المقدمة
فن الحياة
نحن غريزة وعقل
كيف نسوس عواطفنا
التربية
القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
الاستغناء أم الاقتناء
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
العمل والفراغ
العائلة والمجتمع
الرجل والمرأة والزواج
كيف نصادق زوجاتنا
مجتمعنا الانفصالي الحاضر
الحياة الفنية للمرأة
العادات
التخلص من العادة السيئة
عادة القراءة
البيت متحف
البيت للضيافة
البيت معهد حر
يجب أن نعيش في حاضرنا
النمو والتطور
الاتصال بالطبيعة
الاتجاه والرؤيا
الحياة مغامرة
الحياة المليئة
الهواية
الخلوة
قيمة الحب للحياة الفنية
من التبلور إلى التجوهر
لنكن أدباء وشعراء
السعادة
تعقيب على السعادة
المقدمة
فن الحياة
نحن غريزة وعقل
كيف نسوس عواطفنا
التربية
القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
الاستغناء أم الاقتناء
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
العمل والفراغ
العائلة والمجتمع
الرجل والمرأة والزواج
كيف نصادق زوجاتنا
مجتمعنا الانفصالي الحاضر
الحياة الفنية للمرأة
العادات
التخلص من العادة السيئة
عادة القراءة
البيت متحف
البيت للضيافة
البيت معهد حر
يجب أن نعيش في حاضرنا
النمو والتطور
الاتصال بالطبيعة
الاتجاه والرؤيا
الحياة مغامرة
الحياة المليئة
الهواية
الخلوة
قيمة الحب للحياة الفنية
من التبلور إلى التجوهر
لنكن أدباء وشعراء
السعادة
تعقيب على السعادة
فن الحياة
فن الحياة
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
كتبت هذا الكتاب في ضوء اختباراتي للوسط المصري، وقد عالجت موضوعه من جملة وجهات فلسفية وسيكلوجية واجتماعية.
ونحن نعيش في حضارتنا القائمة عيشا مكيفا بعادات المجتمع، موجها إلى أهدافه، مدربا على أساليبه؛ ولذلك ننساق انسياقا كأننا ذاهلون، لا نقف ونسائل عن القيم البشرية في هذه العادات والأهداف والأساليب.
وليس شك أن غاية الحياة أن نحيا الحياة على مستواها السامي، ومعنى هذا الكلام هو أن نعيش بما لدينا من كفاءات بشرية تسمو على كفاءات الحيوان؛ أي يجب أن نعيش بالوجدان والتعقل، وليس بالغريزة والعاطفة. وفن الحياة هو في النهاية الارتفاع بكفاءاتنا الموروثة إلى ما كسبناه واقتنيناه من التراث الاجتماعي الثقافي.
ولكن هذا التراث الاجتماعي الثقافي يجب ألا يسوقنا وألا يضلنا عن القيم الأصلية في الحياة. وقد التفت في الفصول التالية إلى ثلاثة أو أربعة أشياء لكل منها مكانة مركزية في البحث عن فن الحياة.
التفت - أولا - إلى أن النجاح يجب أن يكون كليا في الحياة، وليس في الحرفة أو الزواج أو الكسب؛ فإن كلمة النجاح في مجتمعنا الاقتنائي كثيرا ما يشتبه معناها بمعنى الإثراء، ولكن الناجح الصادق هو الذي يجعل نجاحه شاملا متوافيا لنشاط حياته كلها.
والتفت - ثانيا - إلى أن المجتمع الذي نعيش فيه كثيرا ما يضلل بنا، ويبعدنا عن القيم البشرية، بل هو أحيانا يسخرنا في أهدافه التي قد تناقض ما ننشد من رقي أو سعادة؛ فهو منا بمثابة المدينة التي تكتنفنا بمساكنها وأضوائها الصناعية، وضوضائها واهتماماتها الزائفة، فنعيش فيها ونكاد ننسى أنه على مسافة ثلاثة أميال منا ينهض الريف في طبيعته النضرة، وأشجاره ومياهه وحيوانه. وقد نألف عادات هذا المجتمع فلا نجد النشاط إلى تغييرها، ولا ننهض إلى الخروج إلى هذا الريف القريب، وكذلك الشأن في تلك القيم الاجتماعية وأثرها في نفوسنا حين نعيش في أسر هذه القيم الزائفة مدى حياتنا.
وقد احتجت إلى أن أوضح أن السعادة، كما ينشدها الجمهور، إنما هي في أغلب الأحيان ذهول وتبلد، أو استرسال في العواطف الحيوانية التي تحركها غرائزنا السفلى، وإن هذه السعادة ليست جديرة بإنسان راق يرتفع إلى أن يجعل من حياته فنا. وعندي أن الوجدان - أي التعقل - هو صميم السعادة، وأنه مهما فدحت الكوارث فإن الوجدان يواجهها في شجاعة وتحد وفهم.
كذلك التفت إلى قيمة الثقافة من حيث إنها تكفل لنا توسعا ذهنيا ينتهي إلى أن يكون توسعا حيويا؛ لأنها - أي الثقافة - تزيد اهتماماتنا، وتعودنا عادات إيجابية عندما نصل إلى الشيخوخة. وعلى القارئ أن يقرأ كتابي الآخر «كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين»؛ فإني هناك أكدت النبرة في هذا المعنى؛ أي القيمة من الدراسة والثقافة للشيخوخة السعيدة.
وكان يمكن أن أسمي هذا الكتاب «الحياة السعيدة» لولا أن كلمة السعادة قد ابتذلت في معان سفلية، كما أن هناك التباسات واشتباهات كثيرة عن حقيقة معناها. وقد احتجت إلى التنبيه عن ذلك، ولكن في عبارة «فن الحياة» ما يرفع القارئ عن مبتذلات كلمة «السعادة».
وأرجو أن يكون في الفصول التالية توجيه لقرائها من الشباب والكهول.
سلامة موسى
فن الحياة
يعيش الحيوان على المستوى البيولوجي يأكل ويشرب ويتناسل، ولكنا نحن البشر نعيش على المستوى المدني الفني الثقافي، وقد لا يصدق هذا على جميع البشر، أو بتعبير أصح: قد لا يصدق هذا القول من حيث الدرجة التي يبلغها البشر في المدنية والفنون والثقافة، ثم هو لا يصدق على جميع الطبقات حتى في الأمة المتمدنة؛ فإننا ما زلنا نجد الطبقات الفقيرة في مصر والهند تعيش على المستوى البيولوجي، بل الحال كذلك أيضا في الطبقات الفقيرة في أمم أوروبا الجنوبية؛ حيث يقنع أفرادها بالحياة السلبية؛ أي باتقاء الموت والجوع والمرض والفاقة. وهؤلاء جميعا لا يلتذون الحياة وإنما يكابدونها.
ولكن جميع الأمم المتمدنة تحتوي طبقات من الشعب تعيش الحياة الإيجابية؛ إذ هي قد اطمأنت من ناحيتي الجوع والمرض، بل هي قد استبعدت الموت إلى ما بعد السبعين أو الثمانين من العمر، وهي تجد في كفاية العيش ما يتيح لها الاستمتاع الروحي والمادي. وهذه الطبقات تمثل في عصرنا طلائع البشرية القادمة؛ حيث يعيش جميع الأفراد - جميعهم بلا تمييز - على المستوى الفني الكمالي؛ لأن الضروريات تتوافر إلى الحد الذي لا يحسب لها حساب، ولا تكون سببا للهموم والاهتمامات. وليس هذا العصر بعيدا، بل هو أقرب إلينا مما نتخيل.
والإنسان في كفاحه الاجتماعي ينشد الضروريات أولا، حتى إذا توافرت طلب الكماليات، ثم تعود هذه الكماليات ضروريات الأجيال القادمة؛ فهي ترف أولا يقتصر على أفراد معدودين، ثم رفاهية ثانيا تشمل طبقة كبيرة، وأخيرا ضرورة لجميع أفراد الشعب المتمدن المثقف.
انظر إلى الطعام ينشد فيه الإنسان البدائي الشبع، لا يرجو غير الضرورة البيولوجية، وانظر إلى المسكن الذي كان يبنيه للاحتماء من الوحش أو العدو أو الجو، وانظر إلى اللباس الذي كان يتخذه للدفء! أجل، لقد كان الطعام والمسكن واللباس من الضروريات، ولكن من منا نحن المتمدنين يقنع من هذه الثلاثة بالضروريات البيولوجية في عصرنا؟!
صحيح أن للفاقة ضغطها المرهق بين الطبقات التي لا تزال في أسفل الدرج من السلم الاجتماعي، وصحيح أن هذه الطبقات لا تزال تقنع بالضروريات البيولوجية من المسكن واللباس والطعام، ولكن في كل أمة طبقات أخرى استمتعت بقسط كبير من المال والثقافة والحضارة، وهي لذلك تتوخى الفن في كل ما تتناول من عمل؛ فالمسكن ليس مأوى فقط؛ إذ هو متحف أيضا يتزين بالأثاث الفاخر والصور الجميلة والطرف الأنيقة، وسيداتنا وآنساتنا لا يطلبن من اللباس دفئا قدر ما يطلبن منه زينة وجمالا، والمائدة التي تحمل ألوان الطعام تتفنن في ترتيبها وإيجاد الأطباق الثمينة والآنية الغالية عليها. وهذا إلى ترتيب الزهور ونحو ذلك حتى ليعد تناول الطعام منها نشاطا ذهنيا فنيا.
فهنا فنون في البناء والأثاث واللباس والمائدة، نرتاح إليها، ولا نرضى بأن نعيش بدونها تلك المعيشة الفطرية التي كان يقنع بها الإنسان البدائي، وما زال يضطر إلى أن يقنع بها أو بما يقاربها الفقير المغبون. وقيمة الفن أنه يرفع مألوفنا إلى مستوى من الجمال نزداد به لذة واستمتاعا، بل نزداد به فهما ووجدانا.
وبالفن نرفع المشي إلى الرقص، ونرفع النثر إلى الشعر، ونجعل من الكلام بلاغة، وكذلك نستطيع أن نعيش الحياة الفنية؛ فنهدف إلى الفن في الحياة، والبلاغة في السلوك والتصرف.
ويجب أن يكون فن الحياة أخطر من فنون الحضارة؛ لأنه إذا كان من الحسن أن نتخذ الزي الفني للباسنا؛ فإن من الأحسن أن نتخذ الزي الفني لحياتنا وتصرفنا وسلوكنا.
والمشكلة الأولى لكل إنسان على هذا الكوكب أنه سيعيش سبعين أو ثمانين سنة، فكيف يقضيها؟! هل يعيش تلك الحياة التي يصفها شكسبير بأنها «قصة يقصها أبله، فتحفل بالضوضاء والغضب ثم لا يكون لها مغزى؟» أو يعيش تلك الحياة البقلية يولد وينمو ويموت وكأنه بعض البقول؛ لأن قصارى ما كان يطلب طعام وكساء ومأوى؟!
قد يخطر بذهن القارئ عندما نذكر الحياة الفنية أو الحياة البليغة أننا إنما نقصد إلى زخارف وبهارج، ولكن الفن الخالص والبلاغة الحقيقية يعنيان في لبابهما حكمة وسدادا؛ لأن كلمات الحكمة هي أسمى أنواع البلاغة والفن. ولكن ما هي الحكمة؟
هي العمل أحيانا بالمعرفة.
وهي أحيانا تجاهل المعرفة.
وهي التمييز في القيم والأوزان.
والإنسان يختلف عن الحيوان من حيث أنه وجداني يتعقل، في حين أن الحيوان غريزي يندفع، ونحن نهدف إلى قصد في حياتنا في حين هو يعيش جزافا، ونحن نقرر مصيرنا بأيدينا في حين هو ينساق خاضعا للقدر. وقد يخالف قولنا هذا ذلك المنطق الآلي الذي يرتب النتائج على الأسباب، ولكنه يطابق المنطق العملي الذي نحيا به في مجتمعنا المتمدن.
وحياتنا في عصرنا هذا تضطرب وترتبك، بل أحيانا تلتغز، وقد كان لآبائنا أعلام قديمة يسترشدون بها في طريق الحياة الساذجة التي كانوا يحيونها، ولكن هذه الأعلام لم تعد تكفي لإرشادنا في طريق الحياة الجديدة؛ ولذلك نحن في حاجة إلى تعاليم جديدة نتعلم بها كيف نعيش الحياة الفنية؛ أي الحياة الحكيمة، وكيف نقضي سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب ونحن ننمو وننضج إلى الإيناع؛ فلا تكون حياتنا مكابدة، بل التذاذا روحيا وماديا.
ونحن في مجتمعنا إنما نحصل من التعليم - في الأغلب - على أسلوب الارتزاق الناجح، وليس على أسلوب الحياة الناجعة؛ لأننا ننسى أن الحياة أعم وأهم من الكسب، وأننا نكسب كي نعيش، ولا نعيش كي نكسب كما هو الحال الآن.
وإنما صارت الحال كذلك؛ لأن شبح الفاقة يلوح على الدوام في مخيلتنا؛ ولذلك صار التعليم من أجل الارتزاق يغمر كل شيء آخر؛ لأننا نعيش في اقتصاديات القلة في حين أن اقتصاديات الوفرة على الأبواب تنتظرنا، بل تنادينا، ولا تحتاج إلا أن نومئ بأصبع الرضى فيغمرنا الخير الوفير الذي لا نعرف فيه معنى الفاقة أو الحاجة. وعندئذ؛ أي عندما نومئ هذه الإيماءة، ونرضى بالتعاون بدلا من المباراة في الإنتاج، نستطيع جميعنا أن نعيش العيشة الفنية، ونحيا الحياة الحكيمة، وأن نتوخى مأربا فنيا في كل ما نتناول من معارف أو معايش.
وهنا يثب علينا المتشائم: لكأنك ترى الدنيا مشرقة في ألوان الورد، وقد غمرت السعادة جميع البشر بما سوف يدبرون من تعاليم أو أنظمة، ولكن أين هذا التفاؤل من حقائق الدنيا؟ من الأمراض والرزايا؟ من الرجل يفقد نور عينيه ويرى الدنيا ظلاما؟ من الأم تفقد طفلها، وتضم لحمه الطري ووجهه الحلو في تراب القبر؟ من الشاب يسمع حكم الإعدام من طبيبه الذي ينبئه بمرض لا يعالج؟!
ولكن هذا التشاؤم قد بولغ فيه؛ لأن الكوارث نفسها من فن الحياة وحكمتها، وذلك الإنسان الذي لم تكرثه كارثة تصل إلى مخ عظامه، ذلك الذي لم يحس اللوعة يغص بألمها، ويجمد من هولها، ذلك الإنسان لم يعش الحياة الفنية، ولم يعرف حكمتها، وأقل ما يقال عنه أنه لم يعش الحياة الكاملة. ومع ذلك نحن نبالغ؛ فإن كلا منا يعرف أن أعظم المصائب التي كان قد توقعها لم تقع له، وأن بعض هذه المصائب كان مفيدا قد انتفع به. انظر إلى قول داروين: «لو لم أكن متمرضا إلى حد عظيم لما أتممت كل هذه القدر الكبير من الأعمال»!
وكثيرا ما نعيش سادرين ذاهلين حتى إذا كرثتنا الكارثة تنبهنا، كأننا قد استيقظنا من نوم، فينبلج لنا نور، وتنكشف لنا حقائق ما كنا لنراها لولا هذه الكارثة. وأيام المرض في السرير كثيرا ما تكون أيام التنبيه والتجديد.
ونحن في حاجة دائمة إلى استعمال ذكائنا؛ كي نميز بين لذة العاطفة ولذة الوجدان، وبين السرور الزائل والسعادة الباقية، وبين الامتياز الذاتي في النفس وبين الامتياز المادي في العقار؛ أي بين ما نكونه وما نملكه.
والحياة الفنية هى الحياة الجميلة، ومع جميع التعاريف للفن والجمال لا نزال عاجزين عن تعريفهما الصحيح، ولكن من منا لا يعرف الفن والجمال؟!
إن هناك أشياء نعرفها بالإحساس النفسي، وأشياء أخرى نعرفها بالاختبارات الذهنية، وليست الأولى دون الثانية وإن تكن في مرتبة أخرى. وإذا كنا ننشد الفن والجمال في الأثاث والبناء والرسم؛ فإننا يجب أيضا - بل بأكثر عناية وهمة - أن ننشد الجمال في الحياة، في الشخصية الرشيقة، والذهن اللبق، والجسم الأنيق، كما في الأخلاق السامية، والأهداف الروحية، والعلاقات الاجتماعية.
نحن غريزة وعقل
كي نعيش العيشة الفنية، ونحيا حياة الحكمة والتعقل يجب أن نعرف أن كلا منا مركب من غريزة وعقل؛ الغريزة هي قديمنا الموروث، هي التقاليد البيولوجية، هي ذاكرة النوع الجامدة، والعقل هو جديدنا الذي يتعلم وينمو ويميزنا بالفهم عن الحيوان.
ذلك أن الحيوان يعيش بالغرائز، أو أن 99 في المائة من حياته كذلك، وفهمه للدنيا ذاتي على مستوى منخفض ليس له وجدان موضوعي، ولكن الإنسان بعقله ووجدانه يستطيع أن يجعل فهمه موضوعيا، وأن يصل إلى حقائق الدنيا كما هي في حقيقتها أو ما يقرب من ذلك. وعلومنا وآدابنا وثقافتنا وحضارتنا إنما هي ثمرات العقل وليست ثمرات الغرائز.
الحيوان في ذهول بغرائزه؛ يحيا وكأنه في حلم، والإنسان بالمقارنة به في تنبه ويقظة بعقله ووجدانه، هذا الوجدان الذي يجعله يتصرف وهو يدري أنه يتصرف، ولكن الحيوان لا يدري.
وهذا الوجدان هو الذي يجعلنا على دراية بالموت والفقر والكوارث حتى قبل وقوعها، ونحن بالطبع نشقى بكل ذلك؛ ولكن هذا الشقاء «إنساني»، ولا نرتضي النزول عنه كي نعيش بالغرائز، نعيش في ذهول كما يفعل الحيوان، وعندما نربي أنفسنا أو أبناءنا إنما نعمد إلى هذا الوجدان، ونستنبط التعقل ومحاولة التعرف إلى الأشياء كما هي في حقيقتها، وليس كما تصورها لنا غرائزنا.
وواضح أنه ليس هناك إنسان يعيش بوجدانه فقط يتعقل كل شيء، ويتفهم الدنيا تفهما موضوعيا؛ لأن كثيرا من تصرفنا يعود إلى الغرائز التي نندفع بها أحيانا اندفاع الحيوان، أو نسلط عليها الوجدان بالتعقل، فنعين لهذا الاندفاع سرعته وطريقته.
ومهما حقر الإنسان وهان وانحط؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل عقله، أن يقول: ما أعظمني! أي ما أعظم عقلي الذي يتجرد من غرائزي، ويبحث النجوم والأخلاق والشرف والسياسة ومستقبل البشر، وفلسفة الكون، وتطور الأحياء.
ومهما عظم الإنسان وسما ونضج؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل غرائزه، أن يقول: ما أحقرني! أي ما أحقر هذه الغرائز التي اندفع بها إلى الطمع والحسد والعدوان والاقتناء والانغماس والنهم والشر!
ولأن الإنسان عرف الخسة التي تنحدر إليها غرائزه، وأحس مضض النفس وصداع القلب في المواقف التي اصطدم فيها عقله بغرائزه؛ لأنه عرف هذه المواقف، عمد في كثير من الأحيان إلى جحد هذه الغرائز بالزهد والنسك، ومن هنا نشأت الرهبنة في بعض الأديان إنكارا للغريزة الجنسية ولبعض الغرائز الأخرى؛ كالاقتناء والتسلط والحسد والانغماس ... إلخ، كأن الغاية أن نعيش بالوجدان والعقل.
ولكن هذا الانحياز نحو التعقل وإنكار الغرائز لا يطيقه إلا الأقلون، بل يجوز لنا أن نشك حتى في هؤلاء «الأقلين»، وهل أطاقوا نسكهم؟ وهل استطاعوا إنكار غرائزهم أم بقيت هذه الغرائز كامنة مختبئة في أغوار نفوسهم تتحين الفرص، لا للثورة على العقل فقط، بل أيضا للتسلل ملتوية منحرفة عن طريقها، حتى حملتهم على أن يسلكوا السلوك الشاذ، ويتصرفوا التصرف السيئ؟!
ونحن نعرف من السيكلوجية أن الغريزة وقت التهابها، عندما نسميها عاطفة، تفور بنا كالماء المغلي، وتطلب المنفس والمخرج، فإذا لم تجدهما اندست وبقيت بقوتها تبحث عن المخارج الضعيفة، حتى إذا وجدتها انفجرت، فلا يكون منها غير الأذى الفادح لشخصيتنا. وأولئك الذين حبسوا الغريزة الجنسية - مثلا - لم ينجحوا قط في إلغائها ومحوها، وقصارى ما وصلوا إليه عربدة جنسية مختلفة الألوان والأسماء، أو هم قد خدعوا أنفسهم من حيث لا يدرون، فاتجه نشاطهم الجنسي إلى ألوان قاتمة من السلوك والتصرف تؤذي المجتمع، وتفتت شخصياتهم.
ولا يطالبنا فن الحياة بكظم العواطف، وقمع الغرائز؛ لأننا لا نستطيع أن ننكر طبيعتنا؛ إذ إننا غرائز وعقل، فيجب أن نصالح بينهما؛ أي أن نهذب غرائزنا، ونجعلها ملائمة لقواعد المجتمع الذي نعيش فيه دون قمع أو جحد.
وفي أغلب الأحوال ينتهي معنى التهذيب للغرائز إلى الاعتدال؛ فلا نسرف في الانقياد للعاطفة الجنسية، ولا نغلو في الطموح والغيرة والحسد والتسلط. وكلمة «غريزة» من الكلمات الغامضة؛ لأننا نجهل أصلها، هل هو طبيعي أم اجتماعي؟ ولكنا عندما نتأمل نشاطنا الاجتماعي كله، ذلك النشاط الذي ينظمه العقل، وإن كان مرجعه غريزيا، نجد أنه يعود إلى ما يشبه أن يكون غريزة واحدة هي شهوة الأمن والطمأنينة.
وهذه الشهوة أصيلة في الطبيعة البشرية، وهي التي تدفعنا إلى جمع المال واقتناء العقارات والمنقولات، والانغماس في الكسب، كما أنها هي الأصل في الغيرة والحسد والطموح والطمع. ونحن نمارس كل هذه الأشياء مدفوعين بالخوف؛ أي الرغبة في الطمأنينة، ثم ننساق في عادات هذا النشاط التي تتملكنا فلا نعرف أين نقف؛ كتلك البهيمة التي نشدها إلى الساقية فتدور وتجرها مكرهة، حتى إذا جئنا كي نحل رباطها ونطلقها رفضت واستمرت في دورتها بقوة الاندفاع الأول.
فهناك - مثلا - من ينساق لغريزة الخوف ويطلب الطمأنينة بجمع المال. وهذا حسن إذا عرف أين يقف، ومتى يقنع بمقدار من المال يحقق هذه الطمأنينة، ولكن بعيد جدا أن يعرف هذا؛ لأنه حتى بعد أن يحقق هذه الطمأنينة، ويجمع من المال ما يكفيه هو وعائلته ينساق في عادة الجمع، فلا يكون المال خادمه، بل سيده الذي يستبد به، ويحمله على الجهد أكثر من عماله الذين يخدمونه، حتى ليصل إلى مكتبه أو متجره قبل دخولهم، ويخرج بعد خروجهم.
هذا هو شأن كثير من الناس الذين يشقون لأنهم ينساقون مندفعين بغرائزهم دون أن يسلطوا عقولهم عليها؛ فيعتدلون وينظمون نشاطهم كي يعيشوا الحياة الفنية المتناسقة. ومن شأن الغرائز أنها تسرف وتغلو؛ لأن الطبيعة تحرص على بقاء النوع، وقد جهزتنا بهذه الغرائز قبل أن تجهزنا بالعقل؛ وذلك كي تكفل لنا البقاء والتغلب في ميدان التنازع بين أنواع الحيوان وأفراده للبقاء.
اعتبر - مثلا - غريزة التناسل؛ فإن رجلا واحدا - واحدا فقط - يحمل في جسمه من الجراثيم المنوية ما يكفي لتلقيح أناث النوع البشري كله! ونجد مثل هذا الإسراف في سائر الغرائز؛ فإن غريزة الحيوان تحملنا على الرغبة في التسلط بامتلاك هذا الكوكب إذا قدرنا، وقد حاول ذلك الإسكندر وتيمورلنك ونابليون وهتلر. وحين نشرع في الاقتناء نتوهم أننا يجب أن نجمع ما يكفينا ألف سنة!
وقيمة العقل أنه يتسلط على غرائزنا، ويحملنا على الاعتدال، ولكن بلا زهد أو نسك؛ أي بلا إنكار للغرائز. وقد يكون لقليل من الزهد قيمة في التذاذ العيش؛ أي في التأنق في الاختيار بالامتناع عن قبول كل ما يرد؛ كالعطش يجعل الشراب أسوغ، ولكن الاستمرار عليه جنون قاتل.
وتقتضينا الحياة الفنية أن نعيش بالعقل والغريزة معا في مصالحة ووفاق بين الاثنين، ولكن في تحيز نحو العقل؛ لأن العقل إنساني والغريزة حيوانية، ولأن الفرق بين الإنسان الإنساني والإنسان الحيواني هو أن الأول يعتمد في الأكثر على وجدانه وعقله، في حين يعتمد الثاني في الأكثر على غرائزه.
كيف نسوس عواطفنا
العواطف قوات موطرية أو انفجارية، وهي في حال الأولى تكسبنا الطاقة التي ننبعث بها إلى النشاط الذهني أو الجسمي، ولولا هذه القوة الموطرية لما تحركنا إلى الطموح أو الدراسة أو الكسب، وهي لذلك جهاز نافع أيام الصحة، ولكنها تستحيل إلى قوة انفجارية معربدة أيام المرض؛ نتطوح بها إلى الجنون أو الشذوذ أو الإجرام.
والعواطف في مجموعها اجتماعية؛ أي إننا نكسبها من المجتمع وليس من الطبيعة. وصحيح أن هناك عواطف نرثها وراثة طبيعية؛ كالعاطفة الجنسية أو عاطفة الجوع إلى الطعام، ولكن حتى هذه العاطفة «الطبيعية» تتخذ لونا اجتماعيا.
والمجتمع الذي نعيش فيه، بما له من طرق في كسب العيش وأساليب الإنتاج، يعين العواطف الشخصية لكل شخص منا؛ فإذا كنا نعيش في نظام اقتصادي يقوم على المباراة، فإن صفات الأنانية والغيرة والرغبة في التفوق والاقتناء والطموح تصير عواطف شخصية تحفزنا إلى العمل والكسب، وأحيانا تستحيل هذه الصفات إلى عواطف سيئة؛ كالحسد والتسلط والخوف.
وتحدث لنا عواطف أخرى إذا كنا نعيش في مجتمع تعاوني ليس فيه سيد ومسود، وغني وفقير، وكانز ومحروم، كما هي الحال في المجتمعات الاشتراكية.
ولأننا نعيش في مجتمع قائم على المباراة، فإن جميع الرذائل التي تستتبعها المباراة تتخذ شكلا عاطفيا في نفوسنا؛ ولذلك نشقى كثيرا بالأنانية والحسد والرغبة في التفوق والاقتناء والطموح، ذلك أن الوسط الاقتصادي محدود الفرص؛ فقد يجد غيري فرصة لا أجدها أنا، فأبتئس لتخلفي، وأغار من تقدمه، وأحسده على ذلك. وكل هذه العواطف تؤذيني، أو هي تبعثني على الإفراط في الجهد حتى أموت قبل الأوان؛ بزيادة الضغط للشرايين، أو بعجز القلب، أو بالاختلال في التمثيل السكري، أو قد أبقى مريضا بهذه الأمراض وغيرها وأشقى بها، وهذا إلى هموم لا تنقطع تغشى نفسي بالغم والكآبة، وقد تحملني على الانتحار.
ولذلك نحتاج، كي نعيش الحياة الفنية في هناء، أن نسوس عواطفنا حتى تبقى موطرية تدفعنا إلى السير متئدين، ولا تكون انفجارية تثور بنا وتبددنا. وأول ذلك أن نعرف بوجدان يقظ وتعقل متزن أننا نعيش في مجتمع قائم على المباراة، وأنه يحملنا على اتجاهات مؤذية، فيجب أن نجعل القناعة الاقتصادية مصباح الهداية الذي نستضيء به؛ فلا نتطوح في مطامع لا نقوى على تحقيقها، فنكون لها عبيدا نجري ونهرول طوال حياتنا كأننا مسخرون في جمع المال واقتناء العقار.
وليس هنا مقام التحليل لعواطفنا المختلفة حتى نثبت للقارئ أنها كلها تعود إلى مجتمعنا؛ فإن غيرة المرأة من حماتها أو العكس، وكذلك مناكدة الرئيس لمرءوسيه، ثم الاهتمام المريض للمستقبل، والتضحية بالحاضر للمستقبل، ثم الخوف من الفقر، والخوف على الأولاد من الأخطار. كل هذه العواطف تعود إلى نظام نفسي ينهض على أساس المجتمع الاقتصادي الذي نعيش فيه.
وقصارى ما نستطيع أن نبسطه في هذا الفصل هو نصائح موجزة نبغي بها علاج المجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه؛ أي علاج الفرد مما تجلبه عليه العواطف التي غرسها فيه المجتمع. أما العلاج الحاسم فهو تغيير المجتمع من المباراة إلى التعاون، ومن الاقتناء الفردي إلى الاقتناء العام.
من شأن العواطف أنها لا تؤذينا إذا كانت الكارثة كبيرة فادحة، ولكنها مع فداحتها مفردة؛ أي وقعت مرة واحدة ثم انتهت، فنحن نتحمل الإفلاس التام، أو موت الابن أو الأم، أو كارثة الغرق أو الحريق أو الطلاق، ولكننا لا نتحمل الزوجة التي تناكدنا كل صباح على الطعام أو القهوة، ولا تتحمل الزوجة معاكسة حماتها، ولا يتحمل الطالب توبيخ أبويه كل يوم لفشله في الامتحان؛ أي إذا تكررت المناكدة أو المعاكسة كل يوم، ولو كانت لأسباب تافهة، أدت إلى الانهيار العصبي الخطير؛ لأن العبرة بالتكرار.
لهذا السبب يجب ألا تعيش الزوجة مع حماتها أبدا، وإذا كانت هناك ظروف تضطرهما إلى الاشتراك في العيش، فليكن هذا على وجدان منهما؛ أي يجب على كل منهما أن تعرف أنها في حالة شاذة، وأن تحتاط من الوقوع في المناكدة أو المعاكسة.
يجب على الأب، إذا فشل ابنه أو بنته في الامتحان، ألا يعمد إلى تقريعه كل يوم؛ لأن هذا التقريع قد يؤدي إلى انهيار عصبي خطير؛ وخاصة إذا كان بين 17-25.
الاهتمامات الكثيرة المتنوعة تخفف من ضغط العاطفة وتحول دون اجترارها.
إذا ثقلت العاطفة فإن النشاط الجسمي يخفف من ثقلها؛ حتى المشي والجري يخففان من ثقلها.
من الواجب أن ننبه الرؤساء في المصانع والمكاتب إلى أن يكفوا عن معاكسة مرءوسيهم؛ حتى لا يكون أحدهم كالحماة التي تبعث بزوجة ابنها إلى المارستان؛ لأنها لا تفتأ توبخها وتبخسها.
يجب أن نقلل من مظاهر الحزن؛ مثل احتفال الأربعين للمتوفى، أو التفجع في الجرائد على المتوفين؛ لأن هذه المظاهر تحيي الحزن القديم عند الغير.
وهذا أحسن ما نستطيع أن نقول في مجتمع المباراة الذي نعيش فيه، وهو مجتمع سيئ في أساسه.
التربية
لا تقل طفولتنا البيولوجية عن 17 سنة، ولا تقل طفولتنا الاجتماعية عن 30 سنة، ومعنى هذا أن مدة التربية عندنا طويلة؛ وذلك أننا لا نولد بأجهزة من الغرائز التامة التي نعمل بها بلا تعليم، كما تفعل صغار السمك التي تسبح عندما تخرج من بيضها، ولا بأجهزة ناقصة كما تفعل صغار الطيور التي تحتاج إلى شيء من التعليم كي تطير وتجرؤ على اقتحام الجو.
ذلك أننا نحن البشر قد استغنينا عن الكثير من غرائزنا، أو قد وضعناها في الصفوف الخلفية من كياننا النفسي، وأقمنا العقل وصيا عليها يديرها ويوجهها؛ حتى إننا لا نأكل ولا نتناسل في استسلام كامل للغرائز؛ إذ إننا نسلط العقل هنا أيضا، ونجعل له التصرف الأعلى. وصحيح أننا لا نستطيع أن نخمد هذه الغرائز، ولكننا نستطيع التصرف بها وتوجيهها.
وتسلط العقل يجعل التربية ضرورية لكل فرد منا؛ وخاصة إذا كنا نعيش في مجتمع راق؛ أي أرقى وأكثر تركبا من المجتمع الزراعي أو البدوي. وتتجه التربية في عصرنا إلى إيجاد عادات ومهارات نكسب بهما العيش، وليس من شك في قيمة التربية؛ وخاصة في مجتمع لا يزال يعيش على اقتصاديات القلة وليس على اقتصاديات الوفرة التي يلتمع فجرها الآن في الأمم المتقدمة في الإنتاج الآلي، ولكن التربية يجب أن تكون للحياة قبل أن تكون للكسب.
وكذلك يجب ألا ترمي التربية إلى تعليمنا المعارف والثقافة فحسب، وإنما يجب أن توجهنا الوجهة التي نتعلم بها وحدنا. وكي نوضح قصدنا نطلب إلى القارئ أن يقارن بين أرسطوطاليس وبين تلميذ في السنة الثالثة أو الرابعة من مدارسنا الثانوية؛ فليس من شك أن التلميذ يفضل هذا الفيلسوف في كثير من معارفه الكيماوية والبيولوجية والطبيعية والجغرافية، ولكن أرسطوطاليس يمتاز باتجاه معين نحو البشر والكون والمعارف. وهذا الاتجاه يحتاج تلميذنا إلى خمسين أو ستين سنة حتى يصل إليه، بل قد لا يصل إليه لأنه لا يجد من يرشده.
ليست التربية السديدة أن أعرف، وإنما هي أن أعرف كيف أعرف؛ أي كيف أعلم نفسي، وأزيد معارفي، وأكون طالبا مدى حياتي. وليست التربية أني أعرف كيف أكسب العيش، بل هي أن أعرف كيف أعيش سبعين أو ثمانين سنة على هذا الكوكب في نمو لشخصيتي وترقية لذهني. ويجب ألا يكون هدف التربية - كما هو الآن - النجاح الحرفي للكسب؛ إذ يجب أن تهدف إلى النجاح في الحياة؛ لأن الحياة أكبر من الحرفة، والنجاح فيها يقتضي النجاح في الصحة والثقافة والعلاقات الاجتماعية والعائلية، والارتقاء الفني والذهني ... إلخ.
يجب أن تهدف التربية إلى أن تحمل كلا منا على الاهتمام بالأثاث الأنيق والرسم الفني كما نهتم للكسب في مجتمع اقتنائي يعيش أفراده بالمباراة، ويجب أن تحرك استطلاعنا إلى درس الطاقة الذرية أو زراعة القطن كما تحركه إلى تقدير ألوان الجمال في الطبيعة: القمر في الريف، والشمس في البزوغ، والبحر والقفر والجبل والسهل؛ لأن هذا الكوكب كوكبنا، ويجب أن نستمتع بما فيه من روعة الطبيعة ومجدها.
والحياة الفنية تحتاج قبل كل شيء إلى درس الفنون، وإلى ترقية الإحساس الفني، بحيث نسلك ونتصرف ولنا في كل ذلك مأرب فني، حتى إذا سرنا في حديقة استمتعنا بالزهور وهي على شجرتها في إشراقها وإيناعها دون أن يبعثنا روح الاقتناء على بترها وقطفها.
ويجب أن نتعود قراءة الجريدة والمجلة والكتاب كما نتعود القهوة والشاي، ويجب أن نزداد رغبة في امتلاك هذا الكوكب نفسيا وذهنيا وفنيا كلما ازداد هو تقلصا بالمخترعات الجديدة؛ حتى تتسع آفاقنا حسا وذهنان فلا تضيق بحدود القطر أو القارة، بل تشمل شئون العالم كله والبشر جميعهم.
ثم يجب ألا يغيب عنا أن التربية البشرية تخاطب الذهن، أي تزيد الوجدان؛ حتى نعيش في يقظة، ونطلب زيادة هذه اليقظة بتعلم المعارف والفنون، ولا نعيش ذاهلين ذهول الحيوان الذي تسوقه غرائزه. والفرق كبير بين الذهن اليقظ والذهن الذاهل، وهو يعود في الأغلب إلى عادة القراءة. وكذلك الفرق بين شيح هرم قد خرف أو تبلد ذهنه، وبين شيخ لا يزال له حدة وفتوة ويقظة وذكاء، يعود إلى أن الأول لم يتعود القراءة، وأن الثاني قد تعودها. والقراءة تجعل الكلمات مألوفة في الذاكرة سهلة الاستحضار، ولما كانت المعاني مجسمة في كلمات؛ فإن من البعيد جدا أن نجد رجلا يهرم ويتبلد ذهنه ما دامت الكلمات حاضرة معدة لتنبيهه.
ومن هنا القيمة العظمى لصحة الشيخوخة من تعود القراءة؛ لأن الذهن يمرن على الفهم بالقراءة كما يمرن الجسم على الحركة بالرياضة، وتبقى هذه المرانة إلى الشيخوخة.
كذلك يجب أن تكون تربيتنا موسوعية؛ أي يجب أن نلم بجميع المعارف البشرية، وقد أحدثت لنا القنبلة الذرية وجدانا بهذا الإحساس. وصحيح أنه يجب أن تكون لنا بؤرة؛ أي نقطة للتعمق والتخصص في المعارف، ولكن يجب أن نتشعع من هذه البؤرة العميقة إلى التوسع في الآفاق الذهنية الرحبة، كما يجب أن يكون كل منا سقراطيا؛ أي يعرف أنه لا يعرف فيدرس العلوم والفنون والآداب والفلسفات، ويبقى على هذا حتى يموت «وعلى صدره كتاب»، كما قيل عن الجاحظ.
وفي المستقبل القريب، بل القريب جدا، ستتغير التربية من التعليم للحرفة إلى التعليم للحياة، وعندئذ نتجه نحو استخدام فراغنا الذي سيزيد عاما بعد آخر، وكثير منا - حتى في عصرنا هذا - يستمتعون بفراغ يبلغ أربع أو خمس ساعات كل يوم، وعندئذ ستكون مشكلة التربية: كيف يتصرف الشاب أو الفتاة بهذا الفراغ؟ وكيف ينتفع به ويستمتع؟
وهذا السؤال يعود بنا إلى النغمة التي نفتأ نعزف بها، وهي أننا يجب أن نعلم الناس كيف يعيشون الحياة المليئة، وكيف يتعمقون في حياتهم ولا يقنعون منها بالعيش على سطحها أو هامشها، نعلمهم أن غاية التربية أن يحيوا وليس أن يحترفوا، ونحرك فيهم العقل الاستطلاعي اليقظ الذي يشتهي المعارف، ويعرف أيضا أين يبحث عنها ويجدها، ونعلمهم أن هدف الحياة أجل؛ هو الحياة في تعمق وتأنق، وليس هو الحرفة أو المال أو التفوق.
وأخيرا نقول: إن التربية الحقيقية هي التربية الذاتية؛ فلا ييئس أحد لأنه لم يمتز بتعليم جامعي، أو لأن ظروف حياته الماضية لم تهيئ له الفرص للدراسة؛ لأنه يستطيع أن يشرع في أي وقت، وأن يضع البرنامج الدراسي الذي تحتاج إليه تربيته، وهو أقدر إنسان على وضع هذا البرنامج؛ إذ هو الوحيد الذي يعرف حاجاته وكفاءاته.
القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية
نحن نعيش في المجتمع المتمدن بدستور أخلاقي نأخذه كله أو 99 في المائة من العائلة التي نشأنا فيها، والشارع الذي مارسنا فيه اختبارات الطفولة، ومن زملاء المدرسة والحرفة، ومن غير هؤلاء ممن تحملنا حياتنا الحرفية أو الاجتماعية أو السياسية على الاحتكاك بهم. ونحن نزن الرذائل والفضائل بميزان هذا المجتمع، ونأخذ بالقيم التي يعينها لنا.
وكثيرا ما نأخذ بقيم وأوزان فاسدة؛ لأن المجتمع الذي نعيش فيه فاسد، وكثيرا ما يخفى علينا هذا الفساد فنندفع في التيار لا نقف ولا نتردد، ولكن أحيانا نقف ونتردد، وعندئذ يكون التقلقل والبحث والتجديد، ثم تكون قيم وأوزان جديدة.
والقيم والأوزان إما أن تكون اجتماعية، وإما أن تكون بشرية، وإذا كان المجتمع راقيا كانت كل أو معظم أوزانه بشرية. ومثال الأوزان البشرية: استنكار القتل والفقر والمرض والجهل، وصيانة الصحة، ومكافحة المرض، وتنوير الذهن بالمعارف، وتوزيع الثروة؛ بحيث لا يكون فقر مؤذ ولا ثراء مبطر. ومثال الأوزان والقيم الاجتماعية: التزين، واقتناء القصور والضياع، والتفاخر بالولائم وأبهة العرس أو المأتم ونحو ذلك.
وكي نزيد الإيضاح نفرض أن صديقا عائلا مات وترك زوجته وجملة أولاد؛ فالرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم الاجتماعية سيحضر المأتم، ويسير خلف الجنازة، ويحضر الصلاة، ويعزي أسرة المتوفى، ثم يعد نفسه قد أنجز جميع واجباته، وربما قد يبالغ في هذه الواجبات فينعيه في الجرائد. ولكن الرجل الذي تغلب عليه الأوزان والقيم البشرية قد يهمل كل هذه الواجبات، ثم يبحث عن حال الأرملة وأولادها، فإذا وجد أنهم في حاجة إلى المال تبرع من جيبه وجمع من غيره ما يقيتها، ثم هو يرعى الأولاد بالنصيحة، ويهيئ لهم وسائل التعليم، ويرعى العائلة تلك الرعاية الاقتصادية التي فقدتها بموت العائل.
ومن هنا نعرف أن الضمير الحسن هو الضمير البشري، وليس هو الضمير الاجتماعي.
ومن هذا المثال الذي ذكرناه نستطيع أن نتوسع فنقول: إن للصحة قيمة بشرية مطلقة، ولكن للمال - بعد أن يتجاوز حدا ما - قيمة اجتماعية فقط، والشاب الذي ينشد في الفتاة جمالها إنما ينشد قيمة بشرية، ولكنه عندما ينشد ثراءها إنما ينشد قيمة اجتماعية. ومن هنا أيضا نقول: إن للزواج قيمة بشرية، ولكن أبهة العرس وجهاز العروس ونحو ذلك تعد من القيم الاجتماعية.
وكثيرا ما تستهلك القيم والأوزان الاجتماعية مجهودنا وصحتنا، كما تحول بيننا وبين القيم البشرية؛ كأن نندفع في جمع المال فنفقد صحتنا قبل الخمسين أو الستين؛ لأن المجهود في هذا الجمع كان أكبر مما نتحمل، وفي الوقت نفسه حال هذا الجمع دون العناية بترقية شخصيتنا وتنوير ذهننا، وهما من القيم البشرية. وكثير من الناس يغمرهم المجتمع بقيمة وأوزانه فلا يرتفعون فوقها؛ ولذلك تجد أن كل اهتمامهم ينحصر في شراء أتومبيل من الطراز الجديد، أو يغمرهم الهم والنكد لأنهم فقدوا صفقة تجارية، مع أن زيادة ألف جنيه أو نقصها في حساب البنك لن يضيرهم!
ومن هنا، ذلك الرجل المحموم بالنجاح ينفق كل مصادره الحيوية في التفوق في حرفته، ثم يفشل في عائلته أو مجتمعه، ولا يدري أن النجاح يجب أن يكون كليا يشمل العائلة والمجتمع والحرفة والفراغ. وكثير من الأمراض النفسية الفاشية في أيامنا تعزى إلى الاندفاع في هذه القيم الاجتماعية دون التفكير في القيم البشرية، وذلك «الرجل الأجوف» الذي تحدث عنه الشاعر إليوت إنما هو رجل قد غمره المجتمع بقيمه وأوزانه، فنسي كلمة الإمبراطور ماركوس أوريليوس حين قال: إن أعظم ما يشتاق إليه ويتمناه في هذه الدنيا كسرة من الخبز مع قطعة من الجبن يأكلها تحت ظل شجرة.
والمحك الذي يفصل بين القيمتين والوزنين أن نسأل عندما نسأل عن شخص ما: ما هو؟
فإننا هنا نسأل عن قيمته البشرية: هل هو جميل، سليم، مثقف، صادق، أمين، سعيد؟
وحين نسأل عن قيمته الاجتماعية نقول: ما عنده؟
فنجيب بأن عنده منزلا به أثاث فاخر، أو عنده ضيعة وأتومبيل وعشرة آلاف جنيه في البنك، ولقب بك ... إلخ.
والحياة الفنية تقتضينا التمييز بين القيم، وأن نجعل للقيمة البشرية المكانة الأولى في جميع اعتباراتنا؛ سواء في أنفسنا أم في غيرنا، والرجل الطيب هو في النهاية الرجل البشري وليس الرجل الاجتماعي؛ أي الرجل الذي يتعمق ويصل إلى الجذور.
وعندما نتأمل الأنبياء، بل كذلك الفلاسفة والأدباء، نجد أن كل اهتمامهم كان منصرفا إلى تغيير المجتمع بوضع القيم البشرية مكان القيم الاجتماعية.
الاستغناء أم الاقتناء
نحن نعيش في مجتمع «اقتنائي» ننشأ فيه منذ الطفولة على أن هذا لي وهذا لك، وعلى أن أحدنا يسر بأن يكون له أكثر مما للآخر، ثم نشب بعد ذلك فنزداد رغبة في الاقتناء، واندفاعا نحو الامتلاك؛ لأن العادة قد أصبحت عاطفة ومزاجا، ونعيش طوال حياتنا ونحن في تعب؛ لأننا لم نقتن كما اقتنى فلان الذي كنا نعرفه أقل ثروة منا، ونعيش بين جيراننا في مباراة؛ نرقبهم حين تخرج إحدى بناتهم في ثوب زاه، أو حين نقرأ في الصحف عن الترقيات والعلاوات فنمتلئ حسدا؛ لأن هذا الشخص الذي كنا على الدوام نتفوق عليه، أو على الأقل نساويه، قد ارتفع وارتقت أحواله دوننا.
ونحن ننشد الاقتناء والامتلاك لا لأننا في حاجة إلى زيادة، ولكن لأن المجتمع «الاقتنائي» الذي نعيش فيه قد غرس فينا هذه العواطف، فأكسبنا هموما شخصية تنزع بنا إلى الجهد، وتحمل المتاعب؛ كي نتفوق في الجمع، ونستمر في الزيادة، ونبقى على ذلك طوال حياتنا، حتى إننا نرى ناسا قد تقدمت بهم السن وأثقلتهم الشيخوخة ومع ذلك يتعبون ويقلقون بشأن مقتنياتهم وعقاراتهم؛ فهم في هموم دائمة وحسابات لا تنقطع، حتى ليتساءل الإنسان وهم في هذه الحال: هل هم يملكون هذه العقارات أم أن هذه العقارات هي التي تملكهم؟!
وأعظم ما يعود من الضرر على هؤلاء أن هذه الهموم الشخصية تحول دون الاهتمامات العامة، حتى ليقول لك أحدهم: إنه لا يملك الوقت كي يقرأ الجريدة لأنه مشغول بأعماله التي لا تترك له فراغا.
وقد أصبحت أعباؤنا الخاصة ثقيلة حتى إننا جعلنا الفرار منها سنة؛ فنحن نصطاف لا لأننا نرغب في تغيير الجو من الحر إلى البرودة، بل لأننا نحب أن نفر من هذه الأعباء؛ فالتغيير هنا سيكلوجي وليس مناخيا. وعندما نتأمل المصطافين في رأس البر أو الإسكندرية نجد أنهم ينطلقون من القيود، ويحاولون أن يتصلوا بالطبيعة في بساطة من التكاليف والأعباء، تشهد على أنهم كانوا متعبين بما كانوا يقتنون من ملابس غالية مرهقة في المدن.
والحق أننا عندما نتأمل معيشتنا في وسط متمدن، وما يجلبه علينا هذا الوسط من تكاليف، وما يطالبنا به من مطامع، نجد أننا جميعا في حال سيئة من القلق النفسي، مسوقين بأوهام الاقتناء كما لو كنا مسخرين. وهذه الأوهام هي في نهايتها مصطلحات ليست لها قيمة بشرية، وهي لا تزيدنا إلا أعباء وهموما؛ إذ نستطيع أن نستغني عنها، فقد استغنى شبابنا مدة الحرب الأخيرة - مثلا - عن الطربوش، ولم يجدوا سوى الراحة والصحة عندما تخلصوا من هذا التكليف، وسبق أن استغنت الفتيات أيضا - قبل الحرب - عن الجوارب، ولم يشعرن إلا بالراحة والزيادة في الصحة بهذا الاستغناء. أجل، ازداد الجميع صحة لأن الاستغناء عن الطربوش والجوارب قد زاد في تعرض الأعضاء لأشعة الشمس، ولأثرها الصحي في تنبيه الجسم.
وأعود فأقول: إن معظم ما نبذل من مجهودات عظيمة، بل أحيانا مجهودات مضنية مميتة في الاندفاع نحو الاقتناء، إنما هو مصطلحات اجتماعية لا أكثر؛ أي ليس لها في نفوسنا حاجة طبيعية؛ فحاجاتنا الطبيعية قليلة جدا. وقد قنع غاندي - مثلا - بأن يعيش بنحو ثلاثة جنيهات أو أربعة في العام كله؛ فهو يكتفي من اللباس بقطعة من القماش غير مخيطة يتلفع بها، بينا يحتاج أصغرنا إلى عشر قطع كي تغطي بها جسمه كأنها ضمادات مجروح، أو كأنها خرق ملونة لمهرج على مسرح!
وإذا كنا نحن نستبعد أو نستغرب معيشة غاندي، فليس ذلك لأن غاندي مخطئ، بل لأننا نعيش في أسر مصطلحات اجتماعية قد تغلغلت في نفوسنا حتى أضحت عقائد وعواطف.
والرجل الحكيم هو الذي يعرف كيف يستغني دون أن تنقص حاجاته الضرورية، ومن هنا قيمة الدعوة إلى الحياة البسيطة؛ أي إلى بساطة العيش. وهذه الدعوة هي نداء قديم يتردد صداه عبر التاريخ منذ آلاف السنين. وكلنا نذكر «ديوجينيس» الإغريقي الذي لقيه الإسكندر المقدوني وسأله عما يستطيع أن يؤديه له من مساعدة، فأجاب بأن كل ما يطلبه إنما هو أن يتنحى عنه حتى لا يمنع أشعة الشمس عن جسمه!
ونحن نقرأ هذه النادرة كأنها نكتة، ولكن لماذا؟ أليس أمامنا البرهان على أن ديوجينيس كان على حق، وكان سعيدا ببرميله الذي كان ينام فيه، في حين كان الإسكندر شقيا بما جلب إلى نفسه من هموم وأعباء؟! ألم يعمد الإسكندر إلى الانتحار وهو في الثلاثين؟!
كان الإسكندر يندفع بروح الاقتناء إلى الفتح والحرب، وكان ديوجينيس يندفع بروح الاستغناء إلى العيش في برميل. وكلاهما مسرف، ولكن إسراف ديوجينيس أقرب إلى الحكمة من إسراف الإسكندر.
وغاندي في عصرنا يجري على مذهب الفيلسوف الإغريقي، ويجحد مذهب الفاتح المقدوني، وهو حكيم في هذا السلوك.
وقد كان جان جاك روسو أول من بصر بعبء التكاليف المرهقة التي تفرضها علينا الحضارة، رغم أن حضارة العصر الذي كان يعيش فيه هي البساطة والسذاجة بالمقارنة إلى ما نعيش نحن فيه؛ فقد دعا هو دعوة الريف وتجنب المدينة، ولكن مدينته، حوالي سنة 1770، كانت قرية هادئة بالمقارنة إلى المدن التي نعيش فيها الآن؛ فلم يكن في مدينته ترام أو سيارة أو راديو، ولم تكن مضار المباراة وما تجلب من حسد وهزيمة وقلق جزءا من مائة مما يكابد أبناء المدن في هذه الأيام، وقد ترك بعده «ثوور» الأمريكي المدينة الأمريكية وعاش في الغابة، وترك إدوارد كاربنتر المدينة الإنجليزية وعاش في الريف، وفعل كذلك تولستوي وغاندي.
وليس هؤلاء شاذين؛ لأننا حين نقارن بين حياتنا وحياتهم من حيث القيم البشرية، وسلام النفس، والفراغ للتأمل والراحة، نجد أن الحكمة في جانبهم، والجنون في جانبنا؛ فقد عاشوا بالاستغناء، في حين نعيش بالاقتناء، وامتازوا بأنهم نفضوا عن نفوسهم وأجسامهم وضمائرهم جبالا من الواجبات والأثقال التي ننوء بها ونزعم أننا بفضلها سعداء، مع أن الحقيقة أننا مسخرون في الجمع والاقتناء، ثم في زيادة الجمع والاقتناء، وسنظل على هذا المنوال حتى نموت بالنقطة أو السكتة مجهودين مرهقين.
وأسوأ ما في الحياة التي نعيشها ونحن نعدو وراء المطامع وكأننا نجري في سباق أننا لا نعرف ماذا نقتني ولمن نقتني، ثم هذا العدو في هذا السباق لا يتيح لنا فرصة الوقوف كي نتأمل ونفكر. والواقع أن غريزة الاقتناء تدفعنا مسخرين؛ فلا يلتمع لنا ذكاء، ولا يتردد في رءوسنا خاطر، ولا نتساءل: لماذا كل هذا؟!
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
غاية الحياة هي الحياة. وليست غايتها أن نكون أثرياء أو أصحاء أو علماء أو سعداء؛ لأننا إذا كنا نطلب الثراء أو الصحة أو العلم أو السعادة؛ فإنما لأن كل واحد من هذه الأشياء يؤدي في النهاية إلى الحياة المثلى التي نتمناها.
فيجب لهذا السبب ألا نخطئ الهدف، وهو أن نحيا لأجل الحياة، وإذا نحن جعلنا هذا الهدف نصب عقولنا؛ فإننا لن ننحرف؛ إذ نجد أنه على الدوام يصحح ويقوم انحرافاتنا.
وأعظم ما نقع فيه من انحراف، بل اعوجاج، هو أن المجتمع يؤثر فينا بأوزانه وقيمه، فيحملنا على أن ننسى أن هدف الحياة هو الحياة، حتى إننا نجد كثرة الناس، بل ربما كلهم - أي كلنا - ننتهي إلى عادات فكرية ونفسية لو أنها امتحنت في نزاهة وذكاء لكانت أقرب إلى الجنون والشذوذ منها إلى التعقل السوي.
وأسوأ هذه العادات عند الطبقة المتوسطة والثرية هي أن نحيل الحياة إلى حساب؛ ذلك أن أحدنا ينسى أنه يجب أن يعيش فيستمتع بحياته ذكاء وصحة واجتماعا ومعرفة وحكمة، ينسى كل هذا ثم يرصد وقته وجهده في الحساب، وما هي زيادة دخله هذا العام على دخله في العام السابق؟ وماذا يستطيع أن يشتري بما ادخر مما يزيد هذا الدخل؟ إلخ.
وأحيانا تستحيل هذه العادة إلى جنون؛ فلا يشتغل الرأس إلا بها، ولا يتحرك النشاط إلا لأجلها؛ حتى إننا لنرثى لصاحبها؛ إذ نجد أنه مأسور قد استرقه الجمع والاقتناء، فلا يعرف لذة الطعام أو الشراب أو التنزه أو الاجتماع بالأصدقاء. وقد يسأل أحدنا عندما يتأمل هذه الشخصية ويقارنها بشخصية أخرى كثيرا ما يحتقرها، مثل شخصية المستهتر في الشراب أو النساء؛ أيهما أفضل؟
وليس هذا السؤال لأن الاستهتار حسن، ولكن لأن قصر الحياة على الحساب بالجمع والطرح، والزيادة والنقصان في الاقتناء أسوأ من أي استهتار؛ لأن أقل ما يقال في المقارنة هنا أن المستهتر مستمتع، ولكنه مبالغ مسرف في الاستمتاع إلى حد الضرر. ولكن هذا الحاسب لا يستمتع بتاتا إلا كما يستمتع النيوروزي؛ أي المريض النفسي بعادة تملكته واستبدت به، وهي بعيدة عن العقل، بل متمردة عليه.
ونحن في عصرنا الحاضر نحتاج إلى كاتب مثل د.ه. لورنس؛ كي يبين لنا أن واجبنا في الدنيا هو أن نعيش؛ فقد ألف هذا الكاتب قصته «عاشق الليدي شاترلي»، وأسرف في دعوته إلى الاستمتاع الجنسي باعتبار أنه أهم من الاعتبارات الاجتماعية التي تنكر علينا ملذاتنا، وتشغلنا بألوان أخرى من النشاط الذي ننحرف به ونزيغ عن هدف الحياة، وهو أن نحيا ونستمتع.
وليس شك أنه أسرف، بل إنه وقع فيما أراد أن يحذرنا منه؛ إذ هو جعل الاستهتار الجنسي هدفا، وكأنه اعتقد أن اللذة الجنسية هي كل ما في الحياة، وهذا خطأ فاضح.
وصحيح أن الاستهتار الجنسي، في القيم والأوزان الصحيحة ، خير من قضاء العمر في الحساب لاقتناء المال وزيادته، ولكن الاستهتار على كل حال إسراف، ثم إن اللذة الجنسية جزء من الحياة، وليست الحياة جزءا من اللذة الجنسية، فإذا نحن تحرينا الحياة المثلى؛ فإننا بلا شك لا نهمل الملذات الجنسية، ولكننا أيضا نضع هذه الملذات في مكانها، فلا تتجاوزه وتطغى على حياتنا كلها؛ إذ إن هناك ملذات أخرى تحتاج إليها الحياة المليئة الحافلة السامية؛ مثل الصحة والمعرفة والصداقة والذكاء والحكمة.
وإسراف لورنس في الإكبار من شأن اللذة الجنسية إنما هو مبالغة يرمي بها إلى تأكيد الظاهرة الجنونية الحاضرة في اندفاع الناس إلى جمع المال وقضاء العمر في الحساب؛ حتى أننا لنجد رجلا في الستين أو في السبعين ليس له من هم سوى الدفاتر يراجعها، والاهتمام بدخله، والتفكير في شراء عقار جديد أو نحو ذلك، مع أن كل ما بقي له من العمر قد لا يتجاوز سنة أو سنتين هو أحوج فيهما إلى أن يعرف ما جهل، أو بعض ما جهل، قبل أن يغادر هذه الدنيا.
ووطأة المجتمع علينا هي التي تسوقنا إلى أن نستبدل الحساب بالحياة، وإلى أن نسخر أنفسنا للجمع والاقتناء دون الاستمتاع بالعيش. وعادات المجتمع هذه ترسخ في نفوسنا بحيث نعيش في هذا الحساب كما لو كنا نملا أو جرادا ننشط نشاطا غريزيا لا نعرف غايته.
والرجل الذي ارتفع إلى أن يجعل من حياته فنا يجب من وقت لآخر أن يسأل نفسه: هل أنا أعيش للحياة أم أن قيم المجتمع وأوزانه قد غمرتني وسخرتني حتى صرت آلة جمع وطرح للحساب؛ أي لزيادة المال والدخل فقط؟
ويجب على كل منا أن يذكر نصيحة المسيح لنا، وهي أن نعيش كالأطفال؛ أي أن ننزل على القيم البشرية الساذجة، نحب الجمال والاقتحام، ونستطلع الدنيا كما يستطلعها الطفل.
العمل والفراغ
كي يكون نجاحنا في الحياة كليا شاملا وليس جزئيا خاصا يجب أن نواجه ونحل أربع مشكلات أصلية؛ هي: (1)
مشكلة العمل الذي نرتزق به. (2)
مشكلة الفراغ الذي نقضيه مختارين. (3)
مشكلة الزواج والعائلة والأولاد. (4)
مشكلة المجتمع الذي نعيش فيه، وتنظيم علاقاتنا المختلفة به.
والإهمال في واحدة من هذه المشكلات يتعسنا ويجعلنا في خصومة دائمة إما مع غيرنا وإما مع أنفسنا؛ بحيث نعيش في غير يسر كأننا نكافح تيارا بلا هدف يقتضي المكافحة. والقارئ لهذا الكتاب يعرف أننا نعزف على لحن يتكرر، هو أن النجاح يجب ألا يقتصر على ناحية أو جملة نواح من الحياة، وإنما يجب أن يكون قبل كل شيء نجاحا في الحياة كلها.
ومشكلة العمل الذي نرتزق به تبرز في عصرنا بروزا واضحا؛ لأن العلم لم يستخدم في الإنتاج إلى الحد الذي تتوافر فيه حاجات الناس، ولو استخدم لانتقلت بؤرة الاهتمام من الارتزاق بالعمل إلى الانتفاع بالفراغ، بل كذلك كانت بؤرة الاهتمام في المدارس والجماعات تنتقل هذا الانتقال.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال التي نرجوها يجب أن نجعل الاهتمام بالعمل الارتزاقي في مقدمة شئوننا التي نتدرب لها، ونثابر على تفهم تفاصيلها. وأعظم ما يجب أن نهتم به هنا هو اختيار العمل بحيث يلائم ميولنا وكفاءاتنا معا؛ لأن معظم التعس الذي يعانيه الناس من أعمالهم يعود إلى أنهم لم يختاروها، بل قضت المصادفات والظروف بأن «يقعوا» فيها، وأجبرتهم حاجات العيش على ممارستها كارهين أو متبرمين. وهذه الحال تجعلهم يتبرمون بالحياة كلها؛ أي يكرهون المنزل والنادي والأصدقاء والكتب؛ لأنهم يكرهون أعمالهم كأن حياتهم قد غشيت بغشاء من التبرم والسخط.
وعلى هذا نقول: إن اختيار العمل الملائم الذي نحبه ونستطيعه هو نصف الانتصار في معركة الارتزاق، بل ربما أكثر؛ لأننا بعد ذلك ننشط إلى الحذق والمثابرة والدرس. ونحن في العادة لا نشرع في الاختيار قبل السادسة عشرة من العمر، ولذلك نحتاج قبل ذلك إلى الإرشاد؛ لأننا نجهل ميولنا وكفاءاتنا، ونحتاج إلى من يحللهما ويخبرنا عن حقيقتيهما.
وكثير من التخلف الذي يصيب الموظف يعود إلى كراهته لعمله؛ لأنه أساء في اختياره؛ فهو يتهاون ويتثاءب ويكره رئيسه، أو يعتقد أنه يرهقه بالواجبات، بل أحيانا يحس صداعا بسبب هذه الكراهة، وهو يتعلل بهذا الصداع لطلب الإجازات، أو للزيادة في التهاون والتكاسل حتى تسوء العلاقات بينه وبين رؤسائه.
وعلاج هذه الحال - إذا كانت الوقاية لم تتخذ من قبل - أن يكون باستخدام الفراغ؛ بحيث يعوض من سأم العمل، وذلك بأن نمارس هواية ما تشغلنا وتعوضنا من النفور من العمل، وتعيد إلينا اتزاننا. ويجب لهذا السبب أن يكون لكل منا هواية، بل هوايات تتوافر بها اهتماماتنا، وعندي أن أعظم هذه الهوايات هو القراءة وتعود الدرس؛ لأنها الهواية الباقية إلى سن الشيخوخة، وهي في ظاهرها هواية واحدة، ولكنها في صميمها جملة هوايات؛ لأن الذي يعشق الدراسة يجد نفسه مشغولا بألوان مختلفة من الاهتمامات؛ يقرأ الجريدة والمجلة، ويناقش في السياسة، وقد يكافح لمذهب فيها، كما يقرأ الكتب ويقتنيها، ويضع المشروعات لدراسات جديدة، فيتجدد بذلك شباب ذهنه، وتتسع آفاقه العملية والأدبية. ومثل هذا الشخص لن يسأم فراغه، ولن يقضيه ذاهلا في غيبوبة نفسية على القهوات، ولن يقع في العادات السيئة؛ كالتهالك على التدخين أو الشراب.
والرجل الموفق هو الذي يجعل هوايته مرتزقة، ولكن يجب أن نعترف أن هؤلاء قليلون في مجتمعنا، حتى الأديب الذي يرتزق بقلمه لا يكتب على الدوام ما يهوى؛ لأن الضغط الاقتصادي يحمله في كثير من الأحيان على ألوان من الإنتاج الكمي لا الكيفي، يهدف منه إلى الكسب لا إلى الفن.
ولهذا نحتاج جميعنا إلى أن يمارس كل منا هواية ما تحل بها مشكلة الفراغ، ومتى حللنا هذه المشكلة فإن العمل الارتزاقي يسهل علينا، فلا يكون ذلك المضض الذي نراه في كثير من الموظفين وهم إلى مكاتبهم يتجهمون لأوراقهم ورؤسائهم.
العائلة والمجتمع
النجاح العائلي أكبر من النجاح الحرفي، ويجب أن يكون كذلك؛ لأن القيم العائلية بشرية في حين أن القيم الحرفية اجتماعية. والعائلة هي زوجة وأولاد وبيت، والرجل الذي وفق إلى اختيار زوجته واستمتع بحبه لها وعنايتها به، وأعقب أولادا وتعب لهم حتى نموا وأينعوا أمام عينيه، مثل هذا الرجل قد حظي بنصيب عظيم من متع الحياة.
واختيار الزوجة هو، مثل اختيار العمل، نصف المعركة؛ لأننا إذا لم نحسن الاختيار تعرضنا لألوان من التعس كنا نستطيع تجنبها، وأعظم ما يتيح لنا الاختيار الحسن أن نطيل مدة الخطبة؛ حتى نعرف بالاختلاط شخصية الفتاة التي سنتزوجها.
وواضح أن الخطيبين يحرصان مدة الخطبة على أن يظهر كل منهما للآخر بأحسن مظاهره، ولكن حتى مع هذا الحرص يستطيع كل منهما أن يفطن إلى الاتجاهات والميول في الآخر.
ويجب أن يتجنب كل منهما إغراء الفتنة؛ فقد يفتتن الشاب بنغمة الصوت، أو زرقة العينين، أو تورد الوجنتين في خطيبته، ثم ينخدع بهذه الصفات إلى الانزلاق في الاختيار السيئ. وخير ما يكفل الاختيار الحسن أن يسأل الشاب نفسه: كيف نكون معا، أنا وهذه الفتاة، في بيت وحدنا بعد خمس سنوات، ثم بعد عشر سنوات؟ كيف نتحدث، وكيف يعاشر أحدنا الآخر، وكيف يكون أولادنا معنا؟
وخير للخطيب أن يختار خطيبته بوجدانه؛ أي في تعقل ودراية، من أن ينزلق في الإغراء الجنسي. والحب الضعيف مع الأمل في نموه في المستقبل يفضل الحب العظيم الذي لن ينمو. ويجب هنا ألا ننسى أن الحب هو غير الافتتان؛ الأول وجداني تعقلي، والثاني غريزي شهوي، بل هما أحيانا متناقضان؛ بحيث إذا زاد الحب ضعفت الشهوة.
ويجب أن يكون للقيم والأوزان البشرية التفضيل على القيم والأوزان الاجتماعية في اختيار الزوجة؛ فالجمال والصحة والذكاء قيم بشرية، ويجب أن تفضل لذلك على الثراء والمكانة والثقافة؛ لأن هذه قيم اجتماعية. ولكن من الحسن ألا يختار الشاب فتاة من غير طبقته الاجتماعية أو دون ثقافته؛ لأن التفاوت هنا يعني تفاوتا في الذوق والعادات والاتجاهات، وإذا كان الاختلاف صغيرا فإن النتائج لن تكون خطيرة، ولكنها تفدح إذا كان الاختلاف كبيرا. وفي بلادنا، حيث تتجه العناية إلى تربية الشبان دون الفتيات في أغلب الحالات، نجد هذا الاختلاف واضحا؛ ولذلك لا بد من التسامح، ولكن مع النصح للزوج بأن يعنى بتربية زوجته، وتنبيهها إلى ترقية شخصيتها وزيادة ثقافتها.
والتوفيق بين الزوجين لا يتأتى مع الحماة أو الحمى من أية الناحيتين؛ ولذلك يجب أن يعيش الزوجان مستقلين في بيت منفصل عن الآباء والأمهات ، فإذا لم يكن هذا ممكنا للظروف الاقتصادية - مثلا - فيجب على الأقل أن تعرف هذه الحقيقة، وأن يؤسس البيت مع اعتبار هذه «الضرورة» التي تواجه كما لو كانت صعوبة قهرية لا مفر منها، وبهذا الاعتبار يمكن أن تواجه المواجهة السليمة، وأن توزن الوزن الصحيح.
وكل ما قلناه عن الشاب ينطبق أيضا على الفتاة.
ويجب على الزوجين أن يجعلا من البيت متحفا، وليس مأوى فقط، فإذا جاء الأولاد صار معهدا حرا للجميع آباء وأولادا، فلا سيد ولا مسود، ويجب أن تقتنى التحف الفاخرة، وتهيأ الغرف بأغلى الأثاث؛ حتى يجذب البيت الزوج، ويصير مرتكز نشاطه واهتمامه، كما يجب أن يكون البيت مضيفة راقية يجد فيه الزائرون متعا مختلفة من الرسوم الفنية والموسيقى العالية، إلى السمر المنير والمناقشة المربية.
والنجاح في المجتمع يأتي بعد النجاح في العائلة، وهو يحتاج إلى أن ندرس المجتمع بتتبع السياسة العامة؛ عالمية وقطرية، وإلى أن نطابق بين مصالحنا ومصالحه حتى لا يكون تنافر. هذا التنافر الذي يبلغ القمة عند المجرمين؛ لأن المجرم يتصرف وهو على غير وفاق مع المجتمع، ويصل إلى غايته وهو على تنافر مع الأساليب الاجتماعية.
والنجاح الاجتماعي يقتضي العناية بالأصدقاء ورعايتهم، وتجنب التفريط في صداقتهم، وقد يكون الاهتداء إلى صديق وملازمته أمتع متعة في الحياة.
والمجتمع يحتاج إلى المزاج الانبساطي؛ أي مزاج ذلك الشخص الذي يحب الاختلاط، ويغشو الأندية والمطاعم والمسارح والمصايف، ويميل إلى الزيارات.
وصاحب المزاج الانطوائي ينفر من هذه الانبساطية، ولكن عليه أن يتمرن على ممارستها إلى حد ما، كما يجب على صاحب المزاج الانبساطي أن يتمرن على ممارسة الخلوة والقراءة والدراسة والتفكير إلى حد ما.
والخلاصة أنه يجب على كل شاب أو شابة أن يسأل نفسه: هل أنا نجحت في حل هذه المشكلات الأربع: الحرفة والفراغ والعائلة والمجتمع؟ وإلي أي حد بلغ نجاحي؟
الرجل والمرأة والزواج
نحن نعيش في بيوتنا أكثر مما نعيش خارجها، ولن تهنأ حياتنا لهذا السبب إلا إذا عنينا أكبر العناية بأن نجعل بيوتنا حاوية لصنوف الراحة والرغد. وحياة العزوبة هي حياة ناقصة قليلة الاختبارات والمتع، والمتزوج قد لا يطول عمره أكثر من الأعزب، ولكن حياته أعرض، وهي أعرض بالمسرات والأحزان التي لا يعرفها الأعزب.
ومعظم العمر نقضيه مع زوجة قد عرفناها في الأغلب بعد سن العشرين أو الثلاثين، وقد عاش كل منا قبلا في بيئة تختلف عن البيئة التي عاش فيها الآخر؛ ولذلك ليس بعيدا أن نصطدم وأن تحفل الحياة الزوجية بالمتاعب.
ولكن هناك ما هو أخطر من هذا، ذلك أننا نعيش في مجتمع اقتنائي تحاسدي، يجعل الأنانية فضيلة، ويحملنا على المباراة واقتناء المال، ثم يشملنا هذا الروح فنعود الأنانية والرغبة في الخطف والاقتناء والحسد والحقد والبعد عن الحب والتعاون، كل هذا يعود كما لو كان هو الطبيعة البشرية الأصلية؛ فإذا تزوجنا عاملنا الزوجة وفق ما تعلمنا وتدربنا عليه في المجتمع، فنطالب الزوجة بالخضوع، ونطالبها بأن تخدم ملذاتنا، ثم نلتذ ملذاتنا على انفراد نفسي، وفي خطف ونهب كما كنا، ولا نزال نعيش في المجتمع.
وليس هذا المجتمع الذي وصفنا جديدا ظهر في عصرنا، إذ هو قديم قد رسخت أخلاقه في سلوكنا وتصرفنا، وهو يشقي حياتنا الزوجية، وله علامات تخفى أحيانا على الناقد فضلا عن عامة الناس، فإن أتوقراطية الرجل ورغبته في أن تكون زوجته أداة للذة يقابلها دلال المرأة وغيرتها الجنونية من الأوهام والحقائق، وكلاهما يسير بروح الاقتناء والخطف كما لو كان كل منهما تاجرا يشتري رخيصا لكي يبيع غاليا.
وأسوأ ما تعلمناه من هذا المجتمع الأناني التحاسدي الاقتنائي الذي نعيش فيه أننا ننظر إلى المرأة جنسيا بدلا من أن ننظر إليها إنسانيا؛ فهي امرأة فقط وليست إنسانا؛ نعني أننا نقتنيها كي تخدم ملذاتنا وتغسل أولادنا، فهي ليست الإنسان المتعاون الصديق الزميل الذي نرافقه ونصادقه؛ ولذلك كثيرا ما تستحيل البيوت إلى مطاعم أو فنادق للأكل أو النوم فقط، وهذا المنظر يوهم الكسب للرجل، ولكنه في صميمه يعود عليه بالخسار أيضا حتى من ناحية اللذة الجنسية؛ إذ هي في هذا النظام تتقلص إلى الخطف والنهب، فتجري وكأنها صرع تشنجي، أو كأنها طرب جنوني، يغمر الجسم في عجل ثم ينطفئ فجأة.
لذة عابرة خاطفة لا نذكرها بالحنان والحب والصداقة، ولكن بالخطف، وأحيانا بالقسوة والاغتصاب. وكثير من الشذوذات الجنسية لهذا السبب يعود إلى المبالغة في الانسياق في الصفات الاجتماعية التي يطالبنا بها النجاح في الكسب والوجاهة والتفوق؛ إذ إن هذه جميعها تحتاج إلى الخطف والنهب والقسوة والحسد والأنانية، بل أحيانا إلى الغش، والشذوذات الجنسية هي في صميمها غش، واللذة الجنسية هي في صميمها وفي أسلوبها نقطة التبلور لاتجاهنا الاجتماعي وأخلاقنا الاجتماعية، فليذكر هذا كل شاب وكل فتاة.
ومن هنا الكثير من الرذائل التي تحسب في ظاهرها رذائل روحية، ولكنها في باطنها رذائل اجتماعية؛ فإن الشاب الذي يخشى أن يتزوج الفتاة المتعلمة إنما هو في صميمه يخشى المساواة التي لم يتدرب عليها في المجتمع؛ إذ هو نشأ في مجتمع قد غرس فيه الرغبة في التفوق والتسلط والأنانية والخطف والخوف، فكيف يمارس كل هذه الصفات في حرفته ومعاملته وينساها في الزواج؟ فهو يعامل زوجته تلك المعاملة الحميمة التي تعلمها من البغي حين كان يؤدي ثمن لذته بالقرش والمليم، ويخطف هذه اللذة خطفا. وهذه المعاملة ترسخ فيه فلا يعرف كيف يغيرها، ولو أنه كان قد نشأ بروح التعاون والحب والمساواة لكانت اللذة الجنسية نفسها لا تتم إلا بهذه الصفات، وعندئذ كانت تكون متبادلة هنيئة للزوجين.
ولهذا أصبح الزواج كأنه صفقة بيولوجية تتم بين الرجل والمرأة، لا يسودها الحب والثقافة. أجل، الحب والثقافة، وكلاهما لا يعرفه الحيوان.
ولكن حتى المقارنة بيننا وبين الحيوان لا تدل على أن الكسب في جانبنا؛ لأن أقل ما يقال في الحيوان أنه ينساق بغريزته الساذجة الفطرية، ولكنا نحن نفسد هذه الغريزة بوجدان المجتمع الانفرادي القائم على الخطف والخوف والنهب والحسد والاغتصاب. فنحن لا نتعاون في اللذة الجنسية، بل نتخاطف في طرب ماني وصرع وقتي، سرعان ما نفقدهما ونعود إلى ما يقارب اليأس والجمود والنفور.
ولن يتحقق الهناء الزوجي إلا بعد أن يعيش النساء والرجال في تعاون، وما يجلبه هذا التعاون من حب وإخاء ومساواة وطمأنينة واستبشار بالمستقبل؛ لأن المجتمع الذي نعيش فيه في الوقت الحاضر يشقينا بالقلق؛ فنحن نقلق ونخاف، نخاف من الفقر والمرض والهزيمة في المباراة الاقتصادية والإفلاس، وكل هذه الصفات تنتقل إلى العلاقة الجنسية، فتعود هذه العلاقة قلقة غير مطمئنة.
أي إن نظامنا الاجتماعي ينتقل بأساليبه إلى نظامنا الجنسي؛ فإذا كنا نخاف من الدنيا ونهرول ونخطف ونقلق ونحسد، ونؤثر أنانيتنا على مصلحة إخواننا في المكتب والمتجر والسوق والمصنع، فإننا ننقل كل هذه الصفات إلى العلاقة الجنسية، فلا نستمتع بالغريزة الفطرية التي يستمتع بها الحيوان، بل نفسدها بوجدان سيئ من حياتنا الاجتماعية السيئة.
ولذلك نحتاج كي تهنأ الحياة الزوجية وتزول الشذوذات الجنسية إلى مجتمع تعاوني سوائي يقوم على الحب وليس على المباراة؛ أي يجب أن نعيش في نظام اشتراكي، وأن يتعلم الرجال والنساء منذ ولادتهم إلى وفاتهم الاختلاط والتعاون والمساواة، وأن نطمئن على عيشنا؛ فلا يكون هناك قلق يغمر شخصيتنا، ويحملنا على الهرولة والخطف: هرولة وخطف في المجتمع يؤديان إلى هرولة وخطف في التعارف الجنسي.
فإذا تم هذا؛ أي إذا تغيرت «الطبيعة» البشرية، وهي في صميمها طبيعة اجتماعية، وإذا تساوى الرجال والنساء عمت الطمأنينة، وزالت الرغبة في التسلط، وعندئذ تهنأ الحياة الزوجية، وترقى على أسس من التعاون والحب والثقافة، فلا تكون غريزية كالحيوان، ولا شقية بالوجدان الاجتماعي السيئ الحاضر، وتخرج المرأة من أنثويتها الضيقة إلى ميدان الإنسانية الواسع.
كيف نصادق زوجاتنا
الصداقة ضرورية لكل إنسان؛ إذ إننا نجد من الصديق سلوى ومؤانسة وانحيازا نحتاج إليها في حالي الضيق والسعة على السواء ... ونحن نتخير أصدقاءنا عادة بحيث يتفقون معنا في الرأي، أو يتكافئون معنا في الثقافة وأسلوب العيش، وبعيد أن نصادق من نختلف معه في كل هذه الأشياء.
وكثيرا ما نتجنب حتى أقرباءنا، بل وإخوتنا، إذا وجدنا أننا لسنا وإياهم على وفاق في أسلوب العيش، أو الرأي، أو العقيدة، أو الثقافة، أو الدرجة الاجتماعية.
وفي مصر حيث لا يزال الاتجاه العام يميل إلى تمييز الشاب على الفتاة في التعليم، نجد أن التكافؤ الثقافي بين الزوجين معدوم، وأن الهوة بينهما كبيرة، ومن ثم تكاد تنقطع بينهما أسباب الصداقة.
والرجل قد يعيش مع زوجته نحو أربعين أو خمسين سنة، وليس هذا العيش سهلا إذا لم تكن هناك صداقة تربطهما؛ ولذلك غالبا ما يتجه الرجل إلى خارج بيته، حيث الأصدقاء من الرجال يقاعدهم في القهوة، أو في النادي، ويجد فيهم بديلا من الزوجة.
وفي أوروبا تتعلم المرأة كالرجل تقريبا، ولذلك يتكافأ الزوجان في الثقافة، فتصبح المرأة وإذا بها ليست زوجة فحسب، بل صديقة لزوجها أيضا، يشتاق كل منهما إلى رؤية الآخر ومجالسته ومحادثته، ويخرجان معا، ويقرآن الكتب التي يشتريها أحدهما معا، ويناقشان موضوعاتها.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال؛ أي إلى أن نسوي بين تعليم الشاب والفتاة بلا تفرقة أو تمييز، نحتاج، نحن الأزواج أو المرشحين للزواج، إلى أن نرفع زوجاتنا إلى مصافنا في الرأي والمعرفة والثقافة. وليس هذا بالأمر الشاق كما يتوهم القارئ.
والمهندس - مثلا - لا يحتاج إلى تعليم زوجته دقائق الهندسة الآلية أو الكيماوية، والمحامي ليس بحاجة إلى أن يشرح لزوجته فقه القانون الروماني، والطبيب لا يحتاج إلى أن يدرس لها الفسيولوجية ... ليس هذا ضروريا، وإن كنا قد رأينا أزواجا استطاعوا أن يشركوا زوجاتهم حتى في هذه الأشياء الفنية!
ولسنا في صداقتنا لزوجاتنا نحتاج إلى كل هذا، وإنما نحتاج إلى أن نتحدث إليهن عن شئوننا المهنية؛ حتى نثير استطلاعهن، ونبعث فيهن الشوق إلى التعرف على أعمالنا.
وأولى من هذا وأسهل أن نجعل الجريدة والمجلة والكتاب بعض أثاث البيت، نشتريها في عناية، ونختار منها الأحسن والأنفع، ونقرؤها مع زوجاتنا، ونناقش ما فيها من شئون سياسية أو اجتماعية. وبهذه الوسيلة يتقارب الزوجان تقاربا ذهنيا، ويتفقان على مبدأ في الرأي والعقيدة.
وقد يقول القارئ: إن الحديث عن السياسة أو قراءة الجريدة ليس كل شيء في التكافؤ الثقافي الذي يؤدي إلى الصداقة. ولكن هل هذا القول صحيح؟
أليست السياسة كل شيء في أيامنا هذه؟ أليست هي التي تسيطر على حديثنا وتثير اهتمامنا؟
والكلام في السياسة هو في عصرنا هذا حديث في العلوم والاجتماع والاقتصاد معا؛ فالقنبلة الذرية، والغلاء، والاستعمار والانقسام في الهند، وإحراق المحاصيل في أمريكا، وأثمان البترول والطيران، وإضراب العمال، كل هذا وغيره قد أصبح من صميم السياسة.
ومتى شرعت الزوجة، التي لم تلق عناية كبيرة قبل الزواج بتعليمها، في قراءة الجريدة مع زوجها، ووجدت منه المفسر والموضح الذي يستخلص لها المغزى، فلن تمضي سنوات حتى تكون على تكافؤ يكاد يكون تاما مع زوجها نورا وعرفانا ورأيا واطلاعا، وعندئذ تسعد هي بصداقته كما يسعد هو بصداقتها.
أعرف رجلين يختلفان في المهنة وأسلوب العيش تزوجا أختين على قدر متساو من التعليم، وهو تعليم ابتدائي قليل النفع سريع الزوال، ولكن أحد الزوجين جعل زوجته شريكته في المجلة والجريدة، والآخر لم يبال هذا الاشتراك، وقد مضت عليهما إلى الآن نحو 15 سنة، فماذا كانت النتيجة؟ الأولى تقرأ وتناقش وهي صديقة زوجها، عندما يقعد إليها يجد أن الحديث يرتفع من القيل والقال إلى موقف ترومان ووالاس، واتجاه الوفد في المعاهدة، وموقف روسيا والقنبلة الذرية، والفرق بين حزب العمال وحزب المحافظين ... إلخ.
أما الأخرى فقد نسيت القراءة تماما؛ ولذلك هجرها زوجها إلى القهوة، وأخذ يعيب عليها جهلها!
ولا شك أن المدارس في المستقبل، ستغنينا عن هذا الجهد عندما تعنى برفع مستوى الزوجة إلى مستوى الزوج، بمحو الفروق التعليمية بين الجنسين، ولكنا الآن في حاجة لأن يعنى كل زوج منا بزوجته حتى يعلمها، ويثير اهتمامها، ويوقظ ذهنها. وخير الوسائل المؤقتة لذلك هي الجريدة والمجلة ... والمجهود الذي يبذله الزوج في هذا السبيل ليس مجهودا ضائعا، وحسبه أنه بذلك يكسب صداقة زوجته، تلك الصداقة التي تفسح له آفاق السعادة الزوجية والهناء العائلي.
مجتمعنا الانفصالي الحاضر
نحن أقل مسرات ومباهج من الأوربيين؛ لأن هؤلاء يلقون الدنيا في صراحة أكثر منا، ونحن بالمقارنة إليهم نوارب ونداري كأننا ملوثون بتهمة نخشى أن تفتضح؛ يعيش رجالنا منفصلين من النساء، لهم مجتمعهم الخاص ومسراتهم الخاصة، فإذا كانت هناك علاقة بين الجنسين فهي ليست علاقة الأنسة والرفقة والزمالة الاجتماعية كما هي الحال في الأمم المتمدنة، وإنما هي العلاقة البيولوجية البدائية التي قد ترتقي أحيانا إلى أنسة اجتماعية محدودة بالبيت، ولكن ما أصغرها وأضيقها!
كل هذا لأننا نعيش في مجتمع انفصالي؛ الرجال ينفصلون من النساء.
والآثار التي يخلفها هذا الانفصال لا تقدر؛ فإن الزمالة الزوجية التي تعد شرطا ضروريا للحياة السعيدة بين الزوجين ليست من المعجزات التي تباغتهما منذ العرس؛ لأن هذه الزمالة تحتاج إلى مرانة قد حرم منها شبابنا وفتياتنا؛ لأننا حرمنا الاختلاط بينهما قبل الزواج، فأصبح كل منها منكفئا على نفسه، له عقلية خاصة، وإحساسات نفسية خاصة؛ كأنه مخلوق من كوكب آخر؛ ولذلك يلتقيان بعد الزواج وهما غريبان يحتاج كل منهما إلى مجهود جديد للتوفيق في الحياة المشتركة الجديدة.
والأوربيون يختلطون؛ يتعلمون وهم صبيان في مدرسة واحدة، وأحيانا يتعلمون معا أيضا في المدارس الثانوية. أما الجامعات فالتعليم على الدوام مشترك لا ينفصل فيه جنس من آخر، وهذا إلى الاختلاط بالضيافة التي لا تنقطع؛ ولذلك ينشأ الشبان والفتيات على دراية ومعرفة، فإذا دخلوا في بيت الزوجية كان دخولهم على نور وهدى، وليس بمثابة الكشف عن أرض مجهولة كما هي الحالة الأسيفة عندنا.
ومنع الاختلاط بين الشبان والفتيات يعقب آثارا من الأمراض النفسية يعرفها الدارسون لهذا الموضوع؛ لأن هذا الفصل يجنح بالشاب أيام المراهقة إلى الاستسلام للخيال الذي لا ترده ولا تحده حقائق الاختلاط ولمس الواقع؛ فهو ينتقل من خيال إلى خيال، ويشطح ويتطوح إلى أن يجد نفسه يوما وقد بعد إلى منأى تخصب فيه الشذوذات الجنسية التي يشق عليه، وأحيانا يستحيل، أن يتخلص منها حتى بعد الزواج.
ونحن الرجال نحتاج على الدوام إلى الاختلاط بالجنس الآخر منذ أن نولد إلى أن نموت؛ لأن أقل ما يقال في تبرير هذا الاختلاط أنه هو الوضع الطبيعي الذي يجب ألا يناقضه وضع اجتماعي. والشاب المختلط - زيادة على أن غرائزه تبقى سليمة بعيدة عن الشذوذات - يرقي شخصيته بالاختلاط بالجنس الآخر؛ إذ هو يعنى بلباسه ولغته وصحته؛ لأنه يجب أن يبدو بأحسن ما يستطيع؛ حتى يجلب الإعجاب والرقة من الجنس الآخر، بل هو يرقي ذهنه ويربي حواسه لهذا الغرض أيضا. ونحن نستطيع بالفراسة السيكلوجية أن نعرف الشاب المنفصل الذي لم ترتق نفسه وحواسه وذهنه بالاختلاط الجنسي.
وأول ما نجد فيه إهمالا في هندامه؛ إذ هو لا ينتظر إعجابا ولا يتكلف عناية لجلب هذا الإعجاب من الفتاة، وهو يؤمن بالشهوة لا الحب؛ لأنه لم يسامر قط فتاة، ولم يعرف قط أن للفتيات ميزات روحية ونفسية وثقافية وذوقية، وأنهن يمتزن أيضا بالشجاعة والتضحية والشرف.
ومثل هذه الحال التعسة تكون أيضا عند الفتاة المنفصلة، مع الاختلاف الذي تقتضيه ظروفها، بل هي أتعس من الشاب؛ لأن حبسة البيت أسوأ أثرا هنا، والشاب مع انفصاله لا يحبس في بيته؛ ولذلك تفقد الفتاة حيويتها، ويستولي عليها جمود ينقص - إن لم يلغ - جاذبيتها، مع أن مواهبها الطبيعية في الجمال قد تكون كبيرة جدا، ثم تسودها عقلية المنع والانكفاف؛ لأن الإحجام المادي يتشعع من بؤرته في البيت إلى ألوان من الإحجام الذهني والنفسي، «فيجب ألا تنظري، ويجب ألا تقرئي، ويجب ألا تعرفي ... إلخ».
وقد أكون قد بالغت في وصف المساوئ التي تعود من الانفصال بين الجنسين؛ لأن الحدود والسدود قد تحطمت إلى حد ما، ولكن يجب أن نسلم أنها - مع الأسف - لا تزال قائمة في كثيرة من أوساطنا، وهي أحيانا، مع تحطمها في الواقع المادي، لا تزال قائمة في بعض الأذهان والنفوس.
يجب أن نعد الاختلاط جزءا من تربيتنا العامة، وأن ندعو إلى التعليم المختلط في المدارس الابتدائية، وإلى تشجيع الضيافة الراقية، بل أيضا إلى غشيان المطاعم والقهوات العامة مختلطين.
وعندما ينتقل مجتمعنا من حال الانفصال إلى حال الاختلاط سوف نحس أننا أمة متمدنة، وسوف يربينا الاختلاط، ويحدث بيننا زمالة واحتراما، ثم يؤدي إلى الحب. أجل، هذا الحب المكشوف الصريح الشريف الذي لا يحتاج إلى اختلاس النظر من خلف الأبواب والأستار.
الحياة الفنية للمرأة
كل ما قلناه عن الرجل في الفصول السابقة ينطبق أيضا على المرأة، وقد نبهنا عن ذلك في كلامنا عن العائلة والمجتمع، ولكنا نحتاج مع ذلك أن نعالج الحياة الفنية للزوجة؛ لأننا في مصر قد ورثنا من التقاليد أخطاء كثيرة ألغت المرأة من مجتمعنا، وغيبتها عن وجداننا، وقد كوفحت هذه التقاليد بتعميم حرية المرأة، وانتشار المدارس إلى حد بعيد، ولكن لا يزال لهذه التقاليد رواسب إذا لم ترتفع إلى وجداننا الذهني؛ فإنها لا تزال تصبغ عواطفنا، وتؤثر في حياة المرأة.
والحياة الفنية للمرأة تقتضي أن تعمل كالرجل؛ فتحترف حرفة ما ترفعها من الأنثوية إلى الإنسانية، وتربيها طوال العمر، وتحملها على النمو والإيناع النفسي، كما تقتضيها الاتصال بالرجال. ونحن الرجال لا نستطيع أن نتخيل أنفسنا منفصلين عن المجتمع، ومحرومين من الحرفة؛ لأننا نعرف أننا في هذه الحال نسقط سقوط اليأس الذي لا ننهض منه؛ ذلك لأن الحرفة والمجتمع يربياننا، وهما من أكبر الدوافع لارتقائنا الذهني والنفسي، بل والجسمي.
وقليل من المقارنة بين امرأة لزمت البيت وحرمت من المجتمع، وأخرى عملت في حرفة واختلطت بالمجتمع مدة عشر سنوات - مثلا - يوضح لنا مقدار الفرق العظيم بينهما؛ فإن قيم الحياة إلى حد عظيم قد ألغيت عند الأولى، بينما هي قد روعيت عند الثانية؛ ولذلك بينما تركد الأولى وتسمن وتترهل لقلة حركتها، وتضيق آفاقها الذهنية والنفسية، تنشط الثانية في عملها، وتستبقي نحافتها وعضليتها، وتتسع آفاقها الذهنية والنفسية.
وليس لأحد منا أن يؤمل في القريب أن تستوي المرأة بالرجل، فإنها لم تصل إلى هذه الحال في أوروبا وأمريكا إلى الآن، ومع أن قوانين الدول هناك تنص على المساواة؛ فإن قواعد المجتمع تأبى هذه المساواة. وفي مصر لا تزال الحرفة مكروهة عند المرأة، وكثيرا ما تخرج منها عندما تلوح لها الفرصة، كما نرى في بعض المعلمات - مثلا. ولذلك فإننا عندما نعالج مركز المرأة في مصر نتجه إلى البيت كأنه كل شيء، وهو، في وضعها الاجتماعي القائم عندنا، يكاد يكون كذلك، وإنما الذي ننساه هو أن البيت للمرأة، وليست المرأة للبيت؛ أي يجب أن يعد البيت لراحتها ورقيها وسلامتها، ولا يضحى بها من أجل الطبخ والكنس والغسل.
والبيت في مصر كثير الأعباء، مرهق التكاليف، كثيرا ما يشبه الورشة في إرهاقه وتعدد واجباته الصغيرة، كما لا يزال المطبخ والمغسل ورشتين صغيرتين لا ينقطع العمل منهما طوال النهار وبعضا من الليل. وربة البيت مضطرة إلى الإشراف عليهما إذا لم تباشر بنفسها العمل فيهما، وهي في كلتا الحالتين تقتطع من وقتها وفراغها ما كان أحرى أن تنفقه في ترقية شخصيتها بالدراسة والاختلاط والانتفاع المثمر بالفراغ.
وتستطيع المرأة المصرية أن تنتفع باختبارات المرأة الأوروبية هنا؛ فإن هذه تخص يوما أو يومين للخروج مع زوجها وأولادها، والغداء أو العشاء في المطاعم، كما أنها تخص يوما أو يومين في الأسبوع لتناول الأطعمة المعلبة التي تستغني بها عن الطبخ! والخروج إلى المطاعم يتيح الاختلاط، كما أن اقتناء العلب العديدة الوفيرة للأطعمة يتيح الفراغ الذي تستخدمه ربة البيت في تثقيف ذهنها، أو في أي استمتاع آخر.
ولذلك ارتقت بعض المطاعم في أوروبا حتى ليصح أن يقال إنها ليست لتزويد زائريها بالطعام فقط؛ إذ لا يخلو مطعم منها من جوقة موسيقية، كما أنها في ترتيب موائدها، واختيار آنيتها، وتزيين جدرانها، والتأنق في الطبخ تبلغ القمة. وتناول الطعام فيها ليس لتوخي الشبع المعدي، ولكنه قبل ذلك متعة فنية أنيقة. وكثيرا ما تعود الزوجة من المطعم وقد درست درسا نافعا في طبخ أحد الألوان، أو ترتيب المائدة، وهذا إلى فوائد أخرى في الاختلاط بالأصدقاء أو الاستماع للموسيقى.
كما أن الأطعمة المعلبة تتنوع وتتعدد إلى حد لا نتخيله في مصر؛ حيث نكاد نقتصر من هذه الأطعمة على السردين؛ فإنهم في أوروبا وأمريكا يعلبون جميع اللحوم والخضراوات والأسماك، فتستطيع ربة البيت أن تحضر طعام اليوم كله دون أن تحتاج إلى طبخ، بل إن كيزان الذرة نفسها توضع في علب. وزيادة على هذا تباع الفراخ منظفة، فلا تحتاج إلى عناء الذبح والتنظيف في البيوت كما هي الحال عندنا؛ حيث نشتري الفراخ حية ونذبحها، ونحيل المطبخ بريشها وأحشائها إلى مزبلة.
وإذا شئنا الترفيه عن المرأة المصرية في البيت حتى تجد الفراغ الذي تحتاج إليه كي ترقي شخصيتها، وتنير ذهنها، وتوسع آفاقها، فإننا يجب أن نعاونها على ذلك بغشيان المطاعم، والاعتماد على الأطعمة المعلبة، وإحالة الغسل إلى المغاسل، كما نحيل الكي إلى المكاوي. وبهذا تخف أعباء البيت التي ترهق في الوقت الحاضر آلافا من نساء الطبقة المتوسطة.
وبالطبع لا ننسى هنا كثرة الأولاد؛ أي الإسراف في التناسل الذي يرهق الأمهات، ويستنفد كل مجهودهن، بحيث لا يبقى لهن من القوة ما يتوفرن به على عمل آخر. وقد توافرت وسائل الضبط للتناسل، كما أصبحت مأمونة، ولا عذر للزوجين في إهمالها؛ لأن هذا الإهمال سينعكس أثره في الزوجين اللذين سوف تصدمهما حقائق الحاجات الاقتصادية، فيعجزان عن توفير الصحة والتربية للأولاد، بل أيضا لهما؛ لأنهما هما أيضا في حاجة إلى صحة وتربية.
وعلى ذلك نقول: إن الحياة الفنية للمرأة إذا لم تكن تعمل مستقلة؛ أي طبيبة أو معلمة أو ممرضة أو تاجرة، تحتاج إلى الاقتصاد في عمل البيت من ناحية، وفي عدد الأولاد من ناحية أخرى.
العادات
نحن نعيش بالعادات: عادات العمل، وعادات الفكر، ولكل منا عاداته الخاصة؛ الحسنة أم السيئة؛ في المشي والحديث والأكل والتفكير؛ أي إنه يتخذ أسلوبا أو أساليب في كل ما يعمل، وهذه الأساليب تلصق به طوال عمره.
وقد كان ولنجتون يقول عن العادة: إنها ليست طبيعة ثانية كما هو المثل الجاري؛ إذ هي تزيد على الطبيعة عشر مرات.
وعادات التفكير لا تقل خطورة عن عادات العمل؛ فإن الناس يختلفون تفاؤلا أو تشاؤما بالدنيا وصروفها لعادات فكرية تعودوها، ولا يطيقون التخلص منها. وكلنا يعرف ذلك الشاب الذي يتسم بالتهكم أو المزاح، فيثقل علينا باستصغاره لكل ما نفعل، أو يملؤنا طربا بنكاته ونوادره، وهناك بالطبع ذلك الآخر الذي تعود الوقار فيكاد يجهل الضحك، ثم هناك آخرون قد تعودوا الانتقاد، أو حتى المنافرة؛ فهم على الدوام في موقف المعارضة والمناقضة، ثم هناك ذلك الذي تعود المخاصمة فلا نعرف كيف نحادثه؛ لأننا نتوقع منه كل وقت لوما لنا في غير ما نستحق أن نلام عليه.
وجميع هذه الأخلاق عادات ذهنية يتعودها أحدنا في الغالب أيام طفولته، فتثبت ولا تتركه طوال حياته.
ولكن كما تثبت العادة السيئة كذلك تثبت العادة الحسنة؛ ولذلك يحتاج كل منا كي يعيش في اقتصاد ذهني وجسمي، وفي ملاءمة بينه وبين الوسط الاجتماعي أو المادي، أن يتعود العادات الحسنة؛ أي عادات الأكل الصحي، والدراسة الدائمة، والعمل المجدي، والتسلية المرقية، والمعاملة أو المعاشرة الاجتماعية التي تنأى عن الشر.
وميزة العادات - زيادة على أنها تثبت وتلصق بنا - أنها تجعل العسير من الأعمال سهلا محببا إلى النفس. وصحيح أن عاداتنا العامة التي تحرك غرائزنا وتنشط عقولنا تأتينا عفوا، بعضها أيام الطفولة، وبعضها بعد ذلك، ولكن ليس معنى هذا أننا نعجز عن تكوين العادات الحسنة؛ أي نكونها بإرادتنا، وعلى وجدان تام بمنفعتها وضرورتها لنا.
والهدف الذي نقصد إليه من تكوين عادة، أن نقتصد في مجهودنا حتى نستطيع أن نؤدي مقدارا من العمل أكبر مما كنا نؤديه قبل تكون العادة، ونستهلك من قوتنا أقل مما كنا نستهلك.
والرجل الحكيم لا يترك نفسه يعيش عفوا كأنه مسوق بالظروف والصروف؛ إذ يجب أن يعيش قصدا بأهدافه، وعلى تقدير لمواهبه وكفاءته، واستغلال لهما بما يجعل حياته مجدية إن لم تكن سعيدة، وهو محتاج - لهذا السبب - إلى أن يتعود العادات الحسنة التي تعاون على رقيه وتطوره.
وأول ما نحتاج إليه في تكوين عادة ما أن نقتنع بفائدتها وضرورتها لنا، وهذا الاقتناع ليس محض الميل والاتجاه؛ إذ يجب أن نعين الفوائد التي تعود علينا كتابة مع التفصيل الذي ربما يحتاج إلى مراجعة وتفكير وتنقيح؛ أي إننا يجب أن نحس أننا لم نأخذ بهذه العادة إلا بعد حكم قد وصلنا إليه عن وجدان ويقظة، وأننا بنينا هذا الحكم على أسباب قوية قد اقتضاها «تصميم» حياتنا.
فإذا اقتنعنا بفائدة العادة شرعنا فيها، وحسبنا من هذا الشروع أن نعمد إلى يومنا؛ أي هذا اليوم، إلى ممارسة العادة، ثم نجدد العزم كل يوم على هذه الممارسة إلى أن يؤدي التكرار إلى ثباتها، ولا بد من المثابرة بحيث لا يفوتنا يوم إلا ونحن في ممارسة لها.
وواضح أننا عندما نختار عادة يجب أن تكون في مستطاعنا حتى لا تتجاوز طاقتنا، ثم يؤدي عجزنا إلى تركها.
مثال ذلك: نفرض أن أحدنا قد بلغ الثلاثين وهو يجد أنه مقصر في الدراسة، وأن زملاءه قد سبقوه فصار لهم مقام، وحققوا كسبا، ونالوا أماني لم يحصل هو عليها لتقصيره في الدراسة، وأنه ينوي أن يتعود عادة الدراسة.
فأول ما يعمد إليه أن يعين هذه الدراسة، ويوضح الأسباب التي تدعوه إليها، ويوضحها كتابة مع التفصيل والمراجعة؛ حتى يقتنع بضرورتها، ثم يبدأ اليوم؛ هذا اليوم، في هذه الدراسة، ثم يثابر. والمثابرة هنا تعني أنه لا ينقطع.
وهو محتاج إلى تشجيع، وقد لا يجد هذا التشجيع من إخوانه، وعليه - عندئذ - أن يسجل نجاحه يوما بعد يوم؛ لأن هذا التسجيل يوضح له الخطوات التي خطاها نحو تحقيق أهدافه؛ فهو يزيده حماسة ونشاطا وإقبالا.
وقد ذكرنا الدراسة باعتبارها إحدى العادات التي يجب على الشباب أن يتعودها، ولكن العادات الحسنة كثيرة؛ لأننا محتاجون إلى عادات الرياضة البدنية، والمحادثة بكلمات كريمة، والاعتدال في الطعام مع التأنق الذي يقتضيه التمدن، وأمثال ذلك مما قد تصغر قيمته عندما نتأمله عملا منفردا، ولكن تكبر قيمته عندما نتأمله عادة متكررة؛ إذ قد يسهل علينا أن نتحدث إلى أحد الناس في لغة كريمة وكلمات أنيقة إذا قصدنا إلى ذلك وتكلفنا، ولكن لا يسهل أن نفعل ذلك مع جميع الناس على سبيل العادة عفوا وسماحة. وكثير من النجاح يعزى أحيانا إلى مثل هذه العادات.
التخلص من العادة السيئة
العادة كالنار إما خادمة حسنة وإما سيدة مؤذية، وكثيرا ما تتسلط علينا عادات تملكنا وتستبد بنا؛ فنؤديها خاضعين ونحن على مضض من إلحاحها، وعلى وجدان بما تبدده من قوانا وحيويتنا.
وكثير من عاداتنا السيئة يعود إلى إهمال أبوينا في تربيتنا حين عودونا التدلل وكراهة الاستقلال، أو الخوف والإحجام، أو حتى كراهة بعض الأطعمة؛ فإني أعرف رجلا بلغ الستين ولم يذق الجبن في حياته، وكراهته لهذا البروتين الثمين ترجع إلى أيام طفولته حين أهمل أبواه تعويده تناول هذا الغذاء، وقد خسر كثيرا في صحته وماله بهذا الحرمان، كما أن هناك ناسا قد بلغوا الأربعين أو الخمسين إذا رأيناهم يأكلون اشمأززنا من الأسلوب الذي يتبعونه في تناول الطعام ومضغه.
واتجاهاتنا وميولنا هي عادات كامنة توجهنا نحو الجد أو المزاح، ونحو التشاؤم أو التفاؤل، ونحو الإقدام أو الإحجام، وهي عادات نفسية لا تختلف عن عاداتنا الجسمية في غسل الوجه أو السير في الشارع أو التحية لصديق، وهي، أي هذه العادات النفسية، تعين سلوكنا وتصرفنا.
وبالطبع هناك عادات خطرة؛ كالتدخين أو الشراب أو حتى المخدرات والشهوات الشاذة، ونحن لا نعالج هنا هذه العادات؛ إذ هي تحتاج إلى تحليل نفسي كي نصل إلى الأزمات والتوترات التي أحدثت الالتجاء إلى هذه العادات فرارا من الواقع المؤلم.
وقد يكون التدخين أخفها فلا يحتاج إلى تحليل؛ لأن الأغلب أن الشاب يقع في هذه العادة لرغبة ساذجة في تأكيد رجولته، ولكن إدمان التدخين يدل على توتر نفسي يحتاج إلى التحليل.
وفي إبطال العادة - كما في تكوينها - نحتاج قبل كل شيء إلى الاقتناع، وهذا الاقتناع يحتاج إلى توضيح العناصر، كما لو كنا ندافع عن متهم ونوضح عناصر البراءة؛ وذلك كي ينبني الاقتناع على أسباب وجيهة، فإذا تم لنا ذلك فلنشرع في التنفيذ، ونقنع منه بيوم واحد.
فالمدخن الذي ينوي إبطال التدخين يحتاج إلى إيضاح الأسباب كتابة لهذا الإبطال، ثم عليه أن يقرر العزم على الامتناع يوما واحدا لا أكثر، فإذا تم له هذا اليوم، فعليه أن يقرر هذا اليوم، وعليه أن يسجل هذا الانتصار، كتابة أيضا، ثم يجدد العزم على يوم آخر، وكلما مضى يوم ضعفت العادة وتراخت قبضتها على خناقنا.
ويجب على المدخن أيضا أن يستعين بالوسط؛ أي يغير الشارع الذي تعود أن يشتري منه، أو لا يأخذ مئونته إذا كان على قصد الابتعاد عنه أو نحو ذلك، ثم يجب المثابرة فلا يخرم يوما يعود فيه إلى عادته؛ لأن هذا اليوم وحده يفسد جميع أيام الحرمان السابقة أو يلغيها.
وإذا وجد الشاب أنه مع ذلك عاجز عن إبطال العادة السيئة، فعليه بالتحليل النفسي حتى يصل إلى الأصول الثابتة في كامنته «عقله الكامن»، فيكشفها وينفضها في الهواء، وعندئذ يسهل الإبطال.
ولكن العادة تحدث في النفس شهوة، وإبطالها كظم قد لا يطاق، وكثيرا ما رأينا آثار هذا الكظم في مدمن الخمر حين يتأخر عن ميعاد شرابه؛ فإنه يقلق في مكانه، وقد يرتعش أو يعرق أو يغضب؛ وهذا لأنه كظم الشهوة للشراب ساعة أو أقل أو أكثر فقط، فكيف بالإبطال التام؟
يجب على المدمن أن يأخذ بعادة أخرى قريبة أو مناسبة للعادة السابقة التي أبطلها؛ حتى تجد شهوته المكظومة المنفس والمخرج؛ كالقهوة بدل التدخين، أو الألعاب الرياضية بدلا من القمار، أو الطعام قبل ميعاد الشراب؛ حتى تمتلئ المعدة فلا يساغ الشراب. وإذا لم تنجع هذه الوسائل للإقلاع عن عادة سيئة؛ فيجب - كما قلنا - الالتجاء إلى التحليل النفسي، وإذا لم يكن هذا متيسرا فلا بأس من الاعتماد على ما يسمى: «الانعكاس المعدول»؛ أي إيجاد مركب نفسي سيئ، كأن نحقن شريب الخمر بحقنة مقيئة قبل الشراب، ثم نأذن له بكل ما يهوى من شراب؛ كما وكيفا، حتى إذا جرع كأسين أو ثلاثة ألفى نفسه في غثيان وقيء، فإذا صحا صار لا يشتهي الخمر إلا وفي نفسه هذا الجزع من الغثيان، فيكره الخمر.
وهذا هو ما تفعله الأم مع طفلها الرضيع حين تحتاج إلى فطامه؛ فإنها تطلي الحلمة بسائل مر فيكره الطفل الرضاع؛ لأنه يقرن المرارة إلى الحلمة.
ولكن المرارة للحلمة والغثيان وقت الشراب كلاهما عمل سلبي؛ أي إنه يكف ويزجر، والحاجة تدعو هنا إلى عمل إيجابي يغري ويجذب، وهو عند الأم تقديم طعام سائغ للطفل، وكذلك يجب أن نقدم شيئا للسكير له قيمة نفسية ترفيهية تقوم مقام الخمر، ولكل إنسان ظروفه التي تعين العلاج؛ فقد يعالج أحدهم بالرفقة المنعشة مع أحد الأصدقاء، وقد يعالج آخر باهتمامات لذيذة تملك نشاطه وتوجهه.
وحياتنا كلها سلسلة من العادات الجسمية والذهنية والنفسية، فإذا قصدنا إلى أن نجعل حياتنا فنا جميلا؛ فإننا نحتاج إلى تعود العادات التي تؤدي إلى الاقتصاد في مجهوداتنا، كما نحتاج إلى عادات التأنق: نتألق في لباسنا وطعامنا وتصرفنا؛ حتى نجعل الكيف يأخذ مكان الكم، فنطلب الكمال فوق الضرورة، ونقصد إلى الجمال في كل ما نتوخى من وسائل أو غايات.
عادة القراءة
تحدثنا في بعض الفصول السابقة عن القيمة العظمى لعادة القراءة، ولكنا مع ذلك نحتاج إلى التوسع في إيضاح هذه القيمة. وهذا الكتاب الذي نتوخى فيه جعل الحياة فنية يجب أن يحوي فصلا عن القراءة؛ لأن القراءة وحدها تجعل الحياة فنية في الكثير من معانيها؛ إذ هي ترفع القارئ من الاعتبارات المحلية ومن الضروريات المعيشية إلى قيم بشرية سامية، وإلى كماليات وتأنقات ذهنية لا يحصل عليها الأمي أو ذلك القارئ الذي يحيل نفسه إلى أمي لأنه يكره القراءة.
وفي أيامنا يعد توافر الكتب والمجلات والجرائد من أعظم انتصارات الحضارة العصرية؛ لأنه قد جعلنا بالقراءة المثابرة على وجدان دائم بعصرنا ودنيانا؛ فاتسعت آفاقنا الفكرية والعاطفية، وحفلت حياة القارئين باهتمامات جديدة ومتجددة، ولم يكن آباؤنا يعرفون شيئا منها. فإذا لم تكن حياتنا أطول من حياتهم فإنها على الأقل - بالقراءة - أعرض وأعمق منها.
وواضح أننا نقصد هنا القراءة المنيرة المنبهة لا القراءة المظلمة المخدرة؛ فإن هناك قراء وقارئات يشترون المجلة كما يشترون اللب أو اللبان للتسلية وقتل الوقت، كما أن هناك مؤلفين قد زودوا السوق «الأدبية» بهذه المخدرات التي تبنج العقل وتلغي الوجدان.
ولكن القارئ الذي يعنى بحياته يأبى التخدير؛ لأنه لا يجب أن ينسى أنه حي. وهو يقرأ كي يزيد حياته حيوية، وليس كي ينام ويتخدر، وهو يزداد بالقراءة سرورا وإحساسا بالنمو، وقراءته دراسة مقصودة مرتبة على مراحل حياته؛ كأنها البرنامج للنمو والتطور. والقارئ الذي يحس بعد سنوات من دراسته أنه لم يتطور يحتاج إلى المراجعة والتساؤل؛ لأن أغلب الظن أنه أساء في اختيار الكتب، وانغمس في دراسات جامدة لا تبعثه على الرقي أو النمو أو التطور.
والقراءة الجزافية سيئة، وهي كالأكل الجزافي؛ لأننا نحتاج في الحياة الفنية إلى التنظيم والترتيب، ووضع البرامج كي تفتح الميادين الجديدة؛ فالرجل المستنير لا يرضى لنفسه هذه الأيام أن يعيش على هذا الكوكب دون أن يحاول الوقوف على الطاقة الذرية، كما لا يرضى لنفسه أن يجهل نظرية التطور؛ التطور البيولوجي والتطور الاجتماعي.
وهناك عشرات من الموضوعات الحيوية التي لا يجوز لمستنير أن يهملها، وهي تستغرق الحياة كلها، بل إن المتعودين للدراسة يجدون أنهم في شكوى دائمة من قلة الوقت؛ ولذلك لا يعرفون السأم، واهتماماتهم متعددة متجددة.
والحياة الفنية تتجه نحو العناية بالفنون الجميلة قبل كل شيء؛ أي بالأدب والشعر والموسيقا والرسم وما إلى ذلك؛ لأن هذه الفنون تزيدنا تأنقا، فنتوخى الجمال في تصرفنا كما نتوخاه في بيئتنا، ولكن التعمق يقتضي ألا يقف أحدنا من الدراسة موقف القارئ المطالع القانع بزيادة معارفه؛ إذ يجب أيضا أن يشترك ايجابيا في ثقافة معينة تكون عنده كالبؤرة الأصلية التي تتشعع إلى ثقافات فرعية عديدة. وهو يحسن إذا مارس الكتابة عما يقرأ؛ يشرع أولا بمراسلة بعض المجلات، ثم يرتقي إلى كتابة المقالات، ثم إلى التأليف إذا استطاع ذلك. ولكن يجب على كل حال أن يحاول الكتابة التي تزيده ارتباطا بالثقافة، وتحمله على زيادة البحث والاستقصاء لما يدرس.
وثم اعتبار آخر في قيمة القراءة أو الدراسة للحياة الفنية هي أنها أعظم الوسائل للاحتفاظ بشباب الذهن في الشيخوخة؛ فالشباب الذي تعود قراءة الجريدة والكتاب أيام شبابه، ثم واصل هذه العادة في كهولته وشيخوخته يحتفظ بالكلمات ماثلة حية في ذهنه حين تتبلد العواطف فلا تحرك الذهن إلى التفكير والاهتمام، بل حين تأخذ خلايا المخ في التدهور، وتعجز الشرايين الدقيقة المتصلة عن تغذيتها وتنظيفها، ففي هذه الحال يرافق الشيخوخة نسيان للكلمات يؤدي إلى تعطيل للتفكير، ولكن عادة القراءة كل يوم تجعل الكلمات - كما قلنا - ماثلة، ومتى مثلت الكلمات مثلت الأفكار، فيبقى الذهن شابا حيا، وتعود الشيخوخة حافلة بالاهتمامات حتى ولو بلغنا التسعين أو المائة.
ونرى هذا واضحا في جميع الأدباء أو العلماء الذين لم ينقطعوا عن الدراسة في شيخوختهم؛ إذ في الوقت الذي تجد فيه غيرهم قد تبلد ذهنه وجمد، أو حتى خرف، نجد أنهم لا يزالون يقرءون ويكتبون كما لو كانوا في الشباب. وقليل منهم من يمتاز بشرايين طرية أو صحة عامة تختلف عن سائر الناس، ولكن ميزتهم الوحيدة هي الميزة اللغوية؛ إذ قد احتفظوا بالكلمات؛ فاحتفظوا بالمعاني أيضا، وبقيت الأفكار حية عندهم تحركهم إلى النشاط والاهتمام.
ولذلك تعد القراءة خير ما نهيئ للشيخوخة، ويجب ألا يقل الاهتمام بها عن الاهتمام بالصحة الجسمية، بل ربما كانت هي أهم وأنجع لاستبقاء الحيوية عند المسنين. وعندنا من الأمثلة في مصر ما يبرهن على صحة قولنا؛ ففي هذا الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات (1946) يعيش عبد العزيز فهمي باشا في السادسة والسبعين وهو محطم الصحة الجسمية، ولكن ذهنه في شباب عجيب؛ لأنه لم ينقطع يوما عن القراءة الجدية، فالكلمات (أي الأفكار) ماثلة في ذهنه تبعثه على اهتمامات ثقافية مختلفة، وقد زرته قبل شهرين فوجدته ينقل كتابا عن القانون الروماني إلى اللغة العربية، وهو يقرؤه في حماسة، ويراجعه في نقد وتغيير.
ولذلك نحن على حق حين نقول: إن صحة الذهن للمسنين أهم من صحة الجسم، ومداومة القراءة اليومية هي خير ما يؤدي إلى صحة الذهن. ونستطيع أن نذكر عشرات من المسنين استبقوا بالقراءة شباب أذهانهم، ولكنا نحب أن نغير كلمة القراءة فنقول: الدراسة؛ لأننا نقصد إلى الجد والترتيب، ووضع البرامج للتوسع الذهني، ولا نقصد إلى القراءة التي تقوم مقام أكل اللب أو مضغ اللبان.
والبيت المتمدن في عصرنا هو البيت الذي يعرف أن أفخر ما فيه من أثاث إنما هو الكتب؛ لأنها غذاء نفوسنا وعقولنا التي هي أحق بالعناية من بطوننا. ومن عجب أن هناك من يعد نفسه متمتعا بحياته لأنه يأكل أفخر الأطعمة، ويلبس أجود الملابس، ولا يدري أن المتع البشرية السامية تتجاوز هذه الحاجات البيولوجية إلى الوقوف على ذلك التراث البشري العظيم؛ من مؤلفات أفلاطون، إلى صلوات إخناتون، إلى فلسفة بوذا، إلى دراسة الكتب المقدسة، إلى تواريخ الأديان وحياة القديسين، إلى حقائق العلوم وتطورات الأمم، وغير ذلك. وأي شيء من أثاث المنازل عند المليونيين يعادل الذهن المؤثث بالاختبارات والنظريات والأفكار التي تبسط تاريخ المستقبل فضلا عن تاريخ الماضي؟!
والقيم البشرية تعد على الدوام في المرتبة العليا بالمقارنة إلى القيم الاجتماعية؛ ولذلك لا يمكن أن يقارن الثراء والوجاهة والمال وترف المنزل والمعيشة، بالذهن الثري بالثقافة، المتمرن على التفكير، اليقظ بالوجدان العالمي. وذلك الشاب الذي يهمل تعود الدراسة، ويبخل في شراء الكتب والمجلات، ويؤثر عليها الرياش النفيسة أو اكتناز المال إنما يبخس نفسه التي هي أولى من أي شيء آخر بالإنفاق، بل بالإسراف في الإنفاق.
البيت متحف
البيت من أخص الأشياء التي نملكها؛ فقد نقتني أسهم الشركات، أو مئات أو آلاف الجنيهات، أو قد نشتري عزبة نستغلها ونعيش في إحدى المدن من غلتها، ولكن ليس لواحد من هذه المقتنيات تلك العلاقة الحميمة التي تربطنا بالبيت؛ لأن له خصوصية بنا ليست لغيره، ونحن نقضي فيه معظم نهارنا، وجميع ليلنا، ونعاشر فيه أولادنا وزوجتنا، ونجد فيه الراحة بعد كد النهار، كما أننا نطبع عليه شخصيتنا؛ لأننا نتخير له الأثاث ونتأنق في ترتيبه. ومن هنا هذا الحنين الذي نحس به عقب اغتراب عنه بضعة أسابيع أو أشهر، ولو كان هذا الاغتراب في مصيف أو مشتى للراحة والاستجمام.
وعند بعض الناس يعد البيت مأوى أو مطعما؛ ولذلك سرعان ما يتركونه إلى القهوة أو النادي أو الحانة؛ حيث يجدون رفاهيتهم مع الأصدقاء، أو في لذة الشراب، ولكن هؤلاء البعض ليسوا في الغالب على حال سوية نفسية؛ إذ هم يكظمون أشياء من علاقة زوجية سيئة إلى قلق اقتصادي أو حرفي أو نحو ذلك. ولفرارهم من البيت معنى رمزي يسهل تفسيره بالتحليل النفسي.
والبيت مشتق لغة من فعل «بات» أي أمضى الليل، وهو بهذا الاشتقاق يدلنا على الضرورة الأولى التي اقتضته، ولكن الإنسان في طورنا الحضاري لا يقنع بالضرورات؛ إذ هو قد سما إلى كثير من الكماليات، وهو يطلب من البيت أكثر من المأوى والمطعم. وقد نصحنا في فصل سابق بأن يجنح الزوجان من وقت لآخر إلى المطاعم العامة، وبأن يحال غسل الملابس إلى حيث تغسل بالأجر بدلا من إحالة البيت إلى ورشة للغسل والطبخ طوال اليوم.
والوضع الاجتماعي القائم يجعل البيت المكان الطبيعي للمرأة، وليست الحال كذلك للرجل، ولكنا نبالغ في تأكيد هذا الوضع حتى لكأن المرأة قد خلقت للبيت، وليس العكس. وهذه المبالغة تنتهي بأن تجعل من البيت محبسا لها، يفصل بينها وبين النشاط الاجتماعي الذي يجب أن تدخل في غماره، وتتأثر به وتؤثر فيه؛ إذ هي - قبل أن تكون «ربة بيت» - إنسان له مركزه الأكبر في هذا الكون قبل مركزه الأصغر في البيت.
وهناك فرق بين السرور والسعادة؛ الأول: مادي بشأن المواد التي نقتنيها ونستمتع بها، والثانية: فكرية بشأن الغايات والمثليات، ولكن ليس شك في أن أقرب المسرات إلى السعادة هو الحياة العائلية السامية؛ لأن البيت مادة وفكرة؛ أي إنه مأوى ومطعم ومتحف، كما هو عائلة تقوم على علاقات روحية، وتهدف إلى مثليات، وتحقق أماني كثيرا ما تحملنا على أسمى المجهودات.
والبيت السامي العصري هو معهد حر يجد فيه أعضاؤه حرية الفكر تسود جميع المناقشات النيرة في ديمقراطية اجتماعية، وتربية ذهنية وأخلاقية، وهو وحدة المجتمع الذي تتألف منه الأمة، وكل عناية بالبيت إنما هي في النهاية عناية بالأخلاق الحسنة والسلوك البار؛ لأن الأطفال عندما يشبون يعاملون أفراد المجتمع بالقيم والأوزان التي تلقوها في البيت أيام طفولتهم.
ثم نحن نعيش في البيت نحو سبعين سنة؛ أي نعيش هذا القدر بأجسامنا، ولكنا نعيش بنفوسنا أكثر من هذه السنين؛ لأننا نحس نفسيا أن عائلتنا منا، وأن حياتنا مندغمة في حياة أفرادها؛ ولذلك يمتد إحساسنا للبيت إلى مقدار من السنين يتجاوز حياتنا. وهذا الإحساس يجعلنا نستهين بأي مجهود لترقية البيت.
ثم للبيت خصوصية بنا كأنه البذلة التي نلبسها على قد قامتنا؛ فنعتني بتفصيلها حتى تتخذ قسمات أعضائنا مع ما قد يكون بها من نقص، ولذلك نحن نؤثر البذلة التي فصلها الخياط على بذلة جاهزة قد أخذ القياس فيها بالتعميم وطراز السن، وليس كالتخصيص والعناية الخاصة بكل فرد.
ويعد البيت لهذا السبب «مركبا» نفسيا، والحنين إليه أحد مظاهره، وقد وجد البيت لذلك حرمة في كثير من الأمم المتمدنة؛ فلا يجوز للدائن بيعه أو بيع أثاثه مهما بلغ الدين الذي يحمله صاحبه، كما قد أجازت الأمم امتلاك المسكن الخاص في المبنى العظيم الذي قد يحوي عشرين أو ثلاثين شقة؛ وذلك تشجيعا لهذه الخصوصية التي تحمل صاحب البيت على الارتباط والعناية به؛ لأنها لحظت أن للبيت أثرا تقويميا للأخلاق؛ فكما أن المتزوج أقل جرائم واستهتارا من الأعزب لارتباط الأول بزوجته، كذلك صاحب البيت أقوم أخلاقا ممن لا يملك بيتا لمثل هذا الارتباط.
وفن الحياة يقتضينا أن ننظر إلى الحياة نظرة فنية، فنختار الأثاث في دراية وعناية مع الاستقلال، حتى ولو خالفنا العرف في هذا الاختيار؛ لأن العرف بطبيعته طراز تعميمي، ولكن الشخصية المستقلة تطلب التخصيص والانفراد. والبيت يتسع للاتجاه الفني حتى يعود بالتأنق متحفا، وكثير من البيوت التي امتاز أصحابها بالثراء قد صارت متاحف، ولكنها - مع الأسف - متاحف قد أسيئ فيها الاختيار؛ حيث أخذت الأبهة المطهمة مكان الفن الأنيق.
ولكن مع ذلك يجب أن نعترف أن الثراء في أيامنا يستطيع أن يجذب إلى البيت أفخر الأثاث الذي يضع تصميمه، ويرسم مواصفاته فنانون فقراء؛ ولذلك يشق على غير المتيسرين أن يجعلوا الفن سائدا في بيوتهم، فضلا عن إحالتها إلى متاحف.
فهناك آنية فنية معجبة تزدان بها الموائد عند الأغنياء، ولا يستطيع غيرهم شراءها، وقل مثل هذا في سائر الأثاث، أو بالأحرى معظمه، ونقول في «معظمه» لأن كثيرا من الأثاث الغالي في الثمن لا نجد فيه غير الأبهة السخيفة مع القبح العظيم؛ لأن الذين صنعوه قصدوا إلى كثرة التكاليف التي تبرز وفرة المال عند المقتنين لهذا الأثاث دون الالتفات إلى التأنق الفني.
نذكر من هذا سريرا رأيناه من النيكل، له قبة كأنه أريكة جنكيز خان أو عرش تيمورلنك، وكل ما فيه من ميزة أنه يباع ببضع مئات من الجنيهات.
وكم قد رأينا من مقاعد مذهبة، وكنبيهات منجدة، ومناضد ومرايا متعددة، حتى ليدخل أحدنا منظرة الضيوف فيحس كأنه في قاعة أثاث قد عرضت أشياؤها للمزاد.
والفن أيسر من هذا، ولكنه مع ذلك لا يتوافر لغير المتوسطين المدبرين الذين يختارون عن دراية وفهم، وليس هذا شاقا إذا جعلنا همنا في جمع الأثاث ممتدا على سني العمر؛ أي لا نشتري أثاث البيت دفعة واحدة كما هو المألوف في بلادنا بتجهيز العروس بأثاث بيتها؛ لأننا حين نفعل هذا نجمع الأثاث في عجلة وفقا لطراز العصر أو السنة، وقد يكون طرازا سيئا أملته نزوة وقتية زائلة، وإنما يحسن أن نختار الأثاث قطعة بعد أخرى مع التغيير الذي يقتضيه ارتقاؤنا الفني على مدى السنين.
ويجب أن نقتني أجود الأثاث، فلا نتسامح في الجودة والقيمة الفنية، وهذا ميسور ما دمنا لا نزحم نفسنا، ونرهق جيبنا في شراء مجموعة كبيرة دفعة واحدة، وبذلك نجمع تحف الآنية والرسوم والكتب وسائر الأثاث، ويعود البيت متحفا جميلا يحوي أفخر ما أخرجته حضارة فرنسا والصين وألمانيا ومصر وغيرهن.
وإذا كان رب البيت أو ربته على شيء من ثقافة معينة استطاعت أن تجعل البيت متحفا لثقافتها. وكثيرا ما يدخل أحدنا بيتا لأحد المثقفين فيجد فيه الطرف العجيبة التي اكتشفها من أحجار أو محار أو معادن أو أحياء أو غير ذلك. وهذا بالطبع لا يتفق لكل منا.
ولكن الشيء المهم الذي نقصد إليه أن يجد البيت منا عناية فنية في تأثيثه، وأن ننظر إليه كأنه متحف عائلي يجمع طرف الجدود والأحفاد، فيتخذ بذلك سمة من سمات الخلود، فلا يكون مادة بل فكرة.
البيت للضيافة
للبيت خصوصية عائلية يحس بها أعضاؤه فيما يشبه المؤامرة؛ وذلك أن لهم أسرارا وأهدافا وأساليب يتفقون عليها في مجتمعهم الصغير ولا يفشونها لغيرهم. وهذه الخصوصية تربطهم وتزيد إحساسهم العائلي.
ولكن البيت يجب ألا يستأثر بعلاقاتنا الاجتماعية، ومهما نمتدح ارتباط الأبناء بالآباء، والزوج بزوجته، ومهما يكن الجو العائلي من حيث التعلق الحميم بين أعضاء البيت؛ فإن البيوت تحتاج إلى تهوية اجتماعية بالضيافة والزيارة، والمبالغة في الارتباط العائلي هي شطط الفضيلة؛ فضيلة التعلق العائلي.
ولكل فرد منا حياة سرية أو كالسرية؛ كأنها العقل الكامن في النفس يوجهنا من حيث لا ندري، ولكل منا أيضا حياة اجتماعية علنية كأنها الوجدان الذي ينتقد ويحاسب ويراجع.
والحياة السوية هي تلك التي تصالح بين الكامنة والوجدان وتوفق بينهما؛ ففي البيت نحن نختمر ونتهيأ، وفي المجتمع نحن نتكشف ونباشر، ويجب لذلك أن نعنى بالضيافة والزيارة؛ لأنهما وسيلة الاتصال بين البيت والمجتمع.
يجب أن نعنى بالبيت أجل العناية؛ حتى نجعله متحفا يحوي تراث الجدود، وطرف الحضارة، وألوان الرفاهية، ولكن يجب أن نتوقى حبسة الجدران؛ لأنها تحبس النفس عن التوسع والنمو والترقي.
ولذلك نصحنا بضرورة الخروج من وقت لآخر إلى المطاعم العامة أو المتنزهات الخلوية، ولذلك نصحنا أيضا بضرورة التخفيف من أعباء البيت حتى لا يستحيل إلى ورشة لا ينقطع العمل فيها للطبخ والغسل.
والضيافة من الفنون الراقية التي يجب أن نفصلها من فضيلة الكرم؛ ذلك لأننا نقرن الكرم إلى الموائد المطهمة وألوان الطعام السخية.
والضيافة العصرية بعيدة كل البعد عن هذا الشره المادي، وقد أنارتنا السيدة نظلة الحكيم في محاضرات مختلفة عن الضيافة العصرية التي يجب أن يكون هدفها ترقية العائلات بالتعارف والتنوير.
وفي مدينة مثل القاهرة؛ حيث تتعدد المطاعم وتختلف على موائدها الألوان لا يكون من مفاخر ربة البيت أن تعد لضيوفها مائدة يتوسطها الدندي، وتحتشد عليها اللحوم والحلويات، ويستطيع وجيه في الريف أن يزودنا بهذه المائدة المادية، ولكنه يعجز عن إمتاعنا بالضيافة المهذبة المنيرة.
وخير من العناية بالطعام أن نعنى بالأثاث في إيجاد مقاعد مريحة للضيوف لا تكون للزينة ولكن للراحة.
ولذلك يجب أن نستبعد من أذهاننا فكرة الكرم الشرقي حين نفكر في الضيافة الراقية. وصحيح أنه لا بد للضيافة من شيء أو أشياء من الطعام والشراب، ولكن يكون ذلك في حدود التعقل والاعتدال؛ لأننا حين نستضيف أو نستضاف نؤثر غذاء النفوس على غذاء البطون، ونهوى الاستماع إلى حديث يعلمنا وينيرنا، كما نحب لقاء الشخصيات الفذة التي لا يتيسر لنا لقاؤها إلا في مثل هذه الفرص.
ولذلك يجب أن ندرس فن الضيافة باعتباره جزءا خاصا من الحياة العامة؛ فنعين للعائلة يوما كل أسبوع للضيافة، ونجعل الشاي أو المثلجات مع القليل من الأطعمة الخفيفة، كالسندويتش كل ما نقدمه للضيوف. وتقديم الشاي خير من إعداد العشاء؛ ذلك لأنه يتيح سهرة طويلة تبدأ من الساعة الخامسة وقد تنتهي في الساعة التاسعة أو العاشرة، ثم هو لا يبهظنا بتكاليفه فيثبطنا عن المواظبة.
ويجب أن يكون للضيافة الحسنة بؤرة تجمع الضيوف. وقد يكون رب البيت أو ربة هذه البؤرة إذا كان أحدهما ممتازا له مكانة اجتماعية أو أدبية، أو اختبارات نشتاق إلى الوقوف عليها؛ كأن يكون أحدهما عضوا في جمعية لها نشاط معين، ولكن إذا لم يكن هذا متيسرا؛ فإن من الحسن أن تدعى شخصية ممتازة، أو ترتب محاضرة في موضوع يهتم له الضيوف، ثم يتناقش الضيوف. ولسنا نقصد إلى أن نقول: إنه يجب إيجاد محاضر فذ في كل ضيافة؛ فإن هذه الحال المثلى لا تتوافر على الدوام، ولكن ربة البيت التي تتجه هذه الوجهة تستطيع في غياب المحاضر أن تجعل الحديث يدور حول موضوع سياسي أو اجتماعي يشغل الضيوف وينبههم.
والضيافة - كما قلنا - تهوية اجتماعية للبيت، وهي تحرك أعضاء العائلة والضيوف إلى ما يشبه المباراة الفنية في الزي واللغة والشخصية، كما أنها؛ أي الضيافة، تربي أبناء البيت الناشئين على المؤانسة الاجتماعية، فلا ينمو الصبي ثم الشاب في حياة انفرادية معزولة. وقد ينشأ خاما، مربوك الحركة، ثقيل اللسان، لا يعرف كيف يتحدث إلى آنسة، أو كيف يشترك في سمر مهذب منير.
وهناك كتب كثيرة في اللغات الأجنبية تصف فن الضيافة؛ سواء من ناحيته المادية بتهيئة الطعام والشراب الخفيفين، أو ناحيته الاجتماعية بإيجاد ألوان من السمر المسلي.
وفن الضيافة يقتضي العناية باختيار الأصدقاء، والمحافظة على صداقتهم؛ فإن الاهتداء إلى صديق، والاستمتاع بصداقته طوال العمر أو معظمه هما حظ عظيم ومتعة سامية لمن يوفق إليهما. والصداقة لا تنهض ولا تعيش إلا على أسس من العلاقات الروحية التي أثمرها اشتراك في الثقافة أو الأهداف والمثليات الاجتماعية.
البيت معهد حر
البيت في الأقطار المتمدنة في أوروبا وأمريكا معهد حر لا تسوده سلطة الأب الأتوقراطية، ينشأ فيه الأولاد في مجتمع راق يختلطون بالضيوف، ويجدون في هذا الاختلاط تنويرا وتدريبا على المعاملة والإيناس والحديث والكلمة العذبة، والعبارة المهذبة، كما تجد الزوجة فيه مجالا لترقية شخصيتها بما تتحمل من تبعات نحو زوجها وأولادها.
وكلمتا البيت والعائلة تندمجان في معنيهما، والبيت الأمثل هو الذي تسود المساواة فيه أعضاء العائلة؛ ليس بين الزوج وزوجته فقط، بل بينهما وبين الأولاد.
وإذا كان هؤلاء في سن صغيرة يحتاجون إلى الإرشاد؛ فإنه يجب أن يكون خاليا من الاستبداد والتسلط؛ لأننا يجب أن ننشد مبادئ الثورة الكبرى؛ أي الثورة الفرنسية، في البيت قبل أن ننشدها في المجتمع؛ أي يجب أن نعمم مبادئ الحرية والإخاء والمساواة بين أعضاء البيت قبل أن نعممها في المجتمع.
ويجب أن يتمرن أعضاء العائلة على ممارسة النظام الديمقراطي في البيت قبل أن يمارسوه في المجتمع.
وأعظم ما يكون الشخصية في الرجال والنساء هو الحرية؛ أي الحرية التي تلقي على عواتقهم تبعات وواجبات يتحملونها، فيؤدي تحملها إلى نموهم. وإذا انعدمت الحرية من البيت استحال إلى سجن، وبعيد بل محال أن تتكون الشخصية في السجن؛ حيث لا مجال للحرية؛ أي للاختيار والتفكير وإحساس التبعة والواجب. هذا الإحساس الذي ينشط الذهن والجسم، ويحمل على التفكير والعمل.
وفن الحياة هو في النهاية فن تكوين الشخصية؛ إذ ليس شيء أجمل في هذا الكون من الشخصية اليانعة التي عاش صاحبها في حرية الفكر والعمل، وفي تحمل التبعات والواجبات، حتى تدرب وتمهر وصارت له فلسفة تعين اتجاهاته وغاياته، فهو يسير في الدنيا وهو على نور وهدى.
ونحن في مصر، للعبء الباهظ الذي نحمله من تقاليدنا الماضية، نتوجس من الحرية، ونخشى الاختلاط، ونضع القيود والحدود هنا وهناك أمام الأطفال والفتيات والسيدات، فلا تجد شخصياتنا التربية التي تؤدي إلى إنضاجها وإيناعها، فينشأ الشاب وهو في خوف من الدنيا لا يقتحم في تفكيره أو عمله، وتنشأ الفتاة وهي محجمة متراجعة، تلتزم الصمت والسكون والاستحياء والتراجع كأنما هذه خطة حياتها؛ فلا تحيى الحياة المليئة، ولا تزدان برشاقة الإيماءة ولباقة الكلمة؛ ولذلك تخسر كثيرا من جمالها الروحي. هذا الجمال الذي لا يعوض منه جمال الجسم الذي يبدو راكدا جامدا، وهو كذلك بالمقارنة إلى الفتاة الأوروبية التي تتذبذب حيويتها طربا في شخصية مغناطيسية تواجه الدنيا في شجاعة وانطلاق واستطلاع، في حين تواجه فتاتنا المصرية دنياها في تقلص وخوف من الاستطلاع؛ وذلك لأن الأولى عاشت في حرية، في حين عاشت الثانية في قيود التقاليد.
ولذلك يقتضينا فن الحياة أن نجعل الحرية تستفيض في البيت، وإذا قضى الحظ أن يتزوج الشاب فتاة دونه في الثقافة؛ فيجب أن يدأب في رفعها إلى مستواه، وأن يجعل من وسطه الاجتماعي ما يحملها على الارتقاء؛ نعني بذلك أن نختار من الضيوف والزائرين الذين نتبادل وإياهم الزيارة أولئك الأحرار المتعلمين الذين يحضونها على أن تثقف عقلها، وأن تتجه الاتجاهات التي تزيد البيت فنا وجمالا، كما تزيد حياتها نضجا وإيناعا.
وقد يتعب الشاب في سنيه الأولى من الزواج وهو يوجه زوجته هذا التوجيه، ولكنه يجد المكافأة بعد ذلك على هذا التعب في سنوات عديدة من الهناء الذي تثمره مزاملة قائمة على المساواة الحقة في الميزات والتأنقات الذهنية.
أما إذا أهمل تثقيفها؛ فإنه سرعان ما يجد الانفصال الروحي قائما بينه وبينها؛ بحيث يعيشان وكأنهما جاران يشتركان في مأوى.
وكما نخشى نحن حرية المرأة كذلك نخشى حرية الصبيان، فنحرمهم مما لا نحرم منه حتى الحيوانات التي يتمتع أطفالها بالطفولة والصبا، فنرهقهم بالدرس في الوقت الذي تصرخ فيه طبيعتهم بالرغبة في اللعب والمرح، بل أحيانا، وحين يزورنا ضيوف، نحاول أن نمنعهم من الاختلاط بهم، وبذلك نحرمهم من التربية الاجتماعية الحسنة التي يستعيضون منها تربية اجتماعية فاسدة باختلاطهم بزملاء لهم قد نشئوا في بيئة غير حسنة.
وشبابنا في مصر يجهلون أشياء كثيرة عن البيوت الأوروبية والإفرنكية، وهم يقرءون القصص أو يرون المسرحيات السينمائية التي تعرض شذوذات الحياة أكثر مما تعرض قواعدها، فيتوهمون السوء والزيف في حياة المتمدنين، وينشئون على استمساك بالحياة الشرقية التقليدية، ويتعصبون لها؛ فينكرون الحرية على المرأة والأولاد، ويمارسون معهم حياة الانكفاف والإحجام، تلك الحياة التي تجعلهم يعيشون في نسك أو ما يقاربه، ويكرهون متع الحياة العائلية ويتوقونها.
أجل، إن شبابنا يجهلون أن الخادمة الأوروبية تقتني مكتبة في غرفتها لا تقل مجلداتها عن مائتي أو ثلاثمائة مجلد، وهي تصر على أن تكون لها ساعات فراغ للقراءة والدرس، ويجهلون أن الضيافة لا تنقطع في البيت الأوروبي الراقي، وأن الأولاد يدعون أصدقاءهم إلى ولائم في البيت، فيجدون التشجيع من آبائهم عن هذا النشاط الذي يكسبهم المرانة الاجتماعية، والضيافة الراقية، وأن الاختلاط بين الجنسين لا ينقطع منذ الطفولة إلى الشيخوخة. وهذا الاختلاط يدرب الفتى والفتاة على الرشاقة، ويوجه الغرائز الجنسية وجهتها السوية، ويمنع الشذوذات البشعة التي تفشو في المجتمعات الانفصالية في الأمم الشرقية؛ فالحياة هناك أملأ وأمتع، والشخصية أتم وأينع.
يجب أن نعيش في حاضرنا
نحن لا نعيش حياة واحدة؛ لأن لنا حيوات مختلفة: حياة الطفولة، ثم الصبا، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ولكل من هذه الحيوات أفراحها وأتراحها واختباراتها، وليس من حق أحد؛ كالوالدين أو المربين، أن يحرمنا من إحدى هذه الحيوات. وإذا فاتتنا حياة الصبا بلا تمتع، وإذا عوملنا في أثنائها كما لو كنا شبانا، فإننا - عندئذ - نكون بمثابة من لم يحيا حياة معينة كان من حقه أن يحياها؛ إذ هي لن تعود.
ولكن هذا هو ما نرى في عصرنا؛ فإن كثيرا من الآباء يحرمون أبناءهم من صباهم، ويكلفونهم واجبات الشباب إعدادا للمستقبل؛ كأن الحاضر لا قيمة له، وكأنه يجب أن يضحى به من أجل المستقبل، كما يضحى بالصبا من أجل الشباب. وكثيرا ما نرى صبيانا بين الثامنة والخامسة عشرة يقضون فراغهم بعد المدرسة في الدراسة؛ إما بضغط آبائهم، وإما بترتيبات جهنمية حين يحضر المعلمون إليهم في البيت ويقهرونهم على الدرس، مع أن هذه الفترة من العمر تنادي باللعب والمرح، وبالتجارب التي يخترعها الصبي لفهم الدنيا، وليس من حقنا أن نحرمه منها.
وهنا نعود إلى القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية؛ فإن الأولى تطالبنا بمعاملة الصبي باعتبار أنه صبي فقط يعيش ويستمتع بحاضره؛ لأن هذا هو حقه الطبيعي، ولكن القيم الاجتماعية تتغلب علينا فنفكر في مستقبله، ولأننا نخشى هذا المستقبل للمباراة العامة التي نتوهم أنها تسوده، نبالغ في تفكيرنا إلى حد القلق، فلا نفكر في منطق وتعقل، ولكن في خوف وفزع، ونسرف في تأكيد الدراسة وحرمان الصبي من صباه؛ أي حرمانه من إحدى حيواته التي لن تعود إليه، ولو عقلنا لأحسسنا الإجرام في هذا العمل.
وليس من شك في أن نظام المباراة الذي نعيش فيه، والذي يسود مجتمعنا، يجعلنا جميعا في خوف دائم من المستقبل؛ ولذلك نكاد نقضي عمرنا كله في التهيؤ لهذا المستقبل. وهذا الخوف يستحيل أحيانا إلى قلق نيوروزي؛ أي إرهاق نفسي نعجز عن تحمله، وهو يبدو في خوف أو فزع؛ فإن البخيل الذي يحرم نفسه من المتع الصغيرة وهو يجمع قرشا على قرش، إنما يفعل ذلك لمركبات نفسية هي في حقيقتها أمراض يحتاج إلى المعالجة منها، وهو حين يسأل عن الأسباب التي تحمله على هذا البخل يجيب بأنه يخشى المستقبل، ويتهيأ لليوم الأسود بالقرش الأبيض، مع أن من يتأمل صميم نفسه يعرف أنه لن يخرج هذا القرش الأبيض المدخر مهما اشتدت الحلوكة في هذا اليوم الأسود المنتظر؛ لأن الواقع أن البخل نشأ عنده من الخوف من المباراة العامة التي لا تجعل أحدا مطمئنا على مستقبله، فأسرف في التهيؤ لهذا المستقبل، واتجه الوجهة النفسية التشاؤمية حتى صار البخل عادة. وهذه العادة تجعله يعيش على هامش الحياة التي قد تطول، ولكنها تطول هزيلة بلا عرض أو عمق. والعادة لثبوتها تحرمه من الترفيه عن نفسه مهما ساءت الأحوال.
ونحن جميعا نحتقر البخل، ولكننا ننسى أننا حين نحرم الصبي من صباه إنما نتجه وجهة هذا البخيل في الخوف من المستقبل، وننسى أننا حين نرصد من وقتنا أحسن ساعاته لاقتناء العقارات والإثراء إنما نتجه هذه الوجهة أيضا، وإن كنا لا نبلغ درجة البخيل في الحرمان.
وفن الحياة يقتضينا أن نعيش في حاضرنا؛ فنتمتع بمتع الطفولة في طفولتنا، ومتع الصبا في صبانا، ومتع الشباب في شبابنا، ولا نؤجل شيئا من ذلك تهيؤا للمستقبل؛ لأننا لسنا واثقين من هذا المستقبل ثقتنا بالحاضر، فإذا حرمنا الشاب من متع شبابه بدعوى أنه يستعد للمستقبل؛ فإننا لا نثق بأنه سيعيش إلى هذا المستقبل المنتظر.
ولسنا مع ذلك ننكر هذا المستقبل ونتعامى عنه، ولكنا نعتقد أن من يعيش في حاضره إنما يعيش أيضا لمستقبله، ونعني المعيشة السليمة؛ فإن هناك فرقا بين اثنين يخافان المستقبل؛ أحدهما يبخل ويقتر ويبالغ في الحرمان، والآخر يؤمن بأداء قسط سنوي لإحدى شركات التأمين - مثلا.
وهناك أيضا فرق بين تلميذ يدرس في المدرسة ويلعب خارجها، أو يستمتع بصباه أو شبابه، وبين آخر يرهق بتكاليف مدرسية أخرى في بيته، تراه قد حبس نفسه بعيدا عن والديه وإخوته، وسهر الليالي.
والرجل السوي الذي تتزن أعصابه يكتسب من حاضره بصيرة لمستقبله، ويستطيع لذلك أن ينظر إليه مطمئنا؛ فلا يجنح إلى التقتير، ولا يهرول في جهده لاقتناء المال.
وإذا عشنا في حاضرنا، ومارسنا اهتماماته وهمومه، وتمتعنا بمتعه، فإننا بهذا السلوك نفسه نجدنا قد استعددنا للمستقبل؛ فالرجل الذي تعود - مثلا - القراءة واقتناء الكتب، ومداومة القراءة للجريدة والمجلة، إنما يتمتع بكل هذه الممارسات، ولكنه زيادة على ذلك يتهيأ بها لشيخوخة يقظة بعيدة عن السأم والتبلد.
وكذلك الرجل الذي مارس عملا كاسبا، وانتفع بالتأمينات المألوفة يسير نحو المستقبل في طمأنينة.
أما إذا كانت الأيام حبلى بمفاجآت - كما رأينا في الأزمات الاقتصادية الماضية - فإن بصيرة العاقل وفزع المجنون وتقتير البخيل، كل هذا يستوي أمام تلك المفاجآت؛ أي جميعنا - عندئذ - سواء، وعندئذ ينتقل الاهتمام بالمستقبل من يد الفرد إلى يد الدولة.
ومن المألوف أن نجد شخصا يكد متعبا مهموما في اقتناء الثروة، وفي نفسه شوق إلى الاستمتاع؛ فهو يحلم بالبيت الذي سوف يبنيه، أو ببضعة الفدادين التي سوف يزرعها، ويجد فيها الاتصال بالطبيعة، أو هو يحلم بالسياحة في أوروبا، وقد يحلم أيضا باستمتاعات ثقافية مختلفة، ويضع في برنامجه شراء مكتبة تحوي آلاف المجلدات التي تنيره وتثقفه، ويفعل ذلك وهو في الثلاثين أو الأربعين، ويرصد كل وقته للجمع والاقتناء والإثراء.
ومثل هذا يجب أن نقول له: أنت مخطئ؛ لأنك حين تصل إلى سن الستين تكون العادات التي مارستها كل يوم من حياتك الماضية قد رسخت فيك، فلن تستطيع تغييرها.
ثم وأنت في الستين سوف تكون لك أذواق تختلف عما لك الآن وأنت في الثلاثين أو الأربعين.
ولذلك يجب أن تعيش في حاضرك، وتبدأ الآن في استمتاعاتك وتحقيق أحلامك، ولا تؤجل متعك إلى سنين قادمة ربما تموت أنت قبل بلوغها، أو ربما تموت كفاءتك للاستمتاع بها؛ إذ إن لكل سن متعها الخاصة، فمتع الشباب غير متع الكهولة، ومتع الكهولة غير متع الشيخوخة، ومتع الصبا غير متع الشباب.
النمو والتطور
عندما نتأمل رجلا جامدا رجعيا، وآخر متطورا ارتقائيا، نجد أن لكل منهما اتجاها قد عين مزاجا خاصا؛ فالأول في صميمه متشائم يخشى الدنيا، ويتوقع الكوارث، ولا ينتظر خيرا من أي تغيير، وهو لذلك متبلد يؤثر السكون على الحركة، في حين أن الثاني، ذلك المتطور الذي لا يبالي التغيير، متفائل بالدنيا، يؤمن بالارتقاء كأنه ديانته السياسية، وهو يدعو إلى نهضة ما في السياسة أو الاقتصاد، أو إلى تغيير في الأدب أو الاجتماع؛ ولذلك نستطيع، في معنى ما، أن نعد الجمود والرجعية مرضين ينشآن من الخوف.
وقد يكون المرجع والأساس لهذا الخوف، أن الرجعي قد أسيئت معاملته أيام طفولته، فأهين وضرب، أو عومل بالكراهة والقسوة حتى صار بعد ذلك يجد أن السلامة والطمأنينة لا تكونان إلا في استبقاء حالته؛ إذ هو على الدوام يتوقع أسوأ منها، وفي تجنب أي تغيير؛ إذ هو يوجس شرا مما هو فيه.
والجامد الرجعي لا يحيا الحياة الطبيعية؛ لأن النمو والتطور من سنن الطبيعة التي تشهد بهما ألف مليون سنة من تاريخ الأحياء، ومعنى هذا أنهما أصيلان في أعماق سريرتنا، وأننا لن نعيش المعيشة السوية، ولن نقارب السعادة، أو على الأقل السعادة السلبية، إلا إذا كنا في نمو وتطور لا ينقطعان طوال حياتنا.
بل أحيانا، حين نتأمل أحلام اليقظة التي نستسلم إليها في لذة، نجد أننا نطلب التطور كما لو كان شهوة في نفوسنا؛ أي إننا نحس أننا غير راضين عن حالتنا؛ إذ ندأب في التفكير في تغييرها. وليس الإيمان بالمستقبل، بل بالشجاعة والإقدام، سوى إيمان بالنمو والتطور والارتقاء، وكذلك ليست المحافظة والجمود والرجعية سوى الجبن والخوف، وكلاهما يحملنا على الركود والتقلص.
والأمم «الشرقية» لفرط ما عانت من مظالم ملوكها وأمرائها وحاكميها يغلب عليها الجمود؛ إذ هي على الدوام متشائمة بالمستقبل تخشاه وتتراجع عنه كأنها تريد أن تعيش في الماضي. أما الأمم الأوربية فتكاد ترقص للمستقبل، وهي ترضى بالتغيير والتطور، وقد جعلت الارتقاء مذهبا.
وليس من السداد هنا أن ننصح للقارئ أن يكون متفائلا، وأن يتجنب التشاؤم؛ لأن هاتين الحالتين قد تكونتا في الأغلب منذ الطفولة، أو لأن كوارث الحياة قد تراكمت فملأت القلب شكوكا وشبهات بشأن المستقبل، ولكن من السداد أن نبين أننا لن نستطيع أن نتطور؛ أي نعيش وفق سنن الطبيعة، ما لم نكن متفائلين. وعلى كل قارئ - عندئذ - أن يحلل تشاؤمه وخوفه، وأن يعرف مرجعهما، وهو إذا هبط على هذا المرجع عاد إلى التفاؤل والشجاعة.
وأوضح المظاهر للارتقاء والتطور والنمو هو الثقافة. وصحيح أن هناك من يتجه ارتقاؤهم وجهة مالية أو اجتماعية أو سياسية، فيبرزون في هذه الجهات، ويجنون منها ثمرات السرور، ولكنها بالمقارنة إلى الثقافة تعد ثمرات زائلة متقلبة ليست لقيمتها ثبات القيم الثقافية؛ ذلك أننا عندما نرقى بالثقافة ارتقاء نفسيا ذاتيا لا يستطيع أحد أو ظرف أن ينتزعه منا، والنفس تتطور بالتغير الثقافي، فتتجدد وكأنها تستعيد الصبا أو الشباب، وتهبط على عوالم جديدة لم يكن لها بها معرفة من قبل.
والذي نحب أن نثبته ونؤكده أنه ما دمنا في تطور ثقافي فإننا نتجنب السأم والجمود والتبلد، فتمتلئ الدنيا حولنا مباهج، فلا يكربنا اليأس، بل نتحمل حتى الكوارث المرهقة.
وإذا اعتدنا الثقافة فإن الأغلب أننا نخرج منها بمذهب كفاحي للخير البشري، وهذا المذهب يغذونا وينير بصيرتنا عن مغزى الحياة، كما أنه يوفر لنا اهتمامات لا تنقطع، وما دمنا في هذه الاهتمامات، فإننا لن نحس هذا السأم القاتل الذي يغمر حياة المنغمسين في الملذات حين يأجمونها متبرمين منها عازفين عنها.
وفن الحياة هو، في معنى ما، فن العيش في سرور، إن لم يكن في سعادة؛ ولذلك يجب أن نوفر لأنفسنا إحساسات السعادة بإيجاد وسائل الرفاهية الذهنية والمادية.
وعندما نعمد إلى دراسة نحس إحساسا عميقا بلذة التطور؛ ولذلك نحتاج، كي نوفرها، إلى برامج ثقافية متواصلة تحملنا على مراحل الحياة، وتكفل لنا شباب الذهن وتجدده.
وكلما تقدمنا في السن، وخاصة عندما نتجاوز الستين، يتوانى نشاطنا، وقد نتبلد أو نجمد، ولكن إذا كنا قد تعودنا الدراسة، وجعلنا منها منهجا للحياة، فإننا ندخل في دور الكهولة والشيخوخة، ونحن مستبقين لشبابنا، مبتهجين بالدنيا، قد احتفظنا بكلمات اللغة؛ أي بالأفكار. وقد كررنا هذا الكلام، ولكن مهما نكرره فإننا في حاجة إلى تأكيده؛ إذ ليس هناك ضمان للشيخوخة السعيدة إلا مع الثقافة الدائمة التي تستبقي الذاكرة في حيويتها القديمة.
وهناك ألوان من الارتقاء كثيرا ما نأجمه، فإننا عندما نندفع في اقتناء المال، أو عندما نبذل جهودنا كي نحصل على مركز اجتماعي كنا نطمح إليه، نجد أن الهدف الذي وصلنا إليه دون ما أملنا وتمنينا؛ من حيث قيمته في جلب السرور إلى نفوسنا، إلا الثقافة؛ فإنها تملؤنا غبطة ولذة أكبر مما كنا نحلم به.
ولعل مرجع هذا أن آفاق الثقافة واسعة متشعبة ليست لها نهاية، في حين أن للمركز الاجتماعي أو المالي نهاية؛ ولذلك لن نعرف السأم إذا جعلنا غايتنا من النشاط والنمو ثقافية.
الاتصال بالطبيعة
لا يسهل على أي إنسان أن يتجرد من القيم الاجتماعية، أو حتى يتسامح في الكثير منها إلا بمجهود شاق يضنيه، ويقيم من المجتمع، الذي يرتضي هذه القيم، خصما له، ولكن يجب أن نتنبه من وقت إلى آخر إلى هذه القيم الاجتماعية حتى لا ننساق فيها ذاهلين، وحتى لا ننسى أننا بشر قبل أن نكون مصريين أو فرنسيين أو عربا، واتصالنا بالطبيعة جدير بأن يحدث لنا هذا الوجدان.
ذلك أن حياة الحضارة تغمرنا وتسومنا أوزانها وقيمها؛ فالنجاح فيها يقاس بالقدرة على اقتناء المال، والجمال فيها أثاث فاخر أو جواهر غالية أو أتومبيل مطهم أو رسم على جدران، أو نحو ذلك مما ننساق فيه فنتوهم أننا سادة نختار ونقرر، مع أن الواقع أننا - في الأكثر - عبيد العرف الاجتماعي الذي يأبى علينا الاستقلال.
ومن وقت لآخر نرى أو نقرأ عن أولئك البشريين الثائرين على هذا العرف الاجتماعي؛ مثل تولستون الذي هجر المدن وعاش في عزبته يصنع حذاءه بيديه، أو غاندي الذي نزع عن جسمه ملابس الحضارة، وقنع بشملة يبسطها على عاتقيه أو يأتزر بها. وهذا إلى قنوعه من الطعام باللبن والفواكه، أو ثورو الكاتب الأمريكي الذي ترك المدن وبنى لنفسه كوخا لم يكلف أكثر من ستة جنيهات، عاش فيه سنتين إلى جنب الغابة، حيث كان يحصل على طعامه من صيد السمك وصغار الحيوان والطير، وقد قال عن هجرته هذه في الغابة وحياة الفطرة: «إني أردت أن أسوق الحياة وأحرجها في زاوية كي أعرف هل هي شيء جليل أم حقير.»
وبكلمة أخرى، أراد ثورو أن يخلو إلى نفسه، ويستمع إلى همساتها بعيدا عن ضوضاء المدينة وضجيج الحضارة، خاليا من تكاليفها الصغيرة والكبيرة؛ كي يستكنه أسرارها، ويصل إلى أصولها، ويتعرف إلى الطبيعة، ويقف على علاقته منها ومراسيه فيها.
وكلنا يحس في أعماق القلب والمخ أننا في حاجة إلى مثل هذه التجربة، وأن العمر لا يصح أن يقضى على هذا الكوكب وهو مبعثر بين هموم واهتمامات صناعية؛ أي صنعتها لنا الحضارة.
ولذلك يجب على كل من ينشد الحياة الفنية أن ينظم هذه الحياة، بحيث لا تنقطع عن الطبيعة، وبحيث تبقى القيم والأوزان البشرية ماثلة في ذهنه عالقة بقلبه، يشتهيها ويتعب لها ويستمتع بها، وهو عندما يفعل ذلك، وعندما يألف الطبيعة، سيحس أنها؛ أي الطبيعة، تحوي ألوانا من الجمال في الشفق عند الغروب، وفي بزوغ الشمس عقب سكينة الفجر، وفي رهبة الجبل، وبسطة الصحراء، بل في تنوع النبات والحيوان، مما يجعله يحتقر الكثير مما تحملنا الحضارة على اقتنائه، ونعتني في جمعه والتفاخر به.
وليس من الضروري أن نسلك سلوك ثورو في الهجرة إلى مكان قصي، نعيش مستوحدين سنتين أو أكثر كي نصل إلى جمال الطبيعة، وكي نهتدي إلى مراسينا منها؛ فإن اللجوء إلى الريف من وقت لآخر وقضاء أيام، بل أحيانا الساعات فيه، يضيء بصيرتنا، ويقرب ما بيننا وبين الطبيعة، ويحملنا على التخلص من الزيادات والنوامي التي تنمو حولنا كما تنمو الأعشاب والطفيليات حول السفينة فتعطلها عن الملاحة؛ فإن غاندي لم يخسر حين نزع 15 قطعة من الملابس الحضارية واكتفى بقطعة واحدة؛ إذ الواقع أنه كسب، أو بكلمة أصح: هو كسب من حيث القيم البشرية، وخسر من حيث القيم الاجتماعية.
وأحيانا حين أقعد في الريف وأتأمل القمر وهو يحيل كل شيء على الأرض إلى خلق سحري، أو حين أتأمل الشفق في رائعة جماله، أو حين أخرج في الفجر أنتظر بزوغ الشمس والدنيا هادئة صابحة كأنها لم تخلق إلا منذ دقائق، أو أتأمل أسراب الغربان وهي عائدة إلى عشاشها عند الغروب، أو اليمام وهو يغازل على استحياء وفي طمأنينة، أو حين أتأمل هذه الحرب الخفية السرية بين النبات والحيوان في ديسة أو خميلة على جدول، أتعجب من إنسان يرضى بقضاء دقيقة واحدة فيما يسميه قتل الوقت على القهوة، بدلا من أن يجري ساعيا لاهثا إلى الريف كي يختبر هذه الدنيا في أعماقها وصميمها.
وأتعجب من إنسان، أو بالأحرى إنسانة، تعتقد الجمال في عقد من اللؤلؤ أو قلادة من الألماس، مع أن جبلا من هذه الجواهر لا يساوي في جماله جمال الشفق أو القمر.
ويفشو الجهل بالطبيعة؛ أي بالدنيا، حتى نجد إنسانا «يعرف» طائفة من المعارف المكروسكوبية عن الأدب أو العلم، وهو يجهل هذه الدنيا العظيمة؛ وطنه الأول، فلا يعرف روائعها من جماد ونبات وحيوان.
وقد جزأتنا الوطنية أجزاء على هذا الكوكب حتى صرنا لا نشتاق إلى رؤية جبالنا الشامخة؛ مثل هملايا، أو مساقطنا الرائعة؛ مثل نياجرا؛ لأننا نحس كأن جبل هملايا هو ملك خاص بالهنود، ونياجرا هو ملك خاص بالأمريكيين.
بل الواقع أننا لا نشتاق إلى رؤيتهما؛ لأن القيم الاجتماعية قد تغلبت علينا، فنحن نهتم باقتناء البهارج «الجميلة» بدلا من الاهتمام بالاقتناء النفسي لجمال هذا الكوكب. وكثيرا ما أدخل البيوت التي تمتاز بحدائق فأجد أشجارا أسأل أصحابها عن أسمائها فلا يعرفون ... لأنهم إنما غرسوها انسياقا وراء العرف، وليس تقديرا لقيمة النبات، أو إحساسا بأن الشجر قريبنا نحن. وهم يعيشون في وحدة وجودية؛ ولذلك لا يهتمون بالتعرف إلى اسمه أو أصله.
وأحيانا أجد من الحسن أن أرد بعض الذاهلين إلى الوجدان، وأعيد إليهم القيم البشرية بأن أسال أحدهم: هب أنك أصبت بمرض قاتل، ووثقت من الأطباء أنك لن تعيش على هذا الكوكب سوى عام واحد، ثم خيرت بين أن تقتني ألف آقة من الألماس واللؤلؤ، ومئة قنطار من الذهب، أو تقضي هذا العام الباقي من عمرك على هذا الكوكب في زيارات رائعة إلى القطب الشمالي، وجبال هملايا، ومساقط نياجرا، وغابات إفريقيا، ترى بواسق الشجر، ووحوش الحيوان، وتشترك في صيد القيطس عند القطب الجنوبي، وترى الفيلة في غاباتها في الهند. أجل، وفوق ذلك تعرف الشعوب البشرية في الهند واليابان ونروج وأستراليا، وترى الإنسان البدائي والإنسان المتوحش والإنسان المتمدن، ومقدار التدمير الذي أحدثه هذا الأخير بكنوز كوكبنا.
لو خيرت بين هذين لاخترت بلا شك أن تقضي عامك في زيارة الأرض التي عشت فيها ماضي عمرك وأنت محبوس محجوز في بقعة معينة تظن أنها كل شيء، وتقضي سنيك في اقتناء بهارج ليس لها غير القيمة الاجتماعية التي تعمينا عن الاستمتاع بكوكبنا.
ولا بد أن البشر في المستقبل سينفضون عن عواتقهم التكاليف الباهظة العديدة التي يحتملونها الآن من الحضارة، ويفكرون في القيم البشرية، وسوف يجدون في الآلات المنتجة، بل في الطاقة الذرية، ما يجعل العمل الإنتاجي سهلا لا يحتاج منا إلى قضاء الوقت أو الجهد العظيمين، وعندئذ يعود هذا الكوكب وطن البشر جميعا، وعندئذ تصير الجبال والبحيرات والغابات، بما تحفل به من حيوان ونبات، كنوزا يحتفظون بها ولا ينقطعون عن زيارتها.
وإلى أن نصل إلى هذه الحال يجب أن نذكر أنفسنا على الدوام بضرورة اتصالنا بالطبيعة، ويجب أن نحتال بالتوفيق بين ضرورات العيش والمجتمع واللجوء إلى الريف، ويجب أن تكون لنا هوايات ريفية طبيعية؛ فإن صيد السمك ينزعنا أحيانا يوما كاملا من الوسط الحضاري الصناعي إلى وسط طبيعي. وكثير من المفكرين يحتاج إلى مثل هذه الهواية التي تختمر فيها الكامنة وقت السكينة عند شاطئ النهر، ثم يؤدي اختمارها إلى تهيئة الوجدان للإنتاج المثمر.
أجل يجب أن نتنبه على الدوام إلى القيم البشرية، ولا ننساق في قيم اجتماعية تستعبدنا، ويجب أن نذكر أن الطبيعة؛ أي الأرض والنهر والجبل والغابة والبحر والصحراء والنبات والحيوان، هي كنزنا الأول الذي يجب أن نقتنيه اقتناء نفسيا، وندرس جماله ونستمتع به، وذلك بالاتصال الذي لا ينقطع به.
الاتجاه والرؤيا
الاتجاهات والميول والغايات هي عادات كامنة تكيف عواطفنا، وتوجه نشاطنا، وتثير اهتماماتنا، وكثير من النجاح أو الخيبة يعزى إلى الاتجاه والغاية؛ لأن النفس تبقى راكدة ليس لها اهتمام، فإذا تعينت لها غاية، يهدف إليها النشاط، نشطت، كذلك الاتجاه يعين الأسلوب الذي نعيش فيه.
اعتبر صبيا أو طالبا يتجه نحو الأولوية في المدرسة، وينصبها غاية، فهو يكد ويتعب ويثابر كي يحقق هذه الغاية، ويعود هذا الاتجاه أسلوبه في الدراسة؛ بحيث إنه يبتئس كثيرا إذا زحزحه آخر عن مركزه الأول. فهنا اتجاه قد صار عادة كامنة تكيف العاطفة، وتوجه النشاط، وتثير الاهتمام، وليس من الضروري أن يكون هذا التلميذ أذكى من غيره من المتخلفين عنه، وإنما هو يمتاز منهم بالاتجاه والغاية، وامتيازه هذا عليهم عاطفي وليس ذكائيا؛ لأن الاتجاه يحرك العاطفة، وهذه تحرك النشاط الجسمي أو الذهني.
اعتبر كلبا جائعا، وآخر شبعان؛ فالأول يتحرك بعاطفة الجوع، ويمشي وأنفه للأرض يبحث عن الطعام، وهو في هذه الحركة الجسمية متحرك العاطفة بالجوع، متحرك العقل بالتفتيش، وأنفه يرشد عقله كما ترشد عيوننا عقولنا، ولكن اعتبر الآخر الشبعان ، فإنه قاعد راكد أو نائم.
فالعواطف هي المواطر التي تحركنا، والاتجاهات والميول والغايات إنما هي عواطفنا التي نتحرك بها إلى الدراسة والجد وغير ذلك، وهي كما تحرك أجسامنا تحرك أيضا أذهاننا، فننتبه بعد الغفلة، وننشط بعد الفتور.
والتفاؤل والتشاؤم، وكذلك الطموح والركود اتجاهات، ولكل منها خارطة روحية أو ذهنية أو نفسية يرتسم بها العالم، ويحدد ما فيه من قيم وأوزان اجتماعية أو بشرية، وبهذا جميعا يتجه نحو غاية، أو يرى رؤيا ويتخذ أسلوبا؛ فالمتفائل يتحمس ويتحرك ويجد لذة العيش، والمتشائم يتبلد ويركد ويجد الحياة ماسخة لا يتطعمها. ومن هنا - مثلا - قيمة الدين عند المؤمن؛ فإنه يجد فيه الرؤيا كما يجد الأسلوب، فيكون الدين له بمثابة الصابورة التي تتزن بها حياته، ولا تتقلقل إذا ضربتها الزعازع والكوارث.
والرؤيا هي ثمرة التفاؤل؛ لأن المتشائم لا يرى رؤيا، فلا يمكن - مثلا - أن تكون اشتراكيا تؤمل المساواة والإخاء بين البشر إلا إذا كنت متفائلا، والعكس صحيح؛ لأن الرجعي المحافظ يؤمن بأن الشر غالب على الطبيعة البشرية التي لا تتغير ولا يمكن معالجتها، فهو لذلك متشائم بلا رؤيا؛ ولذلك يكافح الأول ويركد الثاني.
وقس على هذا، فإن الرؤى والمثليات، كلتاهما تكسبنا روح الكفاح، وهذا الروح يحملنا على الدراسة والرقي؛ فنجد لذة الحياة في الكفاح كما نرتقي به.
الكفاح ضد الاستعمار والإمبريالية، والكفاح ضد التعصب الديني واللوني، والكفاح ضد المرض والجهل والفقر والظلم، كل هذا تتحرك به عواطفنا وتنشط، بل كدت أقول: تتذكى عقولنا. ونحن بهذه الأنواع من الكفاح لا نخدم أمتنا فقط، بل نخدم أنفسنا بترقية شخصيتنا، ونجعل حياتنا حافلة بشئون ومشكلات اجتماعية وبشرية تجعلنا نتعمق ونتوسع في الحياة.
وربما كان أعظم الاتجاهات اتجاه الحب باعتباره أسلوبا للعيش؛ لأن الحب يزيد الفهم؛ أي إننا نفهم أكثر عندما نحب، ونفهم أقل، أو أحيانا لا نفهم، عندما نكره. ألا ترى أن الأم تفهم الشيء الكثير من إيماءة طفلها أو أي طفل آخر إذا كانت تتجه وجهة الحب، في حين غيرها الجامد أو غير المبالي أو الكاره لا يفهم شيئا؟!
وهناك من يقول: إن الحب يعمي، ولكن الحقيقة أن الحب يبصر ويفتق الذهن للفهم والمعرفة، ولكن الكراهة والحقد والبغض والنفور، كل هذه تعمي وتغشي على عيوننا وعقولنا، فلا نبصر ولا نفهم.
والرجل الذي يحب الحياة الفنية، ويحب الإنسان والطبيعة، ويحب الثقافة، يجد أنه بقدر السعة في حبه يزداد فهمه وتعمقه ورغبته التي لا تنقطع في الاستزادة من الفهم والدرس والاستطلاع، ثم هو بهذا الحب يجد الرؤيا التي يهدف إليها في إصلاح منشود، أو ظلم يرفع، أو اختراع يحقق، فيعيش سعيدا بهذه الأفكار، ويشع ضياء على كل ما يمسه؛ كأن ذهنه مفسفر يضيء على ما حوله.
ومثل هذا الرجل يدين بدين مقدس، ولا عبرة بأنه يخالف التقاليد؛ لأن الدين هو نقطة التبلور في اختباراتنا وثقافتنا، والرجل الذي يختبر كثيرا، ويدرس كثيرا، ويتجه وجهة الحب، لا بد أن يصل إلى هذه النقطة، وأن يرى رؤيا الدين. ومن هنا كفاحه وإنسانيته؛ لأنه في جميع كفاحه الماضي إنما كان يحاول أن يكون إنسانا إنسانيا، وأن يحمل البشر على أن يكونوا إنسانيين.
وإذا كان رجل التقاليد ينبذه بأنه ملحد أو كافر لأنه يضل في اشتباكاته الثقافية، فإن غيره من المتعمقين يعرف إيمانه. هذا الإيمان الذي وصف به فولتير في كفاحه للمتعصبين والمستبدين إزاء رجال التقاليد من كهنة رجال الدين المسيحي في فرنسا. ونحن الآن نعرف أن الدين، بل القداسة كانت في قلب فولتير، وأن الكفر كان في قلوب أولئك الكهنة.
وخلاصة القول: إن فن الحياة يقتضينا أن تكون لنا اتجاهات وميول تنتهي إلى رؤيا، فنكسب منها المذهب البشري، بل الدين، ونجهد ونخدم في تفاؤل وحب؛ نحب الإنسان والشرف والمجد والصحة والخير، ونحب الحيوان والنبات والجبال والأنهار والرسوم الفنية والمدن التاريخية، وبذلك لا نركد، بل نبقى على نشاط دائم مكافحين محبين للخير، كارهين للشر.
الحياة مغامرة
عندما نتأمل القصص السامية التي ألفها كتاب خالدون، نجد أننا إنما نقيس هذا السمو بشيئين: إما بشخصية فذة تغمر القصة، وتجعل من العيش اقتحاما، وتجد مرح الحياة في المغامرة والدخول في الغمر العباب دون القناعة بالشواطئ والمخاضات، وإما نجد، بدلا من هذه الشخصية، مشكلة حيوية عظمى، نصل فيها إلى الأعماق، فنفهم أكثر ونعرف أكثر في الحياة.
ومع أننا نقرأ كثيرا؛ فإنه قلما يخطر ببال أحدنا أن يعيش في هذه الدنيا كما لو كان بطلا في قصة سامية؛ وذلك بأن يكون هو نفسه شخصية فذة، أو يكون قد اعتنق مشكلة من مشكلات البشر الحيوية فيطابق بينها وبين نفسه ويعيش لها؛ فهي هو وهو هي.
ولكن الواقع أن كثيرين منا - على الرغم مما قلنا - يطابقون بين حيواتهم وبين القصص التي يقرءون؛ فالشاب الذي ينكب على قراءة قصة ما إنما يطابق بين نفسه وبين هذه الغراميات المتأججة في القصة، والفتاة التي تدمن الذهاب إلى الدور السينمائية إنما تطابق بين نفسها وبين فتيات الدراما التي تشاهدها؛ وهي تعيش بجميع إحساساتها فيما ترى من اقتحامات هؤلاء الفتيات، ولكن، وهذا هو المهم، هذه القصص والدرامات ليست سامية؛ ولذلك فإن المطابقة بين قارئها أو مشاهدها وبين أبطالها أو حوادثها ليست مما يرفع؛ أي ليست مما يساعدنا على أن نجعل حياتنا سامية نعيشها في فن وحذق وتأنق ومجد.
ويجب أن نجعل حياتنا مغامرة، بل هي كذلك من أول ساعة نخرج فيها من الرحم إلى هذا العالم؛ فإن الموتى الذين لا يطيقون هذا الخروج كثيرون جدا. فإذا كانت بداية حياتنا مغامرة فيجب ألا يغيب عنا هذا الرمز، ويجب أن نستبقي هذا الشعار سائر عمرنا، ويجب ألا ننسى أبدا أن الطمأنينة التي نتوخاها هي على الدوام جزئية ونسبية وظرفية؛ لأن الطمأنينة التامة هي الموت.
ومن أجمل أو أحكم الكلمات التي خلفها لنا نيتشه قوله: «كل ما لا يقتلني يقويني»، وأيضا قوله: «عش في خطر». وذلك أن الحياة اختبارات، فإذا واجهنا خطرا وخرجنا منه دون أن يقتلنا فقد كسبنا الاختبار، وازددنا بذلك عرفانا بالدنيا، وحكمة في الحياة. وإذا عشنا في خطر زال عنا الذهول الذي تتسم به العامة، وصرنا في يقظة وتنبه وذكاء وفهم، فتكون الدقائق عندنا بمثابة الساعات عند غيرنا، والساعات بمثابة الأيام.
والحياة القصيرة الحافلة بالمغامرات والاقتحامات خير من حياة طويلة هزيلة يعيشها الإنسان في ذهول كأنه بلا وجدان. والمخترع والمكتشف كلاهما يعيش مغامرا لأنه يسير في أرض مجهولة لا يعرف نهايتها، وهو في هذا الاكتشاف أو الاختراع يحس من لذة الحياة ما يجعله ينسى جميع المشقات والمصاعب. ومن منا لا يحب مغامرة كولومبية يعيش فيها شهرين أو ثلاثة أشهر فقط وهو يتطلع إلى قارة جديدة، ويكاد يهبط عليها، بدلا من قضاء مائة سنة وهو منزو في شارع لا تضيق حدوده الجغرافية فقط، بل تضيق فيه أيضا حدوده الذهنية والنفسية؟!
ونحن نعجب بحياة نابليون أو غاندي؛ لاقتحامات الأول الحربية، واقتحامات الثاني الروحية، ونقرأ سير القديسين والمصلحين والمخترعين في شوق؛ لأننا نطابق بينها وبين أنفسنا في رغبة حارة للاقتحامات التي امتحنت حياتهم فخرجوا منها أوفر حكمة وأعمق فهما.
ولنا مما قلنا مغزيان؛ المغزى الأول: ألا نلتزم الدعة والطمأنينة فنحجم ونتقلص ونتراجع أمام الأخطار، والمغزى الثاني: ألا نبالغ في شأن الكوارث التي تصادفنا؛ لأننا ما دمنا لم نمت فيها سنعيش وقد كسبنا اختبارها ومعرفتها اللذين ازددنا بهما فهما وحكمة.
وكتب الأدب العالي تكسبنا من الاختبارات ما لا نحصل عليه في مجتمعنا. والشعر العالي هو أحسن ما في الأدب؛ لأن الشاعر يعرف أنه لن يثير في القارئ حماسة أو يلهب فيه نارا، إلا إذا ارتفع عن المبتذل المألوف من الاختبارات، سواء في الموضوع أم في التعبير، فهو يحملنا على اقتحامات ذهنية حتى ولو كانت هذه الاقتحامات مقصورة على التعبير، واستخراج المعنى الخفي الفذ من الموضوع الواضح المبتذل.
واسأل - أيها القارئ - أي إنسان متقدم في السن؛ فإنه لا بد آسف على تلك الفرص التي عرضت له ولم يغامر فيها، بل آثر الدعة والطمأنينة. وهو لا يأسف لأن الفرصة كانت تلوح له من الفرص الكاسبة؛ بل لأنه يحس أنه كان يكون أسعد لو أنه اختبرها وعاش فيها.
وقد كان المتنبي يقول:
وكل شجاعة في المرء تغني
ولا مثل الشجاعة في الحكيم
الشجاعة مع الحكمة تغني في النهاية، العاطفة مع الوجدان أي الشراع مع الدفة؛ العاطفة تدفع والوجدان يوجه.
والخوف من الاقتحامات هو في صميمه خوف من الحياة، أو هو أسف على الخروج من الرحم، وحنين إلى العودة إليه. والرجل الذي يخاف لا يعيش غير تلك الحياة النباتية البقلية؛ يعيش آمنا في مكانه يخشى أن يتزحزح لئلا يسقط.
الحياة المليئة
عندما نتأمل المخ، أو بالأحرى قشرته الرمادية، نجد شبكة من ملايين الخلايا التي تربط وتستطيع أن تؤلف ملايين الأفكار والمركبات الذهنية الجديدة، ولكننا نقنع من حياتنا العقلية العادية بالقليل من هذه الأفكار، حتى لنستطيع أن نقول: إن عشر المخ كان يكفينا. ولو أننا عنينا منذ ميلادنا بالحياة الفكرية، وجعلنا التربية تتجه نحو الاستنباط والاختراع والتفكير البكر، بدلا من التسليم بالعقائد والجري على الأسلوب الاجتماعي الفاشي، لو أننا عنينا بهذا لكان كل منا فيلسوفا أو عالما مخترعا؛ لأن في القشرة المخية من ملايين الخلايا ما يتسع لملايين المركبات الفكرية، ولكننا نتركها بائرة في جدب بلا حرث أو غرس، فلا نعيش ملء حياتنا الذهنية، بل نقنع بالقليل منها.
وحياتنا الفكرية هي بعض حياتنا البشرية، وإن يكن هذا البعض أفضل ما نملك. ونحن - للأسف - لا نعيش ملء حياتنا البشرية؛ فقد تطول حياتنا، ولكنها لا يكاد يكون لها عرض، أو هي تمتلئ بالسنين ولكن هذه السنين لا تمتلئ بالحياة. وقد دعانا الإنجيل إلى التوسع والتعمق في الحياة حين نبهنا إلى قيمة «الحياة الوفيرة»، وما الوفرة في الحياة سوى وفرة الاختبارات بالنشاط والتجدد؛ فالحياة الراكدة أو الجامدة ليست وفيرة أو - على الأقل - ليست في وفرة تلك الحياة التي تتذبذب طربا ومرحا في الدنيا.
وهنا تخطر بالذهن كلمة «الحماسة» التي اختارها أبو تمام لمجموعة الأشعار التي جمعها من الشعراء الذين سبقوه؛ فإن البيت الخالد من أبيات الشعراء هو العدسة التي تجمع المتشتت من النور في بؤرة مركزة، فنحس العاطفة الذهنية في حماسة تثيرنا طربا أو إعجابا أو تفكيرا. ومن الحسن أن ننقل هذا المعنى إلى الحياة؛ إذ يجب أن نعيش في حماسة بلا ركود أو جمود أو تبلد، يجب أن يكون لكل منا «بيت قصيد»؛ أي هدف سام يتبلور فيه النشاط، وتتجه إليه الحياة.
وهذه كلها من المعاني الفنية، معاني الشعر التي يجب أن ننقلها إلى الحياة.
وعند التأمل نجد أن لنا ثلاث حيوات نمارسها جميعا، وهي في صميمها ثلاث ذوات.
فإن لنا الذات الصغرى الأميبية، ذات الرجع الانعكاسي التي نشاهدها في الأميبة والإسفنج وأحط الأحياء. ولنا الذات الصغيرة الحيوانية، ذات الشهوات والغرائز للأكل والتناسل والتسلط، التي نشاهدها في الحيوانات الدنيا والعليا، ثم هناك الذات البشرية ذات الوجدان؛ أي التعقل والقدرة على أن نرى الدنيا بما يقارب حقيقتها عندما نتجرد من غرائزنا، وننظر النظر الموضوعي.
والحياة المليئة هي الحياة الوجدانية التي تحملنا على التخلص من الأنانية الآسنة إلى الغيرية الحية؛ فنتوسع ونتعمق بما يشبه البر الذهني، كأن حياتنا ليست مقصورة على أبعادنا الجسمية الشخصية، بل تشمل غيرنا من البشر. وقد تكون هناك حياة أملأ، هي تلك التي يقول بها أو يبصر بها فرويد ويسميها «الحاسة الأوقيانوسية»؛ أي زيادة في الوجدان تجعلنا نحس الاندغام الشخصي في الكون كله، بحيث نحيا في ذراته وجزيئاته وكواكبه ونجومه ونباته وحيوانه.
ولكن هذا حدس فقط، وقصارى ما نستطيع أن نقوله في يقين: إن الحياة المليئة تحتاج إلى سخاء وتفاؤل؛ لأن أعظم ما يحدد حياتنا ويقيم حولها السدود هو البخل. وهذا البخل ينشأ من التشاؤم الذي يحدث لنا الخوف من الاقتحامات؛ فنتبلد ونجمد، ثم نعيش في حياة ضنينة قليلة الاختبارات، وقد ننتهي إلى أسلوب من الزهد والنسك؛ فنكاد ننكر الحياة.
ولست مع ذلك أنكر قيمة النسك والزهد، ولكنهما يجب أن يكونا وسيلة وليسا غاية؛ أي إننا ننسك ونزهد ونعتكف كي نستجم ونعود إلى الاختبارات الفنية والذهنية والعاطفية؛ أي نعود بقوة متجددة. وكذلك يجب أن نمارس العفة؛ حتى نسمو بالتعارف الجنسي إلى مستوى من التأنق والفن يرفعنا عن التبذل الرخيص للعاطفة، فنضع الوجدان والتعقل مكان الغريزة الغشيمة؛ فلا تكون العلاقة الجنسية نهبا وخطفا، بل تأملا وحبا ، فنتحدى الجمال بوجداننا في فن وتفكير إذا تحدى غرائزنا هو في إغراء وإغواء.
والحياة المليئة تحتاج - كما يجب أن نكرر - إلى وفرة الاختبارات، ومعنى هذه الوفرة أن نعيش لنتعلم وندرس الكتب والطبيعة والمجتمع، ونهتم بالسياسة والاقتصاد والتطور البشري، نهتم بها جميعا متفرجين وعاملين، ونعيش فيها بروح الابتكار والتساؤل والاستطلاع؛ حتى نفهم ويستيقظ ذكاؤنا، وتستفيض شبكة المركبات الذهنية في القشرة الرمادية المخية، وإذا ذكرنا البخل فلا نذكره بشأن الحرص على المال فقط، وإن كان هذا أفشى مظاهره؛ لأن أسوأ ما في البخل نزوعنا فيه إلى التبلد والاعتكاف الذهني والعاطفي وكراهة الاختبارات؛ فهو لا يعيش ملء حياته.
والحياة المليئة تحتاج إلى التفاؤل بالدنيا والمستقبل، وإلى السخاء، وإلى دوام الاستطلاع والنمو.
الهواية
فراغنا يزداد، وسيزداد في المستقبل أكثر فأكثر، وسيكون ملؤه أو الانتفاع به من أعظم المشكلات في التعليم والتربية، بل سوف تكون الغاية الوحيدة من التربية هي الانتفاع بالفراغ؛ أي كيف نعيش 12 أو 15 ساعة كل يوم بلا عمل كاسب. أما التعليم الحرفي فلن تكون له هذه الأهمية.
وفي عالمنا الحاضر طبقة من الأثرياء تعيش في فراغ كامل أو تكاد؛ لأن وسائل العيش الممتاز موفرة لها؛ إذ إن أفرادها يستغلون أفراد الطبقات الأخرى. ولكن عندما نتأمل الطرق التي تتبعها هذه الطبقة الممتازة في قضاء فراغها أو استغلاله، نجد أنها ليست مما يغري؛ فإن سباق الخيل، وصيد الحمام، والصيد بالقنص في مطاردة الثعالب أو الأرانب، وقضاء الليل في المقامرة أو العربدة الجنسية أو الكئولية. كل هذا أو أشباهه لا يدل على أن هذه الطبقة المترفة الممتازة قد عرفت شيئا يمكن أن يوصف بأنه «فن الفراغ»، بل هو يدل على أن هذه الطبقة لا تطيق فراغها، ولا تستخدمه إلا على سبيل الفرار من الوقت بقتل الوقت.
وتطور الآلات، والزيادة في الإنتاج، وتوافر الضروريات لكل إنسان، ثم توافر الكماليات في المستقبل، ستجعلنا جميعا في شبه تعطل؛ لأن طرق الإنتاج العلمية التي لا مفر من استخدامها في العالم كله قريبا ستوفر للإنسان حاجاته بأقل الجهد في أقصر الوقت؛ ولذلك سنجدنا جميعا معطلين فارغين معظم النهار والليل نحتاج إلى ما يشغلنا، فإذا لم نجد المفيد الذي يرفعنا ويرقينا عمدنا إلى المضر الذي يحطنا.
بل نحن، قبل أن نفكر في المستقبل، نجد أن حاضرنا يوفر لنا، أو بالأحرى لبعضنا من أعضاء الطبقة المتوسطة، فراغا يترجح بين أربع وعشر ساعات كل يوم، فيجب أن نملأه، وأن نتعلم كيف نملأه. وعند الإنجليز كلمة «هوبي» لما نسميه بالعربية: «الهواية»؛ أي العمل نعمله للذة فقط لا نبغي منه كسبا، وعندما نملأ فراغنا بهواية نجد في الفراغ تخفيفا، بل معالجة للتوترات التي نستجيب بها حانقين مرهقين لمصادفات الحياة المعاكسة المناوئة. وكلنا يعرف أن الحركة والنشاط والعمل، كل هذه تخفف التوترات وتفرج عن العواطف المكظومة. فإذا كانت الحركة في عمل محبب تتجه إليه الإرادة في نشاط حتى تستحيل إلى حماسة، فإن الاتزان النفسي الذي ربما يتزعزع من إرهاق العمل الحرفي يعود إلينا فنستأنف هذا العمل مرتاحين مستجمين.
لهذا السبب يجب أن يكون لكل منا هواية، وأن نعلم أولادنا وهم في الطفولة والصبا كيف يشغلون فراغهم، وأن ننفق بسخاء على ما يحتاجون إليه لشغله؛ وذلك لأن فراغهم في المستقبل سوف يزيد على فراغنا نحن، وسوف يثقل عليهم - لهذا السبب - أكثر مما يثقل علينا.
وعلى القارئ أن يقصد إلى إحدى المكتبات في القاهرة، ويطلب إحدى المجلات التي تعالج الهوايات، واسمها «هوبيس»، وهي في الأغلب إنجليزية. ومن هذه المجلات يستطيع أن يستنير، وأن ينتفع أو ينفع أولاده.
وأقرب الوسائل إلى الانتفاع بفراغنا أن تتعدد اهتماماتنا ودراساتنا وأعمالنا، أو بكلمة أخرى: يجب ألا يكون طريقنا منفردا في الحياة، لا نعرف غير وسيلة واحدة للكسب والعيش، ولا غير وسيلة واحدة للترفيه والترويح؛ إذ يجب أن يكون طريقنا مزدوجا، بل خير لنا أن تتعدد الطرق.
وقلما يخلو بيت في أوروبا من غرفة يستأثر بها الزوج لا يجوز لزوجته أن تتدخل في ترتيبها، وفي أغلب الأحيان تكون هذه الغرفة منزوية قريبة إلى سطح البيت، وهي مريحة في فوضى الأثاث والأوراق، وهي ملجأ أو معتكف يلجأ إليها الزوج كي ينفس عن كظومه، أو يفرج عن توتراته، وهي من المرافق الاجتماعية التي تمهد العقبات، وتسوي النتوءات التي تنشأ من العمل أو من العائلة.
وقد تكون الهواية دراسة أو دراسات معينة. ومعظم الذين يسعدون بشيوختهم، حين يحيلهم المجتمع على التقاعد، يكونون - في الأغلب - قد هووا الدراسة فلازمتهم هوايتها إلى الشيخوخة، وهناك هوايات أخرى عملية؛ كالنجارة، أو تجليد الكتب، أو - للمرأة - أنواع من التطريز والوشي والنسيج.
وأذكر أني زرت ذات مرة أحد الأندية النسوية في القاهرة، فوجدت طرازا جميلا خفيفا من الكراسي، عرفت حين سألت عن صانعه أن هذا الصانع موظف كتابي في الحكومة قد هوى هذا العمل وأتقنه، لا يبغي منه فائدة مادية، ولكن الفائدة المادية جاءته عفوا بحيث يستطيع الآن أن يستغني عن وظيفته الحكومية ويقتصر على النجارة.
والرجل أو المرأة الذي تشغله هواية ما يسعد بفراغه، ويستطيع أن يفتن بهوايته ويتأنق في أدائها؛ لأنه لا يعجل ولا يهرول؛ إذ هو في فراغ ينبسط أمامه، فهو يتقن ويتأنق. وحبذا المرأة تشغل فراغها بهواية مفيدة ترتقي بها اجتماعيا أو إنسانيا، وتجد فيها أيضا ما يغنيها عن الاستماع للفارغات من النساء اللاتي يملأن فراغهن بالقيل والقال.
وربما لا يكون الزمن بعيدا حين تعلم المدارس وتخرج تلاميذها أو طلبتها للحياة وليس للحرفة، وحين تعنى بالفراغ والهواية أكثر مما تعنى بالعمل والكسب. وفي هذه الدنيا الواسعة هناك لا أقل من مليون هواية تنتظر من يبحث عنها ويهتدي إليها. وقد تكون إحدى هذه الهوايات بذرة لاختراع أو اكتشاف جديد يحتاج إليه البشر. وهل فكرت - أيها القارئ - وذكرت أن كثيرا من المخترعات والمكتشفات إنما كان ثمرة إحدى الهوايات التي ملأت فراغ أحد الهواة؟
وفي ظروفنا الاجتماعية الحاضرة يحتاج كل منا إلى هواية؛ أولا: لأن حياتنا حافلة بما ينغص ويبعث على توترات وكظوم مختلفة متكررة، والهواية هنا تخفف وتعيد لنا اتزاننا النفسي؛ لأننا نجد فيها كل يوم انتصارا وحماسة، وثانيا: لأننا نرتقي بممارسة هواية ما؛ إذ نتعلم فنا أو أي مهارة أخرى تحرك ذكاءنا أو عضلاتنا، وثالثا: تحول الهواية دون الوقوع في العادات السيئة.
وأنت - أيها القارئ - عندما تجول في شوارع القاهرة، وتجد المئات من الشباب السادرين الذين يقعدون على القهوات، ويدخنون في ذهول كأنهم نائمون، أو يكرعون الخمر في غير مبالاة، أو تجد النساء في شجار سافر أو مستتر، فإنك لا بد عند التأمل واجد أيضا أنهم يكابدون توترات وكظوما قد جهلوا طرق التخلص منها، وخير الطرق في ظروفنا الحاضرة هو هواية لذيذة تملأ فراغهم.
وكثير مما ذكرنا في هذا الفصل قد سبق أن أشرنا إليه في فصول سابقة، ولكنا احتجنا إلى جمع بعض الملاحظات هنا لما لها من الدلالة على قيمة الهواية.
الخلوة
يبدو الإنسان كأنه حيوان اجتماعي لا يطيق العيش منفردا، وهو يعد الحبس الانفرادي أقسى أنواع الحجر والتقييد لهذا السبب؛ فإن المسجون لا يطيق انفراده بين الجدران في الزنزانة، ولذلك يعاقب المسجونون أحيانا بحرمانهم من رفقة زملائهم المسجونين، ويوضعون في الزنزانة. وحضارتنا ولغتنا وديانتنا وأخلاقنا تدل على الحياة الاجتماعية.
ولكنا، لأننا نعيش في مجتمع، نجدنا منساقين في تياراته، آخذين بأساليبه، معتمدين على قيمه وأوزانه، فتبرز في وجداننا حقائق العيش والكسب والوجاهة والأبهة، ونعمى عن حقائق أخرى أكبر قيمة وأعظم وزنا؛ أي إن الحقائق الاجتماعية التافهة كثيرا ما تغطي على الحقائق البشرية الجليلة.
ومن هنا قيمة الخلوة؛ فإن التفكير بطبيعته اجتماعي؛ أي إننا نفكر بالقيم والأوزان الاجتماعية، بل بكلمات اجتماعية، ولكنا لا نحسن التفكير إلا في الخلوة بعيدين عن صخب المجتمع وضوضائه. والخلوة والهواية كلتاهما ضرورية لنا كي نجد الاتزان النفسي والتأمل الفلسفي، وكأننا بهما نبتعد عن المجتمع، ونستقل من جميع اعتباراته، ونحاول أن ننحرف عن طرقه وأوضاعه كي نرى أنفسنا.
وإذا كانت الهواية تربينا لأنها تتيح لذكائنا أو عضلاتنا تدريبا، وتبسط لنا آفاقا، فإن الخلوة تتيح لنا الوقت والانفراد كي نبحث من وقت لآخر عن مراسينا في المجتمع، بل في الكون؛ لأنها تنزعنا من هذا الموكب الذي نسير فيه، أو بالأحرى ننساق فيه ذاهلين، إلى موقف الوجدان والتردد والتأمل، والتساؤل: هل نحن على صواب أم خطأ؟ هل عاداتنا ومألوفاتنا قد غمرت حياتنا حتى صرنا نعد العرف ناموسا أزليا، والوضع القائم سنة مقدسة يجب ألا تتغير؟
والتأمل في الخلوة يرفعنا فوق هذه الاعتبارات؛ لأننا نحاول أن نفهم الفهم الموضوعي، فهم الوجدان والتعقل، بدلا من الفهم الانسياقي الاجتماعي، كأننا بهذه الخلوة نأخذ من المجتمع «إجازة» كي نفكر وحدنا بلا تدخل منه، فنعتكف ونقارن بين القيم القديمة والقيم الجديدة، وبين ما يجري وما يجب أن يجري، وبين القيمة الاجتماعية والقيمة البشرية. والخلوة هي التي تحملني - مثلا - على أن أحس أني لست مصريا فقط؛ إذ أنا قبل ذلك بشري أنتمي إلى 2200 مليون إنسان، وليس إلى 17 مليون مصري فقط، وهؤلاء هم عائلتي الكبيرة التي ترتفع فوق الوطنية والمذهب والسلالة واللون. هم البشرية التي توج بها التطور بعد ألف مليون سنة من الكفاح البيولوجي هذا الكوكب، والذين أفكر فيهم حين أتخيل الإنسان بعد مليون سنة.
وما أبدع غاندي حين يصر على أن يختص بيوم كل أسبوع يصوم فيه عن الكلام، فلا يخاطبه أحد ولو لم يختل ولم يعتكف؛ لأنه في هذا الصمت يجد خلوه ذهنية يستطيع أن يفكر فيها دون أن يرتطم ذهنه بسؤال أو اعتراض أو اعتبار.
وكل منا محتاج إلى مثل هذا اليوم الأسبوعي، ولكن الخلوة يجب أن تكون مادية؛ لأننا لم نرتفع إلى مقام غاندي حتى نأمر فنطاع؛ أي نطلب ألا يخاطبنا أحد فيسمع لنا، وإذا نحن اختلينا وانفردنا وجدنا هذه الفرصة. ويحسن أن نختلي بلا كتاب أو جريدة، ولكن مع ورقة وقلم كي ندون ما يستحق من أفكارنا الطارئة. وقد عرفت اللغة العربية كلمة «خلوتي»، وهي صفة المتصوف الذي كان يخلو ويعتكف كي يتأمل منفردا دون أن يشغله شاغل بشري أو مادي. وفي حياتنا مشكلات كثيرة تطالبنا بأن نخلو ونفكر: ما هو الدين؟ ما هو الشرف؟ ما هو الكون؟ ماذا بقي لي من العمر؟ وماذا أنا فاعل به؟
وما هو برنامجي - برنامج الحياة - في السنوات الخمس القادمة؟ هل درست ديانتي؟ هل درست الفلك وهو أقرب العلوم إلى الديانة؟ هل حياتي الماضية أو الحاضرة يصح أن تستمر كما هي في المستقبل؟ أو هل يجب أن أتغير؟
ومثل هذه المشكلات تحتاج إلى الخلوة؛ لأنها بشرية كونية لا تضيق ولا تحد بالاعتبارات القومية أو الاجتماعية. والذهن الناضج لا يفتأ يفكر فيها، ولكن لا يحسن التفكير فيها إلا في خلوة، وقد كان جيته يقول: «بدون الوحدة التامة لا أستطيع أن أنتج شيئا بتاتا.»
والواقع أن كل مفكر يرتفع إلى مستوى عال من المركبات الذهنية يحتاج إلى خلوة من وقت لآخر، وإذا نظم كل منا خلواته وجعل لها ميعادا معينا، مرة في الشهر أو في الأسبوع، ويوما كاملا أو بعض يوم، فإنه يجد أنه في مراجعته لحياته الماضية، وفي تبصره بالمستقبل قد اهتدى إلى أساليب وأهداف ما كان ليصل إليها لو أنه استسلم وانساق في المجتمع.
وهذه الحياة الاجتماعية التي تلابسنا في البيت والقهوة والنادي والمكتبة، بل حتى في الجريدة والكتاب تحول دون التفكير المثمر، وتشغلنا بتوافه وصغائر تتبدد بها حياتنا، ولكن الخلوة تجمع تفكيرنا في بؤرة، وتفتح لنا نوافذ على فضاء آخر قد نجد فيه ما نتغير به إلى أحسن.
وليست الخلوة التي نقترح بالشيء الجديد؛ لأن الواقع أن كلا منا يخلو ويعتكف من وقت لآخر؛ فإن أحدنا يخرج إلى قهوة نائية كي يخلو ويفكر، وعقب الغداء قد ننسطح في الفراش لا لننام بل لنفكر في موضوع معين، بل ربما قصد أحدنا إلى طريق متنح كي يمشي فيه منفردا للتفكير، وهلم جرا. فنحن نحس الحاجة إلى الانفراد والخلوة، ونمارسهما دون أن نحتاج إلى إرشاد، ولكن إذا جعلنا خلوتنا معينة بمواعيد كان ذلك أنجع لتفكيرنا، وأنظم لحياتنا.
قيمة الحب للحياة الفنية
كلمة «الحب» من الكلمات التي تتعدد معانيها وتختلف؛ ولذلك احتاج مترجم الإنجيل إلى أن يستعمل كلمة «المحبة» للمعنى المسيحي الخاص. وهذا التعدد يتضح عندما يقول أحدنا: إنه يحب البرتقال، أو يحب زوجته، أو يحب النظام، أو يحب الله؛ فإننا هنا إزاء طائفة من المعاني المختلفة التي كان يجب أن يكون لكل منها كلمة خاصة.
ونحن نقتصر هنا على معنيين؛ هما: الحب الجنسي، والحب البشري؛ فإن كثيرين من المفكرين يرجعون حب البشر؛ الإخاء والصداقة والتعاون، إلى الحب الجنسي، كأن هذا هو الجذر الذي إليه ترجع عواطفنا البشرية السخية، ولكن الحقيقة أن كلا منهما يرجع إلى أصل منفصل عن الآخر؛ فغاية الحب الجنسي هي التناسل، وغاية الحب البشري هي تكبير الشخصية، والتعاون الاجتماعي، والرقي العائلي، والنمو الذهني.
وليس هذا الذي نسميه «حبا جنسيا» ضروريا للتناسل؛ فإن السمك - مثلا - يتناسل بالملايين، ومع ذلك لا يعرف الحب؛ لأن الذكر يلقي بجراثيمه في الماء، وكذلك الأنثى تلقي بويضاتها في الماء مثله، ثم يتم التلاقيح في الماء دون أن يعرف الذكر الأنثى.
وعندما نتأمل الحيوان وقت التلاقح نجد أن العاطفة الغالبة، والتي تتضح من سلوكه، هي عاطفة الافتراس والأكل والالتهام؛ فإن الذكر يفترس الأنثى، وليس بين الاثنين حنان، وأحيانا ينقلب التلاقح إلى شجار وقسوة وافتراس. وإذا كان الحب الجنسي بين البشر قد خالطته رقة وحنان أو عطف، فإنما مرجع ذلك إلى الثقافة الاجتماعية التي ارتقت بها عواطفنا.
أما الحب البشري فمرجعه إلى ينبوع آخر هو حب الأم لأولادها، وحب هؤلاء لها، وهذه العاطفة بعيده جدا عن الحب الجنسي؛ إذ هي تنضح حنانا ورقة، وهي تحمل الأم والأبناء على أن يترافقوا ويتعاشروا ويتعاونوا.
والإنسان البدائي كان دائم الارتحال، فكانت الأم مع أولادها ترعاهم وتربيهم، وكان تعلقهم بها يحملهم أيضا على أن يتعلق أحدهم بالآخر؛ فإذا ماتت الأم - مثلا - بقي الأبناء على قواعد رفقتهم السابقة يتعاشرون ويتعاونون. وهذه الأخوة بينهم هي أصل الإخاء البشري، بل أصل المجتمع.
بل نستطيع أن نزيد هذا التمييز بأن نقول: إنه إذا أحب الرجل المرأة حبا عميقا بشريا فإن هذا الحب يحول دون الحب الجنسي؛ كأن هناك تناقضا بين الاثنين: الأول كله حنان ورقة، والثاني بعضه افتراس وقسوة.
وعندما نتأمل الحب الجنسي نجد أنه غريزة ذاهلة، ولكن الحب البشري عقل ووجدان؛ ولذلك نحن نزداد وننمو بالحب البشري الذي ترتقي به شخصيتنا؛ لأن هذا الحب يستنبط منا أحسن الخصال في الحنان والرقة والظرف والكياسة، بل أحيانا في التضحية. وهذا الحب هو الذي يجعل الإنسان إنسانيا، وما ندعو إليه من إخاء بشري، أو ما نقدره من خصال في صديق، أو ما نتعلق به من آمال نرضى بأن نضحي لتحقيقها، إنما كل هذا يعود إلى الحب البشري الذي كسبناه من عواطف الأمومة والبنوة.
قلنا: إن الحب البشري عقل ووجدان، ولذلك نحن نزداد فهما بالحب؛ لأن الحب ينبه الذهن ويوقظه، وهو هنا نقيض الحب الجنسي الذي ننساق فيه بالغريزة؛ ولذلك أيضا كثيرا ما نجد أن بذور العبقرية، أو على الأقل النبوغ، تعود إلى الحب؛ لأن الصبي الذي يحب الطبيعة ويجمع الأحياء أو الزهور أو الأصداف والمحار، هذا الصبي يحدوه حب بشري قد استحال إلى حب للطبيعة، ينبه ذكاءه، ويبسط آفاقه، ويكبر شخصيته. وهو بهذا الحب أقرب ما يكون إلى النبوغ أو العبقرية؛ لأنه - بالحب - يرى أكثر، ويفهم أكثر، كما ترى الأم في ابنها وتفهم أكثر مما يرى غيرها فيه؛ للحب الذي تحس به نحوه.
والحياة الفنية تطالبنا بأن نجعل الحب شعارنا؛ لأنه، أي الحب، يملؤنا تفاؤلا فنبتعد عن الخوف والقلق والشك، ونستكثر من الأصدقاء، أو على الأقل نلتزم أصدقاءنا، ونخدمهم في سرور. وإذا جعلنا أساس علاقتنا بالناس والدنيا حبا فإننا لا نسأم الحياة، بل نجد كل ما فيها يدعو إلى العطف والفهم.
ولكن الحب مثل الشجاعة يحتاج إلى تدريب. وصحيح أننا نكسب شيئا من الحب العائلي؛ أي من علاقتنا بالأم والإخوة والأب، ولكن هذا الذي نكسبه عفوا في طفولتنا وصبانا يحتاج إلى الرعاية والتنمية. ونستطيع أن نتعود الحب بالصداقة والتعاون والضيافة والخدمة، حتى ولو كانت طفولتنا قد أهملت، أو كانت الفرص فيها قليلة لتنمية الحب.
والرجل الذي تنبعث فيه عاطفة الحب نحو المجتمع أو البشر هو أقرب الناس إلى السعادة، وهو أبعد الناس عن الشقاء النيوروزي. وكلمة السعادة من الكلمات التي يجب ألا نخلطها بإحساس السرور، ولكن الحب يبعث السعادة الحقة الدائمة أكثر مما يبعثها السرور الزائف الزائل.
ومن هنا تأكيد الأديان جميعها للحب؛ إذ لا يمكن أن يتأسس دين على غير الحب؛ لأن الدين ينشد السعادة، والحب بجميع مركباته الذهنية والعاطفية هو أعظم الأسس للسعادة. وعبارة «المركبات الذهنية والعاطفية» تحمل معنى توضيحيا للحب؛ ذلك أن الحب يحتاج إلى تربية كما يحتاج إلى مرانة، ويجب لذلك أن يكون مثقفا من ناحية بالتربية، وعمليا من ناحية أخرى بالمرانة.
فنحن نعرف أن الرجل المثقف الذي يتجه الوجهة العالمية، ويدرك المغزى للتطورات البيولوجية والتاريخية، ويدأب طوال عمره في درس الشئون البشرية، مثل هذا الرجل المثقف يحب؛ لأنه يعرف أكثر من غيره، وقلبه سمح؛ لأن قلبه أعرف؛ فاتساع المعرفة سبيل إلى اتساع الحب؛ ولهذا السبب أيضا يعد الأدب في صميمه والفلسفة في صميمها دعوة إلى الحب البشري والخير العام.
ولكننا نحتاج كي نجعل الحب مزاجنا النفسي واتجاهنا الأخلاقي، إلى المرانة؛ أي يجب أن نؤدي عملا ما يحمل معنى الحب، وكل منا يستضيء هنا بمعارفه السابقة؛ لأنه على قدر هذه المعارف يكون الضوء المنير الذي يعين الهدف والسلوك. وقد يقنع أحدنا بالإحسان لمعاونة الفقراء، أو الانضواء إلى جمعية لمنع القسوة على الحيوان، أو معاونة الصبيان المشردين، أو نحو ذلك، ولكن هناك من يعرف أكثر لأن ثقافته أوسع وأعمق، وهو لذلك أنفذ بصيرة في الأسباب التي تجر البؤس والمرض والرجعية والجهل. وقد يجد - لهذا السبب - أن الدعوة الاشتراكية والكفاح لنشرها خير الأعمال التي يجب أن يقوم بها؛ لأنها جماع الإصلاحات التي ينشدها غيره متقطعة مجزأة. وقد يجد عملا آخر، ولكن المهم أننا نحب بممارسة الحب، وأن هذه الممارسة تزيد حبنا للبشر كما تزيدنا فهما وسعادة، ولو شاء أحدنا أن يصف الدين الذي يؤمن به دون أن يعين اسمه بأنه دين الحب، لقال أحسن ما يقال وأسمى ما يقال عن الدين.
من التبلور إلى التجوهر
عندما يأخذ الكيماوي في تحليلاته لإحدى المواد التي يقصد إلى عزلها يكون منتهى ما ينشد من نجاح أن يبلورها؛ أي يخرجها نقية خالصة من الأخلاط التي كانت تشوبها وهي خامة. وهذا التبلور هو محاولة للوصول إلى الجوهر؛ أي هو تجوهر.
ونحن البشر في حياتنا المدنية نولد وننشأ في وسط المدينة أو الريف، فإذا كنا أطفالا تشابهت تقاسيمنا وملامح وجوهنا كما تشابه سلوكنا إلا القليل جدا، والذي تبرزه فروق الوراثة؛ فنحن في الطفولة مواد بشرية خامة لم تتبلور أو تتجوهر.
ثم ندخل المدارس ونحترف الحرف، ويؤثر الوسط الخاص أثره في كل منا فنختلف؛ هذا تاجر وذاك محام، وهذا حوذي وذاك مزارع، وهذا كاتب موظف وذاك مهندس حر، وكل من هذه الحرف يطبع طابعه في تقاسيم النفس والجسم، ثم تمضي السنوات، عشرون أو ثلاثون سنة، ونحن نلتزم حرفة بسلوكها وأخلاقها التي تقتضيها، وبمرور هذه السنين نتكشف كالزهرة من التعميم إلى التخصيص، ومن الحال الخامة إلى حال التبلور، وكأن هذه الاختبارات التي تمر بنا تصهرنا وتخرج منا الجوهر الخاص. أجل، هو الجوهر، ولكنه جوهر الحرفة وليس جوهر الشخصية.
لذلك عندما نتأمل أحد الناس الذين التزموا حرفة ما ثلاثين أو أربعين سنة لا نكاد نخطئ في تعيين حرفته دون أن نحتاج إلى سؤاله عنها؛ لأنها تخبرنا وهو يتحدث؛ لأن لهجة الحرفة غالبة عالية، كما نجد من إيماءاته واختيار أحاديثه جميع الأمارات التي تعلن عن حرفته.
وبخلاف هؤلاء نجد أن ذلك الشخص الذي تقلب في حرف كثيرة، فهو بقال، ثم سمسار، ثم كاتب، ثم صانع، ثم مزارع. مثل هذا الشخص لا يتبلور؛ فإذا قعدنا إليه لن نعين حرفته؛ ذلك أن اهتماماته الحرفية لا تتجمع في بؤرة، بل تتشعع هنا وهناك؛ ولذلك أيضا لا يترك في أذهاننا - من حيث الحرفة - صورة معينة.
ولسنا بهذا الذي ذكرنا نؤثر ذلك الملتزم لحرفة ما على الآخر الذي تقلب وتغير، وإنما نريد أن نبين أن هناك تبلورا أو تجوهرا نكسبه من الحرفة التي نلتزمها سنين كثيرة، كأن الحرفة قد استصفت جوهرها وعينته ونحت عنه الزوائد.
وعندما نتقدم في السن، ونكون قد عنينا بتربية أنفسنا وتنمية شخصيتنا، نجد أننا أيضا نتبلور ونتجوهر، ولكن ليس من حيث الحرفة فقط، بل من حيث الشخصية. وصحيح أن الحرفة هي بعض المؤثرات في الشخصية، ولكن هناك مؤثرات أخرى عديدة إلى جانب الحرفة، هي تبلورنا وتجوهرنا.
اعتبر شابا فجا خاما، واعتبر أيضا رجلا في الخمسين قد نضجت أخلاقه وأينعت شخصيته، وقارن بين الاثنين، تجد أن الأول لا يزال في التعميم؛ فهو «أحد الشبان»، أما الثاني فقد تخصص وله مغزى، وهو رمز إلى أشياء عدة لها قيمتها الاجتماعية أو الثقافية.
وهذه الرمزية وهذا المغزى هما ثمرة الحياة الحيوية؛ الحياة الفنية التي قضيناها ونحن نقصد إلى غاية، ونتبع نهجا، ونكسب الاختبارات وننمو بها. وهي جميعا تصهرنا، وتحيل التبر إلى المعدن الخالص.
وإذا كانت غايتنا أن نصل إلى الشخصية اليانعة، وأن نتبلور إلى الفكرة الجوهرية، وأن يستحيل وجودنا في مجتمعنا إلى مغزى، فإن التزام الحرفة الواحدة قد يكون عندئذ معرقلا أو مبطئا؛ لأنه يحد من حيويتنا واختباراتنا. أجل، يجب أن تكون الحرفة بعض ما يكون شخصيتنا وينميها ويبرز المغزى في حياتنا، ولكن يجب ألا تكون هي كل شيء.
وفن الحياة يقتضينا أن نرقى إلى السنين، ونسير في التعمير ونحن على الدوام في ازدياد التبلور والتجوهر، ننفي الزيادات ونطلب الخلاصة. وفي حياتنا أشياء كثيرة من هذه الزيادات التي تنمو علينا كما تنمو صغار المحار والودع على السرطان في البحر؛ فتعوق سباحته، وتتطفل على جسمه؛ فهناك - مثلا - التزامات «اجتماعية» تبعثر وقتنا، وهناك «مشاغل» مالية تستهلك طاقتنا الحيوية، بل هناك مطامع نشأت ونمت معنا، بقوة التكرار وحكم العرف الاجتماعي، إذا تأملناها بعد الخمسين ألفيناها عقيمة تشغلنا عن الجوهر والخلاصة، وتمنعنا من أن نعيش المعيشة الوجدانية اليقظة فيما بقي لنا من عشرين أو ثلاثين سنة.
لنكن أدباء وشعراء
ينشأ الترف للخاصة التي يتوافر لها الفراغ والمال، فتستطيع أن تعيش فوق مستوى الكفاية والضرورة، وتطلب ما نعده من الكماليات والزيادات. وأدوات الترف في أيامنا كثيرة، وهي تختلف من الطبق الصيني الذي يومئ بزخرفته إلى عصر مضى، إلى بساط إيراني تزدهي ألوانه، إلى غير ذلك مما لا يزال يقتنيه الأثرياء، بل حتى الكتب القديمة قد أصبحت نوعا من الترف يشتريه الأثرياء، ويحفظونه قنية تورث كأنها بعض الجواهر.
وأدوات الترف هذه تقتنى، ولكن هناك ألوانا من الترف تمارس؛ كالأدب والشعر وسائر الفنون الجميلة. وصحيح أن هناك من يحترفونها، ويجدون فيها ضرورة العيش ووسيلته، بل يجدون فيها أيضا ضرورة الحياة؛ لأنهم ينفسون بها عن كظوم نفسية.
وعلى ذلك ليست الفنون الجميلة عند من يحترفونها ترفا، ولكنها كذلك عند من يهوونها؛ أي يجعلون منها هواية ينفقون عليها من وقتهم ومالهم؛ يشترون الكتب الأدبية كي يقرءوها، ثم لا يكتفون بهذا، بل يحاولون أن يكونوا أدباء وشعراء وفنانين. وهذه المحاولة - وهي في الأغلب محاولات عديدة تنتهي إلى أن تكون ممارسة مزمنة - هي نوع من الترف؛ لأن الممارس لهذه الفنون لا يتخصص؛ إذ هو في الأغلب موظف في الحكومة أو في شركة، وقد يكون معلما أو طبيبا أو تاجرا، ولكنه منذ فجر شبابه التفت إلى لون من التأنق الفكري عند أحد المؤلفين، فاستهواه وجذبه وحمله على الاستزادة من القراءة والاطلاع، ثم بعد ذلك أخذ التأليف يداعبه فصار يكتب المقالة أو القصة، ويقرض البيت أو البيتين، بل هو ربما يعمد إلى التوسع الفني فيسأل عن الموسيقا والمسرح، وينتقد ويتحرى الأصول ويحاول التعمق. وهو هنا لا يبغي كسبا من هذا المجهود؛ إذ هو لا يريد احتراف الفن؛ لأنه قانع بأن يكون هاويا لا أكثر.
وثق - أيها القارئ - أن هذا الهاوي الذي لا يكسب قرشا من هوايته، بل لعله ينفق الكثير عليها باقتناء الكتب. هذا الهاوي لا يضيع وقته؛ لأنه بهوايته هذه يرتفع إلى أسمى ما وصل إليه التأنق الذهني. ذلك أن الشاعر يتخير من الكلمات والمعاني ما يسمو على المبتذل المألوف، والأديب يحاول أن يحيل هذه الحياة التكرارية الآلية إلى قصيدة فنية، وكذلك الشأن عند جميع الفنانين.
والهاوي الذي يغمره هذا الجو، ويعيش في هذا المناخ ينتهي إلى أن يتنفس هواءه، ويأخذ بمقاييسه، وعندئذ ينتقل التأنق في التعبير إلى التأنق في الحياة، ويعيش عندئذ حياة مترفة تبدو لغيره مثل سائر الحيوات، ولكنها في الصميم فن وترف في التفكير؛ ذلك أن الأديب يعيش من يده إلى فمه كما هو الشأن في سائر الناس من حيث النشاط الذهني؛ لأنه بهذا النشاط قد استطاع أن يخلق لنفسه عالما آخر يجتر فيه أفكاره، ويتخيل ويتأمل، ويذكر الماضي، ويبصر بالمستقبل، ويدرس في تعب أو لذة، ثم يقيس حاضر المجتمع وواقعه بما ينبغي أن يكون. وهو قد وجد في الأدباء والشعراء القدامى والعصريين من حدثوه أحاديث الكمال والسمو والعدل والشرف والإنسانية والرقي. فهو بهذا كله يجد في نفسه كظوما تحمله على التفريج بالكتابة، وقد ينجح ويعود، أو يبدأ يصف الدواء لمساوئ عصره، وقد لا ينجح في الوصول إلى الجماهير، ولكنه مع ذلك قد دخل مدينة الفن والأدب والشعر، واستمتع بما فيها من كنوز، وهو لن يخرج منها طوال حياته، ولن يهجرها إلى غيرها.
إني أقصد أن يبدأ كل شاب حياته الوجدانية بالتعرف إلى الآداب والفنون؛ يبدأ متفرجا متنزها، ثم يتدرج محاولا، ثم ينتهي كاتبا، وأقصد أيضا أن يبدأ الشاب وهو يجد الفن أو الشعر أو الأدب في الكتاب، ولكن يجب أن ينتهي بأن يحاول إيجاد الفن والشعر والأدب في حياته. أجل، هذه الحياة يجب ألا نتركها تجري في نثر مبتذل، بل نجعل منها قصيدة، أو على الأقل نجعل بعض الأبيات العالية تتخلل هذا النثر، فنعيش ولو لحظات في حياتنا نحس فيها المجد والقداسة والبطولة، ونرى الجمال يشع من قلوبنا.
وهنا يضحك بعضنا ساخرا ويقول: هذا خيال! إنما الحياة مجهود نجمع فيه ونكنز لليوم العصيب والأزمة الطارئة، وليست الحياة قضاء الوقت في تأليف الشعر.
وجوابي أني لا أنكر قيمة المجهود نبذله كي نكفل الطعام واللباس والسكنى، ولكن هل معنى هذا أن نقضي العمر كله في الاهتمام بالطعام واللباس والسكنى؟!
إن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانيا إذا اقتصرت اهتماماته وهمومه على الطعام واللباس والسكنى، وإنما هو يرتفع إلى الإنسانية عندما تجد الثقافة الفنية؛ ثقافة الترف الفكري، مسكنا في ذهنه تأوي إليه، بل تمرح فيه وتمتزج بخلاياه، وتعود جزءا لا ينفصل من حياته يوجهه ويكيفه ويعين له التصرف والسلوك؛ أي يجعله ويضطره إلى أن يعيش المعيشة الفنية.
أعرف شابا لا يبالي أن يتغذى بأي طعام يكسر حدة الجوع، ولا يبالي أي لباس يتخذ، ومسكنه غرفة فوق سطح أحد المنازل، وهو بهذه المعيشة غير متمدن؛ أي إنه لا يستمتع بمتع الحضارة في السكنى واللباس والطعام! وهي متع لا تنكر قيمتها، ولكن هذه القيمة صغيرة جدا إلى جنب المتع الثقافية الفنية التي يلمع بها الذهن، وتسمو بها النفس. والمقارنة بين الذهن المثقف وبين حضارة السكنى والطعام واللباس هي أشبه المقارنات بنظافة الجسم إلى نظافة اللباس. وقد كان هذا شأن هذا الشاب؛ فإنه على الرغم من تقتيره في هذه الأشياء، أو بالأحرى إهمالها، كان لا يترك كتابا يستحق القراءة إلا كان يقتنيه، كما كان لا يتأخر عن شراء التذكرة الغالية لحضور حفلة موسيقية، وكنت أجده زري الهيئة نحيلا، ولكن ذهنه حافل بالأثاث العصري للثقافة، ونفسه فنانة لها قدرة كبيرة على التمييز الفني؛ ولذلك كان فقيرا بوسطه غنيا بنفسه.
وقد يكون هذا المثال متطرفا أو مسرفا، ولكن الحياة الراقية تحتاج إلى أن نمارس فنا جميلا ينعكس أثره في نفوسنا وعقولنا؛ فيجب ألا نقرأ الشعر والأدب فقط، بل نحاول ممارستهما. أجل، يجب أن نكون كلنا أدباء وشعراء، نكتب الأدب، ونقرض الشعر، بل أكثر من هذا، ننقل الأدب والشعر إلى حياتنا ليؤلف كل منا حياته؛ فنحترف المجد، ونمارس القداسة، وننزع إلى البطولة في الدفاع عن حق أو انتصار لمظلوم، ونفكر في أسمى المعاني، ونعبر بأنصع الكلمات.
وأولئك الذين ينشدون السعادة ولا يعرفون ما هي قد يجدونها في ممارسة الآداب والفنون من حيث لا يدرون؛ وخاصة إذا انتقلت هذه الممارسة من اللهو والتسلية إلى الكفاح والدعوة لعالم أسمى؛ أي عالم يعيش فيه الناس على مرتبة سامية من الحضارة الفنية.
السعادة
السعادة هي سلام النفس، وأول ما يجب أن نعرفه عنها أنها ليست مادية، ويجب أن نميز هنا بين السعادة والسرور ؛ لأنهما كثيرا ما يشتبهان؛ ذلك أن السرور أو اللذة، مادية، أما السعادة ففكرية. فنحن نسعد بالفكر أو بالإيمان أو الرؤيا أو الأمل، بحيث يحفزنا واحد من هذه الأشياء الأربعة إلى كفاح، ولكنا نسر ونلتذ بالطعام أو اللباس أو المال أو الشهوات الجسمية.
والمسرات واللذات لأنها مادية تتوقف على جوع يشبع أو طمع يحقق، ثم تؤجم في النهاية، أو تؤدي إلى السأم، ولكن السعادة، لأنها فكرية تنهض على إيمان أو كفاح أو اتجاه، لا تؤجم ولا تؤدي إلى سأم؛ فالقديس - مثلا - سعيد بإيمانه، وهو يستشهد في فرح وطرب، وسعادته هنا فكرية، ولكن لذة الطعام تنتهي عند الشبع، وقد تحدث صدودا.
وهناك اعتبارات أخرى تجعل السعادة دائمة باقية، والسرور وقتيا زائلا؛ ذلك أننا حين نسعد بالفكرة لا يعيق سعادتنا حد، أو غيرة، أو مقارنة مهينة لنا بغيرنا، أو إحساس النقص بأن هناك من يحوزون أكثر مما حزنا؛ فقد أسر لأني اشتريت عزبة أو اقتنيت أتومبيلا أو غير ذلك من المقتنيات المادية، ولكني في هذا السرور أحس أيضا أني كنت أكون أكثر سرورا لو لم ... فإن العزبة كانت تكون أسر لي لو كانت أكبر وأخصب، وكان الأتومبيل يمتعني أكثر لو كان من طراز آخر، وهلم جرا. ولكن السعيد بفكرة ما لا يحسد ولا يغار، ولا يحب أن يستأثر بفكرته، بل هو يحب العكس؛ وهو أن جميع الناس يسعدون بمثل سعادته، كما يحدث لأحدنا حين يطرب لاستماعه إلى لحن جميل، أو لأنه يتأمل مبنى عظيما، فإنه يحث رفيقه على أن يستمع أو ينظر ويتأمل.
والسعادة، كالشعر عند إسحاق الموصلي، أيسر مما نظن؛ فهي لا تحتاج إلى التكلف أو المشقة، بل إن السرور أدعى إلى التكلف أو المشقة من السعادة؛ وذلك لأن السعادة ذاتية، في ذوات أنفسنا؛ إذ هي حال معينة أو اتجاه معين، أما السرور فمادي نحتاج فيه إلى الاقتناء.
وقد يكون أيضا من الحق أن نميز بين السرور والسعادة بأن نقول: إن السرور اشتهائي غريزي يتعلق بما نأكل أو نلبس أو نسكن أو نقتني، ولكن السعادة وجدانية مرجعها الفكر؛ أي العقل. والسعادة لهذا السبب تحتاج إلى التربية الفنية، بل إلى المعارف العلمية التي تكشف عن خبايا وكنوز لا تصل إلى كنهها الغرائز؛ فأنا حين أمارس الزهو الاجتماعي باقتناء الأثاث الفاخر، أو بالقيام بالضيافة المطهمة أو نحو ذلك أمارس نشاطا غريزيا شهوانيا له ذيول وهوامش من الغيرة والحسد والطمع؛ أي إنه سرور معلق، ولا أحتاج أن أتعلم كيف أمارسه، ولكني حين أقعد إلى جدول الماء، وأتأمل الطبيعة وهي ترغي وتزبد في الحقول أيام الربيع، وأتابع فراشة في نشاطها الغذائي أو الجنسي أحس سعادة مطلقة؛ سعادة مخية وجدانية، وليست غريزية شهوانية. وهذه السعادة تحتاج إلى تعلم.
وإذا كان القارئ قد تابعنا من منطقنا، فإنه يستطيع أن يعرف لماذا نكون سعداء عندما نتأمل مقطوعة فنية من الشعر أو الرسم أو البناء، أو نستمع إلى مقطوعة فنية من الغناء أو الموسيقى، فنحن هنا إزاء سعادة مطلقة هي فوق الشهوات الغريزية. ونحن لا نأجم هذه السعادة ولا نملها، كما أنها لا تبعث فينا غيرة أو حسدا أو طمعا، ومن هنا سعادة الفنان وسعادة الفيلسوف؛ كلاهما سعيد بفكرته، بل إن العالم الذي يبحث موضوعا علميا سعيد أيضا بعلمه؛ لأنه يحاول كشف سر من أسرار الطبيعة المغلقة؛ فهو هنا كالقديس يرى رؤيا ويعتقد أنها ستتحقق.
وليس شك أن السعادة هي سلام النفس، وهل شك أحد في أن سلام النفس هو فكري وليس ماديا؟
والعجب أن المتع الحقيقية في هذا العالم، تلك المتع التي نسعد بها، أسهل حصولا وأرخص قيمة من المتع الزائفة التي قصارى ما تؤدي أننا نسر بها سرورا وقتيا زائلا، وهي يجب أن تكون كذلك؛ لأن السعادة فكرية، والفكر لا يكلفنا مالا، ولكن السرور مادي يكلفنا مالا وجهدا، وأحيانا تفوتنا فرصة السعادة، فرصة الحياة الفنية؛ لأننا استغرقنا حياتنا في السرور واللذة.
ونستطيع أن نعود هنا إلى المقارنة بين القيمة البشرية والقيمة الاجتماعية؛ ذلك أن قيمة السعادة بشرية: في الفكر، والاتجاه، والتأنق الفني، والتأمل الفلسفي، والرؤيا للمستقبل والمثليات، والكفاح لهذه الأشياء جميعها. وجميع هذه الصفات ذاتية في ذات أنفسنا، وهي بشرية لها قيمة اجتماعية، ولكن قيمة السرور اجتماعية في الأغلب؛ لأنها تنشأ من اعتبارات المجتمع؛ لأني أسر - مثلا - باقتناء أتومبيل؛ إذ إن مثل هذا الاقتناء قد عده المجتمع تبريزا وتفوقا، أو أسر بالثراء؛ لأن المجتمع يعد الثراء تفوقا ونجاحا.
وهل نستطيع أن نتعلم كيف نكون سعداء؟
أجل، نستطيع ذلك بأن نجعل وجداننا فوق غرائزنا؛ أي نجعل التعقل فوق الشهوات، وكذلك بأن نتعلم ونهتم بما هو أسمى من همومنا الشخصية؛ نهتم بالناس والسياسة، والهند، والإمبريالية، والنجوم والكواكب، والحيوان والنبات، ومستقبل الصحة والحيوان والنبات، ومستقبل البشر وماضي الأحياء، والتطور الماضي والقادم، والمرض والصحة، والدين والأدب والفلسفة. وهذه الاهتمامات المتعددة تبسط لنا آفاقا رحبة للتفكير، فلا تحدنا حدود الشهوة، ولا تستعبدنا الغرائز في اهتمامات مادية غايتها لذة الطعام، ومتعة اللباس والمسكن، واقتناء مواد لا تحصى، بل لا تفتأ تبعث فينا الرغبة في الزيادة. هذه الرغبة التي تجهدنا، بل أحيانا نسير فيها سادرين ذاهلين، وقد نموت قبل أواننا ونحن لا ندري أننا كنا مسوقين باعتبارات اجتماعية هي أبعد ما تكون من السعادة.
قلنا في أول هذا الفصل أننا نسعد بالفكرة أو الإيمان أو الرؤيا أو الأمل إذا كان أحد هذه الأربعة يحفزنا إلى الكفاح. وهنا نحتاج إلى تفصيل موجز: ذلك أن الطاقة النفسية لا تطيق الحبس والكتم والكفاح؛ ولذلك فإن لشأن ما، أي شأن نعتقد أنه حسن، يفتح لنا قناة تنصرف إليها الطاقة. أما إذا حبست هذه الطاقة فإنها تحدث لنا في الحالات الخفيفة نيوروزا؛ أي ضيقا عاطفيا، وفي الحالات الخطيرة تحدث سيكوزا؛ أي جنونا.
ولذلك كثيرا ما نجد الشاب مضطربا متشائما تسوده هموم مبهمة لا يعرف مأتاها، فإذا انضوى إلى حزب سياسي - مثلا - انطلق في تفاؤل يعمل ويسر بعمله، وهو سعيد بهذا الكفاح الذي يبعث فيه نشاطا، ويحمله على الدرس والخدمة والتعاون، ويخرجه من أنانيته، وهو هنا يشعر بالسعادة.
وعلى هذا نقول: إن السعادة تحتاج إلى كفاح، وسلام النفس لا يعني ركودا وجمودا، بل هو أحرى بأن يبعث نشاطا وهمة، وإنجازا لأمل، أو تحقيقا لرؤيا، بحيث يكون هذا الأمل أو هذه الرؤيا عند أحدنا أسمى وأعم من همومه الشخصية الذاتية؛ لأنها بسموها وعموميتها تكسبه كرامة، وتجعل لحياته معنى، بل مغزى. وهنا السعادة.
تعقيب على السعادة
كلنا تقريبا ننشد السعادة ونتحدث عنها كما لو كانت من البديهيات التي لا تستحق مناقشة؛ لأننا نعد السعادة خير ما يطلب في هذا الوجود.
ولكننا نختلف كثيرا في معنى السعادة، وإن كان المألوف أننا نعني بهذه الكلمة الأمن من الكوارث وراحة البال؛ أي سلام النفس والصحة.
ولكن إذا كان هذا هو كل ما نعني بالسعادة، فإن كثيرين، بل كثيرين جدا يحققونها، ومع ذلك لا يجدون منا غير الاحتقار؛ لأننا لا نحسدهم على حالهم هذه؛ إذ هي تشبه الركود والذهول، بحيث تستحيل حياتهم نباتية خالية من التفزز والتنبه، ثم ما يعقب هذا من تبلد ذهني يشبه الجمود.
والرجل الذي تنزل به الكوارث المتعددة هو - في القيم الإنسانية كالذكاء والاختبار والتعلم - خير من السعيد الذاهل الذي لم تنبهه قط نكبة فادحة تجعله يقف ويتساءل: «أين موقفي من هذا العالم؟»
والسعداء الذاهلون كثيرون جدا، وهم يستغرقون في المسرات، وينشدون الثراء ويبلغونه ويحققونه ... وقد يعيشون في القصر الفخم، ويأكلون أطيب الطعام، ويتنقلون في الفصول من الصيف إلى المشتى، ويجدون حاشية من الخدم، كما أن شهواتهم تجد الإشباع الدائم، وراحتهم رفاهية، ورفاهيتهم ترف وبذخ.
ولكن قليلا من الحديث مع أحدهم يوضح أن سعادتهم إنما هي ذهول وخمود وتبلد، وأنهم لو كانت الأقدار قد رفقت بهم لكانت قد كرثتهم بنكبة فادحة توقظهم من سباتهم.
وهؤلاء السعداء الذاهلون يجدون في الكائنات الدنيا ما هو أسعد منهم؛ فإن الديدان والحشرات - مثلا - أسعد؛ لأنها أكثر ذهولا منهم، وهي أيضا أبعد عن الكوارث؛ إذ أقل ما يقال فيها إنها لا تعرف الكوارث حتى وقت وقوعها بها.
وعندي أن مثل هذه السعادة يجب ألا ننشدها؛ لأن السعادة العليا التي هي صفة الإنسان العالي هي الوجدان، وكلما زاد الوجدان زادت السعادة، ولكن ... زادت الكوارث والهموم والاهتمامات أيضا! ونعني بكلمة الوجدان هنا ما يسميه غيرنا «الوعي».
والناس في أغلب أحوالهم يعيشون بالتصوير الحسي؛ لأنه هو التصوير البدائي بل الحيواني الذي لا يحتاج إلى مجهود، ولكن الرجل الراقي يدرب نفسه على التصوير الوجداني؛ فنحن - مثلا - نتأثر عندما نرى طفلا قد وقع من الترام فقطعت ساقه، ولكننا حين نقرأ أن ثلاثة ملايين هندي ماتوا بالقحط لا نكاد نقف عند سطور هذا الخبر كي نتصور هول هذه الكارثة! فالحادث الأول سريع إلى حواسنا؛ لأننا قريبون منه، وتأثرنا لذلك سريع، ولكن الحادث الثاني يحتاج إلى مجهود عقلي حتى نتأثر به.
وعلى هذا القياس نقول: إن السعادة نوعان؛ الأول: هو سعادة الحواس؛ أي المسرات الحسية المادية، أما الثاني فهو سعادة الوجدان؛ أي سعادة التعقل والتصور؛ السعادة الفكرية. وهذه السعادة الفكرية لا تبالي الكوارث، بل إن الكوارث تخصبها وتزيدها نضجا وإيناعا، بحيث إننا عندما تمر بنا السنين ننظر إلى التقلبات والنكبات التي نزلت بنا كما لو كنا قد عشنا حيوات عديدة بدلا من حياة واحدة. وكثيرا ما أعود بالذكرى إلى بعض الصدمات والكوارث والأحزان التي مرت بي، فأجد كلا منها كان بمثابة الدرجة التي ارتقيت عليها صاعدا في سلم الحياة؛ لأنها زادت وجداني، فزادت تعمقي في الحياة، وتوسعي في الاختبارات، وأكسبتني هموما قد استحالت إلى اهتمامات لا أرضى بالنزول عنها الآن.
ولذلك أستطيع أن أقول: إن الحياة السعيدة هي الحياة الحيوية التي تزيد فيها درجة الحياة حدة ويقظة وتنبها؛ أي وجدانا، والهموم والأزمات والكوارث تجعل حياتنا لذلك حيوية، وهي تزيدنا سعادة، أما الأمن من الكوارث والمعيشة الحسية والمسرات، فتجعلنا نعيش فيما يقارب الذهول، فلا ننتبه ولا نحتد؛ أي لا نتعقل في حدة ودقة وإمعان، ولو كانت هذه السعادة هي ما يجب أن نطلب لكان أدنأ الحيوانات أسعد منا، بل عندئذ كنا نكون أسعد بالنوم منا باليقظة، وبالموت منا بالنوم.
ولذة الدنيا هي في النهاية اختباراتها ومشاكلها ومآزقها وأزماتها، ثم تحدي كل هذه الأشياء بالوجدان والتعقل؛ وذلك الذي يبغي السعادة في معناها الإنساني العالي يجب أن يزيد حياته حيوية، لا أن ينقص هذه الحياة بالاقتصار على المعيشة الحسية، على المسرات. هذه هي السعادة التي تستحق أن ننشدها؛ السعادة هي الفهم بالوجدان والتعقل.
ناپیژندل شوی مخ