الليبرالية كما ذكرنا هي «مذهب الحرية»، ولم يعرف تاريخ الفكر ولا حتى تاريخ اللغة مصطلحا أشد هلامية وفضفضة من مصطلح الحرية؛ لذلك لا بد أن نتوقع من الليبرالية أن تعطينا قائمة طويلة من فلاسفة تتباين مشاربهم، ومن تنظيمات سياسية اقتصادية تختلف فيما بينها إلى حد ما.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن كل دول وسط وغرب أوروبا تقريبا تمثل حقب من تاريخها روافد في نهر الليبرالية، ولا تعدم دولة في غرب أوروبا فيلسوفا أدلى بدلوه في التنظير لليبرالية، وتبقى فرنسا صاحبة باع أعظم وقدح معلى، تليها ألمانيا. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد كانت منذ نشأتها الشيطانية المهجنة وحتى الآن معقلا من معاقل الليبرالية، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودينيا؛ فضلا عن أن الثورة الأمريكية كانت، كرائدتها الثورة الفرنسية، مجرد ترجمة عملية أو محض تطبيق للمبادئ الليبرالية، خصوصا السياسية منها.
لكن على الرغم من كل هذا وذاك، فإن الليبرالية أساسا نبتة إنجليزية أصيلة، إنها أحد الدروس التي تلقتها البشرية على يد هذه الأمة العريقة التي علمتها أصول التنظير السياسي الحديث، ربما من حيث علمتها أصول العلم الحديث والمنهج العلمي؛ فكان أول سك واستعمال وتداول لمصطلح الليبرالية في إنجلترا مع بدايات القرن الثامن عشر.
وقد لاحت بشائر الليبرالية كواقع عملي وكمثال نظري في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، أي مع أفول العصر الإقطاعي وبداية العصر البرجوازي؛ وأرهصت بها بعض من كتابات مفكري هذه الحقبة، وأهمهم الإيطالي ميكيافيللي والإنجليزي توماس مور، وإن كان هذا الأخير قد لوح باشتراكية اقتصادية من بين طيات ليبرالية سياسية واجتماعية.
على أية حال لم تتبلور الفلسفة الليبرالية إلا بعد أن تبلور النظام البرجوازي الرأسمالي ذاته، والذي تعد الليبرالية المتحدثة الرسمية باسمه، أي بعد ذلك بقرنين من الزمان في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، حيث كانت نشأة مصطلح الليبرالية، في إنجلترا كما ذكرنا.
كان مصطلح الليبرالية آنذاك ذا مغزى سياسي بحت، ولا يخلو من روابط مع الثورة على سطوة المؤسسات الدينية، وهيمنتها على سائر مناحي الحياة النظرية والعملية في أوروبا. إنها الثورة التي بدأت منذ بدايات عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ونمت واشتد عودها في القرن السابع عشر باطراد التقدم العلمي، والإيمان بالعقل وقدرة الإنسان ورشده، واستغنائه عن الوصاية، ولم يعد ثمة حرج في الحديث عن حرياته والدعوة إليها والمطالبة بها جهارا نهارا.
الفيلسوف الرائد: جون لوك
كانت الأجواء إذن تنبئ بمجيء الأب الروحي لليبرالية، أي الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
John Lock (1632-1704م) فيلسوف المعرفة التجريبية الذائع الصيت، صاحب القول الشهير: «الحياة، الحرية، الملكية» الذي يلخص مبادئ الليبرالية؛ وبالتالي أصبح شعارا لها يؤكد على العلاقة بله الترابط بين الحرية الشخصية والملكية الخاصة.
أكد جون لوك أن الملكية حق من أهم الحقوق الطبيعية التي قامت الدولة من أجل تأمينها، والأصل فيها هو ملكية الإنسان لشخصه، وبالتالي لناتج عمله، على أن الملكية لن تقتصر على هذه الحدود، بل تمتد إلى موارد الإنتاج ذاتها؛ وتفاوت الملكيات في المجتمع راجع إلى تفاوت قدرات الأفراد في العمل، وتفاوت طاقات جهدهم وملكاتهم وإمكانياتهم وذكائهم ومواهبهم.
ناپیژندل شوی مخ