حين تعد أي شيء عملا فنيا، فإنك إذن تقيم حكما أخلاقيا خطيرا؛ لأنك بذلك تعده وسيلة مباشرة وفعالة إلى الخير بحيث لا نحتاج إلى أن نكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك؛ فإن عادة إقحام اعتبارات أخلاقية في عملية الحكم بين أعمال فنية معينة لن يكون لها ما يبررها، فليقم الداعية الأخلاقي حكما على الفن ككل، وليقيض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقام مقام أحكام إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة؛ أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالا فنية، فليمسك هذا الداعية لسانه. إن الفن مساو لأعظم الوسائل إلى الخير، ولو ظن الداعية الأخلاقي أن الفن أقل من ذلك بأي شيء فقد أخطأ، ولو سلمنا على سبيل الموادعة أن الفن أدنى من بعض هذه الوسائل فسوف أذكره رغم ذلك أن أحكامه الأخلاقية حول قيمة أعمال فنية معينة لا شأن لها بقيمتها الفنية. ليس من حق الحكم في إبسوم أن يغمط الفائز في الدربي حقه لمصلحة الحصان الذي جاء قبل الأخير، لا لشيء إلا لأن هذا الحصان هو لأسقف بروجهام كنتربري.
عرف الفن كما تهوى، مؤثرا أن يكون ذلك وفقا لما طرحته من أفكار، وأنزله المنزلة التي تشاء في النسق الأخلاقي، ثم فاضل بين الأعمال الفنية حسب امتيازها بتلك الخاصية أو تلك الخصائص التي وضعتها في تعريفك باعتبارها الخصائص الجوهرية والمميزة للأعمال الفنية. قد تقيم بالطبع أحكاما أخلاقية حول أعمال معينة، ليس بوصفها أعمالا فنية بل بوصفها أعضاء في فئة أخرى، أو بوصفها أجزاء مستقلة وغير مصنفة من العالم، وقد ترى أن لوحة معينة لرئيس الأكاديمية الملكية هي وسيلة أعظم إلى الخير من إحدى لوحات نادي الفن الإنجليزي الجديد بكل مجده، وأن كعكة بقرش هي أفضل من الاثنتين؛ فأنت في مثل هذه الحالة إنما تقيم حكما أخلاقيا لا حكما إستطيقيا؛ ومن ثم سيكون من الصواب أن تأخذ بالاعتبار مساحة القماشة، وسمك الإطار والقيمة الممكنة لكل منها كوقود أو وقاء من تقلبات مناخنا القاسية. وعليك في عملية جمع الحسابات ألا تغفل آثارهما الممكنة على الكهول الذين يزورون برلنجتون هاوس وصالة عرض سافوك ستريت، وألا تغفل أيضا ضمائر أولئك الذين يمسون موارد الأوقاف أو أولئك الذين تدفعهم الرغبة في الربح إلى المحاكاة والتقليد. إنك عندئذ تقيم حكما أخلاقيا لا حكما إستطيقيا. وإذا كنت قد خلصت إلى أن كلتا اللوحتين ليست عملا فنيا، فأنت رغم مظنة تضييع وقتك ستكون بمنأى من السخرية، ولكن حين تتعامل مع لوحة بوصفها عملا فنيا تكون قد أقمت - ربما على نحو لا شعوري - حكما أخلاقيا أهم بكثير. لقد أدرجتها في فئة من الأشياء تعد وسائل قوية ومباشرة إلى النشوة الروحية بدرجة تمحي إلى جانبها جميع المزايا الصغرى، ورغم المفارقة الظاهرة؛ فإن الخصائص الوحيدة ذات الصلة بالعمل الفني بوصفه عملا فنيا هي الخصائص الفنية، فنحن إذ خلصنا إلى أن الخصائص الفنية هي وسيلة إلى الخير ؛ فإن أي خصائص أخرى تغدو غير ذات بال؛ فليس ثمة خصائص تفوق الخصائص الفنية من حيث القيمة الأخلاقية؛ ذلك أن ليس هناك وسيلة إلى الخير أعظم من الفن.
الفصل الثالث
المنحدر المسيحي
(1) صعود الفن المسيحي
The Rise of Christian Art
ماذا أعني ب «منحدر»
slope ؟ هذا ما آمل أن أوضحه خلال هذا الفصل والفصل الذي يليه، ولكن حيث إن القراء يترقبون شيئا ما يسترشدون به، سأعجل ببيان أنني رغم إدراكي لاستمرارية تيار الفن فأنا أعتقد أن من الممكن والملائم أن أقسم هذا التيار إلى منحدرات وحركات. من المتعذر التيقن من الخط المحدد للتقسيم، وبميسورنا أن نقول إنه خلال مجرى نهر عظيم من التلال إلى البحر، فإن من المتعين أن يتفاوت عمق المياه وعرضها ولونها وحرارتها وسرعتها. أما التحديد الدقيق لنقطة التغير فهذا أمر آخر، فإذا حاولت أن أصور لنفسي التاريخ الكلي للفن منذ الأزمنة الأولى في جميع أجزاء العالم، فلن يمكنني، بطبيعة الحال، أن أراه كخيط فريد واحد. إن الخامة التي هو مصنوع منها لا يمكن أن تتغير؛ فهي دائما ماء يتدفق إلى أسفل النهر، غير أن هناك أكثر من قناة؛ هناك مثلا «الفن الأوربي» و«الفن الشرقي»، يتراءى لي التاريخ العالمي للفن في صورة خريطة فيها تيارات عديدة تنزل من سلسلة الجبال نفسها إلى البحر نفسه، وهي تبدأ من ارتفاعات متفاوتة ولكنها جميعا تنزل في النهاية إلى مستوى واحد، هكذا علي أن أقول بأن المنحدر الذي على قمته تقف الروائع البوذية لأسر واي ولانج وتانج يبدأ أعلى بكثير من ذلك الذي قمته النحت السومري المبكر، ولكن إذا تعين أن ننظر في الفن الياباني المعاصر، والنحت الإغريقي - الروماني والروماني، والأشوري المتأخر، لرأينا أنها جميعا قد آلت إلى نفس المستوى البحري للطبيعة المغثية.
أعني بالمنحدر إذن ذلك الذي يقع بين صبح بدائي عظيم، إذ يخلق الناس الفن لأنهم لا بد أن يخلقوه، وبين تلك الساعة الأحلك عندما يخلط الناس بين التقليد والفن، هذه المنحدرات يمكن تقسيمها إلى حركات، ليس المسار الهابط ناعما ومستويا، بل هو وعر ومليء بالعوارض. الحق أن موكب الفن لا يشبه النهر بقدر ما يشبه طريقا من الجبال إلى السهل، هذا الطريق هو سلسلة من الارتفاعات والانخفاضات، كل ارتفاع وانخفاض يشكلان معا حركة، قد تبلغ قمة إحدى الحركات نفس الارتفاع الذي بلغته قمة الحركة السابقة عليها، إلا أن قاعدتها تأخذها دائما إلى مستوى أدنى على المنحدر، وفي تاريخ الفن كذلك فإن ذروة إحدى الحركات تبدو دائما طالعة من غور سابقتها بزاوية قائمة؛ فالحركة الصاعدة عمودية، أما الهابطة فتتخذ مستوى مائلا، من دوتشو، على سبيل المثال، إلى جوتو خطوة إلى أعلى حادة ضحلة، ومن جوتو إلى ليوناردو سقوط طويل وغير مدرك تقريبا في بعض الأحيان. إن جوتو هو تفسخ بارع لتلك الحركة البازيلية
Basilian
ناپیژندل شوی مخ