الله هو واضع هذه القوانين الطبيعية، والله عادل وخير، يريد الخير لعباده أجمعين؛ ومن ثم وجب أن تكون هذه القوانين عادلة فيها الخير للبشر، ويستحيل أن
تركن إليها، فلا تحاول عرقلتها بالقوانين البشرية الوضعية التعسفية. قوانين الله - القوانين الطبيعية - كفيلة بتحقيق الخير والعدل للبشر أجمعين، وأي إنكار لهذا كفر وتجديف.
فلترفع الدولة يدها تماما عن النشاط الاقتصادي، وتتركه للأفراد في تنافسهم الحر بحثا عن منفعتهم الخاصة، أي تترك حريات الأفراد الاقتصادية تحقيقا للمبدأ: «دعه يعمل، دعه يمر، إن العالم يسير من تلقاء نفسه.» وهذا المبدأ الشهير الذي يعد شعار الليبرالية الاقتصادي من وضع فنسنت دي جورناي، وهو واحد من هؤلاء الاقتصاديين الفرنسيين.
ونتيجة لاطراد التقدم العلمي التكنولوجي، وتطور الأوضاع السياسية والاجتماعية وتعقد البنيات، سرعان ما تغيرت مقتضيات الحياة الاقتصادية وأنظمة العمل والإنتاج، مفصحة عن سذاجة فكرة القوانين الطبيعية والركون إليها، وسذاجة تفاؤل جون لوك وأولئك الفيزيوقراطيين الفرنسيين، وأصبحت رؤاهم يشوبها القصور، واتضح أن نظرية جون لوك ببساطة لم تعد تطابق الأوضاع والأحوال.
الاقتصاديون الكلاسيكيون
نهض مع مطلع القرن التاسع عشر جماعة جملتهم إنجليز، تواتروا حتى القرن العشرين، وسموا باسم الاقتصاديين الكلاسيكيين؛ وهم في الواقع من الآباء الشرعيين لعلم الاقتصاد الحديث بأسره، منهم ديفيد ريكاردو وجيرمي بنتام ومالتوس وساي في القرن التاسع عشر، وألفرد مارشال وتشارلز جيد وتشارلز رست في القرن العشرين؛ على أن رائدهم الحق هو مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث (1723-1790م) الذي يعد الأب الروحي للاقتصاد الليبرالي الحديث، وهو في واقع الأمر الأب الروحي لعلم الاقتصاد بأسره، وضع في كتابه الشهير «ثروة الأمم» أصولا للاقتصاد الليبرالي متمشية مع التغيرات الحادة في أوضاع الملكية والعمل والإنتاج، التي صاحبت القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
الاقتصاديون الكلاسيكيون لا يقيمون ليبراليتهم - أو دعوتهم للحرية الاقتصادية - على أساس العناية الإلهية الخيرة وما تبثه في الكون من قوانين طبيعية لصالح البشر، بل على أساس وجود نوع من التوافق الطبيعي بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، كفيل بتحقيق التوازن الطبيعي مهما أطلقنا الحريات؛ مثلا: الصانع يبحث عن أجر أعلى لصناعته كي يحقق مصلحته الخاصة، فيضطر لتجويدها لكي ترتفع قيمتها، فيحقق مصلحة عامة بإيجاد سلعة جيدة الصنع؛ مثال آخر: الصانع يبحث عن سرعة دورة رأس المال - عن عملاء يبيعهم بضائعه لكي يحقق مصلحته الخاصة، ولكي يجتذبهم فإنه يعمل على خفض الأسعار، فيحقق مصلحة عامة؛ وهكذا.
على هذا يمكن بل يجب إطلاق حريات الأفراد في نشاطهم الاقتصادي؛ والتوازن التلقائي الذي يكاد يمثل يدا خفية تحكم السوق، كفيل بتحقيق الانضباط المنشود، ولا حاجة لتدخل الدولة فضلا عن سيطرتها على وسائل الإنتاج.
ولكن ماذا عسى أن يكون هذا التوازن التلقائي سوى قانون طبيعي؟ وهل ثمة اختلاف حقيقي بين القانون الطبيعي والتوازن التلقائي اللهم إلا في المصطلحات؟
على أية حال أسس الاقتصاديون الكلاسيكيون علما يبحث في قوانين هذا «التوازن التلقائي»، فكان ميلاد علم الاقتصاد الحديث في بداية القرن التاسع عشر؛ ليتطور ويتشعب كثيرا، لا سيما بعد أن انضمت إليه جهود الاقتصاديين الاشتراكيين وأشهرهم بالطبع كارل ماركس؛ ليغدو الاقتصاد الآن علما ضخما واسعا متشعبا، متعدد الأصول والفروع، يستوعب الليبرالية والاشتراكية، والوسط بينهما ونقائضهما وما لا علاقة له بكليهما.
ناپیژندل شوی مخ