ولما كان سونبين قد أصاب من المجد مثل حظ رفيقه ومعاصره «أو تشي» (الذي قدمنا له فيما مضى) فقد أطلق عليهما، معا، لقب «سون أو». وبمناسبة حكاية الألقاب والتسميات هذه، فإن تسمية الفيلسوف العسكري الأول «سونزي» أو «سون زي» أو «سون تزو» - أيا ما كان - لا علاقة لها باسمه الأصلي، في واقع الأمر، وإنما يقرأ لقبه في الكتب القديمة، وفي سجلات التاريخ هكذا «سون وو»، ومعناه («سون» المنتسب إلى دولة «وو») أو بصيغة مفهومة عربيا «سون ابن البلد وو» (سون الويهي - إذا جاز التعبير - كتسميتك الفقيه المولود ببخارى «البخاري»، وبالمثل «القرطبي»؛ بنسبة الرجل إلى موطنه الذي عاش، أو ولد فيه)؛ وذلك لأنه هرب من دولة تشي، مسقط رأسه، إلى دولة «وو» [تنطق كما في: «داوود»] حيث نبغ وذاعت شهرته، وعلى النحو نفسه تمت تسمية سونبين، أحيانا، وفي أماكن متفرقة من سجلات التاريخ القديم (وأنا هنا أتحدث إلى من يعنيهم أمر ملاحظة طرق تدوين الأسماء في التراث الصيني القديم، وهي أعقد من أن تحصى، ويدق فهمها على المتخصص، فما بالك بالجمهور؟! لكن ما يعنينا منها - هنا - هو ما يمكن أن نصادفه في ترجمات سابقة أو لاحقة لمدونات تراثية.)
أقول إن سونبين يرد اسمه أحيانا في صيغة مختلفة، إذ يطلق عليه «سون تشي»، والسبب مكرر والعلة مستعادة، فالكل يهرب من موطنه ساعيا إلى جوار أكثر كرما، والكل ينبغ ثم يلمع نجما ساطعا في سماء المجد، ثم يتحول إلى أسطورة، ومثل كل حكايات الأساطير، تتعدد الأسماء للبطل الواحد، وتسقط ساعة الميلاد والوفاة، لتسقط معها حسابات الزمن بالأيام والسنين، ويحتوي الدهر الداهر بقاء الجميع في تحد مع النسيان إذا طغى، وقد ينكر وجود السابقين جملة، عندما يسخر من ذاكرة التاريخ الكهل ليفضح عبث التدوين واهتراء الأوراق وصحف الماضي وفوضى التراكم في جعبة التواريخ. فنحن أمام رجلين تنحصر بينهما جملة اعتراضية مقدارها مائة سنة كاملة، لكنهما صنوان في لعبة المصير، ذلك أن سونزي - وبالقدر نفسه - كان قد هاجر إلى بلد الجوار وترقى حتى اقترب من تخوم المناصب العسكرية العليا، وحقق انتصارات هائلة بفضل خططه الموضوعة لقوات دولة وو، حتى استطاعت أن تتوغل مسافة ألف «لي» في أرض غريمتها «تشو» إثر هجوم مباغت وفي العام الثاني عشر من حكم الملك «فوتشاي» (484ق.م.) أحرزت وو بفضل سونزي النصر على دولة تشي، لتتسنم بذلك ذرى المجد وتبلغ آفاق الإمبراطورية فوق الممالك، وبرغم كل سجلات الانتصار، يضيع أثر سونزي وسط الزحام ولا يعرف أحد ما الذي حدث له بعد كل ما ناله من رفعة شأن وذيوع صيت، ليس هناك سوى اضطراب الرواية وحيرة المؤرخين «لا أحد يعرف إن كان قد مات بعد ذلك مباشرة أو أنه اغتيل أو أحيل إلى التقاعد، أو حتى إذا كان قد عاش في عزلة بمحض إرادته!»
وبعد، فلم يعد سوى الأقلام والصحف، هي التي استطاعت أن تصمد للبقاء طويلا، أطول من عمر أصحابها، ومع ذلك، فلم تسلم مصادر التراث من التشكيك بسبب تلك الغلالة الضبابية التي تلف سيرة الماضي وأهله، وعلى سبيل المثال، فقد ظل كثير من الدارسين وكبار المتخصصين والثقات في العلوم العسكرية على مدى ألف عام، ومنذ بداية عصر دولة سونغ (960-1279م) يعتبرون كتب التراث العسكري الكبرى، مثل: «ليو طاو» [أي: الفنون الستة (فنون الحرب الستة)]، «فن الحرب عند سونزي»، «ويلياو تسي»، «قوان تسي»، «يان تسي»، وغيرها من المدونات الحربية القديمة مجرد محررات مزيفة لا ترقى إلى مرتبة التراث الذي يستحق الاعتبار والتقدير، ثم ذاعت في فترة من ذلك العهد نفسه آراء بين الدارسين لعلوم الحرب تقول بأن كلا من سونزي وسونبين لم يكتبا عملين منفصلين عن الحرب، بل هو كتاب واحد بعنوان «فن الحرب»، وظلت تلك الظنون تراود أذهان الدارسين حتى اكتشفت نسخة تامة ل «فن الحرب عند سونزي» ونسخة ناقصة ل «فن الحرب عند سونبين» في حفائر إقليم شاندونغ سنة 1972م.
كثيرة جدا هي الكتب التي تحمل عنوان «فن الحرب» في المدونات العسكرية الصينية، وفيما عدا الكتاب المشهور ل «سونزي»، فهناك «فن الحرب عند سيمافا»، «فن الحرب عند كونمين»، «فن الحرب عند ليجين» ولولا خشية الإطالة والملل الذي قد يصيب حضرات القراء، لمضيت إلى آخر هذه التقدمة في ذكر كتب ومذاهب فنون الحرب والاستراتيجية الموروثة عن الحضارة الصينية القديمة، حتى لنكاد نقرر بأن التراث الصيني لم يبدع سوى فنون القتال أو نصل إلى انطباع بأن الصين هي أمة الحرب والقتال، وليس عجيبا في تاريخ أمة أن تشتهر بالقتال (الحضارة الرومانية انتشرت بحد السيف!) لكن الحق أن الحرب هنا جزء، كما سبق وأشرت، من فلسفة سياسية واجتماعية شاملة تهدف إلى التسوية، وانظر مثلا لكل تلك الفترة المشتعلة منذ عصر «الدول المتحاربة» وصولا إلى زمن أسرة تشين، تلك السنين التي بلغت أكثر من مائتي سنة أو تزيد (تقريبا، من 470 إلى 206ق.م.) وتأمل، ألا تجد أن صيغة الوحدة الصينية الشاملة هي التي كانت النتيجة الخاتمة على الإمبراطور تسين شيهوانغ؟ حتى إنك لتقول بأن الصين مرت بالحرب بحثا عن تسوية لنزاع انتهى في المطاف الأخير بالوحدة الأولى على مر تاريخها الطويل، لم تأت أعظم وحدة إلا بعد أطول صراع (بين جنبات الأمة الواحدة) أو هكذا تبدو المسألة باختصار شديد.
أغرب وأعجب شيء هو أن كل المدارس الفكرية والفلسفية التي تميز الصين عن غيرها من الأمم هي تلك التي تمخض عنها ذلك الزمان البعيد «زمن الدول المتحاربة»، وقد ترافق الإنتاج الفكري في المجال العسكري مع النظر في شئون المجتمع على المستوى النظري التأملي في الإنتاج الفلسفي، وكان رجال الحرب جزءا من التركيبة الثقافية والإبداعية، والفارق بين المفكر والمثقف والشاعر والمفكر الاستراتيجي والمنظر الحربي، ليس كبيرا للدرجة التي يمكن أن تبدو للوهلة الأولى [كان «ماو تسي تونغ» أشهر رجال القرن العشرين، مثقفا، وسياسيا، وزعيما، وشاعرا (له إنتاج أدبي متميز) وناقدا للكتب الكلاسيكية - بحكم قراءاته الواسعة منذ أن كان يعمل أمين مكتبة عامة أول حياته - وكانت كتاباته العسكرية تمثل قمة نضجه، بل إنها تأتي في الصدارة من بين أهم الكتابات والتحليلات العسكرية، خصوصا كتاباته حول «حرب العصابات» ... إلخ، ولا غرو فهو في جزء من تكوينه الفكري، نتاج ثقافة صينية تقليدية - لنتفق على ذلك، بدون كبير اعتراض - تعتد كثيرا بالكتابة في نظريات الحرب، بوصفها إبداعا ذا درجة عالية من الرقي، لكن تلك مسألة أخرى.]
أقول: إن كتب التراث العسكري أدخل في نطاق الفلسفة الاجتماعية منها في حساب مهارات الحرب وتكتيك القتال، وبرغم كثرتها، فلم يكن مقررا منها على المشتغلين بمهام التخطيط، سوى سبعة فقط، وهو تصنيف كان ساريا منذ عهد أسرة سونغ، برغم شكوك النقاد حول صحة نسبة بعض هذه المؤلفات إلى أصحابها، أما تلك المؤلفات المعتبرة، فهي - على سبيل الحصر -: (1) «فن الحرب عند سونزي»، (2) كتاب فنون الحرب الستة (ليو طاو)، (3) «كتاب أوتسي»، (4) «كتاب ويلياو تسي»، (5) كتاب الخطط الثلاث (سان لو)، (6) «كتاب سيما فا»، (7) «كتاب محاورات لويقون».
ويظل كتاب «فن الحرب» ل «سونزي» أشهرها جميعا، ولو أنه ليس أشملها معرفة ولا أعمقها تناولا أو أكثرها وعيا، من الجائز أن تكون سيرة كاتبها الشخصية بأحداثها المأساوية، التي تشابهت مع سيرة الملوك القديسين وقصص نبوغهم وكفاحهم وإسهامهم في خدمة الوطنية الصينية بمعناها المستمد من قواعد الفكر الكونفوشي، هي التي ساهمت في إبراز أهمية محتوى كتاباته، وعلى كل حال، فلم يكن كتاب «فن الحرب» الشهير، يخلو من مثالب - حسب ما يردد بعض النقاد - فمما يؤخذ على اجتهاداته النظرية أنها:
أولا:
وبرغم تناول سونزي للعلاقة بين الحرب والسياسة، فهو لم يتطرق إلى تحليل طبيعة الحرب (صحيح أن المؤرخين اتفقوا على أن حروب فترة الربيع والخريف لم تكن لتوفر الأساس لمناقشة مفاهيم حرب طبيعية وعادلة) لكن يبقى أن نظرية سونزي، كما عبر عنها في كتابه، يشوبها ذلك المأخذ.
ثانيا:
ناپیژندل شوی مخ