بدأ أرسطوطاليس ببيان ما هو الخير، فقال بأن الخير يختلف باختلاف العمل، وتبعا لاختلاف الفنون، فهو في الطب غيره في الفنون العسكرية، فإن كان الخير في الطب هو الصحة، وفي الحركات العسكرية هو الظفر، فهو في البيت فن العمارة، وهو غرض آخر في فن آخر؛ إذن فالخير هو عبارة عن الغاية التي تبتغى، ومن أجل هذه الغاية يعمل الإنسان باستمرار كل الأشياء التي تؤدي إليها. ولكل إنسان غاية تتجه إليها أعماله، وهذه الغاية هي الخير الذي يستطيع الإنسان أن يتعاطاه، فإذا وجدت عدة غايات فمجموعها هو الخير، ثم يقول: «إن للإنسان غايات عديدة في الحياة، على أن أكثر هذه الغايات ليست كاملة ولا نهائية بأعيانها، على حين أن الخير الأعلى كامل ونهائي، والخير الكامل النهائي هو الخير الذي نبحث عنه، وإذا وجدت عدة غايات تتقارب من حيث كمالها ونهائيتها، فإن الأشد نهائية من بينها هو الخير الأسمى.» «الخير النهائي هو الذي يطلب لذاته وحده، أما الخير الذي يطلب من أجل غيره، فليس كذلك، وبهذا يكون الخير الذي يبحث عنه لأجل ذاته، هو الخير الكامل، الخير النهائي، الخير التام، وهو لذلك يكون مطلوبا لذاته وليس من أجل شيء سواه.» «إن خاصية الخير الأسمى على ما شرحناه، هو خاصية السعادة عند أرسطوطاليس؛ فمن أجلها ولأجلها دائما، يعمل الإنسان ويبحث، فإذا طلب الإنسان التشاريف واللذة، والعلم والفضيلة، على أي شكل كان، فإنه إنما يبغى هذه المزايا بصرف النظر عن كل نتيجة أخرى، ولكنه مع ذلك يرغب فيها أيضا من أجل السعادة باعتبار أن هذه وسائل تحقق السعادة التي هي كاملة ونهائية، ذلك في حين أنه قد يتصور إنسان أنه يبغي السعادة باعتبارها الموصلة إلى هذه المزايا، فهذه المزايا إذن وسائل يرغب فيها لذاتها، لتكون طريقا إلى غرض أسمى هو السعادة.» «هذه النتيجة تتضمن معنى الاستقلال الذي نسنده إلى الخير الكامل؛ أي الخير الأعلى، ومن الواضح أن أرسطوطاليس يعتقد أن هذا الخير الأعلى سيستقل عن كل شيء، ولكنه لا يعني بالاستقلال استقلال الإنسان الذي يحيا حياة العزلة وحده، بل يعني أيضا الإنسان الذي يحبها لأهله وأولاده وزوجه، وعلى العموم، لأصدقائه ومواطنيه ، ما دام الإنسان بطبعه كائنا اجتماعيا سياسيا، وهذا المقياس يلزم معرفة التزامه عند أرسطوطاليس.» «لما كانت السعادة أكبر الخيرات؛ أي الخير الأعلى كان من الطبيعي أن يرغب الإنسان في معرفة طبعها بما هو أكثر جلاء.» «إن الوسيلة الأكيدة للحصول على السعادة، إنما هي العلم بما هو العمل الخاص بالإنسان، والإنسان إنما يجد الخير في عمله الخاص إذا كان ثمة عمل خاص، يجب على الإنسان أن يتمه، وكما أن العين واليد والرجل، وعلى العموم كل جزء من أجزاء البدن؛ يؤدي وظيفة خاصة، ولكن ما عسى أن تكون الوظيفة المشخصة للإنسان؟» «أن يعيش الإنسان، تلك وظيفة عامة، يشترك فيها الإنسان حتى مع النباتات، ولكن البحث هنا يتعلق بحياة الإنسان التي لا يشترك فيها مع شيء من الموجودات الحية؛ إذن يجب أن يخرج من حد البحث في التغذية والنمو، وعلى أثر هذا تأتي حياة الحساسية، ولكن هذه الحياة تشترك فيها أحياء أخر.» «يبقى إذن حياة العمل للكائن الموصوف بالعقل، ولكن في الكائن العاقل جزءان يجب التمييز بينهما، الجزء الذي لا يزيد عن أن يطيع العقل، والجزء الذي هو حائز للعقل وينتفع به في الفكر، وإذن تكون الوظيفة الخاصة بالإنسان هي فعل النفس مطابقا للعقل، أو على الأقل فعل النفس الذي لا يمكن أن يتم بدون العقل، وإذا كان هذا حقا؛ أمكننا أن نسلم بأن العمل الخاص للإنسان - على وجه العموم - هو الحياة من نوع ما، وأن هذه الحياة الخاصة هي فاعلية النفس واستمرار أفعال يصاحبها العقل.» «يمكننا أن نسلم بأن هذه الوظائف في الإنسان الراقي تتم حسنا وبانتظام، لكن الخير والكمال في كل شيء يختلف تبعا للفضيلة الخاصة بهذا الشيء، والنتيجة أن الخير الخاص بالإنسان هو فاعلية النفس التي تسيرها الفضيلة فإذا كان يوجد عدة فضائل فالفاعلية المسيرة بأرفعهن وأكملهن.» «وإذن يكون الخير الأعلى الذي يجدر بالإنسان أن ينشده هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة، فإذا تعددت الفضائل وجب أن تتبع الفاعلية أرفع هذه الفضائل، ومن هذا يتكون معنى السعادة عند أرسطوطاليس.»
وهنا يرد أرسطوطاليس من طرف خفي على أرسطبس فيقول:
زد على هذا أيضا أن هذه الشروط يجب أن تحقق طوال حياة تامة بأسرها؛ لأن خطافة واحدة لا تدل على الربيع، لا هي ولا يوم صحو واحد، فلا يمكن أن يقال: «إن يوم سعادة واحد، بل ولا بعض زمن من السعادة؛ يكفي لجعل الإنسان سعيدا محظوظا.»
ويظهر أول شيء أن أرسطوطاليس إنما يقرر بما قال مذهبه في السعادة ومعقولها المجمل عنده، ولكن الباحث الذي يريد أن يستطرد في الموازنة بين المذاهب، ويستقرئ من بين السطور حقيقة ما ترمي إليه أجزاؤها من الأغراض النهائية، لا يشك لحظة واحدة في أن أرسطوطاليس إنما يوجه مجموع جهده العلمي والنظري إلى نقض القاعدة الطبيعية التي يقوم عليها مذهب القورينيين الأخلاقي، والواقع - كما قلنا من قبل - أن أرسطوطاليس ينشد المثل العليا والنهايات والغايات، فمذهبه وصفي أكثر منه علمي.
وكيف لا يكون كما وصفنا، وهو يشترط للسعادة شروطا مثالية، ثم يقضي بأن هذه الشروط يجب أن تتحقق طوال حياة تامة بأسرها، فلو استطاع إنسان أن يحيا حياة سعيدة - كما يبغيها أرسطوطاليس - وتعذر عليه برهة واحدة أن يراعي شرطا من شرائطها، خرج عنده من حظيرة السعداء.
أضف إلى هذا أنه يمثل للسعادة بالربيع، ويقول: إن خطافة واحدة لا تدل عليه، وما «الخطافة» عند أرسطوطاليس إلا لذة الساعة عند أرسطبس، فأرسطوطاليس يقول بأن الحياة السعيدة عنده يجب أن تكون ربيعا صحوا، تسبح في جوه خطاطيفه، وتسطع شمسه على الدوام، أما عند أرسطبس فالأمر على خلاف ذلك، فإن خطافة واحدة عنده تدل على جزء من الربيع، فينبغي للرجل الحكيم ألا يترك خطافة الربيع تفلت من يده، بل ينبغي له أن يعمل طوال حياته على أن يقتنص أكبر عدد ممكن من خطاطيف الربيع، حتى إذا زاد عدد الأيام التي يسعد فيها بالاقتناص على عدد الأيام التي لا يسعد فيها بخطافة؛ استطاع بعد ذلك أن يقول: «إني حييت حياة رجحت لذاتها على آلامها.» وهذا هو معقول السعادة عند أرسطبس ، ولا شك أن في هذا المذهب من الإمكان بقدر ما في مذهب أرسطوطاليس من الاستحالة.
زد إلى هذا أن أرسطوطاليس يعلق السعادة بل ويعلق كل مفهوم الأخلاق؛ على مجهولات، فما هي الفضيلة؟ وما هو الخير؟ وما هي فاعلية النفس التي تسيرها الفضيلة؟ كل هذه عند أرسطبس إنما تعود إلى شيئين ثابتين في النفس الإنسانية، هما: «الحس» في نظرية الأخلاق، و«إدراك الحس» في نظرية المعرفة.
يتكلم أرسطوطاليس بعد الذي ذكرناه في السعادة والفضيلة ليفصل حالاتهما، ويصنف مراتبهما، ويصف ضروب النزعات العقلية فيهما، ثم يعمد في خلال ذلك إلى الكلام في ثلاثة أشياء عينها، هي: «الخيرات» و«عناصر النفس» و«الاستعداد الأخلاقي»، فلنمض في نقل نتف من مذهبه تؤدي إلى ما نقصد إليه من البحث.
في الباب السادس من كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس» ج1، ص198-199، يقسم أرسطوطاليس الخيرات ثلاثة أنواع: خيرات خارجية، وخيرات النفس، وخيرات البدن، غير أنه يقول: «إن خيرات النفس هي التي نسميها على الأخص وعلى الأفضل خيرات.» ثم يقول:
إن الإنسان السعيد يلتبس عادة بالإنسان الذي يسير سيرة حسنة ويفلح، وما يسمى إذا بالسعادة هو ضرب من الفلاح والصلاح.
ناپیژندل شوی مخ