالعلم يبقى بيننا قاصرا؛ ذلك لأن العلم لا يتقدم ولا يترقى إلا إذا أمكن للمشتغلين به الانقطاع إليه انقطاعا لا دخل لشهوة المال فيه. وهذا أمر بعيد الحصول عندنا ما دام أصحاب الثروة لا يشتغلون بالعلم؛ فالرهبان إذا عليهم سد هذا الفراغ؛ لأنهم قادرون على الانقطاع إليه أتم الانقطاع؛ إذ كل حاجاتهم مضمونة عندهم، وفي وسع كل واحد منهم أن ينقطع إلى علم أو فن في عشرين سنة أو أربعين فيرقيه أتم ترقية عندنا دون أن يحتاج إلى شيء، وحينئذ تصبح الديورة مصدرا لنهضة علمية جليلة، ويصير كل واحد منها عبارة عن أكاديمية كبيرة، كل عضو من أعضائها عالم في فن وفي علم.

ومجموع الأعضاء يتألف منه مجموع المعارف البشرية، والاختراعات والاكتشافات تتابع من هذه الأكاديميات الجديدة لنشر الخيرات في الأمة وتحسين شئونها، فتكون هذه الديورة مثالا للعلم كما كانت مثالا للصلاح فيما تقدم. وهي ما عدا ذلك تكون أيضا مثالا للنظام المطلق، فإن معيشتها اشتراكية محضة. الكل إخوة متساوون قولا وفعلا، وليس أحد فيهم يقول «هذا لي.» لأن كل شيء يكون بينهم مشتركا، ولكنهم مع تساويهم هذا خاضعون لسلطة عليا خضوعا تاما بلا مراجعة ولا تردد؛ لعلمهم أنها لا تأمرهم إلا بالخير وما فيه خير؛ ولذلك ترى أكبرهم وأصغرهم يعفران رأسيهما بابتهاج وسرور تحت قدمي هذا النظام الذي أنقذهما وأعطاهما هذا الوسط الهادئ النقي.

وهكذا بينما تكون الدنيا قائمة قاعدة بالاضطرابات والفتن والثورات بين كل الطبقات، بينما ترى روح الاستفراد العصري الذي ضربه رينان بسوطه ضربات شديدة يبذر بذور الشقاق في العالم حتى بين الأب وابنه، والمرأة وزوجها؛ لرغبة كل إنسان في أن يعيش حرا على هواه، ترى الهدوء والنظام والخير عامة شاملة في الدير وما حوله من القرى كأنه صار قطعة من الجنان.

وهنا سكت سليم، وأخذ يمسح العرق عن جبينه لأنه قد تحمس في أثناء وصفه، فصاح جرجس مسرورا: عافاك عافاك يا معلمي! هكذا يجب الكلام عن آبائنا الرهبان. أما كليم فإنه قهقه شديدا وقال لرفيقه: كفى تحلم! كفى تحلم! فهم في واد وأنت في واد. ومن كلامك يظهر أنك لا تعرف ما هو الغرض من الدير. فمسكين أنت أيها الجاهل! معنى الدير عندهم اليوم أن يقيم فيه الرهبان يكررون صلوات مألوفة، ويجمعون من الناس بحجة هذه الصلوات ما أمكنهم جمعه

يبذلون بسخاء في هذا السبيل ابتغاء للثواب على ما يقولون. وهكذا بدل أن تكون هذه الديورة ناشرة للثروة والخير فيما حولها من القرى صارت ممصا للثروة لنفسها. وقد قلت إن أهل العلم عندنا مضطرون إلى التفكير بالمال قبل العلم، وإلا تعذر عليهم الاشتغال به، فأنا أخبرك أن أهل الدين الذين وظيفتهم نذر الفقر - كما ذكرت - صاروا أيضا يفكرون بالمال قبل الدين.

فقال سليم: لا، لست أحلم، بل أنا أنظر إلى الدير كما يجب أن يكون، وأنت تنظر إليه كما جعلوه اليوم. وهذا أوضح دليل على أن كل شيء إنما يصلح ويفسد تبعا للطرق التي يستعمل بها، والأشخاص الذين يتولون استعماله. وهذه مسألة المسائل في كل الشئون حتى سياسة الأمم، ولست أظنك تزعم أن الديورة كانت في القديم، وأعني القرون الأولى لا القرون المتوسطة على حالتها الحاضرة اليوم، فإنها لو كانت كذلك لما قام لديانتها قائمة، وإنما كانت الديورة يومئذ عبارة عن انقطاع حقيقي إلى الله؛ للخلاص من حياة الاجتماع التي تجر الإنسان أحيانا إلى ما لا يهواه، ولا عتب في ذلك على أولئك المتقدمين لأنهم كانوا يومئذ في الطور الذي يسمى طور الإيمان الحار.

ولذلك يجب ألا نلومهم لانقطاعهم عن الناس بقولنا إنهم فعلوا ذلك مدفوعين بعامل الأثرة وحب الذات، فإن الرغبة في معيشة الانفراد الاشتراكية كائنة في طبيعة البشر، خصوصا الضعفاء منهم، ولكننا إذا كنا لا نلومهم اليوم، فإننا لا نحث الديورة في هذا الزمن على أن تنسج على منوالهم ، بل نطلب إدخال تغيير على حالة الأديرة طبقا للوصف الذي ذكرته آنفا؛ فإن الهيئة الاجتماعية قد تغيرت، والنفوس الدينية صارت - كما يظهر من قولك - لا تكتفي بالإيمان الحار، فبناء عليه بطلت وظيفة الدير الأولى التي هي البعد عن البشر والانقطاع إلى الله انقطاعا حقيقيا، وصار من الواجب أن يحل محل هذه الوظيفة وظيفة مساعدة الناس ماديا وأدبيا، كما وصفت ذلك آنفا، وإلا فلا معنى لوجود الدير في هذا العصر.

وأنا على يقين أن هذا التغيير أمر سهل، وكثيرون من رجال الدين يرضون به لأنه يحيي البلاد والعباد بثروات الأديرة والأوقاف الدينية، إنما يشترط فيه وجود رؤساء كرام يفهمونه وينبذون الأطماع جانبا، فلماذا لا يقوم أكابر الطوائف وأفاضلها لمراقبة أوقاف الأديرة والأملاك الدينية مراقبة شديدة، بواسطة مجالس دائمة خصوصية تنشأ لهذا الغرض؛ لإنفاق دخلها الطائل في وجوه نافعة لمجموع الأمة؟ (3) مجنون ليلى

وبقي سليم وكليم يتحادثان في هذا الموضوع حتى وصلا إلى عين السنديانة، وهي محطة يستريح فيها المسافرون في طريقهم إلى أعالي الجبل، والمكان مؤلف من منزل اتخذه مستأجره حانوتا يبيع فيه مواد الغذاء للمسافرين، وأمامه دكة عالية قليلا يجلس المسافرون عليها، وبجانبها عين ينبع منها ماء بارد يشربه المسافرون بظمأ ولذة بعد تعب الطريق وحرها.

فنزل كليم وسليم للراحة وتناول الطعام، وبعد حين طلبا بيضا مقليا وجبنا وعنبا، وجلسا يأكلان، وإذا برجل قد دنا من أحد الفرسين ومد يده إلى الخرج الذي كان عليه، وأخرج منه جريدة إنكليزية، فقال كليم لرفيقه: ما شاء الله! إن صاحبنا يفعل بخرجنا ما يشاء بدون تكليف، ثم نهض ودنا من الرجل وسأله: ماذا تريد؟ فعبس الرجل وقال: لا أريد شيئا، ولكنني أحب أن أقرأ.

ثم إنه أدار ظهره لكليم وجلس على طرف الدكة ونشر الجريدة الإنكليزية وصار يقرأ فيها. فاستغرب كليم وسليم أمر هذا الرجل، وكانت هيئته وثيابه مما يزيد الاستغراب، فإنه كان في نحو الأربعين من عمره بلحية كثة وخطها الشيب، وشعر وافر في رأسه يتدلى من تحت طربوشه القذر، وكان طويل القامة عريض العضل، يلبس ثيابا قديمة قذرة، ويمشي بحذاء ممزق، إلا أن سحنته كانت تدل على الهدوء واللطف والسكينة.

وبعد أن قرأ هذا الرجل بضعة أسطر في الجريدة رفع رأسه وضحك ضحكا شديدا ثم قال: كلهن سواء. ثم التفت إلى كليم وقال: أليس حقيقيا ما أقول؟ فقال كليم: عن أي شيء تتكلم؟ فضحك الرجل ضحكا أشد من ضحكته الأولى وقال وهو يهز رأسه طربا:

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

ثم وقع على الأرض وأغمي عليه.

فذعر حينئذ كليم وسليم، أما صاحب المحل فإنه ركض مسرعا وهو يضحك، فنضح وجه ذلك الرجل المسكين وصدره بالماء، ثم التفت إلى سليم وكليم وقال: لا تخافا، فإن هذا الرجل مجنون، بل هو نصف مجنون، وهو يصاب بهذه النوبة مرة كل يوم أو كل يومين. فاشتد حزن سليم وكليم على حالة الرجل حينئذ، وبادرا إليه يسعفانه بالمعالجة، وبينما كانا يفركان يديه بأيديهما سألا صاحب المحل: وما قصته؟ وأين بلاده؟ فإنه غريب عن لبنان على ما يظهر. فأجاب صاحب المحل: الذي سمعته أنه غريب عن لبنان، ويقال إن سبب جنونه حبه فتاة رام الاقتران بها فرفضت وهجرته، وهو من ذلك الحين يطوف البلاد على قدميه يأكل إذا وجد طعاما، ويصوم إذا لم يجد، وأحيانا ينام تحت سقف منزل، وأحيانا تحت قبة السماء، فهو شبيه برجل تائه على وجهه في البلاد، وكل الأهالي يعرفونه.

فلما سمع سليم وكليم هذه القصة تأثرا تأثرا شديدا، ومما زاد تأثرهما امتزاج تعاسة الرجل بشيء غزلي جميل؛ لأنه جن بسبب الحب كما سمعا، فقال سليم لرفيقه: حقا إنني لما كنت أسمع كلام صاحب المحل خيل لي وأنا أفرك يد هذا المريض أن يدي تمس الآن يد مجنون ليلى، أو غيره من عشاق العرب المشهورين. ومن العجب أن يبقى اليوم في الأرض أناس رقاق الشعور، شديدو الانجذاب النفسي، حتى إنهم يجنون بسبب الحب، مع ما هو معروف في هذا العصر من اندفاع تيار الشهوات الحيوانية التي تقتل ذلك الشعور الدقيق.

فسأل كليم صاحب المحل: وما اسم هذا الرجل التعيس؟ فأجاب: إن الناس يسمونه: مخلوف.

وفي هذه البرهة اختلج مخلوف اختلاجا شديدا، وصار يصرخ صراخا هائلا ويخبط بيديه ورجليه، فأمسكه بها الثلاثة الحاضرون لئلا يؤذي نفسه. وكان قد اجتمع عليهم بعض من الأولاد وهم يعجبون من دنو سليم وكليم منه؛ لأن أكثر العامة في أقطار الشام يخافون كثيرا ممن يغمى عليه ذلك الإغماء؛ لاعتقادهم أن فيه شيطانا يسبب ذلك الاضطراب، وهم يسمون المغمى عليه: «واقع في الساعة».

وبعد حين ارتخت أعضاء مخلوف وتنهد تنهدا عميقا، ثم فتح عينيه وصار يضحك لمن حوله ضحكا لطيفا كضحك الأولاد، فقال له كليم: كيف حالك الآن يا مسيو مخلوف؟ فأجاب مخلوف: حالي كما ترى، فقال سليم: هذا أمر بسيط وكثيرا ما يقع فيه الناس، إما بسبب الحر أو ضيق الصدر أو التعب، فجلس مخلوف حينئذ وقد ظهر الغضب في وجهه وصاح: لم يؤثر في الحر ولا ضيق الصدر ولا التعب، وإنما هذه الجريدة الملعونة، فكيف تجيز لها السماء والأرض أن تتركه وتذهب؟ هو يحبها كما يحب إلهه، هو يطرح تحت قدميها اسمه وميراثه وشرفه لتتنازل وتأخذها، وترضى فقط بالابتسامة له، ومع ذلك فإنها ترد هذه الهبات بقدمها وتفر منه كالبرق وتختفي، فما هو جزاؤها يا ترى؟ أليس القتل والخنق والحرق والشنق، والدوس بالأقدام، والتقطيع قطعة قطعة؟

وكان مخلوف قد بلغ به الغضب عند هذه الكلمات مبلغا عظيما، فجحظت عيناه، وانتفخت أوداجه، وصعد الدم إلى رأسه فكاد يخنقه، وبدا الزبد على فمه كالجمل الهائج، فهال منظره سليما وكليما، وعلما حينئذ أنه قرأ في الجريدة الإنكليزية هذه الحادثة فأذكرته حادثته، فتلافى سليم الأمر رغبة في تسكينه وتعزيته، وقال: لقد نطقت بالحق؛ فإن تلك الفتاة تستحق أكثر مما ذكرت، ولكن هل قرأت تتمة حادثة مس لنهيم التي تشير إليها؟ فأجاب مخلوف وهو يلهث تعبا من أثر الهياج: لا، فماذا جرى لهذه الخبيثة بعد تركها حبيبها؟ فقال سليم: لقد لقيت عقابها .

فصاح مخلوف حينئذ وشرر الجنون واليأس يتطاير من عينيه: هل ماتت؟ فارتعدت فرائص سليم وكليم لذلك الصوت الذي حكى صوت وحش جرح برصاصة، وأجاب سليم: كلا كلا! فإنه لا يموت أحد الحبيبين إذا افترقا، وخصوصا إذا كان أحدهما مظلوما إلا بعد اجتماعهما. فبهت مخلوف يتأمل قليلا، ثم قال: وكيف ذلك؟ فقال سليم: روى فرفوريوس عن نيقوديموس عن أفلاطون عن أرسطاطاليس، أن كل نفس مظلومة لحبها نفسا أخرى لا تموت إذا ثبتت في حبها وصدقت قبل أن ترى النفس المحبوبة؛ ولذلك فكل فتاة تهجر فتى يحبها ويثبت الفتى على حبه لها تعود إليه ذليلة من تلقاء نفسها بعد ذلك، وتستغفره عن ذنبها، وتطلب إليه أن يشاركها في حياتها. وهكذا جرى لمس لنهيم التي قرأت في الجريدة حادثتها، فإنها عادت بعد مدة ذليلة واستصفحت خطيبها.

فهنا استوى مخلوف جاثيا على ركبتيه وبرقت عيناه برقا غريبا وقال: وإذا كان قد انقضى على غيبتها عدة سنوات؟

فأدرك كليم في الحال ما قام في نفس ذلك المجنون التعيس، فهمس في أذن رفيقه: إنك تحاول نفعه بالأمل ولكنك ستضره، فأجاب سليم: وهل بعد الجنون من ضرر؟ فإنني الآن أجرب طريقة لإصلاح شأنه وتسكين جهازه العصبي إلى حين.

ولما سأله مخلوف السؤال الذي تقدم، أجابه سليم بقوله: سواء كان الوقت قصيرا أو طويلا فإنها تعود رغما عن أنفها، ولكني لم أذكر لك الطريقة التي استعاد بها المستر أرثور حبيبته المذكورة، فإنه قبل كل شيء ثبت على حبها ثبات الأبطال، فكان لا يذكرها بكلمة سوء، ولا يحكي قصتها لأحد، ثم كان يتظاهر باللطف والبشاشة دائما، ولا يضر أحدا من الناس، وينفعهم بقدر استطاعته. وكان على الخصوص يعتني بنفسه، فيأكل من الغذاء ما يكفيه، ولا يتعب كثيرا بالطواف في البلاد، ويداوي صحته ما أمكنه. وبهذه الطرق صار رجلا جميل المنظر لطيفا محبوبا من الناس، فما لبثت حبيبته أن عادت إليه تطلب منه الصفح عن هجرها إياه.

وكان سليم يتكلم ومخلوف يفكر وقد أخذ العرق يقطر من جبينه، فدل ذلك على أن نفسه كانت حينئذ في صراع شديد مع نفسها. ولما أتى سليم على آخر كلامه انهملت دموع مخلوف على خديه، فوضع رأسه بين يديه وصار يبكي بكاء شديدا، فاغرورقت حينئذ بالدمع عينا سليم وكليم، وازدادت دهشتهما من أن يوجد اليوم في الأرض إخلاص كإخلاص هذا العاشق المجنون التعيس.

ولما استغرق مخلوف في البكاء رام كليم تسليته من وجه آخر، فقال له: أنت مصيب في بكائك يا مسيو مخلوف، فبارك الله في عواطفك الرقيقة وقلبك الحساس! إنك ولا شك تبكي على جميع الأزواج التعساء في العالم، إنك تبكي على الزوج المسكين الذي يتزوج ويرزق أولادا من زوجته، ومع ذلك يرى عين امرأته ناظرة إلى سواه، إلى شاب أغض منه شبابا، فتجعل حياته جحيما دائما، إنك تبكي على الزوج الذي يتزوج اليوم ثم تموت زوجته الفتاة الرطبة الجميلة بعد سنتين، تاركة على ذراعيه طفلين يصيحان دائما: يا أماه! بينما قلبه يصيح معهما: يا حبيبتي! إنك تبكي الزوج الذي يموت بعد زواجه بسنتين تاركا أرملة فتاة وصغيرين لا معين لهما غير الله، إنك تبكي الزوج الذي يرى عائلته تكبر شيئا فشيئا، كل سنة ولد، ويرى باب رزقه ضيقا. فهذه الأحوال الاجتماعية جديرة يا مسيو مخلوف بدموعك، وإذا كنت لم تتزوج بعد؛ فاشكر الله لأنك لم تقع في أحدها.

ولكن يظهر أن المسكين مخلوفا لم يفهم معنى هذا الكلام، أو كأنه لم يسمعه لانشغاله بما كان يجول حينئذ في ضميره، فلما سكت كليم تحفز للنهوض، فأمسك به سليم وكليم ليشاركهما في الطعام، فاعتذر ونهض، فحاولا إقناعه بالسفر معهما إلى الحدث، ومنها إلى الأرز، فلما سمع كلمة الأرز قال لهما بهيئة جدية يضحك منها من يعرف جنونه: إنه مسافر بعد مدة إلى الأرز للسياحة هناك، وإنه سيقابلهما فيه. ثم تخلص منهما وودعهما بإحناء رأسه، وسار في سبيله.

كأنما هو في حل ومرتحل

موكل بفضاء الله يذرعه

ولما غاب عن بصرهما في منعطف المكان التفت سليم إلى رفيقه وقال: حقا إن حالته حالة مؤثرة. وبعد أن تناولا الطعام واستراحا قليلا ركبا وسارا في طريقهما مع جرجس، وكان كل واحد منهما يفكر في مخلوف. وبعد برهة دار بينهما الحديث على الطريق؛ لأن الطريق خير محرك للحديث، فقال سليم: هذه أول مرة أرى فيها محبا جن من حبه، فما أحسن هذه الأخلاق الدمثة اللطيفة مع الجنون! فقال كليم: أما أنا فقد شاهدت مجانين عشاقا قبل اليوم، وعندي قصة أشد تأثيرا من قصتنا هذه، فإنني منذ سنتين زرت في طريقي مع بعض الأصحاب دير قزحيا حيث يعزل بعض المجانين، فلما أشرفنا على مكانهم وجدنا أحدهم منفردا عن الباقين، وهو جالس حزينا ملوي الرأس، فوقفنا به فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: ما تجد؟ فأنشأ يقول:

الله يعلم أنني كمد

لا أستطيع أبث ما أجد

نفسان لي: نفس تضمنها

بلد وأخرى حازها بلد

وأرى القيامة ليس ينفعها

صبر وليس يفوقها جلد

وأظن غائبتي كشاهدتي

فكأنها تجد الذي أجد

فقلت له: أحسنت والله. فأومأ إلى شيء ليرمينا به وقال: أمثلي يقال له أحسنت؟ فولينا عنه هاربين، فقال: أسألكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم، فإن أحسنت قلتم لي أحسنت، وإن أسألت قلتم لي أسأت، فرجعنا ووقفنا وقلنا له: قل، فأنشأ يقول:

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم

ورحلوها وسارت بالدمى الإبل

وقلبت من خلال السجف ناظرها

ترنو إلي ودمع العين منهمل

وودعت ببنان عقده عنم

ناديت: لا حملت رجلاك يا جمل

ويلي من البين ماذا حل بي وبها

من نازل البين حل البين وارتحلوا

يا راحل العيس عرج كي أودعهم

يا راحل العيس في ترحالك الأجل

إني على العهد لم أنقض مودتهم

يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا؟

فقلت له: ماتوا! فصاح وقال: ماتوا؟ وأنا والله أموت. ثم تربع وتمدد فمات لساعته، فما برحنا حتى دفناه.

فقال سليم: يا للعجب! وهل روحه في يده حتى يطلقها حين يريد؟ فقال كليم: هذه قصة محزنة عن المجانين، وقد شهدت أيضا حادثة أخرى ولكنها مضحكة، إلا أنها تدل أيضا على ذكاء هذه الطبقة التي إذا طمس الجنون عقلها فإنه يبقي على نباهتها وحدة ذهنها. وتفصيل الخبر أنني كنت ذات يوم مارا بقرية القلمون الإسلامية الكائنة على شاطئ البحر تحت دير البلمند وقلحات، فرأيت اجتماعا عظيما خارج القرية، فسألت: ما الخبر؟ فعلمت أن هنالك معتوها يضحك الأهالي منه ويجوزون له ما لا يجوزونه لسواه.

وكان هذا المعتوه يجد ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، «وكان يركب قصبة في كل جمعة يومي الاثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون؟ أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم، قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيرا أبا بكر عن الرعية؛ فقد عدلت وقمت بالقسط، وخلفت محمدا (عليه الصلاة والسلام) في حسن الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة، وأحسن ثقة، اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام، فقال: جزاك الله خيرا أبا حفص عن الإسلام، فقد فتحت الفتوح، ووسعت الفيء، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية، اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه، فيقول له: خلطت في تلك السنين، ولكن الله - تعالى - يقول:

خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، ثم

غلام بين يديه، فيقول: جزاك الله عن الأمة خيرا أبا الحسن، فأنت الوصي وولي النبي، بسطت العدل، وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء، فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرية المباركة، وزوج الزكية الطاهرة، اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس. ثم يقول: هاتوا معاوية: فأجلس بين يديه صبي، فقال له: أنت القاتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي، الذي أخلقت وجهه العبادة، وأنت الذي جعل الخلافة ملكا، واستأثر بالفيء، وحكم بالهوى، واستبطر بالنعمة، وأنت أول من غير سنة رسول الله ونقض أحكامه وقام بالبغي، اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة. ثم قال: هاتوا يزيد. فأجلس بين يديه غلام، فقال له: ... أنت الذي قتلت أهل الحرة، وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله، وتمثلت بشعر الجاهلية:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله سبايا على حقائب الإبل، اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار. ولا يزال يذكر واليا بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: هاتوا عمر. فأتي بغلام فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألنت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق، اذهبوا به فألحقوه بالصديقين. ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس، فسكت، فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين، قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة، واقذفوا بهم في النار جميعا.»

1

فقيل له: وبعد؟ فقال: أين أمويو الأندلس؟ فرفع إليه غلام، فقال له: إيه عبد الرحمن الداخل، ذهبت تخرق خرقا في الإسلام، وتنشئ خلافة جديدة وسلطنة كبيرة لم تحسن أنت وقومك الدفاع عنها، اذهبوا به إلى النار. ثم قال: أين الفاطميون؟ فرفع إليه غلام، فقال: لقد ألهتم أمراءكم وأضعفتم الإسلام بشقه شطرين، خذوهم. فقيل له: وبعد؟ فقال: بعد ماذا؟ فقيل: آل عثمان. فالتفت يمنة ويسرة وحك رأسه وهم بالكلام، فصاح به صائح: باب السجن مفتوح. فضحك المعتوه وقال: أما بنو عثمان، فإننا نؤجل الحكم عليهم، فضحك الجميع وانصرفوا.

فقال سليم: حقا إن أمر هذا الرجل غريب، فإنه مع جنونه يصف كل أمير الوصف الذي ينطبق عليه كأنه من أبصر الناس بالتاريخ. أما صاحبنا مخلوف فإنني أرى من القسوة أن نتركه في هذه الحالة؛ ولذلك عزمت على معالجته لعلي أرد عليه صوابه. (4) الحدث

وطوى الفارسان بالحديث المسافة بين عين السنديانة والحدث، ولما وصلا إلى هذه القرية دخلا إليها منقبضي الصدر؛ لأنهما كانا يعللان النفس بأن يشاهدا في أعالي الجبل مناظر أبهى وأجمل. وهذا شأن كل من يتصور شيئا جميلا قبل معرفته، فإنه قلما تكون صورته الحقيقية مساوية لصورته الخيالية، خصوصا إذا كان المتصور شديد الخيال. وأشد الناس خيالا، وأرقاهم تصورا، وأسلمهم ذوقا من لا يرى في صور الموجودات، مهما كانت عظيمة ونفيسة، صورة تفوق أو تساوي صورتها التي ارتسمت في خياله قبل أن يراها.

وفي الحقيقة إن جمال الحدث لا يظهر للداخل إليها لأول مرة، بل تجب الإقامة فيها يومين أو ثلاثة لإدراك محاسنها؛ فهي قرية صغيرة قائمة على قمة أكمة في جبة بشري، مطلقة للهواء والنور من جهاتها الأربع، فيظهر أن الذين بنوها لم يرهبوا الزوابع والرياح والثلوج في تلك الأعالي؛ ولذلك لم يخفوا قريتهم في ظل أكمة مرتفعة كقرية قنات القريبة منها إلى الجنوب الغربي، ولا بنوها في سفح جبل كأهدن التي تقابلها في الشمال، ولا في قلب واد كحصرون في الشرق، بل هم قصدوا بها - على ما يظهر - مصادمة تلك العناصر الطبيعية في تلك الأعالي التي يعممها الثلج ويغطيها الضباب نصف سنة تقريبا. وهذا ما جعل هواءها أجود الأهوية وأجفها، واجتذب إليها المرضى للاستشفاء، فصاروا يفضلونها على سواها.

ولما دخل سليم وكليم إلى القرية كان أهلها في هياج واضطراب، وبعضهم يتراكضون إلى منزل قائم فوق حرج صغير بجانب القرية إلى الجنوب الغربي، فقال كليم: يا جرجس، استخبر لنا الخبر. فسأل جرجس أحد الأهالي فأخبره أن بعض الأميركان يرومون استئجار بيت في القرية، ولكن في الأهالي فريقا لا يريد تأجيرهم؛ لأنهم بروتستنت يحثون الناس على ترك مذهبهم الماروني إلى المذهب البروتستنتي. فضحك سليم لما علم بسبب هذا الاضطراب وقال لرفيقه: إن هذه الخلافات في المذاهب والأديان تتبعنا إلى أقاصي البلدان، ثم سأل سليم جرجس: ما رأيك يا جرجس في هذا؟ هل يجوز لهم ذلك أم لا يجوز ؟

فأجاب جرجس: الحق أقول لك يا معلمي، إن الأهالي لا يريدون تغيير مذهبهم الذي ربي عليه آباؤهم وأجدادهم، وهم يفدونه بدمائهم، سواء كانوا في الكورة بناحيتنا أو في الجبة بهذه الجهات، فأجاب سليم مازحا: ولكن لماذا لا تصنعون أنتم في نواحي الكورة ما يصنعه أهل الجبة من طرد الأميركان، فإنكم قبلتموهم وقد فتحوا عندكم بضع مدارس؟ فاحتار جرجس في الجواب، ثم قال: أهل الكورة روم يا معلمي، وأهل الجبة موارنة. فضحك سليم وكليم لأنهما أدركا معنى كلام جرجس، وقال سليم: أنا ماروني يا جرجس، وكن على ثقة أنني أكره الإساءة حتى للمجوس، ولكنك قد جهلت السبب الحقيقي، فاعلم أن لذلك أربعة أسباب؛ الأول: أن أهل الجبة أحرص من أهل الكورة على استقلالهم، وأرسخ منهم قدما في الدفاع عن حريتهم، وما برح أهل الجبال أشد استمساكا بحريتهم المطلقة من أهل السهول، وهم يعتبرون مذهبهم الديني من جملة عواملهم وحاجاتهم الوطنية، والثاني: أن لرجال الدين عليهم سلطة عظمى، خلافا لرجال الدين في الكورة؛ وذلك لما للهيئة البطريركية الدينية من النفوذ الخصوصي في سياسة الجبل، والثالث: أن فرنسا التي تحمي هذه السلطة الدينية يطيب لها أن تبعد ما أمكنها كل أجنبي يروم مخالطة الأهالي واستمالتهم، وعلى الخصوص البعثات الدينية غير الفرنسوية، والرابع: أن الكورة تابعة لأسقفية طرابلس دينيا، والروم والأميركان في طرابلس على شيء من الاتفاق، فكيف يستطيع أهل الكورة أن يعاندوا الأميركان ما دامت هيئتهم الدينية في طرابلس مسالمة لهم؟ فقال كليم حينئذ وقد ضجر من هذا الكلام: لله ما أصبرك على البحث في هذه الهنات!

وفي هذا الحين وصل الجوادان إلى المنزل الذي كانا يقصدانه في القرية، وهو أعلى المنازل في الجنوب وآخرها، وكان أهل المنزل في النوافذ ينتظرون الضيفين ويشاهدون اضطراب الأهالي وصياحهم حول المنزل الذي تقدم ذكره.

وكانت العائلة المصيفة في هذا المنزل عائلة صديق لسليم وكليم يدعى: الخواجة أمين، وكان مريضا، وهي مؤلفة من: أمين المريض، وأب له في السبعين من العمر، وأم في نحو الستين. وكان أمين مريضا بعلة الصدر المشهورة التي كثرت في سوريا ولبنان في هذا الزمان، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر انقضى عليه ثلاث سنوات بهذه العلة، فلم ينجع بها دواء، ولم يبق لها علاج عند الأطباء غير الإقامة في الهواء النقي الجاف في أعالي الجبال.

وكان أمين وحيد والديه الشيخين وقبلة آمالهما، ولكن المرض لا يعرف رحمة ولا يرعى حرمة، وكان أبواه في يأس شديد من حالته، يبكيان الليل والنهار على وحيدهما الشاب الذاهب عنهما، تاركا إياهما في آخر العمر فريدين وحيدين في هذه الحياة، إلا أنهما مع حزنهما المتصل في السر كانا يظهران أمام المريض كل سرور وبشاشة، وكذلك كان المريض أمامهما، فإنه كان عالما بعلته التي كانت تجره إلى الموت شيئا فشيئا، ولكنه كان يحتملها بلا ضجر ولا شكوى؛ لئلا يزيد في عذاب الشيخين اللذين كانا يعتنيان به، ولم ير أحد قط صبرا على مرض كصبر هذا المريض الكريم وممرضيه الشيخين.

ولما دخل سليم وكليم عليه كان أمين ممددا في سريره لا يقوى على النهوض، فابتسم لهما مسلما، أما هما فلم يقنعا بهذا الابتسام، بل تقدما منه ليصافحاه بهز اليد، فلما رآهما يمدان يديهما نحوه سحب يده وأخفاها تحت اللحاف، وقال لهما بدمع في عينيه: لا تتعباني بالسلام عليكما، فإنني في غاية الضعف. فنفرت الدموع حالا إلى عيني سليم وكليم؛ لعلمهما أن ذلك المريض العزيز لم يخف يده إلا فرارا من أن يعديهما من دائه. فيا أيها المرضى الذين يشكون من فرار الناس منهم خوفا من العدوى، ويا أيها المصابون بأمراض مزمنة يقضون أوقاتهم بالتضجر والتألم والتحسر، تعلموا هذا الشعور اللطيف والصبر الجميل من هذا المريض الكريم.

وما جلس كليم وسليم يستريحان بعد تعب الطريق حتى اشتدت الضوضاء في القرية وعلا الصياح، فهرعا كلاهما إلى النافذة وأطلا منها، ثم قال كليم لأمين: لم نفهم جيدا سبب هذا الاضطراب. وإذا بصاحب المنزل داخل، فسأله أمين: كيف انتهت المسألة يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: حقا إنهم تجاوزوا الحدود، وقد عزمت أن أذهب وأدعو أولئك الضيوف إلى منزلي هذا وأدعهم يقيمون في الجانب الآخر، فما قولكم؟ فقال له أمين: أحسنت يا أبا مرعب، وهكذا فلتكن الشهامة، فقال: ولكنني أريد ترجمانا بيني وبين الخواجات. فهب سليم وكليم وقالا: نحن نرافقك.

وبعد خمس دقائق وصل أبو مرعب مع سليم وكليم إلى المنزل الذي كان النزاع عليه، فوجدوا حوله نحو عشرين رجلا من أهل القرية وبضع نساء وعدة أولاد، وأمام المنزل ثلاثة بغال عليها حوائج السفر، وبجانبها ثلاثة من الأميركان وترجمان وخادم.

وكان أبو مرعب في نحو الخمسين من العمر، وهو رجل كبير الجسم، كثير السمن، قوي العزم، لا يهاب الموت إذا تمثل له في شخص إنسان، وكان مشهورا عنه أنه حارب مع يوسف بك كرم، وكان من أشد أعوانه، حتى إن يوسف بك سماه «كلة مدفع»؛ إشارة إلى استدارة جسمه وقوته. فلما وصل أبو مرعب إلى المتجمهرين دخل بينهم مع رفيقيه، واستفهم منهم عن سبب الاضطراب والصياح، فعلم منهم أن ذلك الجمهور كان مقسوما قسمين: ففريق كان يقول ليس من آداب الضيافة أن نمنع الأجانب من الإقامة في قريتنا، وإلا سبنا الناس حتى أهل القرى المجاورة. وكان في هذا الفريق صاحب المنزل نفسه. وفريق آخر كان يقول: نحن لا نبعد هؤلاء الضيوف لأنهم بروتستنت فقط؛ بل لأن فيهم رجلا مسلولا؛ إذ نخاف على قريتنا من العدوى.

فرفع حينئذ أبو مرعب صوته وقال مخاطبا الفريق الذي كان يقاوم: يا شباب، هل هذا المنزل منزلكم؟ فأجابوا: كلا! فقال: وهل لصاحبه الحق في إقفاله أو هدمه أو تلعيب القرود فيه أم لا؟ فأجاب أحدهم وكان أجرأهم: نعم له الحق في ذلك، ولكن ليس له الحق في أن يضع فيه شيئا يضر بأهل القرية كلهم، فقال أبو مرعب وقد بدا الغضب في وجهه: وما هو هذا الشيء يا ابن طنوس؟ فقال: المرض، فصاح به الشهم أبو مرعب: هل أنت بدون دين يا ابن طنوس حتى تضطهد وتطرد المرضى والضعفاء الذين أوصت ديانتنا بمساعدتهم وزيارتهم؟ ولماذا لم تطرد القرية أباك لما مات منذ سنتين بعلة الجذام؟

فسكت ابن طنوس، ولكن شابا بجانبه أجاب: هل الغريب كالقريب يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: عافاك الله يا ابن سركيس، فإنك نطقت بالحق، فأنتم إذا تريدون اضطهاد هؤلاء الضيوف لأنهم أجانب وبروتستنت، لا لحفظ صحة القرية. فأنا أخبركم أنني الآن آخذهم إلى بيتي، وكل من تحدثه نفسه بمنعي؛ فليتبعني.

ثم اندفع أبو مرعب إلى البغال فأخذ بأحدها ومشى في المقدمة يتبعه المسافرون، وبجانبه كليم وسليم يعجبان من كرم أخلاق هذا القروي.

أما المسافرون الأميركان فإنهم كانوا في أثناء ذلك يضحكون، وقد أفهمهم ترجمانهم كل ما جرى، فأجابوا: «يس يس.» أي إنهم رضوا بالإقامة في منزل أبي مرعب، إلا أنهم لم يشكروه على ذلك شكرا خصوصيا؛ لأنهم لم يعرفوا قيمة العمل الذي عمله معهم ذلك الرجل الكريم.

ولما استقر بهم المقام في بيت أبي مرعب، نادى سليم وكليم ترجمانهم، وكان من تراجمة بيروت قدم معهم لهذا الغرض، وبعد أن تعرفوا به سألوه عن رفاقه وقصتهم، فأخبرهم أن هؤلاء الثلاثة الأميركان هم من حواشي أميركي كبير قادم للسياحة في جهات الأرز، فسأله سليم: وما اسمه؟ فأجاب الترجمان: اسمه مستر كلدن، فصاح سليم: مستر كلدن أحد أغنياء أميركا العظام؟ فقال الترجمان: نعم، فإن زوجته مريضة، وقد حضر معها للسياحة في أعالي لبنان، وقد أشار عليهم أطباء بيروت أن يتخذوا الحدث محطة لهم إذا أعجبتهم؛ لأن هواءها أجف الأهوية، ومنها يزورون كل الأماكن الجميلة التي بجوارها. وهذا ما جعلنا نتقدم وننتظرهم.

فقال كليم: إذا لستم مرسلين أميركيين كما ظن أهل القرية. فضحك الترجمان وقال: كلا! فقال كليم: ومن من رفاقك المصاب بداء الصدر؟ فضحك الترجمان أيضا وقال: لا أعرف أحدا مصدورا بينهم، ولكن لون أحدهم ضارب إلى الاصفرار فحسبوه مصابا، أو إنهم ادعوا ذلك تأييدا لحجتهم، فضحك سليم وقال: لا بأس، نحن نحمد هذه الصدفة التي جعلتهم قريبين منا؛ لأننا سنتعرف بالمستر كلدن ولا شك، فقال الترجمان: وهل تحبون التعرف برجال بطانته؟ فأجاب سليم: ذلك ما نتمناه.

وفي المساء زار سليم وكليم المسافرين الأميركان، فأحسنوا استقبالهم وقد سروا لمصادفتهم أديبين مطلعين، يحادثانهم بلغتهم حديثا مفيدا عن المكان والسكان. وفي أثناء الحديث سأل سليم أحدهم: بلغنا من الترجمان أن مسز كلدن مريضة، وهذا سبب سياحتها مع زوجها المكرم، ولكن ما مرضها؟ فضحك المخاطب وأجاب: مرض الوطن. فاستغرب سليم وكليم ذلك، فقال صاحبهما: نعم، أنا أخبركما الآن شيئا جديدا، وهو يسركما ولا شك، فإن مسز كلدن أصلها من بر الشام، ولم تنفك عن الاشتياق إلى وطنها الأول، فجاء بها المستر كلدن في هذا العام لعل صحتها تعود إليها في هذه السياحة التي هي متعبة وإن كانت جميلة. (5) قصة مجنون ليلى

وفي ذلك الليل نام كليم وسليم نوم الهناء بعد تعب السفر، ونهضا في صباح اليوم التالي نشيطين مسرورين، إلا أنهما شعرا قبل شروق الشمس بشيء من البرودة لم يتعوداه في آب لقياسهما الجبل على السهل، لكن لما طلعت الشمس ومازجت ذرات نورها الحار ذرات الهواء البارد شعرا بارتياح شديد لم يشعرا بمثله في حياتهما كلها. ومنذ هذه الساعة بدأت الحدث تكون جميلة في عيونهما.

ولما تعالت الشمس فوق المشرق واشتدت حرارتها قليلا، انتبه أمين من النوم وأوعز إلى أبويه أن يستعدا للذهاب إلى حرج الصنوبر القريب من القرية؛ ليتناولا طعام الصباح هناك مع ضيفيهما. فبعد نصف ساعة سار كليم وسليم نحو الحرج، وركب أمين حمارا؛ لأنه كان عاجزا عن المشي لضعفه، وسار أبواه وراءه، والمسافة بين القرية والحرج نحو أربع أو خمس دقائق. وهذا الحرج قائم بين القرية القديمة وبضعة منازل جديدة بنيت وراءه إلى الجنوب، وهو مغروس فوق أودية مختلفة تنفرج من الحدث إلى السهل، فيرى من ورائه بحر الكورة والبترون وما وراءه من الأفق.

فجلس الرفاق هناك في أجمل مجلس، وتناولوا طعام الصباح، وقد جعل أمين مجلسه بعيدا من مجلس صديقيه، وفصل طعامه عن طعامهما، فكان هذا الشعور اللطيف منه يزيد صديقيه رغبة في محو ذلك الأثر من نفسه، ولكن - وا أسفاه - ما الفائدة من محو ذلك الأثر من النفس ما دام باديا في الوجه؟ فإن أمينا كان في تلك الجمعية التي كانت تتمتع بالصحة والعافية، في ذلك المكان المشرف على مناظر الجبال الجميلة، والمعطر الهواء برائحة الصنوبر الطيبة؛ عبارة عن شبح وخيال، فإن العلة الهائلة أكلت وشربت لحمه ودمه، والهزال أفنى قواه وأخمد نار عينيه، وصبغ وجهه اللطيف بلون الموت، ولم يبق من قوة لتلك الروح الصبورة في ذلك الجسم النحيف، الذي صار كأجسام الأولاد، سوى قوة الابتسام بشفتيه الرقيقتين تحت شاربيه الأشقرين الدقيقين، اللذين صارا لا يظهران كثيرا لامتزاج لونهما بلون الوجه. فبالابتسام فقط كانت تظهر حياة أمين وعواطفه وإرادته، وكان يجود بالابتسام دائما إظهارا للقوة، وإيناسا لجلاسه، فهنا نقول مرة ثانية أيضا: ما رأى الممرضون قط مريضا شجاعا صبورا مثل الفتى أمين. والعجب من نفس قوية صبورة كهذه النفس كيف استطاعت العلة أن تقوى عليها؟!

وكان لا ينغص عيش سليم وكليم شيء في ذلك المكان الجميل سوى هذه الأفكار التي كانت تتردد عليهما. ورغبة في طردها وتسلية المريض، دخلا في الحديث معه، فقال كليم: ألا تذهب معنا إلى الأرز أيها الصديق؟ فضحك أمين وقال: أنت ترى أنني لا أقدر على الركوب من القرية إلى هنا، فقال سليم: لا تبالغ، فإنك بخير - والحمد لله - وإنك تستطيع الذهاب معنا إلى الأرز إذا أردته، ولك علينا إذا سرت معنا أن نريك فرجة لم ترها في حياتك، فقال أمين: وما هي؟ فقال سليم: نريك مجنون ليلى، فقال أمين: ومن هو مجنون ليلى؟ فقال سليم: هو رجل جن من الحب، فصاح أمين: لعلك تريد بهذا الرجل المسيو مخلوف! فدهش سليم وكليم وقالا: هل تعرفه؟ فقال أمين: هذا أمر بسيط؛ فإن كل الناس هنا يعرفونه ويعرفون قصته، فقال سليم: وهل تعرفها بالتفصيل؟ فقال: نعم، ولكن أين شاهدتماه؟

فقص عليه سليم كيف شاهدا مخلوفا في عين السنديانة وما جرى له، وكيف وعدهما بأن يقابلهما في الأرز، فقال أمين: أظن هذا كل ما تعرفانه عنه. أما أنا فإنني أقص عليكما قصته من أولها إلى آخرها كما سمعتها من عارفيه. وإليكما تفصيلها:

إن اسم مخلوف الأصلي يعقوب درمان، وهو شاب أديب من بلدة صور، وكان منذ عشر سنوات مكبا على الدرس استعدادا لفن المحاماة، فبينما كان ذات يوم يطالع بعض دروسه على شاطئ البحر إذا به يسمع صراخا وعويلا، فركض فأبصر خادمة تنادي على سيدة لها بين الأمواج تكاد تغرق، فألقى نفسه حالا بأثوابه في البحر وأنقذ السيدة. وكانت هذه السيدة فتاة في نحو الثامنة عشرة من العمر، وهي كريمة تاجر كبير في صور، وقد رامت الانتحار غرقا لأسباب مجهولة، فلما أنقذها يعقوب أرسلها إلى بيتها، وكان مغشيا عليها، فكاد أبوها يموت من حزنه، ولكن الحياة عادت إليها. ومنذ ذلك اليوم أحبها يعقوب درمان حبا شديدا يقرب من العبادة، ومالت الفتاة إليه لأنه أنقذ حياتها، لكن الأقدار عاكستهما بعد ذلك، فإن أباها - على ما يقال - توفي في ذلك العام وقد خسر جميع أمواله، وانحطت كرامته بين قومه بعد أن كان عزيزا بينهم، وبذلك بقيت ابنته وحدها؛ إذ لم يكن في البيت غيرها لوفاة أمها. وكان يعقوب درمان فقير الحال أيضا، فرأت الفتاة أنها إذا اقترنت به ازدادت سوء حال على سوء حال. وكانت عزيزة النفس، شديدة الأنفة؛ لأنها نشأت في الترف والغنى والدلال، فكرهت أن تقيم ذليلة فقيرة في بلدة كانت فيها العزيزة المبجلة، فغافلت حبيبها يعقوب وفرت مسافرة مع إحدى البواخر التي تمر على صيدا، وتركت له ورقة تقول له فيها: انسني واسلني بعد الآن. ويظهر أن دماغ يعقوب ضعيف من فطرته، فلم يقو على تحمل الصدمة، فجن من يومها.

فقال سليم: ولكن كيف سافرت الفتاة وحدها إلى بلاد لا تعرفها؟ فأجاب أمين: لا تسل عن ذلك، فإنها نشأت في مدارس الأميركان، وأنت تعلم أنهم يربون البنات في مدارسهم على الجرأة والإقدام والاستقلال، وهو أمر أحيانا يكون نافعا، وأحيانا يكون ضارا.

فضحك كليم وقال: لا ريب أننا إذا رأيناه نحن في هذه الحادثة نافعا، فإن الخواجة مخلوف يراه مضرا جدا ؛ لأنه فقد به حبيبته وعقله.

فقال سليم: ولكن عندي أن الفتاة لم تخطئ؛ إذ لا أصعب من معيشة الإنسان محتاجا إلى الناس في بلدة كان فيها من قبل غنيا عنهم، فإن دناءة الشامتين، ولؤم المنتقمين، ووقاحة حديثي النعمة الذين يحلون محل ذلك الإنسان بعد سقوطه أمور لا تحتملها النفوس.

فقال أمين بهدوء ورزانة: ما للإنسان وكلام الناس، إنما عليه أن يعيش بهدوء مستورا، وإذا كان في الناس قوم أردياء يشمتون وينتقمون، ففيهم قوم طيبون يؤانسون ويعزون، فقد كان على الفتاة أن تبقى ولا تسافر بهذه الصورة الشنيعة.

فقال كليم ضاحكا: لو سمعك مخلوف الآن لأعطاك طربوشه من فرحه.

فقال أمين ضاحكا: وما نفعي منه؟ فإن طربوشه قذر.

فضحك الجميع لهذا الجواب. (6) حديث في حرج صغير

وقد طابت الإقامة لسليم وكليم في هذا الحرج الصغير، فصارا في كل يوم يقصدانه مرة أو مرتين للاستظلال به من حر الشمس، ولكنهما لم يكونا يجلسان في الظل ربع ساعة حتى يبردا، فينهضا إلى الشمس فيسخنا، فينهضا إلى الظل، وهكذا على التتابع، وكانا يصرفان الوقت هناك بالحديث ومطالعة أطايب الكتب.

فبعد أن مضى عليهما بضعة أيام في هذه المعيشة نظرا إلى نفسيهما ذات يوم وهما في ذلك المكان، فإذا بهما قد صار جسماهما ممتلئين قوة وصحة، وتوردت وجناتهما، واكتسيا من هواء الجبال ثوبا زاهيا غطى ثوب الاصفرار والضعف الذي كستهما به المعيشة المدنية. وكانا ينظران إلى نفسيهما في المرآة ولا يصدقان، فالتفت سليم إلى كليم وقال: إن الذين يعيشون في السهول والمدن في الشام وغيرها يخطئون أشد خطأ إذا كانوا لا يصعدون مرة في العام إلى جبال كهذه الجبال لتجديد قواهم ودمائهم، فأجاب كليم: أنا موافق على رأيك بعد ما شاهدته في صحتي من التحسن، تالله إنني أحسب نفسي كنت ميتا وبعثت، فإنني آكل ولا أشبع، وأشرب ولا أروى، وأمشي ولا أتعب، وأحيانا أخشى لنشاطي وخفة جسمي أن أطير في الهواء، فضحك سليم وقال: ما رأيك بأصحابنا في الشام وفي مصر الذين يقصدون جبال سويسرة وبلاد أوروبا في الصيف، ويتركون هذه الجبال التي فيها المعيشة أرخص ما يكون؟ فقال كليم: من جهل شيئا لم يحفل به، فهم يجهلون فضائل هذه الجبال. هذا عدا أن طريقها وعرة.

وفي هذا الحين وصل إلى الحرج شابان، فصاح كليم بهما: أهلا بالخواجة فاضل والخواجة حنانيا. ثم جلس الشابان بإزاء رفيقيهما، وأخذا في الحديث معهما، وكانا من رفاق كليم وأبناء وطنه، وهما مصيفان في القرية.

وكان حنانيا شابا تدل هيئته على «البساطة»، ولكن في الزوايا خبايا، وكان بلحية ضاربة إلى الشقرة، وهو كثير التنحنح كلما فاه بعبارة. وكان رفيقه فاضل يكثر من ممازحته ومداعبته، وكذلك كليم، وقد كان حنانيا يسر بهذه المداعبة على ما يظهر؛ لأنه لم يكن يستاء منها ولو جرحته أحيانا. وكثيرون - وفي جملتهم المؤلف - كانوا يعتبرون أن هذا الأمر ناشئ بالأكثر عن «طيبة» قلبه.

أما فاضل فقد كان شابا هادئا يحب الجد كما يحب المزاح، وقد كان في عينيه ما يدل على صفاء قلبه، وفي أساليبه وكلامه وسكوته ما يدل على أنه ربي في عائلة ذات نعمة، وكان من المشهور عنه أنه شديد الإخلاص والرغبة في نفع غيره، فلم يكن أحد يسأله شيئا في طاقته ويقعد عنه.

ولما دار الحديث بين الرفاق الأربعة، قال فاضل: إن رفيقنا حنانيا قد ابتاع اليوم كرما، فقال سليم: وكيف ذلك؟ فقال فاضل: جرت عادته أنه كلما رام أن يأكل عنبا يقصد هذه الكروم الممتدة أمامنا من القرية إلى حرج الأرز الصغير المشرف عليها، وكلما شاهد عنقودا جميلا جلس كالثعلب بجانبه وتناول منه أنضج حبوبه وأكبرها، ولا يزال يفعل ذلك حتى يشبع. ففي هذا الصباح بينما كان «يفطر» بهذه الطريقة نظره ناطور الكرم، فصاح به وأسرع إليه، فأجابه صاحبنا بكل برودة قلب: ماذا تريد؟ فقال له الناطور: اخرج من الكرم، فقال له بغضب: ولماذا؟ هل هو كرمك؟ قال: بلا شك، فقال له صاحبنا: أرني الحجة التي بيدك لأتحقق ذلك. ولعمري إن هذه خير الطرق للشبع من العنب بدون دفع بارة واحدة.

فقال كليم: إذا لا يظلم أهل القرية كثيرا ضيوفهم بمعاندتهم والرغبة في التخلص منهم إذا كانوا كلهم على نسق صاحبنا حنانيا.

فقال حنانيا: أنا لست سلا ولا بروتستنت ليستطيعوا طردي، فإنني قاعد هنا على صدورهم إلى أن يحلو لي السفر، ثم فلنترك الآن المزاح. هل بلغكم عزم أهل القرية على التجمهر لإخراج المرضى من قريتهم؟

فقال سليم: وما قولكم في قصدهم هذا؟ ألا ترون فيه شيئا من الحق؟

فأجاب فاضل بحدة: عفوا عفوا، إن لأهل القرية الحق في إبعاد المرضى عنهم، كما أن للمرضى، وخصوصا المصدورين، الحق في اختيار الحدث للإقامة فيها؛ لأن هواءها أجف الأهوية، والأطباء يأمرونهم بأن يسكنوها، ومن الخشونة والهمجية أن يداس حق الضعفاء إرضاء للأقوياء.

فقال سليم: فما الحيلة لإرضاء الفريقين؟ أليس هناك يا ترى طريقة جامعة؟

فقال فاضل: كنت أفكر منذ مدة في هذا الأمر حين سماعي ذلك الخبر، فحللت هذه المشكلة؛ وذلك أن يبنى فوق القرية تحت الأرزات التي هناك «مستشفى للمرضى»، مؤلف من عشرين أو ثلاثين غرفة جامعة لكل الشروط الصحية، على نسق المستشفيات الصحية للمسلولين في أوروبا «سانتوريوم». وحينئذ يجتمع المرضى من تلقاء أنفسهم في هذا المستشفى بدل أن ينتشروا في منازل القرية ويخاصموا الأهالي لاستئجارها.

فقال كليم: لقد أصبت، فإن هذا خير حل. وحينئذ يكون من حق الأهالي إجبار المرضى على الانفراد بذلك المستشفى، وإلا فكل مقاومة منهم تعد خشونة وقسوة؛ إذ الأرض ليست أرضهم، ولا الهواء هواءهم، بل هما لله؛ أي إنهما مشتركان بين جميع البشر، وإذا لم يقم أحد لبناء هذا المكان الصحي؛ فإنني أؤكد أن الحدث لا يقصدها في المستقبل غير المرضى، فتخسر خسارة غير قليلة.

فقال سليم: نعم، إن السل آفة هائلة، والناس يرهبونه كما يرهبون نيران جهنم.

فقال حنانيا: ولكن من أين تنشأ هذه الآفة المهلكة التي كثرت في بلادنا؟ ثم أليس من دواء لها؟

فقال سليم: لقد اطلعت منذ أسبوعين على آخر الأبحاث والآراء في هذه الآفة، ومنها يظهر أن السل يصاب به نصف البشر على الأقل، فبعضهم يشفى منه دون أن يدري به، وبعضهم يموت؛ ولذلك سموه «داء الإنسانية». وفي فرنسا وحدها فقط يموت به في كل عام 150 ألف شخص. أما سبب هذه الآفة فهو الإفراط في كل شيء: الإفراط في السكر، الإفراط في الزواج، الإفراط في التعب والهم، الإفراط في السهر، وسوء المعيشة، وقلة الغذاء، وفساد الهواء إلخ ... ويقولون إنه ينتقل بالوراثة. وهذا رأي ضعيف؛ إذ جل ما تفعله الوراثة إعطاء الولد بنية ضعيفة، فإذا كان الأهل حكماء استطاعوا تقويتها وأنقذوا الولد، وإلا سقط، فسقوطه إذا يكون لا من وراثته داء السل، بل من وراثته ضعف البنية. وكأن آفة السل تمثال أسود للشقاء والعذاب منصوب في ساحة تؤدي إليها كل طرق الشقاء والغلو والإفراط والفساد.

أما دواء هذا الداء فبسيط جدا، وأنا أحب أن ينادى على السطوح على مسمع من جميع المرضى المساكين أن داءهم قابل للشفاء خلافا لما بلغهم، بل إن شفاءه أسهل من شفاء الحمى التيفوئيدية والجدري وغيرهما، لكن على شرط أن يتدارك من أول ظهوره، فقولوا للمرضى به: لا تحزنوا ولا تخافوا؛ إن داءكم بسيط إذا أحسنتم مداواته، ولكن إذا أهملتموه قضي عليكم لا محالة، وإن قيل: كيف تحسن مداواته؟ فالجواب: لا دواء له غير شيء واحد؛ وهو: الهواء النقي والغذاء الكافي. أما ما يقال عن العلاجات والأدوية، فهو كله تدجيل في تدجيل. وكثيرا ما تناول المصدورون أدوية فنفعتهم شهرا أو شهرين ثم انتكسوا بعد ذلك من فعل تلك الأدوية، وانتهى أجلهم؛ فترك الدواء إذا هو كل الدواء، ومعرفة وقت ابتداء الداء هي السر الوحيد في الشفاء. ولا ينبغي للمسلول أن ييأس من شفائه أبدا؛ فإن بعض الأطباء داوى بعض المرضى بالسل عشرين سنة، وكانوا ينفثون الدم مع البلغم، ومع ذلك رزقوا أولادا وعاشوا عمرا طويلا. ولكن المسلول العازب عليه ألا يتزوج، وإن تزوج ولم يكن حكيما غلبه داؤه. أما النساء المسلولات فالحبل فقط يضرهن ضررا شديدا، ويغلب داءهن عليهن. ومن ذلك كله يظهر أن الاعتدال وحسن المعيشة في الهواء النقي الجاف في الجبال، مع قليل من الرياضة الخفيفة؛ هي الدواء الوحيد الشافي من هذا الداء.

وما أتى سليم على هذا الكلام حتى نظر أبو مرعب راكضا نحو الحرج ينهب الأرض نهبا، فاشرأبت إليه الأعناق وقال كليم: خير إن شاء الله! ما وراء أبي مرعب؟ ولما وصل أبو مرعب صاح وهو يلهث تعبا: هل بلغكم الخبر؟ فقالوا: ماذا؟ فقال: قد وجدنا كنزا، فقال كليم: وما هذا الكنز؟ فقال أبو مرعب لاهثا: كنز! كنز عظيم! فقال كليم: فأخبرنا ما هذا الكنز؟ فجلس أبو مرعب وقص عليهم ما يلي:

كنت الآن هناك مع ترجمان الجماعة، وإذ كنت أسأله عن المستر كدن ... نكدن ... كيف يلفظ اسمه؟ فأجاب كليم: «كلدن»، فأجابني الترجمان أنه غني عظيم تقدر ثروته بخمسين مليون ليرة، وإذ كنت أسأله عن أخلاقه وصفاته أخبرني خبرا غريبا، فقد قال لي إن هذا الرجل يخرج في السنة مرة من بيته في شيكاغو إلى المدينة وجيوبه ممتلئة بأوراق البنك، ولا يزال يوزع منها على الذين يجدهم في طريقه حتى تنفد، فربما وزع مليون فرنك في ذلك النهار؛ ولذلك يسميه الناس نهار كدن ... نكدن ... كيف اسمه؟ فقال سليم ضاحكا: «كلدن»، فقال أبو مرعب: نعم نعم، «نهار كلدن»، وقد أخبرني الترجمان أن الذي ابتكر هذه الطريقة وحثه عليها شاب مستخدم في محله يدعى «المستر كرنيجي»، وكثيرا ما يرافقه في ذلك النهار. فما قولكم إذا جاء صاحب الملايين غدا وعلم أنني أنقذت رجال حاشيته؟ ألا يفتح يده ويرينا جوده وكرمه؟

فضحك الحاضرون، وقال سليم: أشير عليك يا عمي أبا مرعب أن تطلب منه أن يصنع «نهار كلدن» مرة في الحدث، فقال أبو مرعب: والله هذا رأي في غاية الصواب، وسنطلب ذلك منه كلنا. ثم نهض أبو مرعب وأسرع ليجتمع ببعض رفاقه من أهل القرية ويتفق معهم على هذا الطلب.

فلما غاب عن أصحابنا التفت كليم إلى حنانيا وقال: ماذا تصنع يا حنانيا إذا صنع المستر كلدن «نهاره» في الحدث؟

فأجاب فاضل عن حنانيا: أعوذ بالله! إن صاحبنا حنانيا يقطع نفسه عشرين قطعة في ذلك اليوم ليصادفه صاحب الملايين عشرين مرة.

وكان حنانيا يضحك في أثناء ذلك وهو ساكت.

ولما عاد الأصحاب الأربعة من الحرج، وجدوا خمسين قرويا جالسين حول أبي مرعب تحت بيته وهم يبحثون في طريقة يقنعون بها المستر كلدن أن يصنع «نهاره» في الحدث، وقد أخذوا منذ تلك الساعة يلاطفون رجال حاشيته ويكرمونهم أحسن إكرام. وما برحت المصالح تغير قلوب الناس في كل زمان ومكان. (7) لا تريد المرور على بيروت

وفي هذه الأثناء كان المستر كلدن وزوجته وابنتان لهما وحاشيتهما الكثيرة صاعدين عند دير حنطورة في الطريق الموصلة إلى عين السنديانة.

وكانت الابنتان في مقدمة الركب، وكل واحدة منهما على جواد، ووراءهما أمهما على جواد أيضا، يليها الأب على فرسه وبجانبه وكيل أشغاله، ووراءهم الحاشية والخيام والبغال تحمل الأثقال.

وكان المستر كلدن كهلا في الخمسين من العمر، وهو جميل الوجه، طويل القامة، أحمر اللون، أشقر الشعر، متقد العينين بالذكاء الأميركي المعروف، وفي كل حركة من حركاته وكل كلمة من كلماته شيء يدل على النشاط والحدة.

أما زوجته فقد كانت في نحو الثلاثين، وكانت بيضاء الوجه كالثلج المعمم قمم لبنان، سوداء الشعر والعينين، رشيقة القوام كغصن البان، خفيفة الحركة فوق جوادها الرشيق كأنها غزال على غزال.

فكان هذا الزوج وزوجته يمثلان ضربي الحسن في العالم: الحسن الأميركي الأشقر، والحسن الشرقي الجامع بين اللون الأبيض الناصع واللون الأسود الفاحم.

والغريب أن ابنتيهما جاءتا واحدة على شكل أمها، وواحدة على شكل أبيها، وكانت إحداهما في التاسعة من العمر، والأخرى في السابعة، وكانتا ثابتتين على ظهر جواديهما ثبات الفوارس. ولا عجب في ذلك؛ لأنهما ربيتا تربية أميركية.

ولما حاذى الركب دير حنطورة كان المستر كلدن في حديث مع امرأته وقد تنحى عنه وكيل أشغاله، وكان يقول لها: لماذا تكرهين بيروت يا إميليا إلى هذا الحد؟ حقا إنني صرت أخجل من قومي فيها لعدم استقبالنا إياهم، فأجابت زوجته والحزن باد في وجهها: حقا إنني ندمت يا جورج على سياحتنا هذه. فقهقه المستر كلدن وقال: كيف تندمين الآن بعد أن بكيت سنتين على هذه الزيارة، وفي كل يوم كنت تتنهدين وتقولين: هل أرى بلادي مرة قبل أن أموت؟ فقالت إميليا والدموع في عينيها: لا تمزح يا صديقي في مسألة كهذه المسألة، فإن قلبي في غاية الألم. نعم، كنت أشتاق في بلادنا إلى رؤية البلاد التي ربيت فيها، ولكني أول ما وصلت إليها تغير قلبي، فعلمت حينئذ أنه قد كتب لي التعاسة على هذه الأرض؛ فإنني إذا أقمت في بلادنا أميركا شعرت أنني غريبة فيها، وإذا جئت بلادي الأصلية شعرت أيضا أنني غريبة، فشأني شأن طائر نسفت الزوابع عشه، واستأصلت الشجرة التي كان يأوي إليها، فلم يبق له أمل بالراحة وإن وجد عشا أحسن من عشه الأول، وشجرة أفضل من شجرته الأولى. وليس معنى كلامي هذا أنني غير راضية بحالتي الحاضرة؛ فإنني من فضلك ونعمتك في ألف فضل وألف نعمة، ولكن ماضي شديد الضغط على نفسي.

وهنا انحدرت الدموع من عيني إميليا، فصاحت بها ابنتها الأولى: عدنا إلى البكاء يا ماما! إذا لم تسكتي فإنني أبكي أيضا، وقال لها زوجها: الحق أقول لك يا عزيزتي، إنني لا أعرف سببا لهذا الحزن واليأس، فإنك تعلمين أننا صنعنا كل ما في إمكاننا فلم نعثر على أثر لأبيك، وقد عرضت عليك ألف مرة أن ننتقم من أعدائه فكان جوابك: ما الفائدة من الانتقام؟

فهنا أغرقت إميليا في البكاء وقالت: نعم، ما الفائدة من الانتقام؟ فإنه لا يرد لي أبي، ولو عثرت على أبي فربما كنت طاوعتك على الانتقام إرضاء له؛ لأنه تعذب كثيرا في أثناء حياته، ومن العدل أن يعذب معذبوه، وإن كنت لا أحب عدلا كهذا العدل، ولكن ماذا كان جواب الباحثين عنه في جهات البرازيل؟

قال: لم يجدوا له أثرا، وأنت تعلمين أنني نشرت منشورا في جميع أقطار الأرض في الشام ومصر وأوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا، ووعدت بدفع مليون فرنك جائرة للذي يجد «الخواجة متى حاروم» ويدلنا عليه. وها قد مر على هذا المنشور سنوات وألوف من الناس يبحثون عبثا ؛ طمعا في الجائزة. فاعتقدي يا حبيبتي بعد الآن أن أباك الكريم قد توفي إلى رحمة الله وسبقنا إلى الآخرة؛ لأنه من المحال أن يكون حيا ولا نعثر عليه بعد كل هذا التفتيش، ولا تنسي أننا كلنا ضيوف في هذه الأرض، وأن وطننا الحقيقي فوق؛ فتعزي ولا تحزني حزن الذين لا رجاء لهم.

فأطرقت إميليا برهة تبكي بسكوت، ثم قالت: ليس بكائي للموت، بل للغلطة العظيمة التي ارتكبتها، وهذا ما يعذبني ويضغط على نفسي وضميري، فإنني تركت أبي في أشد الأوقات عليه، حين تخلت عنه الأرض والسماء، وابتعد عنه الأقربون والأبعدون، فكنت أقساهم عليه وأجحدهم لجميله؛ لأنني كنت أقربهم إليه. وإنني أخشى أن يكون قد مات في الشيخوخة والضعف والفقر والوحدة وهو يلعنني.

فهنا رام كلدن أن يصرف فكر زوجته عن هذه التذكارات المحزنة، فقال ضاحكا: أما أنا فلا أعتبر سفرك من بلادك إلى أميركا غلطة يا إميليا؛ لأنني لولا هذا السفر لما التقيت بك واقتنصتك، فأنا أشكرك لتلك الحدة التي حملتك على السفر. ولا يزال يحلو لي أن أتذكر معك اليوم الذي لقيتك فيه في واشنطون، فقالت إميليا مبتسمة: دعنا من هذه الذكرى، فقال: لا، بل دعيني أتكلم بحياتك؛ فقد خرجت في ذلك اليوم لأعمل «نهار كلدن» ومعي المستر كرنيجي كاتم أسراري، فبعد أن ذهب نصف ما في جيوبي من الأوراق وصلت إلى الساحة القريبة من دار الحكومة، فوجدتك سائرة في طريقك مع إحدى بنات جنسك، فمددت يدي إليك بورقة قيمتها خمسمائة دولار، وقد فعلت في عيناك ما لا يفعله السحر؛ ذلك أنكم أنتم - الشرقيين - لا تعرفون مبلغ التأثير الذي يؤثره فينا الجمال الشرقي الخاص بكم، فكان جوابك أنك رفعت يدك ولطمتني على وجهي لطمة أرتني «نجوم الظهر»، كما يقولون في لغتك؛ لأنك ظننت أنني رجل بذيء يقصد إغواءك بماله، فكبر قدرك منذ ذلك الحين في عيني، وأريتني بهذا الفعل جمالك الأدبي بعد أن رأيت في وجهك جمالك الأنثوي، وأنت تعرفين التتمة. فبالله أخبريني كيف اجترأت على لطم رجل قوي مثلي قادر على سحقك بقبضة واحدة.

فقالت إميليا: تعلمت ذلك من معلمتي في المدرسة، فإنها قصت علينا يوما أن أحد الوقحين عرض عليها في سوق نيويورك مالا، فجاوبته بلطمة على وجهه؛ ففر كالهر المطرود، فقال كلدن حينئذ رافعا رأسه افتخارا: هل من ينكر بعد هذا فضل مدارسنا في الشرق؟

وقد سر المستر كلدن من أجوبة زوجته؛ لأنه قدر بذلك على صرف أفكارها عن موضوعها الأول، ولم يعد يسألها لماذا تكره الإقامة في بيروت والسفر إلى صور وصيدا. (8) الفلسفة والمكاري بطرس

وبينما كان كلدن وزوجته صاعدين مع حاشيتهما إلى الحدث، كان سليم وكليم يتأهبان للسفر منها إلى الأرز؛ لأن أصدقاءهما في أهدن سافروا إلى الأرز وبعثوا يستعجلونهما، فقال كليم لرفيقه: سنتعرف بالمستر كلدن في الأرز؛ فهلم بنا نسافر لأن الإقامة هناك تحت ظل الأرز العظيم أفضل من الإقامة هنا.

ولما دخل كليم وسليم لتوديع صديقهما أمين ظهر الحزن في وجهه، وكان قد ازداد ضعفا وهزالا، فودعهما وهو يقول: أظن هذا الوداع هو الوداع الأخير، فقال كليم متأثرا: لم نعهد قلبك ضعيفا أيها الصديق، فعلام الخوف وأنت متقدم إلى الصحة - إن شاء الله؟ فهز أمين رأسه وقال: هل تظن أنني أخاف الموت؟ كلا! فإن الموت راحة لمن كان مثلي، وإنما أتأسف لأمر واحد.

قال ذلك وانحدرت الدموع من عينيه.

فترقرق الدمع في عيني سليم وكليم، وقال كليم: ما هو هذا الشيء؟ فقال أمين: هو أن أخرج من هذه الحياة قبل أن أنتقم من الظالمين.

ففهم كليم مراد أمين في الحال وأجابه: كن على ثقة - أيها الصديق - أنك ستشفى وتنتقم لنفسك؛ فإن الله أعدل من أن يسحق المظلومين ويرفع الظالمين. وإذا افترضنا المحال وقويت عليك علتك لعدم مداراتك نفسك؛ فاعلم أن الظالم سيسقط من نفسه؛ لأن كل ما يبنى على الظلم فهو مهدوم، والبغي مرتعه وخيم.

فهز أمين رأسه وقال: وا أسفاه! إنني لا أرى هذا الأمر واضحا كل الوضوح في الحوادث البشرية. ثم انطرح على فراشه يفكر والدموع ملء عينيه، وكان منظره حينئذ كمنظر جندي سقط قتيلا في ساحة العراك في آخر النهار.

أما سليم وكليم فإنهما ركبا بغلين قويين، وانحدرا من الحدث قاصدين وادي حصرون، وكانا هذه المرة ساكتين يفكران بكلام الصديق أمين، فسأل سليم رفيقه: هل من مانع يمنعك من إطلاعي على مراد أمين بكلامه الأخير؟ فقال كليم: كلا، ولكن ليست هذه القصة جديدة في الأرض، فإنها قصة كل المغلوبين والمقهورين والمظلومين فيها. إنها قصة العراك الأبدي الذي بين الناس، وهو ما يسمونه تنازع البقاء؛ فإن أمينا كان من موظفي الحكومة، وكان محبوبا مسموع الكلمة لذكائه وعقله، وكان على وشك الاقتران بفتاة يحبها، وهي ذات دوطة طائلة، وكان أحد تجاركم في بيروت يطمع في دوطتها ليصلح بها أحوال محله التجاري المتضعضع، فوشى لدى الحكومة سرا بأن أمينا يعاون حزب تركيا الفتاة ويراسله، فعزل وسجن وأهين، ولم يطلق سراحه حتى ظهر مرضه. أما الواشي فلم يتمكن من الاقتران بخطيبته؛ لأنها تركت الاثنين معا.

فقال سليم: ومن هو ذلك الواشي؟ فقال كليم: هو الخواجة لوقا طمعون، فقال سليم: هذا تاجر أصله من صيدا لا من بيروت، وقد سمعت الناس يذمونه كثيرا لسوء أخلاقه.

وكان مع الرفيقين في هذه المرة مكار من الحدث، وهو شاب قوي البنية، ربعة الجسم، يدعى بطرس، فسأل رفيقيه: هل تمرون على الديمان في طريقكم يا خواجات؟ فسأله كليم: هل اليوم غبطة البطريرك في مصيفه هذا؟ فأجاب بطرس: كلا، بل هو غائب، فقال كليم: فلنمض إذا في سبيلنا.

وكانت يومئذ الدار البطريركية في الديمان دارا يدل ظاهرها على البساطة والقدم. أما اليوم فقد أقيم هنالك قصر فخيم على الطراز الحديث للسلطة البطريركية.

وكأن سليما وكليما راما طرد الأفكار السوداء التي كانت تتردد على ذهنيهما من كلام أمين ووداعه، فقال الثاني للأول: لقد سلانا المكاري جرجس قليلا من قلحات إلى الحدث، فبماذا يسلينا بطرس؟ فقال سليم: اسمع. ثم التفت إلى بطرس وقال له: يا بطرس، لماذا تنادينا خواجات؟ فأجاب بطرس بوجل: إذا كنتم بكوات يا معلمي فأرجو السماح، فقال سليم : ولا بكوات، بل نحن بشر مثلك، فإذا كنا خواجات فأنت خواجة أيضا؛ لأن كل البشر إخوان. فتنهد بطرس وقال: هذا في القول يا معلمي فقط، وما أبعد القول من الفعل. ألا ترى أنكم راكبون وأنني ماش؟ وهذا أول فرق بيننا. فضحك سليم وكليم، وقال سليم لرفيقه: حقا إن مكارينا نبيه. ثم التفت إليه وقال: ما عنيت هذا بقولي، وإنما عنيت أننا وإياك متساوون لدى الحكومة ولدى الله، وإن كان البشر يعطون بعضنا امتيازات دون بعض، فأنت لست بمديون لي بشيء سوى ما تقبض أجرته مني، وأنا كذلك، فالآن أنا راكب وأنت ماش باختيارك وطوعك حسب الاتفاق الذي عقدناه على أن أعطيك أجرة تعبك، فلست إذا أمتاز عنك بشيء سوى أنني تعبت وحصلت مالا أقدر به على أن أريح نفسي من المشي، وبئست هذه الراحة لأنني أفضل أن أتعب مثلك وأكون بصحة كصحتك.

وكان سليم يتكلم وبطرس يظهر الدهشة والاستغراب، ثم أجاب: حقا قلت الصواب يا معلمي، فصاح سليم: رجعنا إلى «معلمي»؟ أما أنا بشر مثلك؟ بل أنت الآن معلمي؛ لأنك أقوى مني، ونفعتني ببغلك أكثر مما نفعتك، فضحك بطرس وقال: حقا قلت الصواب فيما يختص بالأجرة والركوب، ولكن قولك يا معلمي إننا كلنا متساوون لدى الحكومة والله فيه نظر؛ فإنني أصدق كل شيء إلا هذا. أما المساواة عند الله فلنضعها جانبا؛ لأننا متى وصلنا إلى هناك نبقى نتكلم عنها، وأما المساواة لدى الحكومة فأحب أن تدخل على سعادة القائمقام حين يصيف في الحدث، وترى الناس كيف يجلسون في حضرته، وبعد ذلك تبقى تتكلم عن المساواة لدى الحكومة.

فقال سليم: هذا ليس ببرهان؛ لأن الناس كثيرا ما يسيئون في تنفيذ الشرائع، فلا تلصق الإساءة بالشرائع نفسها بل بمنفذيها.

فقال كليم لرفيقه: لا بأس بهذا الحديث إذا كان لا يحدث منه ضرر، ولكن كنت أتمنى ألا تكون هذه التجربة فينا؛ لئلا نكون أول من يجني ثمارها.

ثم استمر الرفاق الثلاثة سائرين، فقطعوا الديمان، وهبطوا في وادي حصرون، وكان بطرس في أثناء ذلك يفكر في كلام سليم وهو يقول في نفسه: حقا، ما أجهلنا نحن سكان القرى! صحيح، ما الفرق بيننا وبين الخواجات والبكوات والحكام؟ نحن نأكل كما يأكلون، ونشرب كما يشربون، ونمشي كما يمشون، ونفكر كما يفكرون، وندفع ما علينا للحكومة كما يدفعون، فلماذا يكون كل الإكرام لهم، وعلينا الخدمة والطاعة والذل؟ والله لما أعود إلى القرية ويقول لي البك: اعمل هذا أو لا تعمل هذا، فكل جوابي يكون أنني أدير له ظهري، وأهز رأسي، وأمشي في سبيلي.

وفي هذا الحين كان الرفاق الثلاثة قد قطعوا حصرون ووصلوا إلى نبع ماء على الطريق ماؤه كالفضة الجارية صفاء، والثلج الذائب برودة، فصالح سليم: يا بطرس، ناولنا ماء لنشرب. وكان بطرس يفكر - كما تقدم - في عباراته الأخيرة، فكان كل جوابه لسليم أن هز رأسه وأدار ظهره وسار في سبيله.

فقهقه كليم حتى كاد يقع عن ظهر البغل وقال لسليم: تفضل يا صاحبنا وانظر نتيجة مبادئك.

أما سليم فإنه غضب وصاح ببطرس: قلت لك ناولني ماء لأشرب، فأجاب بطرس: ولماذا لا تشرب أنت؟ فقال: لأن كأس الماء بعيدة ولا أستطيع الدنو من النبع وأنا راكب، فقال بطرس: هذا أمر سهل، فانزل واشرب، فقال سليم: أنا لا أمزح، وأسألك للمرة الأخيرة، أتناولني الماء أم لا؟ فقال بطرس: وأنا لا أمزح؛ لأن مناولتك الماء لم تدخل في الاتفاق الذي ذكرته، فإذا شئت الشرب فانزل واشرب.

وكان كليم في أثناء ذلك لا يزال يضحك، فرغبة في إنهاء هذه المسألة قال لبطرس: طيب هذا الأمر لم يدخل في الاتفاق كما ذكرت، فناولنا الماء ونحن في مقابلة ذلك نسقيك خمسينية من عرق بشري.

فضحك بطرس حينئذ وقال: الآن تم الاتفاق. ثم دنا وناولهما الماء.

وبعد الشرب قال كليم لرفيقه وهما سائران: أرأيت نتيجة الحرية والاستقلال والمساواة والإخاء إذا بذرت بذورها قبل أوانها بين طبقات لم تستعد لها؟

فأجاب سليم: ولكن مع غضبي من صنعه أفضل هذه الحرية التي هي في غير محلها على العبودية والذل والموت المعنوي، ولولا أنني كنت شديد الظمأ وغلبني غضبي لما لمته، بل كنت أقول له: برافو يا خواجة بطرس، فإن أمثولتنا أثمرت فيك في ساعة واحدة.

فقال كليم: ولكن هنا مذهبان؛ واحد معك، وواحد عليك.

فقال سليم: ولكن مذهبي هو المذهب الصحيح الأبدي الذي انتصر مع الثورة الفرنسية، هو مذهب الحياة والنور والحرية للطبقات الضعيفة التي تئن تحت نير الطبقات القوية. (9) أرز لبنان

ثم جد الرفاق الثلاثة في السير فبلغوا بشري، فابتاع منها بطرس «خمسينية عرق» على حساب رفيقيه حسب الوعد، ثم تسلقوا منها العقبة المؤدية إلى جبل الأرز العظيم.

ولما قطعوا تلك العقبات الطويلة التي يلي بعضها بعضا، وصعدوا إلى مساواة الحرج، بان لهم الأرز من بعيد، فأشرق وجه سليم وكليم ابتهاجا وسرورا، وصارا ينظران إلى الأرض التي تطؤها حوافر بغليهما نظرهما إلى أشياء مقدسة.

وكان وصول سليم وكليم إلى الأرز عند غروب الشمس، وكانت الطيور تتوافد من جميع الجهات الجرداء إلى أشجار الأرز لتبيت فيها، وكانت الغربان أشدها ظهورا، فكان يسمع صوتها الناعب من حين إلى حين كأنه صوت الزمان ينعي الأجيال والقرون الماضية.

والأرز عبارة عن حرج متسع عظيم قائم على آكام متعددة، يحيط به نصف دائرة من الجبال الشامخة، وأشجاره شديدة الاشتباك، حتى إن الشمس تكاد لا تعرف أرضه. وفي هذه الأشجار ما هو صغير، وفيها ما هو ضخم كبير سامق إلى السماء، ويكاد عشرة رجال لا يحيطون بجذعه إذا مدوا أذرعهم حوله. وهم يقولون إن هذه الأشجار الضخمة الهائلة ترتقي إلى زمن الملك سليمان، الذي بنى منها هيكله المشهور في أورشليم، وزمن أفسس التي بنيت من خشبها بعض أماكنها اليونانية القديمة، ولكن هذا زعم لا يؤيده دليل، بل إن علم النبات ينقضه، إلا أنه من المحتمل أن أولئك المتقدمين قطعوا أخشابا من هذا الحرج، وقامت الأشجار الحاضرة على آثار الأشجار المقطوعة أو أشجار تلتها.

والأرز عبارة عن جذع شامخ يتوارى عنك رأسه في الفضاء لعلوه، ومن هذا الجذع تتفرع أغصان بخط أفقي، ويبلغ طول هذه الأغصان أحيانا عدة أمتار، وهي تحمل أكوازا خضراء حرشفية كرءوس الصنوبر، بعضها ذكور وبعضها إناث، ثم تنقلب عند البلوغ فتصير حمراء، ولها رائحة طيبة ترتاح إليها النفس، فتعطر بطيبها وبنشر أشجارها هواء الأرز النقي، ويكون في عقبها بزرتان لحفظ نوعها متى بلغت وسقطت على الأرض. والأرز عدة فصائل وأنواع، وهو ينمو في جبال سوريا، وجبل حملايا في الهند، وجبل الأطلس في أفريقية، وجبل طورس في آسيا، وفي غيرها من الجبال، ولكن أرز لبنان أشهرها كلها.

والمقرر أن القطع في الحرج ممنوع اليوم قطعيا بأمر من حكومة الجبل، حتى إن الزائر لا يستطيع أن يقصف غصنا ليأخذه تذكارا من الأرز، إلا في السر أو بمبلغ يدفعه إلى الحارس. ولقد أحسنت الحكومة في هذا المنع حفظا لهذا الأثر الجليل. ومما يذكر لها بالشكر أيضا أنها سورت الحرج كله بسور من الحجارة والطين لمنع الدواب من الدخول إليه، ولكنها مع ذلك تدخله. وهذا السور صار اليوم متهدما، وهو لانخفاضه يتسلقه الولد بسهولة؛ لأنه لا يعلو عن متر واحد.

ومن الأسف أن الحكومة لا تزرع في هذا الحرج الكبير أرزا جديدا ليقوم مقام الأرز القديم متى شاخ وانقرض في القرون القادمة، والأشجار التي تنبت من تلقاء نفسها في الحرج قليلة جدا، ولكن في جهات أخرى فوق الحدث في واد إلى الجنوب، وفي أماكن أخرى في أعالي لبنان أحراج واسعة مؤلفة من أرز صغير آخذ في النمو، فلا ريب أنه سيقوم مقام الأرز الكبير في القرون القادمة، وربما وقف سائح بعد 500 أو 800 سنة في الحرج الذي وراء الحدث في الوادي وصار يتساءل ويستنطق التوراة وكتب التاريخ؛ ليعلم هل قطع سليمان الخشب لهيكله من ذلك الحرج أم من سواه؟

وسواء قطع سليمان الخشب من الحرج الكبير أو من سواه؛ فإن السياح الإفرنج من أمراء وعظماء وعلماء يتقاطرون على هذا الحرج ويزورونه باحترام عظيم. والغريب أنهم يفدون لهذا الغرض من أقصى الأقطار، مع أن جيران الأرز في الشام ومصر لا يعرفونه، ورجال الدين منه يصلون هناك بخشوع زائد، ويعتبرون أجر الصلاة فيه مضاعفا، وجميعهم ينقشون أسماءهم أو بعض حروفها على جذوع أشجاره، فغطوا بها كثيرا منها، حتى صدر الأمر بمنع ذلك حفظا للأشجار. والزائر يشاهد إحداها مكشوطة القشرة بفأس أو سكين على قدر شبر أو أكثر وفيها اسم منقوش، فلا نعلم كيف أن ذلك القاسي البارد ناقش هذا الاسم طاوعته يده على طعن تلك الأرزة المقدسة الجميلة هذه الطعنة في صدرها. (10) ليلة باردة تحت أشجاره بلا فراش ولا غطاء

فدخل سليم وكليم إلى دائرة الأرز مشيا على الأقدام، وتبعهما بطرس مع بغليه، فربطهما وراء غرفة صغيرة مبنية على انفراد بإزاء الكنيسة القديمة القائمة في شمالي الأرز.

وقد افتقد سليم وكليم أصحابهما الذين بعثوا في طلبهما، فلم يجدا لهم أثرا، فاستغربا ذلك. وكان في الغرفة - التي أشرنا إليها - عائلة مؤلفة من امرأتين وبضعة أولاد، ولم يكن في الأرز غيرهم، فسألاها فأجابتهما أن قوما كانوا نازلين في الأرز قوضوا خيامهم في ذلك الصباح وساروا في جهة الجنوب ليقيموا هناك يوما أو يومين.

فاستاء الرفيقان من ذلك؛ لأنهما لم يحضرا غطاء ولا فراشا، ولكنهما تذكرا الكنيسة؛ لأن المسافرين ينامون فيها، فقيل لهما إن أمين مفاتيحها غائب، ولا يعود إلا في اليوم التالي.

وكان قد أمسى المساء، وهبط الظلام، وبرد الهواء بردا قارسا، فصار كليم وسليم يضحكان من نفسهما؛ لأنهما سيضطران إلى النوم على أديم الأرض تحت السماء، ولكن جوعهما ذكرهما بالطعام قبل الرقاد، فاختارا أرزة عظيمة قائمة بجانب الغرفة المذكورة إلى الشمال، فبسطا تحت جذعها بساطا كان معهما، وتناولا طعامهما من الخرج وجلسا، فجلس بطرس بجانبهما يأكل معهما، وكانت السيدتان صاحبتي ذوق، فأحضرت إحداهما قشا وحطبا وأشعلته بجانب سليم وكليم؛ لطرد البرد والظلام، وأما بطرس ففي أثناء ذلك كان يقول للسيدتين وفمه ممتلئ بالطعام: «عافاكم، عافاكم.» كأن السيدة صنعت ذلك إكراما له.

ولما حان وقت الرقاد بسط الرفيقان بساطهما بجانب جذع الأرزة؛ ليتقيا به الريح الباردة التي كانت تهب من المشرق واردة من قمم رأس القضيب وفم الميزاب، ووضع كل واحد منهما أحد كيسي الخرج تحت رأسه وأدار ظهره لرفيقه، وتغطيا بغطاء خفيف أحضراه معهما اتفاقا. ويظهر أن غربان الأرز كانت تنظر إليهما حينئذ من أعلى الأشجار؛ لأن اثنين منها أخذا ينعقان، فخيل للرفيقين أن صوتهما عبارة عن قهقهة وضحك من نومهما على هذا الفراش.

ولما درت السيدتان أن الرفيقين سينامان تلك «النومة المكربة»، خرجتا إليهما ودعتاهما إلى النوم في الغرفة؛ خوفا عليهما من البرد، فامتنع سليم وكليم من ذلك تأدبا؛ إذ لم يكن مع السيدتين رجال، ولكن صاحبنا بطرس دب حينئذ في جسمه برد شديد وصار لا يطيق النوم في الخلاء، فقال: أنا أقبل دعوتكما بشكر. ثم حمل غطاءه واتجه نحو الغرفة، فصاح به سليم وكليم: يا بطرس، كيف تترك بغليك خارجا؟ ألا تخاف عليهما من ذئب أو ضبع؟ فأجاب: لا، فإنكما أنتما على مقربة منهما.

فقال سليم حينئذ: كثر الله خيرك! أما كليم فإنه كان يقهقه ويقول لرفيقه: ضبط إذا كنت تقدر على مبادئ الديمقراطية التي تدعو إليها.

وهكذا نام بطرس في الغرفة مع السيدتين، وبقي سليم وكليم في البرد والظلام يحرسان نفسيهما والبغلين.

وفي الحقيقة إن الرفيقين لم يناما تلك الليلة نوما هنيئا، فكانا كالأسد ينامان بعين ويسهران بعين خوفا من الطوارئ، وكان ذلك السكون التام في هدوء الليل وسط جبال شاهقة وأحراج متسعة وجهات مقفرة مما يجعل نفس أقوى الأقوياء في حذر دائم، سواء كان ذلك من اللصوص أو الوحوش.

ويظهر أن خوف سليم وكليم كان في محله، فإنه لم تدخل الساعة الثالثة بعد نصف الليل حتى انتبه سليم على صوت قرقعة، فرفع رأسه قليلا فلم ير شيئا، ولكنه سمع صوتا كصوت كلب يقضم عظمة، ثم تلا ذلك صوت البغلين يرفسان ويجفلان وقد قطعا قيادهما وأخذا يهيمان بين أشجار الأرز، فحينئذ انتبه بطرس وخرج من الغرفة وصاح: ذئب، ذئب! فهب الرفيقان مذعورين؛ إذ لم يكن في يدهما سلاح حتى ولا سكين تجرح، ولكن - من حسن الحظ - كان لدى السيدتين بندقيتان لرجلهما، الذي كان قد سافر بشري في ذلك اليوم، فتسلح سليم وكليم بالبندقيتين، وبذلك عادت إليهما قوة الأبطال.

ولما لم ير للذئب أثر قضى الجماعة بقية الليل في السهر خوفا من غدره، فلم يلبث الصباح أن ذر قرنه، وهبت نسماته أبرد من الثلج، وانتبهت الطيور في أعالي الأشجار تستقبل الفجر بأصواتها المختلفة، فقال سليم لرفيقه: لا أعلم كيف تطلع علينا شمس الغد، فإننا تعبنا وسهرنا ونمنا في البرد. ولكن لما أصبح الصباح، وتعارفت الوجوه، هب سليم وكليم يمشيان بقوة ونشاط فوق العادة، فاستغربا ذلك، وعجبا من جودة ذلك الهواء النقي الخارج من يد الله كما صنعه الله؛ يجدد القوى، ويملأ النفس نشاطا وارتياحا.

وبعد أن غسل الرفيقان وجهيهما بماء يستقى من نبع قريب من الأرز، قال سليم: إن هذا الذئب قد أخافنا في الليل، وأنا من المغرمين بالصيد، فهلم بنا نأخذ البندقيتين وشيئا من الرصاص ونصعد إلى الجبال التي فوقنا، فإننا نصطاد فيها، ونتفرج بمشاهدتها، ونروض أجسامنا باجتيازها، ونتغذى من لبان المواشي التي ترعى فيها، وإذا وجدنا الذئب في طريقنا فالويل له!

فطاوعه كليم على ذلك، فأخذا البندقيتين وسارا وقد تركا بطرس في الأرز في أحسن رفقة على أن يعودا في المساء، وكان اتجاههما إلى جهة الشرق نحو رأس القضيب وراء الأرز؛ وهو جبل مشرف عليه، وعلوه نحو تسعة آلاف متر عن سطح البحر، وهو مقابل لفم الميزاب الذي يعلوه ألف قدم. (11) الوحش! الوحش! الوحش!

ملك رأس القضيب وفم الميزاب

وقطع الرفيقان المسافة بين الأرز وسفح الجبل يصطادان ما يجدانه، فأصابا غرابين وثعلبا، وبينما كانا واقفين على أحد الرعاة يحلب لهما لبنا إذا بالراعي صفر صفيرا شديدا، فهبت كلابه كالبرق الخاطف، ثم أشار الراعي إلى سفح الجبل وقال: أنظرتما ذلك الذئب؟

فأبصر الرفيقان حينئذ شبحا بعيدا هيئته كهيئة الكلب يثب من صخرة إلى صخرة في سفح الجبل.

فشرب سليم وكليم لبن الشاه على عجل ثم اتجها نحو الذئب.

وكانت الشمس قد ظهرت حينئذ من وراء تلك الجبال العالية، فصار الجبل يدخن من تأثير حرارتها، فضحك كليم وقال: اصعد فهذا طور سيناء يعممه الضباب، فقال سليم: لا تشغلنا بالمزاح الآن وإلا فاتنا الذئب. ويظهر أن الذئب قد رآهما؛ لأنه أخذ يعدو عدوا سريعا موغلا في الجبل، فجد سليم وكليم في طلبه وهو تارة يظهر وطورا يغيب، واستمرا على ذلك نحو نصف ساعة حتى كلت قواهما، وكان الذئب يتلفت ثم يجد في العدو فيخيل لهما حين لفتته أنه يضحك منهما ويقول لهما: أراه غباري ثم قال له الحق.

ولكن هذا الطراد لم يستمر وقتا طويلا، فإن الضباب كان قد تكاثف على الجبال المجاورة، وصارت الريح تسفيه نحو سليم وكليم، فلم يمض ربع ساعة حتى أقبل عليهما مسرعا، فقال سليم: هذه مصيبة ما كانت في الحسبان. وفي الحقيقة إنه مصاب ذو شأن، فإن الضباب غطى الجبل وأحاط بهما من كل جانب، فلم يعودا يعرفان الطريق، وكانا قد قطعا ثلثي الجبل والذئب أمامهما، ولا تخلو تلك الأماكن المقفرة من غيره من الوحوش، فصارا يسيران رجوعا على غير هدى، راضيين من الغنيمة بالإياب سالمين من مفاجأة الوحوش والذئاب؛ لأنهما كانا لا ينظران شيئا أبعد من عشرين قدما، فأشبها في هذه الحالة رجلين مكتوفين ملقيين لسباع البر؛ لأن سلاحهما وأيديهما التي كانا يعتمدان عليها لم تعد تجديهما نفعا، وبذلك صارا ضعيفين كطفلين.

وكانا من حين إلى حين يطلقان بندقيتيهما في الفضاء إرهابا وإبعادا للوحوش عنهما.

وبينما هما سائران كعميان يتلمسون الطريق وقد تكاثف الضباب فيها حتى لم يعد يرى أحدهما موضع قدمه، إذ هوت أقدامهما في واد صغير، فسقطا وانطلقت البندقيتان في سقوطهما، ولولا رحمة الله لقتلتاهما، ولكنهما لم يكادا ينهضان مترضضين حتى سمعا طلقا ناريا قريبا منهما في بطن الوادي، وصائحا يصيح بصوت أجش: «الوحش الوحش الوحش!»

فانقطعت حينئذ أنفاسهما وجمدا في مكانهما يتوقعان أمرا جديدا.

فلم يلبث أن لاح لهما من خلال الضباب المتكاثف على قيد ذراعين منهما صورة هائلة.

فإن وحشا هائل الجثة منتصبا على قدميه، مغطى جسمه بالشعر، وله وجه كوجوه البشر حوله شعر كثيف طويل ولحية مخيفة، كان واقفا أمامهما وقفة الأسد ينتظر فريسته.

فكاد دمهما حينئذ يجمد في عروقهما خوفا وجزعا، ومد سليم يده إلى بندقيته، ولكنه ذكر أنها كانت فارغة.

أما ذلك الشخص الهائل فكأنه فهم فكر سليم، فرفع بندقيته في الفضاء كتهديد وإنذار، وصاح بصوته الأجش: الوحش الوحش الوحش!

فعجب حينئذ سليم وكليم من أن ذلك المخلوق الغريب قادر على النطق كالبشر، فرأيا وجوب المجاملة، فأخفيا جزعهما وابتسما، وقال كليم: العوافي يا عم.

فأجاب ذلك المخلوق الهائل: الله يعافيك. ماذا تصنعون هنا؟

فثاب الرشد حينئذ إلى سليم وكليم، وتحركت نفسهما للدخول في الحديث معه، فأجابا: نحن نتصيد، وقد فاجأنا الضباب وأدركنا الجوع، فهل معك طعام؟

فقال الرجل: عندي طعام، ولكن لماذا دخلتم إلى هنا من غير إذن مني؟

فقال سليم: كنا قادمين لاستئذانك، فالحمد لله أننا لقيناك هنا.

فقال الرجل: فإياكم مرة أخرى أن تدخلوا هذا المكان من غير أذني!

فأجاب سليم وكليم: أمرك يا عم.

وفي هذا الحين هبت ريح شديدة من جهة الشرق، فكنست الضباب عن الجبل ودفعته إلى جهة الأرز، فانجلى المكان للأنظار، فوجد سليم وكليم نفسيهما في واد صغير واسع الأديم، وعليه في جانبه العالي كوخ صغير مستور عن الأنظار؛ لأنه على مساواة الجبل.

فمشى الرجل الهائل نحو الكوخ قائلا: تعالوا لأطعمكم.

فخيل لسليم أنه قال: تعالوا لآكلكم؛ لأنه خاف عاقبة السير معه إلى حيث يقصد، وذكر في تلك اللحظة حكايات الغول والجن التي سمعها في صغره من العجائز والشيوخ، وكيف أنها تأكل الناس، فقال لرفيقه مازحا في إبان الخطر إظهارا للقوة: ما جئنا نسمن أجسامنا في الأرز لكي نجعلها طعاما لوحش كهذا الوحش.

وكان الرجل الهائل قد بلغ كوخه في طرف الوادي ودخله، ثم خرج ومعه بيضتان وكسرتا خبز، فوضعها على حجرين بإزاء الكوخ وأومأ إلى الرفيقين قائلا: تعالوا كلوا.

وكان سليم وكليم لا يزالان جامدين في مكانهما يتشاغلان بإصلاح ملابسهما، فلم يريا مناصا من إجابة الرجل إلى دعوته، فتقدما نحو الحجرين بجانب الكوخ وجلسا. أما الرجل فإنه جلس بإزائهما بعيدا عنهما نحو ثلاثة أمتار.

فحدق إليه الرفيقان هذه المرة جيدا، فذهب عنهما حينئذ شيء من الجزع والخوف، فإن ذلك الرجل كان إنسانا لا يختلف عن باقي البشر إلا بكونه يلبس رداء مصنوعا من جلود الغنم إلى ركبتيه، وليس على جسمه لباس غيره، وكان وجهه محاطا بشعر كثيف طويل شاب أكثره، ولكن في عينيه وملامحه دلائل الهدوء والتأمل والانكسار، وما هذه بعلامات الوحوش أو قطاع السبيل، فسكن حينئذ بال الرفيقين، وقال سليم لكليم: هلم ندخل معه في الحديث؛ فإنني أرى لهذا الرجل شأنا يذكر.

فالتفت إليه كليم وقال: هل مضى عليك وقت طويل في هذا المكان يا عم؟

وكان الرجل حينئذ مطرقا إلى الأرض يتأمل ويفكر بما قام في نفسه لدى مشاهدته هؤلاء البشر القادمين من المدن، فرفع رأسه لسؤال كليم وأدار فيه عينين متحمستين وأجاب: أقيم هنا منذ مجيئي إلى هنا، فقال سليم: ومتى جئت إلى هنا؟ فتنهد الرجل وأجاب: من حين تكوين العالم.

فنظر سليم إلى رفيقه بدهشة، فقال الرجل: ما لك لا تصدقني؟ قلت لك إنني هنا من حين تكوين العالم، فإذا كنت نبيها فافهم، وإلا فاسكت وأرحني.

فقال كليم: عفوا يا عم، واسمح لي أن أكلمك بحرية. إننا لما نظرناك أول مرة دهشنا لإقامتك منفردا في هذا المكان. أما الآن فيظهر لنا من كلامك أنك في شأن عظيم، فهل تتكرم علينا وتفيدنا شيئا؟

فلما سمع الشيخ هذا الكلام اللين أطرق إلى الأرض بانكسار، وصار يفكر، ثم رفع رأسه وقال: إنني مسرور من لطفك ولين كلامك، وهذه أول مرة في حياتي أرى فيها رجلا عاقلا، ولكن اعذرني فإن سري هائل.

فازداد سليم وكليم رغبة في الوقوف على خبر هذا الرجل الغريب، فقال سليم: نحن أولادك يا عم، فلا تحذر منا.

فلما سمع الشيخ كلمة «أولادك» أجفل ونهض كأن أفعى لسعته، وبدا الغضب في وجهه فقال: لا، لا، ليس لي أولاد، ولا أريد أن يكون لي أولاد.

فقال كليم لرفيقه: لقد هدمت ما بنيناه. ثم التفت إلى الشيخ وقال: الحق أقوله لك يا عم، إنني لا أستطيع كتمان ما في نفسي، فلا تغضب علينا ودعنا نستفيد منك، إنني أرى في أمرك شيئا مدهشا، ويخيل لي أني أقرؤه في عينيك، فأستحلفك باسم الله ألا تحرمنا من الفائدة.

فلما فاه كليم بكلمة «الله» حنا الشيخ عنقه وجثا على الأرض وعفر خده بالتراب وهو مطبق العينين.

فقال كليم لرفيقه همسا: لقد قبضنا على شيء، ثم قال للشيخ: فالله - سبحانه وتعالى - قد هيأ لنا اليوم فرصة لقياك، ولا ريب أن ذلك بتدبير منه وعناية خصوصية، فهل لك أن تطلعنا على سبب إقامتك هنا إنفاذا لإرادة الله؟

فرفع الشيخ رأسه واستوى جالسا ثم قال: نعم، ربما كان لله إرادة بهذا الأمر، ولا أخفي عليكم أنني في الليالي الأخيرة سمعت مرارا صائحا يصيح: لقد انتهى، لقد انتهى.

أجل يا إخوان، لقد انتهى ملك الشر والظلم والكذب والرياء والاعتداء في العالم الفاسد. إن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تثمر ثمرا صالحا تقطع وتلقى في النار.

انظروا هذه المملكة الواسعة التي أمامنا، هذه هي العالم الحقيقي؛ ولذلك قلت لكم إننا ها هنا منذ تكوين العالم؛ فأنا الآن هنا أكون العالم الحقيقي الذي يسود فيه الخير والصلاح. وقد مرت علي سنوات عديدة أهذبه وأؤدبه، فتم لي ذلك بمعونة الله - تعالى - وإذا فتشتم هذه الأقطار كلها لا تجدون فيها بين سكانها أثرا لفظائع العالم وشروره الهائلة.

فقال سليم همسا: نعم، لا نجد فيه شيئا حتى ولا سكانا، فأجاب كليم همسا أيضا: يظهر أن صاحبنا مجنون.

ثم التفت كليم إلى الشيخ وقال: إنني أعجب يا عم كيف استطعت تهذيب هذه المملكة، مع أن الملوك عجزوا حتى الآن عن تهذيب ممالكهم.

فصاح الشيخ حينئذ بغضب: ويل للملوك، ولترتجف عروشهم من غضب الله، ولو كان أصغر الملوك يصنع بمملكته ما صنعته بمملكتي لما بقي فيها شر، فإنني سألت نفسي حين تسلمت هذه المملكة: ما هو أصل الشر؟ فرأيت أن أصله الوحش الذي في الإنسان، فإنكم تعلمون أن في الإنسان شيئين: الوحش والإنسان؛ فالوحش يطلب كل شيء لنفسه ولو مات غيره، والإنسان يشفق على نفسه وعلى غيره أيضا، فقلت إن رأس واجباتي كملك لهذه الديار قتل الوحش لاستئصال الشر، فاقتنيت هذه البندقية، وقد اشتريتها بجلود عشرين ذئبا وأسدين وخمسين ثعلبا وعشر ضباع، وكنت أجلس على هذه الرابية، وكلما رأيت أحدا يعتدي على غيره - أي كلما رأيت الوحش يطمع فيما هو لغيره - قتلته برصاصة واحدة؛ ففي بدء الأمر قتلت مئات، ثم عشرات. أما الآن فقد تناقص الشر، وقلما أقتل في الشهر واحدا.

فارتعدت فرائص سليم وكليم لهذا الكلام وتحققا جنون ذلك الشيخ التعيس، وصار همهما إظهار التقوى والصلاح والقداسة لئلا يلحقهما بمن فتك بهم جنونه من قبل. أما الشيخ فكان في هذا الحين يسرح نظره في مملكته الواسعة، وإذا به قد صرخ بغتة بصوت كصوت الوحوش: «الوحش الوحش الوحش!»، وقام يعدو وبندقيته في يده، فالتفت كليم وسليم وهما مدهوشان إلى الجهة التي سار فيها، فنظرا على أكمة قريبة ذئبين يتقاتلان، فلما خرج الشيخ من واديه أطلق على الذئبين طلقين فصرعهما بالحال، ثم أسرع إليهما فأجهز عليهما وجرهما إلى كوخه، وطرحهما أمام سليم وكليم وهو يضحك لفوزه ويقول: كلاهما معتد، فأرحنا المملكة منهما.

فتنفس سليم وكليم حينئذ الصعداء؛ لأنهما علما أنه إنما كان يقصد بكلامه الحيوانات لا البشر، وقال كليم للشيخ الذي كان يحشو بندقيته: لقد أدهشتنا يا عم بقوتك ونشاطك وصلاحك، فلماذا لا تذهب معنا إلى المدن لمحاربة الشر هناك وتكوين العالم الحقيقي فيها؟ إن مدننا الفظيعة القبيحة محتاجة إلى هذا الإصلاح، فلماذا تحرمها من مساعدتك؟

فعبس الشيخ حينئذ وقال وشرر الغضب يتطاير من عينيه: المدن، ويل للمدن، وويل لي إذا دخلت المدن، فإنني لا أقدر على جميع الوحوش التي فيها؛ إذ ليس لي غير يدين، ولا أقدر أن أمسك بهما أكثر من بندقية واحدة، وبندقية واحدة لا تكفي لإخضاع الوحوش التي فيها. آه من المدن ومن العذاب الذي ذقته في المدن! لا تصدقوا أنني ولدت هنا ، بل إنني ولدت في المدن، وعشت في المدن، ولكن الوحوش فيها أكلتني وطحنتني، ففررت منها. كلا يا إخوان، إن صحبة الذئاب والضباع والنمورة في البر أفضل من صحبة الإنسان في المدن، ولكن لا بأس، ستأتي نوبة المدن، وحينئذ أدخل إليها - بإذن الله - دخول المنتقم لله من وحوشها الضارية.

فقال سليم: ومتى يكون ذلك يا عماه؟ فقال الشيخ: أما سمعت ما قلته من أن الأمر قد انتهى؟

فمنذ هذا الحين وقف كليم وسليم على حقيقة حالة ذلك التعيس، فعلما أنه رجل أضاع صوابه لظلم أصابه، فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحو الظلم والشر، ثم يملكه المدن لاستئصالهما منها أيضا. وقد افتقد سليم وكليم كوخه ومعيشته، فوجدا أنه يعيش في أشد الحالات، ورب يوم لا يتناول فيه غير كسرة خبز أسود يصنعه من دقيق يعجنه ويشويه على النار، أو قطعة من لحم الوحوش المعتدية التي يصطادها، وكان يمر عليه في زمن الثلج والشتاء عدة أيام مخبوءا في كوخه الحقير لا يخرج منه لتراكم الثلج عليه في ذلك الجبل. وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات، فإذا ذاب الثلج قليلا زحف من كوخه وخرج على الثلوج يسير عليها زلقا لا مشيا كأنه سائح فوق ثلوج القطبين.

فأشفق كليم وسليم أشد إشفاق على ذلك الرجل الذي يعيش في شيخوخته هذه المعيشة القاسية، فصارا يفكران في سبيل لنفعه، وقبل توديعه عرضا عليه نقودا وسألاه: ماذا يتمنى؟ فرد النقود بعظمة ضاحكا وقال: ماذا أصنع هنا بالمال؟ أما حاجتي فهي ألا تطلقا النار في مملكتي على أحد إلا إذا كان ظالما معتديا، وإلا اضطررت إلى تأديبكما. فأخبره حينئذ سليم وهو يضحك في نفسه أنهما لم يطاردا الذئب إلا لأنه هجم عليهما تلك الليلة في الأرز، فقال له الشيخ: إنني أعرف هذا الوحش، وهو يسمى أبا اليد الحمراء، فسأؤدبه قريبا. (12) الجميع في الأرز

ونزل سليم وكليم من رأس القضيب بعد أن وعدا ذلك الشيخ التعيس بأن يعودا إليه لزيارته ما داما مقيمين في الأرز.

وفيما هما منحدران أخذا يتحدثان في أمر هذا الرجل، فقال سليم: لم تبق لدينا شبهة في أنه مجنون، ولكن هل رأيت كيف أن جنونه منصرف إلى أهم مسألة؟ فقال: أي مسألة تعني؟ فقال: مسألة رفع الظلم والاعتداء والضغط عن الناس، فهو يسمي الوحش كل عاطفة رديئة تحمل الحي على الإضرار بحي آخر والاعتداء عليه طمعا في الفائدة لنفسه. فيا للحكمة والفلسفة في أفواه المجانين! وعندي أن هذا الرجل لم يدرك هذه الحقيقة إلا بالاختبار والمصائب، فيظهر أنه كان تعيسا جدا في حياته في وطنه، كما قال، حتى انصرف جنونه إلى هذه الجهة.

فقال كليم: سننبش ذلك في زيارتنا الثانية.

وما قرب الرفيقان من حرج الأرز حتى سمعا ضجة عظيمة، وأبصرا الناس جماهير جماهير حول الحرج وداخله، وكانوا بين فتيان وفتيات ورجال ونساء، وهم يبلغون نحو ألف شخص، فعجب الرفيقان من ذلك، ولما وصلا إلى الحرج دخلا بين الناس واستخبرا الخبر، فعلما ما يلي:

لما وصل الخواجة كلدن وزوجته إلى الحدث لم يعجب المكان السيدة إميليا؛ لأنها كانت مضطربة النفس من سياحتها لا يعجبها شيء، فتضجرت وقالت: إن جبال كاليفورنيا أجمل من هذه الجبال. فأمر زوجها رجاله بالمبيت في الحدث تلك الليلة للراحة فقط، وبالسفر إلى الأرز في مساء اليوم التالي؛ لأنه كان على ثقة من رضى إميليا عن الأرز أكثر من الحدث. وفي المساء بلغ إميليا رغبة بعض الأهالي في أن يصنع زوجها نهاره عندهم، فضحكت وأبلغت زوجها هذا الخبر، وكان كلدن يعلم أن ذلك يسر زوجته جدا؛ لميلها بالطبع إلى الشرقيين أبناء وطنها، فأمر وكيله أن يعد له ريالات عثمانية بقيمة ألف جنيه، وقال لأبي مرعب وقومه: «يس يس سنأمل يووم كلدن في الهرز.» يعني: سنعمل يوم كلدن في الأرز.

فمنذ هذا الحين طار هذا الخبر بسرعة البرق الخاطف بين السكان والقرى في الجبة كلها، فضحك له الخاصة وسر به العامة. وإذ علم أن ذلك الغني الأميركي مسافر في اليوم التالي إلى الأرز، أخذ القرويون ينسلون إلى الأرز من كل حدب وصوب ليستقبلوه استقبالا عظيما، وينتظروا يومه، وكان أكثر القادمين من الطبقات المحتاجة، ومع ذلك فقد كان أكثرهم يظهرون أنهم قادمون لإكرام غني كريم كهذا الغني ومشاهدته لا لنواله. فيا لعزة نفس الشرقي الذي يرى توزيع المال عليه من غير عمل يتعب فيه نقيصة وعارا.

وبينما كان الرفيقان يجولان بين الجموع التي اجتمعت في الأزر إذا برجل يناديهما من بعيد: يا خواجات! يا خواجات! فالتفتا فأبصرا رجلا غريبا لا يعرفانه، ولكن هذا الرجل ضحك ودنا منهما. ولما اقترب صاح سليم وكليم معا: مسيو مخلوف! فقال المجنون العاشق مبتسما: نعم مسيو مخلوف. هل علمتم متى يحضر الأميركي؟

فلم يجب الرفيقان عن هذا السؤال؛ لأنهما كانا مشتغلين بالدهشة من حالة مخلوف الجديدة، فقد كان لابسا ثيابا نظيفة مرتبة، وفي رجله حذاء ليس بقديم، وعلى رأسه طربوش نظيف، وشعره ولحيته مقصوصان ومزينان، وكانت هيئته وكلامه وإشاراته كلها تدل على أنه معتن بنفسه أشد عناية، ففطن سليم في الحال إلى أن هذا الانقلاب الجديد فيه نتيجة الدرس الذي ألقاه عليه في عين السنديانة، فسر بهذا الخير الذي قدر على صنعه مع هذا المسكين، ومن هذا الحين ازدادت عنايته به لإتمام عمله.

وإذ انفرد بمخلوف سأله: أين بدلت ملابسك يا خواجة مخلوف؟ فنظر إليه المجنون بلطف كلطف الأولاد وأجاب: بدلتها في حصرون، فقال: وهل تعرف أحدا فيها؟ فحدق مخلوف إليه وأجاب: وهل نحن نحتاج لمعرفة الناس؟ أما نحن جميعا إخوان؟ إنني حيثما أكون أدخل أول بيت أراه في وجهي وأطلب من صاحبه أو صاحبته ما أكون في حاجة إليه، فآكل وأشرب وألبس، ثم أنطلق على شرط أنني لا أحمل معي شيئا حتى ولا كسرة خبز؛ لأن الله يرسل خبز الغد. فدهش سليم وسأله: وإذا منعوا عنك ما تطلب؟ فغضب المجنون وأجاب: كيف يمنعون عني ذلك؟ أما نحن إخوان؟ أليس لي ما لهم ولهم ما لي؟ ألا يعلمون أنهم إذا منعوا عني شيئا؛ فالله يمنع عنهم أضعافه؟

فضحك سليم وقال له: إذا بقيت لك هذه الأفكار الجميلة يا خواجة مخلوف؛ فإنك تبقى سعيدا وتنال أمنيتك ...

وما أتى سليم على هذه العبارة حتى شوهدت الجموع في الأرز تتحرك كلها مسرعة نحو الطريق، فقال مخلوف: لعل صاحبنا الأميركي قد أتى.

وكان قد أمسى المساء وأشعة الشمس لم تعد تصل إلى الأرز؛ لأنها توارت وراء آكام بشري والديمان والحدث، إلا أن عصابة منها كانت تزين رءوس الجبال فوق الأرز، دلالة على أنها لم تغب بعد. وكان القادمون في هذه الساعة رجال المستر كلدن؛ سبقوه لنصب الخيام، فاجتمع عليهم الناس، وقد نصبوها في شرقي الأرز تحت أشجاره على أكمة عالية تشرف عليه. أما المستر كلدن وزوجته وابنتاه ووكيل أشغاله فكان وصولهم بعد هبوط الظلام.

وبعد وصولهم بساعتين إذا بثلاثة بغال داخلة إلى الأرز وعليها أمين وأبواه، فدهش سليم وكليم لذلك. وكان أمين في اضطراب وانزعاج شديد، ثم علما من أبويه أن عدوه القديم الخواجة لوقا طمعون وصل إلى الحدث للتصييف فيها؛ ولذلك فر أمين منها. هذا فضلا عن رغبته في حضور يوم كلدن في الأرز.

ولم ينتصف الليل حتى صار عدد المتوافدين على الأرز نحو ألفي شخص، فلما رآهم سليم وكليم يتمددون على الأرض للرقاد بدون غطاء ولا فراش، قال سليم لكليم: نحن حسبنا أننا صنعنا أمس صنع الأبطال بنومنا تحت هذه الأشجار على خرج تحت غطاء خفيف، فانظر إلى أصحابنا القرويين، فإنهم ينامون بلا خرج ولا غطاء كأن الأمر عندهم في غاية البساطة.

فأجاب كليم: هذا مصداق لقول روسو: يجب ألا يربى الإنسان كشجرة تعيش في هذا الإقليم ولا تعيش في ذاك، بل يجب أن يجعل قادرا على المعيشة في كل الأقاليم، فحيثما ألقيته جاء واقفا على قدميه نشيطا قويا قادرا على احتمال كل تقلبات الحياة. (13) كيف يكون غضب النساء؟

وفي الصباح انتبه المستر كلدن مع غربان الأرز؛ لأنه كجميع الرجال النشيطين اعتاد التبكير، ولما نهض استدعى كاتم أسراره المستر كرنيجي وسأله: هل انتبهت لادي كلدن؟ فأجاب: كلا! فقال كلدن: خذ كرسيا يا مستر كرنيجي واجلس. هل ورد البريد الأخير؟ فأجاب كاتم الأسرار: نعم يا سر، قد أخذناه في الحدث، وهذه بضع رسائل تقتضي الجواب. فتناولها المستر كلدن بنشاط وأجال نظره فيها.

وبعد حين سأله: من هو كاتب هذا الكتاب؟ فأجاب كرنيجي: هو تاجر مشهور في بيروت، وهو يقول في ختامه إنه قادم لمقابلتكم للترحيب بكم والاتفاق معكم على الشروط، فقال كلدن: وما رأيك في طلبه؟ فقال كرنيجي: بما أنكم عزمتم على احتكار الشرانق والحرير في العالم، فمن الصواب أن تجعلوا لكم وكيلا وطنيا في سوريا ولبنان لابتياع الموسم، فقال كلدن: وهل هذا الرجل مشهود بأمانته واستقامته؟ فضحك كرنيجي وقال: لقد أرسل مع كتابه شهادات من أعظم الرؤساء الدينيين والمدنيين، حتى من بعض قناصلنا. وهذه هي الشهادات.

ثم إن كاتم الأسرار ألقاها على مائدة في وسط الخيمة.

وكانت هذه الخيمة منصوبة بجانب خيمة لادي كلدن وابنتيها، فيظهر أن حديث الرجلين نبه اللادي من نومها، فإنها في ذلك الحين أزاحت باب الخيمة وظهرت بثوب النوم باسمة موردة الخدين كأنها وردة رطبة برزت من وراء غصنها، فقام إليها المستر كلدن مسرورا لسرورها فقبلها قبلة شهية وأدخلها خيمته؛ لأن البرد كان قارسا في الخارج، فخرج كرنيجي حينئذ من الخيمة، فسألها كلدن: كيف ترين الأرز؟ فأجابت: هذه أول مرة سررت فيها بسياحتنا، ولولا هذا المكان الجليل الجميل لأسفت على انتقالنا من أميركا، فقال كلدن: الحمد لله! الحمد لله! وهل ذهبت الأفكار السوداء؟ فعبست إميليا وقالت: بحياتك لا تذكرني بها. آه لو تعلم الحلم الجميل الذي رأيته في هذا الليل! فقال: ماذا رأيت؟ فقالت وقد بدت الدموع في عينيها: رأيته في السماء لابسا ملابس الملائكة وهو يبتسم لي ويقول: رضي الله عنك، رضي الله عنك! لا تحزني؛ فإنني استرحت هنا بعد عذابي في الأرض.

وهنا استخرطت إميليا في البكاء، فأكبت على المائدة التي كانت في وسط الخيمة وصارت تذرف الدموع، فلام المستر كلدن نفسه لأنه فتح هذا الباب، ورغبة في صرفها عنه مال إليها ملاطفا ومتوجعا وهو يقول: بحياة عينيك يا حبيبتي لا تنغصي عيشنا في هذا اليوم الجميل، ولا تهيجي عينيك بالبكاء، فعليك مقابلة الناس. فرفعت رأسها وقالت: أي ناس؟ فقال: إنك ستصنعين يوم كلدن بيدك، فتكون الهبة أكثر قيمة وأشد تأثيرا؛ إذ شتان بين يدك البيضاء الجميلة ويدي الخشنة. وفضلا عن ذلك فإن تاجرا مشهورا من أبناء وطنك سيزورنا اليوم، فقالت بدهشة: أي تاجر؟ فقال: هو تاجر من بيروت يطلب أن يكون وكيل أشغالنا التجارية في الشرق كله، وهذا كتابه وشهاداته أمامك على المائدة.

فمدت إميليا يدها إلى الأوراق وأدارتها لترى التوقيع الذي على الكتاب.

وحينئذ صاحت صيحة من أعماق قلبها ووثبت مجفلة كأن حية لسعتها.

فأجفل المستر كلدن وعرته دهشة عظيمة فصاح: ما بك؟ ما بك؟

أما إميليا فكانت منتصبة بهياج شديد وراء المائدة ووجهها كوجوه الأموات لاصفراره.

فهال منظرها المستر كلدن وحسب أنها جنت، فصاح: بحياتك يا إميليا قولي ما بك؟

فصاحب إميليا حينئذ بصوت كصوت لبوة هوجمت أشبالها: من أوصل هذه الأوراق إلى هنا؟

فقال كلدن: هل تعرفين صاحبها؟

فصاحت إميليا: يسألني هل أعرفه؟ ومن ذا الذي لا يعرف الذئاب والوحوش الضارية؟ ماذا يريد هذا الرجل منا؟ أما كفاه أنه سمم أول حياتي فجاء الآن يسمم آخرها؟

ففهم كلدن حينئذ أن في المسألة سرا، فقال لها بلطف: عفوا يا إميليا، هدئي بالك واجلسي لنتحادث في هذا الشأن بهدوء، ولا يكون إلا ما تحبين.

فقالت إميليا: لا، لا، لا أريد أن أتكلم عن هذا الرجل، ولا أن أسمع اسمه، ولا أن أرى وجهه. حبيبي جورج، اقتلني ولا تجعل له في حياتي ذكرا بعد اليوم؛ لأنه يسمم حياتي. إنني أرى دهشتك الآن، وأعلم ماذا تقول في نفسك، إنك تقول: لم أعهد إميليا رديئة القلب إلى هذا الحد، فإنها من الذين يصفحون ويحلمون، ويحبون أعداءهم، ويباركون مبغضيهم، فما بالها الآن عمدت إلى الرداءة والخبث؟ لا، لا يا حبيبي، لست رديئة ولا خبيثة، وإنما أنا فتاة ذاقت من هذا الرجل ما لم تذقه الفرائس من الوحوش، فأنا أغتفر كل الذنوب والآثام، وأصفح عن كل الإساءات ، إلا عن إساءة هذا الوحش، وإذا كان الله يكتب علي هذه العاطفة الرديئة، فإنني أفضل دخول جهنم على الصفح عن هذا الرجل.

وكانت إميليا في حالة لو رآها رافائيل لعض أصابعه تحسرا على أنه لم يظفر بمثلها في حياته؛ ليصور بتصويرها أجمل سيدة في أجمل غضب، ولو سمعها الناصري لعلم مبلغ ظلامتها من مبلغ تأثرها، وحينئذ يقول لها: أيتها المرأة، مغفورة خطيئتك.

أما كلدن فإنه صار يضحك بعد وقوفه على حقيقة المسألة، فقال لها: أنا لا أسيء الظن بك لأنني أعرف قلبك؛ فاجلسي وقصي علي القصة من أولها، ثم إن غضبك في غير محله، فإن الغضب يكون عادة سلاح الضعفاء المغلوبين لا الأقوياء، وهو الآن ضعيف بالنسبة إلينا؛ لأنه جاء يرجو منا أن نجعله وكيل أشغالنا. فصاحت إميليا: كما كان وكيل أشغالنا، فقال كلدن: إذا فاضحكي يا عزيزتي ضحك القوي الواثق بقوته وبحقه، المنتصر على خصمه، بدل أن تغضبي غضب الخوف والاهتمام بما لا يستحق الاهتمام.

فسكن حينئذ جأش إميليا شيئا فشيئا، وجلست تقص عليه قصتها، فعلم كلدن أن الخواجة لوقا طمعون هو الرجل الذي كان سبب مصابها ومصاب أهلها، فإنه كان أولا من أصدقاء أبيها، وكان يتزلف إليه ويتقرب منه طمعا في الفائدة، وكان يتظاهر بأنه يريد الاقتران بابنته، فاصطفاه أبوها وأطلعه على أشغاله وأسراره، وصار يعول على نصائحه وآرائه، ويمده بمساعدته؛ نفعا له وترويجا لأعماله، فاغتنم لوقا هذه الفرصة وغدر بالرجل ليبني أشغاله على أنقاض أشغاله، ويحل محله في بلده، ويجمع لنفسه رأسمالا من رأسماله، فأدت دسائس لوقا لأبيها إلى خسارة أبيها أمواله كلها، وخراب محله، وسقوط منزلته، فماتت أمها قهرا من هذه الحالة، وهي نفسها عزمت يوما على الانتحار تخلصا من الفقر والضيق والجوع، فألقت نفسها في البحر، ولكنها أخرجت قبل فراق الروح، فعدلت حينئذ عن الانتحار، وعزمت على الفرار من بلدها، ففرت وتركت أباها وحيدا فريدا. وهذا ما كان يطير صوابها، إلا أنها كانت تؤمل أن أباها يقدر أن يعيش براحة وحده في منزله، فخاب أملها من سوء الحظ ونكد الطالع؛ لأن أصحاب الديون بتحريض من لوقا استولوا على المنزل وباعوه، وطردوا الرجل منه، وكان قصد لوقا من ذلك محو كل أثر لهذه العائلة وأثرها القديم؛ لأنها تذكره بحالته القديمة. ومنذ هذا الحين لم تعد الفتاة تسمع شيئا عن أبيها، فكيف تستطيع الآن أن ترى وجه ذلك الرجل الذي كان سببا في كل هذه الفظائع والمصائب؟

ولكن ما أتت إميليا على آخر الكلام حتى علت في الأرز جلبة شديدة، وكثر الصياح والصراخ، فخرج المستر كلدن من خيمته ليعلم السبب، فلقي سكرتيره المستر كرنيجي داخلا فسأله: ما الخبر؟ فأجابه: قوم يتخاصمون ويتضاربون. (14) مجنون ليلى وملك رأس القضيب

اجتماع جنونهما على واحد

وكان لتلك الجبلة والصياح سبب في غاية الأهمية. وإليك بيانه:

كان الخواجة لوقا طمعون المذكور آنفا تاجرا صغيرا في صيدا يرتزق من معاملة كبار التجار، ولكن لم تمض عليه عدة سنوات حتى انتقل إلى بيروت؛ لأن صيدا ساقية لا تحمل سفينة كبيرة، فوسع أشغاله في بيروت ما شاء التوسيع، ولكن دولاب حظه كان واقفا في تجارته مع ذكائه ومهارته، ولولا اعتماده على أهل له في بيروت لما قامت له قائمة، ولا قدر على أن يعمل شيئا. فلما سمع بمجيء المستر كلدن؛ الغني الأميركي المشهور الذي يملك الملايين، وعزمه على إقامة وكيل له في الشرق للاعتماد عليه في تجارته الأميركية صادرا وواردا؛ علم أنه إذا نال هذه الوكالة كانت له غنيمة عظيمة، فلم يدخر وسعا في ذلك، ولا ترك واسطة إلا استعملها، ولكن لما قدم كلدن إلى بيروت لم يستطع لوقا مقابلته؛ لأن لادي كلدن أبت استقبال أحد في بيروت - كما تقدم - وسافرت منها في الحال، فعلم الخواجة لوقا أن صاحبه مسافر إلى الحدث، فركب مركبة من بيروت قاصدا البترون، ومنها امتطى فرسا إلى الحدث، فلما وصل إليها قيل له إن الأميركي سافر إلى الأرز، فتبعه على الأثر.

وكان الخواجة لوقا كهلا في نحو الأربعين من العمر، وهو بدين ذو جسم قوي ولسان طلق، وكان جريئا مع الضعفاء، ولكنه ضعيف مع الأقوياء، شأن أهل السياسة الجبناء، إلا أنه مع ضعفه مع الأقوياء كان قادرا على مقابلة رجل كالمستر كلدن واستمالته وإرضائه.

وكان وصوله إلى الأرز قبل بزوغ الشمس، وكان كليم وسليم وأمين جالسين عندئذ على أكمة صغيرة مشرفة على الطريق خارج الأرز.

فلما ظهر الخواجة لوقا في الطريق ارتجف أمين وقال لكليم: لا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذا الرجل الذي قطع حبل حياتي يتبعني أينما ذهبت.

وكان مخلوف المجنون قادما من الأرز في هذه الساعة نحو الرفاق الثلاثة، فلما وصل إليهم كان الخواجة لوقا قد صار على مقربة منهم.

فالتفت مخلوف إلى القادم وهو ينشد حسب عادته:

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

ولكن ما وقع نظره على القادم حتى جمد في مكانه كأنه صنم أصم، ولولا تقليبه عينيه في الرجل القادم لظن رفاقه أنه فارق الحياة وهو قائم على قدميه.

وبعد هذا الجمود برهة أسرع مخلوف وعينه تستطير شررا، فنزل عن الأكمة ووقف على الطريق، فلما وصل إليه الراكب صاح مخلوف صيحة كعواء الكلاب والذئاب، وقال: هذا هو! ثم أطبق على لوقا فأخذ به وشده، فألقاه عن جواده على الأرض كالجذع الممدود وبرك فوقه.

فهجم حينئذ المكاري وسليم وكليم ليرجعوه عنه، فكان مخلوف يصيح كالوحش والزبد على شدقه: لا يرجعني عنه أحد غير الله ... قد أهلكني ... قد حرمني حياتي ... لولاه لما فرت حبيبتي ... الانتقام ... الانتقام!

وكان عند كل كلمة من كلامه يضرب لوقا بقبضته ضربا شديدا وهو كالجمل الهائج، وناهيك بغضب المجانين، فأسرع الناس من جهات الأرز على صوته عشرات عشرات، ومئات مئات، فتكاثروا عليه وأنهضوه عن خصمه بعد جهد شديد، فانقلب مخلوف من الغضب على خصمه إلى الغضب على نفسه وهو في أشد حالات الجنون، فتناول حجرا وصار يضرب به نفسه، ويلقي نفسه على الأرض ويقوم وهو يهذي بهذا الكلام: مسكتك يا ظالم ... دعوني معه لأحاسبه ... مضت سنوات وأنا أفتش عنه ... هل يموت حق حبيبتي؟ ابعدوا وإلا قتلتكم كلكم ... اليوم يوم الثأر ... يا إلهي، أرسل الآن صواعقك إذا كنت عادلا ... صاعقة واحدة فقط ... تقتلني وتقتله.

وكأن الله أجابه إلى طلبه في هذه الساعة؛ فإن الناس الذين كانوا يمنعون عنه فريسته تركوها وأجفلوا راجعين القهقرى إجفال العصافير حين ظهور الباشق؛ ذلك أنهم شهدوا أمامهم مشهدا مريعا، فإن وحشا بشريا هائل المنظر كان قادما نحوهم وفي يده بندقية.

فالتفت سليم وكليم وصاحا: هذا صاحبنا. ما جاء به؟

أما مخلوف فإنه لم يهمه شيء من كل ذلك، بل إنه لما رأى الجموع قد فرت من وجهه وتركت الخواجة لوقا وحده مشغولا بإصلاح ملابسه؛ هجم عليه كالذئب وأخذ بخناقه.

فحينئذ خرج من فم الوحش البشري القادم وفي يده بندقيته صوت أجش سمعه القارئ قبل الآن في رأس القضيب؛ وهو صراخه: الوحش! الوحش! الوحش! ثم إنه سدد بندقيته نحو مخلوف ليطلقها عليه.

فعلم سليم وكليم أن صاحبهما ملك رأس القضيب سيقتل مخلوفا ولوقا معا إذا لم يدخلا بينهم؛ لاعتباره أن مخلوفا ظالم ومعتد، كما كان يقتل الحيوانات التي تعتدي على رفاقها، فدخل سليم وكليم حينئذ بين الفريقين، وواريا مخلوفا ولوقا وراءهما، وصاح كليم: يا عم دعه؛ فنحن نؤدبه ونأتيك به.

وكان مخلوف وخصمه يتصارعان حينئذ بقوة هائلة، والناس لا يجسرون على الدنو منهما للدخول بينهما، ولكن حانت من مخلوف التفاتة فأبصر ذلك الوحش البشري ينظر إليه وبندقيته مسددة نحوه، فانتبهت فيه عاطفة الحرص على البقاء، فترك خصمه وخطا خطوتين نحو الشيخ الهائل غضوبا، فتبعه سليم وكليم لئلا يقتله الشيخ، ولكن ما تقدم مخلوف بضعة أمتار حتى وقف مدهوشا هذه المرة أيضا، وصرخ صرخة دوت لها الجبال، ثم هجم على الشيخ صائحا: متى حاروم، متى حاروم ... جئت في وقتك ... وفي يدك بندقيتك ... انظر صاحبك لوقا طمعون ...

فلما سمع الشيخ الهائل اسم لوقا طمعون ظهرت الرعدة في جسمه، وجحظت عيناه، واصطكت ركبتاه، فهجم كالذئب نحو لوقا، وإذ عرفه زمجر كالأسد صائحا: يا لعيني إميليا ... حقا لقد انتهى ... ثم سدد البندقية نحو لوقا وأطلق نارها عليه.

فصاح سليم وكليم وهجما نحوه، ولكن - من حسن الحظ - لم ينطلق الرصاص؛ لأن الضباب كان قد رطب بيت البارود.

فحينئذ ألقى الشيخ بندقيته وهجم على لوقا طمعون، فتبعه مخلوف هاجما لهجومه.

فكل من رأى ذئابا تهجم، وأسودا تثب، وضباعا تغضب يمكنه أن يتصور هجوم هذين التعيسين على ذلك التعيس.

فصاح كليم وسليم بالجموع التي كانت تنظر إليهم من بعيد: إلينا يا شباب ساعدونا، فهذا وقت المروءة. فهجم الناس لمساعدتهما، ولكنهم لم يستطيعوا الفصل بين المجنونين وفريستهما إلا بجهد شديد، فذهب لوقا طمعون نحو خيام المستر كلدن والدماء تسيل من وجهه، والجماهير تتبعه ليغسل جروحه. أما مخلوف والشيخ فقد أدركتهما نوبة الجنون حنقا لعجزهما عن خنق الخصم، فسقطا على الأرض مصروعين بلا حراك، فقيدهما سليم وكليم لئلا يضرا نفسيهما، ثم نقلاهما إلى الغرفة المقابلة للكنيسة وأقفلا الباب.

هذه هي الحادثة التي كانت سببا في الجلبة التي سمعها المستر كلدن بينما كان يحادث امرأته. (15) ذئب لدى لبوة

موقف حرج

فهنا - وا أسفاه - لم تبق حاجة إلى شرح الحادثة التي تقدمت؛ لأن القارئ اللبيب فهم كل تفاصيلها وروابطها وأسبابها، وعرف مبلغ تعاسة إميليا.

وما استقر المستر كرنيجي برهة في الخيمة مع المستر كلدن وزوجته حين دخوله عليهما - كما تقدم - حتى دخل الترجمان يقول: إن رجلا يدعى الخواجة لوقا طمعون قد حضر من بيروت للسلام على حضرة السر، فعاد الاضطراب حينئذ إلى إميليا ونهضت لتخرج إلى خيمتها، فأومأ إليها المستر كلدن أن تبقى لتلتذ بمشاهدة خصمها تحت قدميها، ثم همس بضع كلمات في أذن سكرتيره ليطلعه على طرف من المسألة، وبعد ذلك قال للترجمان: قل للرجل أن يدخل.

فدخل لوقا طمعون باشا ضاحكا كأنه لم يصب بمكروه، فحيا أجمل تحية، فجاوبه المستر كرنيجي. أما المستر كلدن فقد كان يتشاغل بتقليب الأوراق على المائدة. وأما إميليا فقد أدارت ظهرها للباب وانحرفت نحو الظل وهي ترتجف من الغضب والحقد.

فساء لوقا هذا الاستقبال البارد، فجلس منقبضا، وبعد أن دام السكوت دقيقة قال المستر كلدن بنزق وهو ينظر في الأوراق لا في وجه ضيفه: ماذا تريد حضرتك؟ فأجاب لوقا: لقد كتبت لجناب السر أعرض عليه خدمتي في كل ما يريده في الشرق؛ إذ بلغني أنه يطلب وكيلا، فقال كلدن: وكيف تريد أن أتخذك وكيلا من غير أن أعرف أمانتك واستقامتك؟

فانجرح هنا لوقا في صميم شرفه التجاري والأدبي، فصعد الدم إلى رأسه وأجاب: لقد قدمت لحضرتك الشهادات الكافية، وفي جملتها شهادة رئيس ديني كبير.

فقهقه كلدن حينئذ بصوت عال، وقال: شهادات؟ هل تريد أن أجعل أحد خدامي يجلب مثل هذه الشهادات بعشرة ريالات فقط؟ ثم التفت إلى إميليا وقال: ما قولك مسز، هل تقبل منه هذه الشهادات؟

فلم تجاوب إميليا لأنها كانت غير قادرة على الكلام. أما لوقا فعدل حينئذ عن مطلبه، فقال بشيء من عزة النفس: عفوا يا سر، أنا سألت حضرتكم سؤالا، فإذا قبلتموه شكرتكم، وإذا رفضتموه عدت من حيث أتيت مسرورا بأني تشرفت بمعرفتكم.

فحينئذ دبت الحماسة في صدر إميليا؛ لأنها شعرت بأن الخصم لا تزال له قوته التي سحقتها فيما مضى، فعزمت على سحق هذه القوة للانتقام منها، فجمعت قواها كلها وقالت: إن طلب المستر كلدن حق؛ إذ بلغته أعمالك في صيدا.

فقال لوقا في نفسه: الآن علمت سر المسألة، فإن أعدائي ومزاحمي سعوا بي لدى هؤلاء الكرام؛ ولذلك أساءوا استقبالي، ثم أجاب مبغوتا ومظهرا الدهشة: عفوا يا سيدتي الكريمة، أية أعمال تعنين؟ إن جميع أهل صيدا يشهدون لي بحسن السيرة والسريرة والشرف، وإذا تفضلت وأطلعت خادمك الأمين على الأقوال التي بلغتكم من حسادي وأعدائي؛ فإنني أنقضها كلها قولا قولا.

فأجاب المستر كلدن حينئذ بحدة: أنا لا أحب كثرة الكلام يا مستر لوقا، فإذا شئت أن تكون وكيلا لأشغالنا فجئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجة متى حاروم في صيدا.

فلو أن الصاعقة وقعت تحت قدمي لوقا لما أثرت فيه تأثير هذا الكلام، فنهض بحدة وصاح: لا تصدق يا سيدي، لا تصدق كل ما سمعته، فإن هذا الرجل جاهل سيئ التدبير، فخرب نفسه و...

فهنا لم تعد إميليا تستطيع السكوت، فقطعت كلامه وصاحت بحدة رغما عنها: لا تهن الناس يا خواجة، بل أجب: أتأتي بالشهادة المطلوبة أم لا؟

فقال لوقا في نفسه حينئذ: إنني إذا ذكرت لهم أن متى حاروم موجود الآن في الأرز بحالة الجنون والهول وقد كاد يفتك بي؛ فتلك أقبح شهادة، فإنهم يسألونه ويعلمون منه ما يريدون علمه، فأجاب: إن متى حاروم يا سيدتي لم يوقف له على أثر منذ عشر سنوات.

فقالت إميليا والدموع ملء عينيها: ومنزله؟ فقال: قد بيع، قالت: وأهله؟ قال: كان له زوجة فتوفيت، وابنة طائشة فرت وتركته.

فحينئذ وثبت إميليا كمن لسعته أفعى في صميم قلبه، وصاحت بأعلى صوتها: يا ظالم، تخرب بيته وتميت زوجته وتهرب ابنته وتبيع منزله وتمحو أثره، ثم لا تكتفي بكل ذلك، بل لا تزال تطارده بحقدك وبغضك، فتهينه وتهين ابنته أمامنا الآن!

فغضب لوقا عند هذا الكلام وقال: الوداع يا سادتي. وهم بالخروج، فوثب إليه كلدن وثبة الأسد، فأخذ بذراعه وقال بحدة: مستر لوقا، قبل أن تخرج من هنا اجث واطلب الصفح من مسز كلدن ابنة الخواجة متى حاروم.

وإن القلم ليعجز عن وصف ما جرى حينئذ، وكيف استقبل لوقا هذه الصاعقة التي انقضت على رأسه.

ولكن لما انقضت دهشة لوقا وعلم خطورة موقفه وهوله جمع قواه وكبرياءه التي كانت قد فارقته، وبعد السكوت برهة قال: الآن فهمت يا سيدتي سبب ما جرى، فصار يجب علي تبرئة نفسي، لا للحصول على وكالة أشغال، بل حفظا لكرامتي لديك، فكل ما بلغك عني يا سيدتي كان معكوسا أو مبالغا فيه؛ إذ أي عمل عملته في معاملتي أباك ولا يعمله كل الناس اليوم؟ والمستر كلدن زوجك المحترم لا يستطيع تكذيب كلامي. اسأليه إذا شئت كيف جمع ثروته الطائلة وملايينه العديدة؟ أما أفلست بنوك خصومه وقامت بنوكه؟ أما امتصت سككه الحديدية ثروة سكك أعدائه؟ أما خربت في الاحتكارات التي احتكرها ألوف من المحال، وأفلس في مضاربته ألوف من المضاربين؟ فما الحيلة إذا كانت هذه طبيعة التجارة نفسها؟ وكيف نستطيع جمع الثروة لننفع بها الناس إذا كنا نحذر من ضرر هذا ونخاف مزاحمة ذاك؟ فهذه سنة العالم، وقد قال جوت: إلى الأمام، إلى الأمام ولو فوق الجثث!

فدهش المستر كلدان لثبات جأش الرجل بعد تضعضعه، وللطريقة التي حول بها الموضوع عن محوره. أما إميليا فقد خلعت عن نفسها لدى هذا الكلام ثوب الحاضر وارتدت ثوب الماضي وأجابت بحدة: كل هذا الكلام يا سيدي لا يبرئ السرقة، والاحتيال، والدسائس، والسلب، والنهب. تقول التجارة والأصول التجارية، ولكن أي تاجر شريف يزعم أن إله التجارة يطلب دائما ضحايا بشرية ودماء بشرية؟ أي تاجر خال من عواطف الشرف والإنسانية يرضى بأن يجمع ثروة من طعام الأطفال، ودموع البنات، وموت الأولاد، وخراب البيوت؟ إذا وجد في العالم هذا التاجر فلا أسميه تاجرا، بل لصا وقاطع طريق، بل هو أدنى من اللصوص؛ لأن اللصوص يهاجمون الإنسان من وجهه. أما هو فإنه يغدر به؛ لأنه يباغته من وراء، ويغمد خنجره في ظهره. كلا يا سيدي، ليست التجارة هي التي دفعتك إلى صنع ما صنعت، بل طمعك ورغبتك في الثروة بأية طريق كانت. وأنا الآن لست آسفة على ما ضاع من الأموال والأرزاق؛ لأن الله عوضني خيرا منها، وإنما أسفي على شيء واحد لا يعوض، وهو فقد أبي.

وهنا ترقرق الدمع في عيني إميليا، فتأثر لوقا لهذه الدموع وهذا الكلام، وإن كان فيه إهانة له؛ لأنه رآه ممزوجا بشيء من اللطف، لا سيما وأنه كان ينتظر أشد منه، ففكر قليلا ثم قال باسما: سيدتي، إنني أعرف مكان أبيك، وسأجيئك منه بالشهادة المطلوبة.

فرفعت إميليا حينئذ يديها وعينيها إلى السماء وصاحت بجنون: ماذا تقول؟ فقال الرجل: نعم، إنني أعرف مكان أبيك. فنهض المستر كلدن مدهوشا وصاحت إميليا: أين؟ أين؟ قل فأملأ فاك درا، رده إلي فأنسى كل إساءاتك. وا أبتاه! وا أبتاه! أصحيح ما تقول؟ قل! ما لك لا تتكلم؟ متى نظرته؟ فأجاب لوقا: اليوم. فصاحت إميليا: اليوم؟ وأين ذلك أين؟ فقال لوقا: هنا في الأرز . (16) صوت الابنة الكريمة

يحيي العظام الرميمة

فحينئذ ذهلت إميليا عن نفسها وعن زوجها وعن مقامها، ووثبت خارج الخيمة كالبرق الخاطف وهي تصيح: أين؟ أين؟

فتبعها المستر كلدن وسكرتيره ولوقا، وحينئذ عرف المستر كلدن من لوقا تفصيل ما جرى، فرام كلدن تسكين جأش زوجته وإقناعها بالانتظار إلى أن يصلحوا ملابس الشيخ ويحسنوا حالته وينقلوه من تلك الغرفة. أما إميليا فلم تصغ لأحد، بل مرقت كالسهم قاصدة الغرفة

فلم يكن لوقا ولا كلدن يعرفان - وا أسفاه - أنه كان مجنونا. •••

فلما وصلت إميليا إلى باب الغرفة دفعته وهي ترتجف، ودخلت فأبصرت على الأرض شخصين مقيدين راقدين، والحقيقة أنهما كانا في نوبة الصرع كما تقدم.

فصرخت إميليا صرخة الجنون واليأس حين وقع نظرها على أبيها بتلك الحالة، ورجعت القهقرى خوفا، ولكنها كالبرق عادت إليه وأكبت عليه.

وكان الناس قد اجتمعوا في الخارج، فنادى كرنيجي اثنين منهم وحملهما مخلوفا فنقلاه إلى الكنيسة، فبقيت إميليا مع أبيها.

فانحنت الابنة حينئذ تقبل قدميه ويديه، وكانت تبكي وتناديه بصوتها اللطيف: أبتاه! أبتاه! انتبه فقد جاءت إميليا ... أبتاه، افتح عينيك وانظر إلي ... لقد جئتك بحفيدتين معي، قم وانظر إليهما فإنهما تذكرانك إميليا صغيرة ... أبي، هل غضبت علي ولعنتني لما تركتك؟ ... هل خطر في بالك أنني فررت من خدمتك؟ قم وأخبرني أنك لم تسئ الظن بي ... إن ضربا من الجنون استولى علي ودفعني إلى السفر ... فلعل الله هو الذي أراد ذلك لأعود إليك بالخير والغنيمة والظفر ... أبي، ما لك لا تجيبني ... ما هذا الرباط الذي في يديك ورجليك؟ ... ما هذا الجلد الخشن الذي يستر جسمك مع أنه كان يلبس الملابس الناعمة؟ ... ما هذا الشعر الهائل الذي يغطي جبينك الذي كان صافيا هادئا؟ وما هذه الشقوق التي في قدميك؟ آه لقد تعذبت في شيخوختك كما تعذبت في صباي، ولكنا استرحنا الآن، فقم وعانقني. أبتاه، أبتاه، ما لك لا تجيب؟

فيا لتأثير الحنان البنوي! يا لفعل القلب في القلب! يا للعدالة الأبدية التي لا تسمح بموت الحق في العالم!

فإن الشيخ الهائل لم يلبث أن تحرك لذلك الصوت الملائكي اللطيف وانتفض وفتح عينيه، فجمدت إميليا في مكانها جمود الصنم، فأدار الشيخ نظره في المكان متحيرا كأن على عينيه غشاوة، ثم صاح: ماذا تريدون؟ فغصت إميليا بدمعها وأجابت: أبي، هل انتبهت؟ فبهت الرجل وقال متحيرا: من أنت؟ فقالت: أنا إميليا! إميليا!

فحينئذ جلس الشيخ متثاقلا وصاح غاصا بدموعه: إميليا، متى جئت يا حبيبتي؟ فانطرحت الفتاة بين ذراعيه وصارا يبكيان بكاء اللقاء بعد طول الفراق.

ولم يدون علم الطب قط في تاريخه حادثة شفاء من الجنون كهذه الحادثة الغريبة، وكل من سمع بها رجح أن الشفاء كان من فراغ جنون الشيخ في تهيجه الأخير على لوقا، وإن كان لصوت ابنته دخل في ذلك أيضا.

وإذ سألت إميليا أباها عن حالته، وسبب وجوده هناك ولبسه تلك الملابس؛ وجدته أشد منها عجبا ودهشة من ذلك؛ لأنه بعد رجوع عقله نسي كل ما كان. •••

وبعد ساعة ونصف الساعة، حضر مزين من بشري فأصلح شعر الخواجة متى، وألبس ملابس نظيفة، ونقل إلى صدر خيمة إميليا، وكان الناس في الخارج قد ضجروا وهم ينتظرون يوم كلدن، فلما بلغ ضجرهم إلى المستر كلدن قال لإميليا باسما: لا أنا ولا أنت، بل إن أباك هو الذي سيعمل يوم كلدن.

فجيء بكيس كبير فيه ريالات بقيمة ألف جنيه، فحمل مفتوحا على حمار، وسار وراءه الخواجة متى بملابسه النظيفة المرتبة وشعره المصقول، وصار يفرق في الجماهير الحاضرة ريالا ريالا لكل واحد من الأولاد، وريالين ريالين لغيرهم، وكانت الجماهير تزحمه من كل جانب.

فلما أبصر سليم وكليم صاحبهما ملك رأس القضيب بتلك الحالة الجديدة اعتراهما العجب الشديد، فكانا يدنوان منه ويتأملانه. أما هو فلم يعرفهما، ولم تفارقهما الدهشة حتى أطلعهما الترجمان على تفصيل الحادثة. •••

وفي المساء عزم كلدن وزوجته على السفر من الأرز للرجوع إلى أميركا بعد وجودهما ضالتهما المنشودة، فقوضا الخيام وعزما على الركوب، وكان لوقا طمعون قد انفرد عنهما بعد الحادثة ولم يلتق بمتى، فقبل السفر قصد إميليا وسألها ضاحكا: أتسمح له الآن بوكالة الأشغال التي طلبها؟ وكان كلدن حاضرا فأجابه: هذه المسألة صارت متوقفة على رضى الخواجة متى.

وإذ قصت هذه القصة على الخواجة متى وطلب رأيه فيها، ضحك أولا ثم أطرق مفكرا، وبعد ذلك قال: رأيي أن الصفح أولى؛ فإن الوحش الذي في الإنسان لا تذلله المقاومة والعناد، بل الحلم والصفح؛ ولذلك يكون الأقل حيوانية والأكبر عقلا أكثر صفحا وحلما.

فلو سمع سليم وكليم هذا الجواب لقالا: إن فلسفة صاحبنا في الوحشية وهو مجنون مخالفة من حسن الحظ لفلسفته فيها وهو عاقل. •••

وقبل السفر استدعى كلدن سكرتيره وقال له وهو يطوف معه بين أشجار الأرز: مستر كرنيجي، أما تعلمت شيئا من هذه الحادثة؟ فأجاب كرنيجي: تعلمت وجوب الرحمة، يا سر، للضعفاء الذين يسقطون في جهاد الحياة، وإلا لم يكن هنالك فرق بين البشر وبين الحيوانات، فقال: صدقت يا صديقي؛ إذا خصص في كل عام مليون فرنك لمساعدة العيال التي تسقط، واكتب لمحلنا أن يقرض مليون دولار لمحل خصمنا أرميس الذي أفلس من مزاحمتنا، ومليونا آخر لمحل «ودن» الذي خسر ثروته في احتكاراتنا؛ فإنني بعد الآن صرت أرى أن البشر لا يكونون بشرا إذا كانوا يصرفون كل ما أعطاهم الله من النباهة والعقل والقوة في مجاهدة بعضهم بعضا؛ ليستأثر أقوياؤهم بالمنافع والخيرات دون الضعفاء، ويدوسوهم كما يدوسون الحيوانات الدنيئة. •••

وفي المساء، ركب الجميع مسرورين قاصدين بيروت عن طريق بعلبك، وكان سليم وكليم وأمين جالسين على أكمة ينتظرونهم، فلما مروا بهم وشاهد أمين خصمه لوقا يحادث متى ويضاحكه، وإميليا تنظر إليهما وتبتسم مسرورة لتقلب الزمان، صار أمين يبكي ويقول: أين العدالة في العالم؟ فتنهد سليم وأجابه: العدالة يا صاح موجودة، ولكن المهم الجد والانتظار والثبات. ألم تنظر كيف انتصرت إميليا ولوقا بهذه الصفات؟ فلا تجدف على النواميس الأبدية، فإنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وكل ظلامة مهما كانت عظيمة تكشف عن صاحبها إذا تسلح بهذه الفضائل، فإن الله أعدل من أن يخذل الحق، وهو لنصرته لا يطلب من البشر غير الصبر والجد والانتظار.

فقال أمين متأوها: وما الحيلة بمن لا يستطيع الانتظار لأن أيامه محدودة؟

فأجابه سليم: هذا وهم يا صاح، وعلى افتراض صحته، فإن المظلوم يكون أقرب إلى الله في الآخرة مما لو أنصفه الله هنا.

فهز أمين رأسه وقال: كلام حلو للتعزية، كلام حلو للتعزية. (17) حب المجانين

لوقا يأكل الحصرم ومخلوف يضرس

وكانت الأكمة التي جلس عليها الرفاق الثلاثة قريبة من الكنيسة، وإذا هم يسمعون صراخا عظيما فيها، ففطنوا حينئذ إلى مخلوف الذي سجن فيها، فنهض سليم ليراه، ولكنه لم يخط خطوتين حتى كان مخلوف قد كسر الباب وخرج منها وعينه تستطير شرارا، فلما رأى سليما صاح به: أين متى حاروم ولوقا طمعون؟ فأجابه سليم: قد رحلا، فوثب مخلوف إذ ذاك راكضا إلى الطريق ليتبعهما، وإذا به يرى الدواب والأحمال أمامه؛ لأنها لم تكن قد بعدت بعد، فأطلق ساقيه للريح وراءها، فسار سليم وكليم وراءه أيضا، فوصل مخلوف إلى المسافرين وصار يقلب نظره فيهم، فلما وقع نظره على إميليا صاح صيحة دوت لها الجبال وانطرح على الأرض صارخا: لقد صدق سليم، عادت إميليا.

فضحك كلدن وقال: لم نخلص من الأسرار بعد. فأخبره متى حينئذ أنه شاب مجنون أنقذ في زمانه حياة إميليا، فمد كلدن يده إلى جيبه وأخرج منها ورقة بخمسمائة دولار، وأومأ بها إلى مخلوف قائلا: خذ هذا تذكارا من إميليا، فصاح به: ومن أنت؟ فقال كلدن ضاحكا: أنا زوجها.

فيا ليتك يا مستر كلدن لم تلفظ هذه الكلمة، فإن مخلوفا ازدوج جنونه حينئذ، فصار يضرب الأرض بيديه ورجليه ورأسه ويصيح: زوجها! زوجها! وأنا إذا من أنا؟ من أذنك أن تتزوجها؟ كيف تسلبني حقي ومالي؟ ها ها متى حاروم، ما شاء الله، ما شاء الله! ثياب جديدة وشعر مقصوص، وراكب على بغل، قه قه قه، بغل على بغل. لو لم تكن بغلا لما زوجت ابنتك هذا النغل وتركت رجلا مثلي، ولكن أظنكم تضحكون. إميليا، إميليا، أنسيت يعقوب؟

فقال كلدن لزوجته: مسز، سوقي جوادك إلى الأمام واتركينا.

فوثب حينئذ مخلوف وثبة الذئب وصاح: بل أنت تتركها! ثم مد يده إلى جيبه وأخرج منها سكينا، وهجم على كلدن.

فلم يكن كلمح البصر حتى أطبق عليه كليم وسليم من وراء وقبضا على يده، فأسرع البغالون وشدوا وثاقه بحبل غليظ، فانكسرت حدة مخلوف فصار ينوح ويصيح متذللا باكيا: إميليا، إميليا، بحياتك لا تتركيني! ماذا صنعت لك حتى تعذبيني؟ أما أنقذتك من الموت؟ هل أنقذتك لغيري؟ أما أحببتك عشر سنوات دون أن أنساك؟ إميليا، إميليا، يقولون إنه زوجك، فلا بأس، هو زوجك، فخذيني أنا خادما لك. إنني أتبعك ماشيا لا راكبا، لا أكلمك ولا أدنو منك، وإنما أحرسك وأخدمك وأقبل قدميك. إميليا، إميليا، انظري، أنا صديقك تعيس الآن، ولوقا طمعون عدوك سعيد. يا لنكران الجميل! يا للظلم! هو يركب بجانبك مسرورا وأنا يشدونني بالحبال ويعذبونني! إميليا، إميليا، خذيني معك، لا تقتلي نفسا بريئة؛ فإن الله يحاسبك.

فأثرت هذه الكلمات في نفس إميليا حتى بكت لها شفقة على ذلك التعيس، فخاطبت زوجها مستأذنة في أمر، ثم وجهت جوادها نحو مخلوف فدنت منه وهو مشدود الوثاق، فكأن روحه عادت إليه، فمدت يدها البيضاء اللطيفة ووضعتها على كتفه وقالت له بنغمتها الساحرة: عزيزي مستر يعقوب، فصاح مخلوف: بلا مستر، بلا مستر، بحياتك قولي عزيزي يعقوب كما كنت تقولين، فقالت: عزيزي يعقوب، لا أقدر على أخذك الآن معي، ولكن أعدك أنني سأطلبك، فصاح مخلوف: متى يكون ذلك؟ فقالت: حين وصولي إلى بلادي، فبكى مخلوف وصاح: بلادك، ولكن بلادك هنا! فقالت: بل بلادي أميركا يا عزيزي مستر يعقوب، فعش هذه المدة مسرورا راضيا بغيابي؛ لأنني سأتذكرك دائما وأرسل إليك كل ما تحب إلى أن يتيسر لي استدعاؤك.

وهكذا هدأ ذلك المجنون العاشق التعيس بشيء من اللطف والوعود، ولكن هدوءه كان وقتيا، فإنه ما تحرك الركب وسار حتى اشتد به الجنون وشرست أخلاقه، فاضطروا إلى شد وثاقه وأرسلوه إلى دير قزحيا، ولا يزال في الدير إلى اليوم ينشد الأشعار ويترنم بذكر حبيبته إميليا.

فمسكين أنت يا مخلوف! تخاصم البحر والريح فكان الصلح عليك، ولكن أما سمعت ما قال سليم: إن العبرة بالانتظار والثبات؟ وأنت لم تقدر على الانتظار لأن عقلك رحل عند أول صعوبة، على أنك لو انتظرت وكنت الآن عاقلا، فربما نلت أسمى منزلة عند إميليا بعد منزلة زوجها. •••

أما سليم وكليم فقد أقاما في الأرز بضعة أيام، وكان تخلصهما من مكاريهما بطرس الثقيل بواسطة أمين الذي عاد على بغله إلى الحدث، وحين عودتهما من الأرز ممتلئين صحة وقوة كان سليم يقول لكليم كلما مرا بالأديرة: أما اقتنعت الآن بعد ما رأيناه من تقلبات حوادث الحياة وقصصها المضحكة والمبكية أنه خير للإنسان الذي يريد الراحة أن يعيش منفردا عن العالم في دير أو في نفق؟

فيتنهد كليم ويقول: ليس الانفراد عن الناس هو الذي يريح الإنسان، فإن مخلوف منفرد الآن عنهم في دير، ولكنه تعيس جدا، فراحة الإنسان وسعادته في داخله؛ أي في نفسه، فلا يبحث عنهما خارجا عنها، والنفوس القوية العادلة المستقيمة تقدر أن تكون مستريحة سعيدة حتى في وسط تقلبات الحياة.

ناپیژندل شوی مخ

اصول - د اسلامي متنونو لپاره څیړنیز اوزار

اصول.اي آی د اوپنITI کورپس څخه زیات له 8,000 اسلامي متونو خدمت کوي. زموږ هدف دا دی چې په اسانۍ سره یې ولولئ، لټون وکړئ، او د کلاسیکي متونو د څیړلو کولو لپاره یې آسانه کړئ. لاندې ګډون وکړئ ترڅو میاشتني تازه معلومات په زموږ د کار په اړه ترلاسه کړئ.

© ۲۰۲۴ اصول.اي آی بنسټ. ټول حقوق خوندي دي.