ولأؤكد مرة ثانية أنني عندما أتحدث عن الخميرة المسيحية أو المنحدر المسيحي فأنا لا أفكر في الدين العقدي، وإنما أفكر في تلك الروح الدينية التي تعد المسيحية، بعقائدها وطقوسها، مظهرا واحدا من مظاهرها، والبوذية مظهرا آخر. وعندما أتحدث عن الفن كمظهر للروح الدينية فأنا لا أعني أن الفن يعبر عن عواطف دينية معينة، بله أن يعبر عن أي شيء لاهوتي. لقد قلت إنه إذا كان الفن يعبر أي شيء فإنه يعبر عن انفعال يحس تجاه الشكل المحض وتجاه ذلك الذي يمنح الشكل المحض دلالته الفائقة؛ لذا فعندما أتحدث عن الفن المسيحي فأنا أعني أن هذا الفن كان منتجا لحالة من الحماسة تعد الكنيسة المسيحية منتجا آخر لها، كانت الروح الجديدة بعيدة عن أن تكون مجرد فورة إيمان مسيحي؛ بحيث إننا لنجد تجليات لها في الفن الإسلامي،
12
يعلم ذلك كل من شهد صورة فوتوغرافية لمسجد عمر في القدس. لم تكن النهضة الانفعالية في أوروبا هي الانتشار الواسع للمذاهب المسيحية، وإنما من خلال الإيمان المسيحي تأتى لأوروبا أن تدري بإعادة اكتشاف الدلالة الانفعالية للعالم. ليس الفن المسيحي تعبيرا عن عواطف مسيحية محددة، بل عندما أيقظت المسيحية الناس هنالك فقط شرع الناس في الإحساس بانفعالات تعبر عن نفسها في الشكل. لقد كانت المسيحية هي ما وضع أوروبا في تلك الحالة من الفورة الانفعالية التي انبثق منها الفن المسيحي.
يبدو أن تيار الحماسة قد أخذ بلب العالم الشرقي، وحتى العالم الرسمي، لحظة ما، في القرن السادس، غير أن المسئولين البيزنطيين لم يكونوا أكثر شغفا بالسباحة من غيرهم، لم يكن الرجال المسيرين للآلة الإمبراطورية، والدارسين للشعراء السكندريين، والمشتغلين بالأركيولوجيا الكلاسيكية على سبيل الهواية؛ لم يكونوا ليحدقوا بشغف. ليس غير الناس، المتبعين للنساك، بغموض وبغباء دون شك، من كان إلى جانب الانفعال وإلى جانب المستقبل، وسرعان ما بدأت الإمبراطورية بعد وفاة جستنيان تنقسم إلى معسكرين. كان الفن الديني، على نحو ملائم، هو معيار الطرف الشعبي، وحول هذا المعيار نشبت المعركة، قال لورد ملبورن: «لا أحد يفوقني احتراما للدين المسيحي، ولكن إذا بلغ الأمر أن تجر إلى الحياة الخاصة ...» في القسطنطينية شرعوا في جر الدين، والفن أيضا، إلى حرمة العاصمة الخاصة. لم يكن ثمة مسئول جدير باسمه يمكنه أن يشاهد الظل يضحى به من أجل الجوهر دون أن تلح عليه رغبة في استدعاء الشرطة للقبض على شخص ما. وقد أصبحت يقظة المسئولين البيزنطيين واحتراسهم مضرب الأمثال. نعلم من رسالة كتبها الباب جريجوري الثاني إلى الإمبراطور ليو، الأيقونوكلاستي (محطم الأيقونات الدينية)، أن الناس كانت على استعداد لأن تهب أملاكها من أجل صورة، كان هذا عند البابا والإمبراطور والسيد فينلي المؤرخ برهانا كافيا على فساد خلقي مروع، وكانوا يضاهون ذلك، فيما أعتقد، بطيش المجدلية الفاضح. كان الناس بالقسطنطينية الذين يأخذون الفن مأخذ الجد، وإن بروح أدبية مفرطة إلى حد بعيد،
dicunt enim artem pictoriam piam esse . كان لا بد لهذا أن يتوقف، وفي بواكير القرن الثامن بدأ الهجوم الأيقونوكلاستي، لا تعنينا حرب المائة عام هذه، التي أدار فيها الحزب الشعبي مقاومة جريئة وناجحة في النهاية، غير أن هناك تفصيلة جديرة بالملاحظة؛ فأثناء الاضطهاد الأيقونوكلاستي ظهر فن شعبي جديد في تلك الأديرة البعيدة، وحولها، التي كانت معاقل النساك، والمثال الأشهر على هذا الفن هو «الكلودف سلتر»
Chloudof Psalter . من المؤكد أن فن الكلودوف سلتر ليس فنا عظيما؛ فالرغبة في الإيضاح تفسد، في عامة الأحوال، كلا من الرسم والتصميم، إنها تفسد ولكنها لا تدمر تماما؛ ففي كثير من الرسوم يبقى ثمة شيء ما ذو دلالة، ثمة دائما، رغم ذلك، واقعية مفرطة وأدبية مفرطة، ولكن لا الواقعية ولا الأدبية مستقاة من النماذج الكلاسيكية؛ فالعمل مبتكر في صميمه، وهو أيضا شعبي في صميمه؛ إنه أشبه حقا ببيان حزبي، ونحن في موضع منه نرى الإمبراطور ووزراءه يؤدون عملهم كاجتماع سري للمدانين، فلنتجنب الإسراف في القيمة الفنية التي نضفيها على الكلودوف سالتر، ولكنه على أعلى درجة من الأهمية كوثيقة؛ لأنه يعرض بوضوح ذلك التضاد بين الفن الرسمي للأيقونوكلاستيين الذي يستند إلى التقليد الهلينستي ويقتبس ببلادة من بغداد، وبين الفن الحيوي الذي يستمد إلهامه من الحركة المسيحية ويحول كل اقتباسه إلى شيء ما جديد، وجنبا إلى جنب مع هذا الفن الحي للحركة المسيحية سنرى مخرجا مستمرا من العمل القائم على تقليد النماذج الكلاسيكية، تلك الأشياء الفظة والكئيبة التي تطل كثيرا في الفن البيزنطي المبكر، والفن الميروفينجي
Merovingian
13
والكارولينجي والأوتوني
14
ناپیژندل شوی مخ