بالرغم من هذا كله يبقى أمامنا سؤالان خطيران لتفهم حقيقة المذهب: أولهما: «ما هي العناصر العملية التي يقوم عليها هذا المذهب أو غيره من المذاهب الأخلاقية؟» وثانيهما: «كيف يمكن استنتاج قواعد السلوك التي يدعو إليها هذا المذهب استنتاجا نظريا من المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها؟»
العناصر العملية في المذهب القوريني
ليس لدينا من مصادر صحيحة مفصلة الأبواب يمكن الاعتماد عليها في درس العناصر العملية التي يقوم عليها المذهب القوريني باعتباره مذهبا أدبيا، على أن انعدام المصادر نفسه مع القليل مما وصل إلينا عن حقيقة هذا المذهب، كمذهب أدبي، من العبارات التي لا تقل عن مقطوعة ولا تزيد عن مقطوعتين، يمكن أن نستنتج معه أن مثل الحياة التي عكف عليها هؤلاء السقراطيون لا تختلف كثيرا عن المثل التقليدية التي عرف بها المذهب السقراطي، ويقال: إن أرسطبس نفسه قد أجاب على سؤال وجه إليه مرة «عما هو الخير الذي يمكن أن يجنى من الفلسفة؟» فقال: «إن الغرض الأول منها هو أن تمكن الفيلسوف من أن يعيش حتى لو فرض وألغيت كل الشرائع كما كان يعيش وهي قائمة.»
على أن القيمة التاريخية التي يمكن أن تعزى إلى مثل هذه الأقول المأثورة وما يجري مجراها من الأمثال والحكم؛ ضئيلة من غير شبهة، وكلمة مأثورة كهذه على الرغم من أننا نكاد نجزم بأنها لم تقل إلا لتظهر مقدار ما يسمو إليه ذو الحكمة من الاستعلاء فوق قسر الشرائع، لا يمكن أن تنتحل على رأس المدرسة القورينية ومؤسسها، إذا كانت تختلف في مرماها وغايتها مع المثاليات المقبولة في المذهب القوريني، شأن نظام الكلبيين مثلا.
وهذا التخريج يكون - ولا شبهة - أكثر تقبلا لدى الباحث، إذا عرف أن كل الذين أكبوا على درس الفلسفة اليوناينة لم يعثروا في طيات المذهب القوريني على إشارة أو بادرة أو معنى يرمي إلى معاندة النظام الاجتماعي، وأن كل رجال هذا المذهب حتى من تطرف منهم في الهرطقة الدينية مثل ثيوذورس كانوا على أحسن صلات الود مع حكام عصورهم، وفي هذا دليل قاطع على أنهم لم يعاندوا النظم الاجتماعية ولا التقاليد لا قولا ولا فعلا.
ومما يدل على حقيقة هذا الأمر أن العلامة روبرتسون الإنجليزي قد قرر في كتابه «مختصر تاريخ الأخلاق» ص132، لدى الكلام عن القورينيين أشياء تدل على صحة هذا التخريج، فقال بأن من تعاليم هذه المدرسة «أن الناس يجب أن ينشدوا اللذة، وأن الاختيار العقلي ونشدان اللذة، هما غايتا الحياة العقلية، تلك التي لا يجب أن تعتبر الفضائل والنفائس الخلقية، إلا وسائل تؤدي إليها.»
قواعد في السلوك تستنتج نظريا من مبادئ جوهرية
ليس بنا من حاجة لأن نكرر القول هنا بأن القورينيين لم يقصدوا باللذة اللذة الحسية وحدها؛ فقد أشاروا بين الكثير مما أشاروا إليه في مذهبهم، أن الآثار الواحدة التي تتقبلها العين أو تسمعها الأذن إنما تحدث نتائج انفعالية مختلفة، على مقتضى الأحكام التي يجريها عليها العقل،
3
فصرخات الألم التي تؤذينا عندما تخرج من أفواه الذين يتألمون فعلا، إنما تبعث فينا اللذة عندما تكون في درج استعراض تراجيدي فوق المسرح.
ناپیژندل شوی مخ