76

فلسفه تاریخ عند ویکو

فلسفة التاريخ عند فيكو

ژانرونه

يؤكد فيكو في أكثر من موضع من العلم الجديد أن نظم الحكم الملكية هي أكمل أشكال الحكم، وأنه إذا سارت الأمم في مسار التطور الطبيعي وبلغت المرحلة البشرية وقامت نظم الحكم الشعبية فلا بد أن تفسد هذه النظم الحرة كما أوضحنا، وبهذا ينتهي المسار الطبيعي للتطور في رأيه إلى النظم الملكية! وهنا يجب أن نشير إلى أن فيكو عاش في ظل حكومة ملكية في نابولي؛ وبالتالي فهناك أحد احتمالين ؛ إما أن النظام الملكي في نابولي كان عادلا وحكيما في عصر فيكو فجعله يؤمن به إيمانا لا يحيد عنه؛ أو أن هذا النظام الملكي كان قاسيا ومستبدا فجاء رأي فيكو هذا خشية بطش ملوك نابولي الظالمين.

هكذا نكون قد قدمنا التصور الكامل للتاريخ عند فيكو مع تطبيقاته في مختلف التنظيمات البشرية من تنظيمات سياسية واقتصادية ولغة وقانون وشعر ... إلخ، ويتعين علينا الآن أن نلقي نظرة نقد وتحليل وتقييم لهذه المادة الكثيفة من خلال نظرية المعرفة التاريخية، وأن نفحص الأسس النظرية للنسق العلمي للتاريخ عنده ونتناول بشيء من التفصيل نظريته في المعرفة التاريخية ونظريته عن التاريخ المثالي الأبدي التي تعد في نظر الكثير من الباحثين هي النسق العلمي أو البناء النظري القبلي الذي يقوم عليه التاريخ البشري. وبعد أن ننتهي من هذا النقد والتحليل أو التقييم نختتم البحث بإلقاء نظرة على تأثير فيكو على فلسفة التاريخ وفلاسفتها سواء في عصره أو في العصور التالية، مكتفين بأبرز معالم هذا التأثير وأهم الفلاسفة الذين يحتمل أن يكون قد تأثروا به وخصوصا أولئك الذين قالوا بخضوع التاريخ لقوانين تحدد مساره.

الباب الثالث

المعرفة التاريخية وأثرها

الفصل الأول

نظرية المعرفة التاريخية

(1) مبدأ المعرفة

كان القرن السابع عشر هو عصر المذاهب الفلسفية الكبرى؛ فقد وقف معظم فلاسفة هذه المذاهب موقفا نقديا من فلاسفة الماضي رافضين الدخول معهم في حوار حقيقي؛ إذ يبدو أن الثقة بالمعرفة الجديدة جعلت كلا من الفلاسفة والعلماء على السواء يقللون من شأن المعرفة القديمة. أضف إلى هذا أن المذاهب العقلية التي سادت في هذا القرن لم تملك القدرة على فهم المادة التاريخية بحيث يمكن القول بأنه عصر لا تاريخي، وباختفاء الوعي التاريخي لدى فلاسفة هذا القرن بدأ الصدع في الفكر الحديث؛ انهارت المعرفة القديمة، وأقيمت مذاهب فكرية عقلية شامخة، بينما نجد المهتمين بالتاريخ بعيدين عن فكرة المذهب ورافضين لها. هكذا بدأ هذا الصراع الكبير بين المعرفة التاريخية والمعرفة المذهبية، وهو يدل على عجز هذه المذاهب الجديدة عن استيعاب المعرفة التاريخية أو الإحساس بها في تفردها ونوعيتها وحيويتها. ومع ذلك فإن ميدان التاريخ يتسع ويمتد ويزداد ثراء، وتنمو المعرفة التاريخية وتبقى كالظل المصاحب للفكر المذهبي الذي يسير في طريقه ويتوصل إلى معارف جديدة ويبني مذاهب شامخة.

ومع مجيء القرن الثامن عشر تأتي دلالة محاولة فيكو في علمه الجديد عن الطبيعة المشتركة للأمم؛ فهو في جوهره محاولة لوضع مذهب تاريخي شامخ، لا هو مجرد تصنيف تأريخي، ولا هو مجرد إدراج للمعرفة التاريخية تحت التاريخ الديني المقدس، وإنما يريد أن يقدم صورة تاريخ مثالي خالد تسير طبقا له تواريخ كل الأمم في الزمان، ومهمة هذا المسار أن يعرف الشعوب في أصولها وتقدمها وازدهارها وسقوطها، وأن يتتبع المسار التاريخي من البربرية إلى الحضارة، والمهم أنه ينظر إلى التاريخ على أنه هو تاريخ الإنسان وتاريخ عقلنا البشري، وبهذا يعرف الضرورة التاريخية التي بمقتضاها كان من المحتم أن يحدث شيء في الماضي ومن المحتم أن يحدث شيء في الحاضر والمستقبل، وقبل أن نتحدث عن طبيعة المعرفة التاريخية عند فيكو نود أن نقف أولا عند تصوره للمعرفة بوجه عام.

وضع فيكو مبدأ جديدا للمعرفة لمعارضة النزعة العقلية الديكارتية وأتباعها الذين نظروا إلى التاريخ كمجموعة من الحقائق المضطربة وسلسلة من الحكايات السخيفة، وهاجم الأسس الثلاثة التي استند إليها ديكارت؛ فقد عارض الكوجيتو الشهير كمبدأ لليقين، ورأى أن الفعل الإنساني لا الوعي الذاتي هو مبدأ اليقين في علم التاريخ، ونقد أدلة وجود الله التي تستند إلى معرفة أولية سابقة على التجربة وعد هذا تطاولا على الذات الإلهية، كما عارض اليقين الرياضي كمعيار للوضوح والبداهة وبالتالي كمعيار للحقيقة.

ناپیژندل شوی مخ