77

فلسفه تاریخ عند ویکو

فلسفة التاريخ عند فيكو

ژانرونه

1

ومن هذه المعارضة للنزعة العقلية قدم فيكو نظرية في المعرفة تقوم على مذهبه في الحقيقة، وهي أن الحق والفعل مترادفان

Verum et Factum Convertuntur

فالشرط الضروري لمعرفة أي شيء معرفة حقيقية هو أن يكون العارف قد صنعه بنفسه ويكون لديه اليقين بهذا المعنى لا بالمعنى الديكارتي «اخلقوا الحقيقة التي تريدون معرفتها. أما أنا فسوف أقوم أثناء التعرف على الحقيقة بصنعها بطريقة لا تدع مجالا للشك فيها ما دمت أنا الذي أنتجتها بنفسي.»

2

ومعنى هذا أننا بإزاء موقف مختلف عن موقف الفلسفة الديكارتية تمام الاختلاف؛ إذ إن التاريخ يتألف من أعمال تصلح أن تكون موضوعا للمعرفة البشرية أكثر من أي موضوع سواه؛ فالمعرفة إذن مرادفة للصنع، والإنسان يعرف حقائق الأشياء عندما يشارك في صنعها بنفسه بحيث تصبح قابلة للمعرفة؛ فالعقل يشارك بفاعليته في تكوين الأشياء، ومعنى هذا أن الحقيقة تبلغ مرتبة اليقين عندما يرويها من صنعها بنفسه. السؤال الآن ما المقصود أن الحقيقة هي ذاتها الشيء الذي يتم فعله؟ حاول رسل أن يجيب على هذا السؤال بقوله لو اختبرنا هذا المبدأ غير التقليدي عن كثب لاستخلصنا منه بعض النتائج الصحيحة كل الصحة على المستوى الإبستمولوجي (المعرفي)؛ ذلك لأن من الصحيح أن الفعل يمكن أن يساعدنا على تحسين معرفتنا، ولا جدال في أن أداء فعل ما بطريقة ذكية يزيد من فهم المرء له. وواضح أن هذا يحدث على أوضح نحو ممكن في ميدان الفعل أو الجهد البشري. إن فيكو لا يجعل من الإنسان مقياسا للأشياء جميعا بالمعنى السفسطائي، بل إن ما يؤكده هو العنصر الفعال الذي يعيد تركيب الوقائع في عملية المعرفة، وهو شيء مختلف كل الاختلاف عن اتخاذ ما يبدو لكل شخص معيارا نهائيا. ومن جهة أخرى فإن تأكيد الفاعلية يتعارض بشدة مع الأفكار الواضحة المتميزة عند العقليين. فعلى حين أن المذهب العقلي يتباعد عن الخيال على أساس أن هذا الأخير مصدر للاضطراب والخلط، فإن فيكو على عكس ذلك يؤكد دوره في عملية الكشف، وهو يرى أننا قبل أن نصل إلى تصورات أو مفاهيم، نفكر في إطار مواقف أقرب إلى الغموض وانعدام التحدد.

3

ونلاحظ في نظرية فيكو للمعرفة جانبين؛ الذاتية والموضوعية أو العقلانية والتجريبية، بمعنى أن هناك نوعا من الجدل بين الفكر والواقع؛ فالإنسان يوجد تنظيماته الاجتماعية، ومن خلال تفكيره في هذه التنظيمات تنبثق تجارب جديدة بتنظيمات جديدة، فتأكيد الذات البشرية مسألة أساسية لأنها هي الذات التي صنعت التاريخ، وإذا كانت صورة التاريخ هي التاريخ المثالي الأبدي فإن مادته من صنع الإنسان. التاريخ إذن إبداع إنساني خالص؛ فقد خلق الله الطبيعة وترك للإنسان الحرية ليعيد صنع العالم التاريخي، بهذا المبدأ يؤكد فيكو - ربما لأول مرة في تاريخ الفلسفة الغربية - مذهب صنع الإنسان لنفسه ويضعه داخل إطار أشمل يبين بصورة قبلية الحدود التي يمكن أن يتم فيها هذا الصنع، فهذه الحدود قد عينتها العناية الإلهية من قبل، كما تحددها أيضا حقيقة أن التنظيمات الاجتماعية وتطور المعرفة كلاهما عملية تبدأ بالإحساس (في الحالة الطبيعية) وتنتقل إلى الخيال (كما في الحالة الشعرية) وتنتهي إلى العقل (وهي الحالة البشرية) فالإنسان إذن ليس مجرد نتاج حتمي للطبيعة، ولكن له حرية صنع نفسه من خلال صنع التنظيمات وتجديدها. والنتائج المترتبة على مذهب فيكو في صنع الإنسان لنفسه بصورة متجددة هي تأكيد الجانب الذاتي والجانب الموضوعي أو الأبدي الذي يتم في إطاره هذا الصنع أو هذا الإبداع البشري المتجدد. وفهم الإنسان لذاته وهو يستعيد العملية التاريخية هو نوع من صنع الذات، وبالرغم من الاختلافات الفردية بين الأفراد والنظم والمجتمعات، فإن العقل الذي يكمن وراءها عقل مشترك يعبر عن طبيعة بشرية واحدة مشتركة، ولولا ذلك ما استطاع عقل إنساني آخر من حضارة أخرى ومجتمع آخر أن يشارك فيه بالفهم أو أن يتواصل معه، فهناك طبيعة مشتركة وحس مشترك بين البشر. والبشر عندما يدرسون الظواهر التاريخية المختلفة من عادات وتقاليد ولغة وفن ودين وقانون وأساطير وشعر، فهم في الواقع يعيدون اكتشاف أنفسهم كما يتعرفون من جديد على إمكانيات طبيعتهم البشرية المختلفة، وهذا نوع من معرفة الذات بل هي في الحقيقة من صنع الذات، ولكن وحدة الطبيعة البشرية التي تسمح بالتواصل بين الأفراد والأمم كما تسمح للمؤرخ أن يتواصل مع الظواهر التاريخية المتنوعة، لا تعني أن الطبيعة البشرية الواحدة هي طبيعة محددة للأبد؛ فالواقع أن فيكو يؤكد دائما أن الظواهر التاريخية قابلة للتغير والتطور والتنوع، وهذا يفسح مجالا للحرية الإنسانية كما يسمح بتفرد الأمم والأفراد وتميزهم، ويتضح هذا إذا نظرنا إلى موضوعات الشعر من حب وحزن وفرح ... إلخ التي هي موضوعات خالدة، لكن كل قصيدة تعبر عن هذا المعنى تعبيرا مختلفا عن الأخرى فكل قصيدة هي نوعية متفردة. فبالرغم من إيمان فيكو بوحدة الطبيعة البشرية فهو يؤكد إمكانية التغير والتجدد داخل كل دورة تاريخية، ودراسة التاريخ تعلم الجنس البشري كيف يصبح إنسانيا وذلك بأن يحيا من جديد المراحل التي عبرتها البشرية حتى وصلت المرحلة التي أمكن فيها القيام بدراسة التاريخ؛ فدراسة التاريخ هي عمل من الأعمال التي يصنع فيها العقل نفسه.

4

وخلاصة نظرية المعرفة عند فيكو أن العقل يعرف نفسه من خلال دراسة الأشكال التي يظهر فيها، فيظهر مثلا في التنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفن والقانون واللغة ... إلخ، أي يتجلى في كل مظاهر الحضارة، وبهذا يعد فيكو أول من قدم نظرية تاريخية عن حقيقة التغير من خلال تفسيره للتاريخ باعتباره عملية عقلية منظمة خلاقة، فمن خلال التاريخ الذي يتألف من أحداث ووقائع ومؤسسات اجتماعية تعبر عن أحوال العقل يصبح هذا العقل نفسه موضوعا للمعرفة، وهنا تكمن المشكلة الرئيسية في الدراسات التاريخية؛ إذ كيف تكون الذات العارفة هي نفسها موضوعا للمعرفة؟ أو بمعنى آخر كيف يمكن لصانع العلم أن يكون هو نفسه موضوعا للعلم؟ للإجابة على هذا لا بد أن نطرق مشكلة أخرى شغلت المفكرين والفلاسفة وتبلورت في السؤال الآتي: هل التاريخ علم؟ (2) علم التاريخ

ناپیژندل شوی مخ