من أجل هذا لا بد أن نفرق تفريقا حادا بين العلم العالمي من جهة، وبين الفن من جهة أخرى. فبقدر ما تكون قوانين العلم عامة وشاملة وتنطبق على أي زمان ومكان، فالفن لا تنبع قيمته إلا من محليته ومن البيئة التي أنتجته. بمعنى أوضح، العلم عالمي بطبعه، والفن محلي بطبعه.
ومسرحنا كما ذكرنا نقل مسطرة - كما يقولون - من المسرح الأوروبي، ورغم كل ما حدث فيه من تعديلات وتغييرات إلا أن أصله الأوروبي لا يزال هو السمة الواضحة التي لا يمكن أن تفلتها عين خبيرة، وكان لا بد لنا إن آجلا أم عاجلا أن نفطن إلى هذه الحقيقة ونحاول بمجهودنا نحن، وبقدر المعرفة التي زودتنا بها أوروبا، أن نكتشف مسرحنا المصري ونقدمه.
والحقيقة أن هذه المشكلة ليست مشكلة مسرحنا وحده، موسيقانا أيضا تعاني من نفس الحالة، فن العمارة عندنا لا يزال أجنبيا مائة في المائة، بعضه طلياني وبعضه فرنسي، والحديث منه أمريكي، كله ما عدا تلك الجهود الذي يبذلها المهندس حسن فتحي لخلق نوع من المعمار المصري الأصيل معتمدا على أحدث تكنيك معماري عالمي وعلى جذوره المصرية الأصيلة.
وليست العمارة وحدها. إننا إذا دققنا النظر في كافة مجالات حياتنا، من السينما إلى برامج الإذاعة، إلى الصحف وطريقة صدورها وكتابة أخبارها، إلى التعليم الجامعي، إلى الحياة الاجتماعية التي يحياها الناس - لوجدنا أن الكثير من هذه المجالات يمشي على نسق أوروبي مائة في المائة بلا أي محاولة منا لاكتشاف تقاليدنا نفسها وتطويرها.
خذ الزي مثلا: إن شعبنا لا يزال محتفظا بأزيائه القديمة الخاصة، في حين أن سكان المدن والمثقفين نفضوا يدهم نهائيا من الرداء الشعبي، واستبدلوا به البدلة والكرافتة والقميص، وكأنه بهذا اللباس يريد أن يظهر تحضره، وكأن منتهى التحضر أن تخلع ملابسك أنت التي ابتكرها أجدادك لتلائم أجواءنا ونفسيتنا وتقيد نفسك في بنطلون ضيق وياقة تخنقك وكرافتة لا فائدة منها بالمرة إلا لإظهار أنها واردة من أوروبا ومن أرجانس باريس، وبمثل ما غير ملابسه يريد أيضا أن يغير مخه وأفكاره وأسلوب حياته، بالاختصار يريد أن يفر من بلادنا وشعبنا إلى بلاد أرقى.
وأبادر وأقول إني لا أطالب بالتخلي عن هذا كله، فلا بد لنا كشعب أن نستخدم أحدث وأرقى وسائل الحضارة: أن نركب العربات والطائرات في تنقلنا، أن نستورد أدق أدوات النسيج، أن ندخل السينما، ونشاهد التليفزيون، كل المشكلة أننا لا نريد أن تدفعنا تلك الوسائل الصناعية الحديثة إلى نسيان كياننا النفسي الخاص بنا، إلى أن تنقلب الآية وبدلا من أن تخضع هذه الوسائل لإرادتنا الخاصة، نخضع نحن لتلك الوسائل وننساق وراءها، تماما كالذي يقرأ كتابا ممتعا لألدوس هكسلي، وبدلا من أن يهضم محتوياته ثم يستعملها في إثراء أفكاره وحياته الواقعة، ينسى هذا الكيان وينساق وراء المؤلف الإنجليزي ويدمن تقليده إلى درجة يصبح معها كالذي رقص على السلم، فلا هو قد أصبح إنجليزيا بتقليده لحياة الإنجليز، ولا هو بقي مصريا يحيا في شعب مصري.
إننا نريد إذن أن نفتح الباب على مصراعيه أمام الكتب والحضارة والثقافة الأوروبية، ولكن لا لنتبناها كلية حتى لننسى كياننا الخاص تماما، ولكن لنستوعبها وندرسها ونخرج منها بأفكار وثقافة يمكن أن نستعملها لكي ننمي نحن ثقافة شعبنا الخاصة وفنونه بمختلف أنواعها.
هذه النقطة التي تبدو من فرط بساطتها عديمة الأهمية، هي في نظري حجر الزاوية في مرحلة انتقالنا هذه، مرحلة بناء أنفسنا، وإهمال هذه النقطة يؤدي إلى أسوأ العواقب. ولنأخذ مثلا الفن التشكيلي في مصر: لماذا لا ننفعل الانفعال الذي يهز الجسد ويبلبل الروح إذا نظرنا إلى لوحة من لوحات فنانينا التشكيليين، قد نسعد ونصفق ونكتب مطالبين الجمهور «الجاهل» أن يأتي ليتفرج على هذه الأعمال، ولكن المشكلة أننا نفعل هذا بدون انفعال عميق نابع منا ومما توارثناه عن آبائنا وأجدادنا. ولهذا نجد فنون الرسم والتصوير والنحت لا تزال تدور داخل نطاق ضيق جدا، لا يفهمها أو يقدرها سوى الفنانين زملائهم وسوى بعض النقاد؛ ذلك لأن اللغة التي تستعمل في فنوننا التشكيلية، والألوان والموضوعات كلها، لا تنبع من بلادنا، ولا يفهمها أحد في بلادنا، إنما فقط يفهمها أولئك الذين يعرفون كيف يتكلمون ويرسمون تلك اللغة.
ولهذا أيضا نحن لا زلنا ننتظر الرسام الموهوب الذي يتعلم الرسم ويدرس كافة مدارسه الفنية في العالم كله، ثم ينسى ما درسه تماما ويبدأ بوحي من إيمانه ببلادنا وشعبنا، يختار من الواقع موضوعه ومادته الخام ويرسمه بلغة الناس؛ لغتنا نحن التي نفهمها والتي يتحدث هو بها، ويجعل ألوانها نابعة أيضا من طريقتنا في التلوين وقدرتنا على تذوق بعض الألوان دون البعض الآخر. عشرات المعارض زرتها، وكنت دائما أجد صورها المعروضة كئيبة، باردة، قليلة الضوء؛ لأنهم تعودوا على الرسم الأوروبي حيث الجو الكئيب هناك، وحيث لا توجد شمس متوهجة كشمسنا طول العام، حتى الألوان المستخدمة كلها من مشتقات الرصاص أو غيره من المواد التي لا توجد إلا في أوروبا، ولهذا فهي دائما متقاربة كئيبة لا تثير في النفس سوى الحزن والشجن.
في العمارة، في النحت، في الرسم، في الموسيقى، في السينما، في أثاث المنازل، في عاداتنا الاجتماعية، بدأنا فعلا، بل قطعنا شوطا طويلا ونحن لا نزال عالة على ما تقدمه أوروبا، حتى الموبيليا التي يصنعها نجارو دمياط، يصنعونها طبقا لكتالوجات تنشرها المجلات المختصة في أوروبا وأمريكا. وهذه المواضيع كلها تثير الكثير من الجدل عند بعض المهتمين بمسائلنا العامة. غير أن الجدل يتبلور في النهاية ليحدد بوضوح اتجاهين؛ الاتجاه الأول: أن ننقل كل ما نستطيع نقله عن أوروبا، وبعد أن نستوعبه تماما نبدأ نحن نصنع احتياجاتنا الخاصة، وهي نظرية تشبه تماما ذلك الذي يقول للكاتب الشاب الناشئ عليك أولا أن تقرأ كل الآداب العالمية وتستوعبها، ثم بعد هذا وليس قبله بالمرة تجلس لتكتب، في حين أن الطريقة الوحيدة للكتابة هي أن تقرأ وتكتب في نفس الوقت، وتتعلم وتعلم، وتنتج فنك الخاص وأنت تستعرض فن سابقيك ومعاصريك في كل أنحاء الأرض، تكتب لأنك عن طريق الكتابة، وليس عن أي طريق آخر، تستطيع أن تجد ذاتك وطريقتك وتكتشف مواضيعك، وتقرأ لا لكي تقتبس، أو تحاكي، وإنما لكي تتثقف الثقافة العامة الواجبة التي تمنحك القدرة على رؤية واقعك أكثر واكتشاف ما يصلح فيه ليكون لنا.
ناپیژندل شوی مخ