75

فلسفه تاریخ عند ویکو

فلسفة التاريخ عند فيكو

ژانرونه

48 - وهي المدن التي تصدت للتوسع الروماني - فشلت في تحقيق هذا المسار للنظم البشرية؛ فالقرطاجيون قد عاقهم عن ذلك عنفهم الفطري، وأهالي كابوا منعهم اعتدال المناخ والخصوبة المعروفة عن منطقة كابوا، أما أهالي نومانتيا فسحقهم القهر الروماني على يد اسكبيو، ولم يقدم فيكو تبريرا مقنعا أو علميا لإخفاق هذه المدن في تحقيق المسار الطبيعي للشعوب، بل لم يوضح الأسباب التي ذكرها توضيحا كافيا لجعل هذه الأسباب معقولة ومفهومة، ولكنه اهتم ببيان أن الرومان لم تعقهم مثل هذه العقبات فتابعوا مسار التطور تهديهم العناية الإلهية من خلال الحكمة الشعبية، ومروا بالأشكال الثلاثة للحكومات المدنية وانتقلوا إلى كل شكل منها بصورة طبيعية. فكانت المرحلة الدينية في عصر تأليه آباء الأسر، والمرحلة البطولية في عصر الأبطال عندما نشب الصراع بينهم وبين العامة فنشأت الحكومات الأرستقراطية التي احتفظ بها الرومان حتى صدور قوانين بابليان وباتليان، ومنح العامة نفس حقوق الأبطال المدنية فكانت الحكومات الشعبية الحرة التي بقيت حتى عصر أغسطس فعادت الحكومة الملكية التي تمسك بها الرومان حتى انهار هذا النظام بفعل الأسباب الداخلية والخارجية التي حطمته، وسقطت روما بعد الغزو البربري للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي فنشأ عصر بربري جديد وعادت الدورات التاريخية تسير مسارها من جديد، فتمثلت المرحلة الدينية في العصر المسيحي كما أوضحنا في بداية هذا الفصل، ثم العصر البطولي في العصور الوسطى الأوروبية الذي تميز بعودة النظام الإقطاعي والحكومات الأرستقراطية وأخلاق الفروسية والبسالة والولاء والطاعة إلى أن كانت المرحلة البشرية.

واستشهاد فيكو بالتاريخ اليوناني والروماني - كما يؤكد بنفسه - ليس الهدف منه سرد التاريخ الخاص لهذه الشعوب وعاداتها وتقاليدها وقوانينها، ولكن الهدف هو إلقاء الضوء على التاريخ المثالي الذي يعبر عن القوانين الأبدية التي تحكم أعمال جميع الأمم والتي ستظل تحكم كل تواريخ الشعوب في نشأتها وتطورها ونضجها ثم انحلالها وتدهورها وسقوطها. فهناك جوهر واحد وراء تنوع وتطور أشكال الحكومات هو القانون المثالي الذي يحكم أعمال البشر وتاريخ الأمم إلى أبد الآبدين. هذا القانون المثالي الأبدي يحكم مسار الشعوب منذ بداية نشأتها ونمو نظم الحكم فيها وتطورها حتى تبلغ ذروة نضجها. وعندما تنغمس في الترف يكون انحلالها وتدهورها وفسادها فتنهار النظم الحرة وتعم الفوضى. وهي مرحلة تتردى فيها الشعوب وتسقط في هاوية الأنانية. عندئذ تتدخل العناية الإلهية التي تعمل دائما على خير الجنس البشري - بإحدى وسائلها الثلاث لإنقاذ مسار الشعوب:

أولا: ترتب العناية الإلهية ظهور رجل قوي من أفراد الشعب ينصب نفسه ملكا ويجمع في يده كل التنظيمات والقوانين بقوة السلاح ويضع حدا للفوضى ويؤسس الملكية. وينحصر دور الملك في تحقيق العدالة والمساواة الطبيعية بين الناس وضمان حرية الدين، مثلما فعل أغسطس مؤسس الملكية في روما. ثانيا: إذا تعذر ظهور رجل قوي في الداخل تبحث العناية الإلهية عن العلاج في الخارج بغزو من شعب أفضل وأقوى يستولي على هذه الشعوب بقوة السلاح؛ لأنه عندما تصل الشعوب إلى مرحلة الترف تقع فريسة رذائل كثيرة كالجشع والبخل والحسد والغرور والتخنث، وتقرر العناية الإلهية أنهم أصبحوا عبيدا لشهواتهم فيصبحون خاضعين لأمم أفضل وأقوى منهم فتحتهم بقوة السلاح وجعلتهم ولايات خاضعة لهم. وهنا يؤكد فيكو حقيقتين: (أ) أن من لم يستطع أن يحكم نفسه بنفسه فعليه أن يسلم زمام أموره لمن هو أقدر منه على الحكم. (ب) أن العالم لا يحكمه إلا الأصلح والأكفأ بحكم طبيعته. ثالثا: إذا تعفنت نظم الحكم المدنية وتغلغل الفساد في هذه الشعوب فلم تستطع أن تتفق على ملك يحكمها من الداخل ولم يتفق لها أن يغزوها شعب أفضل من الخارج تلجأ العناية الإلهية - في هذه الحالة القصوى - إلى دوائها الأخير وهو الفناء؛ فأمثال هذه الشعوب قد انحدر بها الترف إلى هاوية الميوعة والطراوة أو بالأحرى إلى الغرور الذي يبلغ أقصى درجاته، فتثور الشعوب وتندفع بغضب وعنف لأقل الأسباب، ويعيش الناس كالوحوش المفترسة متوحدين في أعماقهم رغم تزاحمهم ، وتتردى الشعوب في هاوية الفردية بحيث لا يعود أحد يفكر إلا في مصلحته الخاصة ولا يكاد اثنان يتفقان على شيء لأن كلا منهما لا يتبع إلا شهواته؛ لهذه الأسباب جميعا تقضي العناية الإلهية بأن تسقط هذه الشعوب فريسة الحروب الأهلية وأن يحيلوا مدنهم إلى غابات ثم يجعلوا من الغابات كهوفا وجحورا يلجئون إليها. ويقع المجتمع البشري فريسة بربرية جديدة أفظع وأقسى من بربرية الحواس؛ لأنها بربرية ذوي عقول ماكرة وخبيثة. حقا كان البشر في البربرية الأولى متوحشين ولكن توحشهم كان أكثر شهامة وكرما، أما في ظل البربرية الجديدة فإن الناس تحيا في ظل وحشية حقيرة منحطة يكيد فيها الفرد لأقرب أصدقائه تحت ستار الكلمات والقبلات الناعمة. عندئذ تطبق العناية الإلهية دواءها الأخير بأن تفني الوحوش الشريرة بعضها البعض، وتبقى قلة من البشر يعيشون في وفرة من الضروريات اللازمة للحياة، وتصبح هذه القلة اجتماعية وترتد إلى البساطة الأولى وتتكفل العناية الإلهية بأن تعيد إليهم قيم الورع والتقوى والصدق والإخلاص وهي الأسس الطبيعية للعدالة، كما تنعم عليهم بمختلف أنواع النعم والجمال الذي يتصف به النظام الإلهي.

49

تعقيب

بنهاية الباب الثاني نكون قد استعرضنا فلسفة التاريخ عند فيكو بكل ما تشمله من أصول ومبادئ ومنهج. وقد رأينا كيف استخلص قانون تطور الأمم من خلال دراسته للحضارة اليونانية والرومانية القديمة، وهو قانون الأحوال الثلاثة لتطور الأمم بشكل دوري حلزوني؛ فالتاريخ لا يعيد نفسه بل يأتي دائما بجديد. ولعل الفكرة المحورية التي قامت عليها فلسفة التاريخ عند فيكو هي أن الإنسان صانع تاريخه، ونستطيع أن نقول إنه بهذه الفكرة وضع بذور فلسفة العمل؛ فالإنسان لا يعرف إلا ما يصنع، وهي نفس الفكرة التي تقوم عليها نظريته في المعرفة، وهي أن المعرفة تساوي العمل. وهي كذلك الفكرة التي عارض بها ديكارت كما أسلفنا القول؛ فالمجتمع البشري بكل ما فيه من نظم من صنع البشر أنفسهم، وبهذا يختلف فيكو عن أصحاب النظريات العقلية في نشأة النظم وطبيعتها، ويؤكد أنها من وضع بشر كانوا أشبه بالوحوش الآدمية ثم وصلوا إلى بشريتهم عن طريق تأسيس هذه النظم. من هنا يجب الاهتمام بالأصول الواقعية لهذه النظم التي كانت السبب في أن تصبح المخلوقات البشرية بشرا حقيقيين، بينما يهتم أصحاب النظريات العقلية بتأكيد دور العقل ويبدءون من الإنسان الناضج المفكر بعقله.

وعندما يرجع فيكو بالتاريخ إلى بداياته مع بشر صنعوا نظمهم الاجتماعية بأنفسهم، نستطيع أن نقول إن هناك مقابلة بين فيكو وأرسطو في تصورهما النشوئي عن الطبيعة والإنسان. فهذا الأخير حيوان يصبح إنسانا عندما يعيش في المدينة. وهذا يقابل عند فيكو عالم الطبيعة وعالم البشر لأن حيوانات العالم الأول تصبح بشرا في عالم الأمم وبفضله، أي أن فيكو لا يختلف عن أرسطو الذي يوحد بين طبيعة الشيء وغايته عندما يتطور وينضج؛ فطبيعة نشأة الأمم عند فيكو تقابل تصور أرسطو الغائي عن نشأة دولة المدينة التي تنشأ من الحاجات الحيوية الأولية. وعلى هذا فالإنسان مدني بطبعه، ولكن موضع الخلاف بينهما هو أن فيكو يقول بالعناية الإلهية التي وجهت البشر عن طريق عاداتهم البسيطة وانفعالاتهم الطبيعية لحفظ الجنش البشري، إلا أن البشر صنعوا عالم الأمم وبنوه دون أن يعرفوا خطة العناية الإلهية الكامنة وراءه؛ لذا استثنى فيكو التراث العبري والمسيحي من دائرة علمه الجديد لتدخل العناية الإلهية فيه تدخلا مباشرا عبرت فيه عن نفسها في أعمال تاريخية خاصة وفريدة. ويميز فيكو بين هذه العناية الأخيرة وبين العناية الإلهية الكامنة في التاريخ والتي وجهت البشر بطريق غير مباشر للخروج من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية الإنسانية، فهنا لا تتعارض العناية الإلهية مع فاعلية البشر في صنع التنظيمات البشرية، بل تركت الأمم تصنع تاريخها بنفسها من خلال عاداتها وتنظيماتها الاجتماعية، وبذلك لم يقدم فيكو تاريخا لاهوتيا كنسيا بل قدم تاريخا واقعيا مستندا على الآثار والمأثورات الشعبية والمخلفات والفنون التي تركتها الشعوب الأولى.

بيد أن هناك سؤالا يطرح نفسه: هل نجح فيكو في تطبيق قانون التطور على الأمم عند نهضتها مرة أخرى من جديد؟ لقد قدم فيكو دراسة مستفيضة لأصول المجتمع البشري من منظور الحضارة اليونانية والرومانية، وقام بتحليل دقيق للمجتمعات البشرية الأولى مستندا إلى البحث في أصول التنظيمات الاجتماعية البشرية والأساطير القديمة للشعوب وما ينطوي عليه البحث في أصول اللغات من كشف عن عادات هذه الشعوب وتقاليدها، ولكنه لم يبحث الدورة التاريخية الثانية بمثل هذه الدقة فتناولها تناولا سريعا، بل جانبه الصواب أحيانا في حكمه على نفسية الشعوب. ويبدو أنه اعتمد على تقارير الرحالة والمبشرين فلم تخل أحكامه على بعض الشعوب من تعميمات باطلة مثل قوله هذا شعب بطبيعته كسول ... وهذا شعب مخنث ... ومع ذلك فهو يعد رائدا لعلم نفس الشعوب الذي تطور فيما بعد وأصبح علما مستقلا على يدي فلهلم فونت

W. Wundt

لذلك لا نستطيع أن نقول إن فيكو وفق تماما في تطبيق قانون التطور على المسار الثاني للأمم، وربما يكون مرجع ذلك إلى أن هذه الفترة التاريخية معروفة ومدونة؛ لذا اهتم اهتماما خاصا بالمسار الأول للأمم لإلقاء الضوء على هذه الحقبة التاريخية التي يكتنفها الغموض بسبب نقص الوثائق وبالتالي فهي تاريخ غير مدون. ويكفي فيكو أنه وضع الأسس النظرية والمبادئ النظرية التي يهتدي بها الباحثون في علم التاريخ. وعلى الأجيال التالية مهمة التطبيق؛ فقد تصور فيكو العلم الجديد في شكل نموذج مثالي كامل في فكرته، ولكنه لم يطبقه كما قلنا بصورة كاملة، بل أكد أنه علم قابل للتطور ومتروك للأجيال والعصور التالية أن تطوره وتلائم بين كشوفها وملاحظاتها التي ستستجد في عالم الأمم وبين قوانين هذا النموذج؛ ولهذا فالعلم الجديد كامل من حيث مبادئه وعلى الباحثين في المستقبل أن يستكملوه كما اعترف فيكو نفسه بذلك.

ناپیژندل شوی مخ