أخيرا:
علينا قطع الصلة بين سجالنا حول البيروقراطية وأصولية السوق الحر من خلال استدعاء عباءة الديمقراطية التشاركية كوسيلة لتعزيز السلطات العامة اللازمة لتحجيم رأس المال من أجل عدالة اجتماعية. هكذا «ظهرت موجات النسوية كنقد للرأسمالية في شكلها الأول، إلا أنها أصبحت خادمة للرأسمالية في ثوبها الجديد الذي ظهر بعد الحرب.»
تجد الفلسفة بصيغة المؤنث شرعيتها في طبيعة الموضوعات التي تناولتها الوجوه المنتقاة في هذا العمل بقليل من التفصيل، ولكن بعمق فلسفي حي يروم إبراز دورها في تاريخ الفلسفة المعاصر. وفي انتظار وجوه أخرى في نفس المجال فإننا نتقدم بالشكر الجزيل لكل الصديقات والأصدقاء اللواتي والذين قدموا ملاحظاتهم في مناسبات مختلفة، دون أن ننسى الدكتورة الفاضلة رجاء بن سلامة التي وفرت من وقتها الكثير للاطلاع على هذا العمل ومراجعته، وتجشمت عناء التقديم له، فألف تقدير واحترام لها على جهودها في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إديث شتاين ... نحو فينومينولوجية لاهوتية
لم تعش أكثر من خمسة عقود، لكنها تركت ما لم يتركه من عمر ما يقارب القرن. يتعلق الأمر بالفيلسوفة اللاهوتية، إديث شتاين
Edith Stein (1891-1942): يهودية الهوية وألمانية المنشأ. لم يأسر قلبها ولا عقلها أي من الأديان، إلا بعد أن خبرت الحياة وسبرت أغوار الحقيقة من كل الجهات.
تتلمذت على يد الفينومينولوجي الشهير، إدموند هوسرل، الذي عينها مساعدة له سنة 1917، بعد وفاة معاونه الأول الدكتور ريناخ. التحقت إديث بجامعة فريبورغ سنة 1913، وأعدت فيها أطروحة الدكتوراه في الفلسفة، دراسة فينومينولوجية، تحت عنوان: «تسرب الانفعالات والعواطف»، حاولت من خلالها تجاوز مقاربة علم النفس، نحو علم يخص الظواهر الإنسانية؛ للكشف عن عمق الباطن الفردي، وما يفعل فيه من إحساسات تترجم في حدوس عقلية وانفعالية.
كان لفقدان إديث لأبيها ولثلاثة من إخوتها (وهي واحدة من ضمن عشرة إخوة)، وهي في سن الثانية من عمرها، أثر بليغ في مسارها اليومي. وقد تكفلت أمها بإعالتها هي وإخوتها، غير أن إديث شتاين ستشق لنفسها طريقا آخر غير ما ورثته من التقاليد اليهودية، وهذا ما عبرت عنه في كتابها «قصة حياة يهودية»، الذي يعد سيرة ذاتية غير مكتملة، حكت فيها عن طفولتها وانفعالاتها وعنفوانها، وعن علاقاتها في مراحل مختلفة من حياتها. لم تسعفها الظروف الحياتية لتصير فيلسوفة معروفة في الأوساط الأكاديمية، بالنظر إلى وضعها بصفتها يهودية مهددة في حياتها، بعد صعود النازية إلى الحكم في الثلاثينيات. وقد كان حدسها صحيحا؛ حيث أحرقت بمعية أختها الطبيبة روز (التي ساعدتها على التطبيب في الحرب العالمية الأولى تضامنا مع زملائها في الدراسة الذين تطوعوا للقتال دفاعا عن الوطن)، في محرقة أشفيتز الغازية سنة 1942، على الرغم من انتمائها إلى الطائفة المسيحية، فيما بعد، واعتكافها على تربية الراهبات في الكرملية الهولندية (إيخت) لسنوات عدة. مع العلم بأن هيدغر رشحها لمنصب جامعي ودعمها، إلا أن النازيين وقفوا في وجهها بسبب أصلها اليهودي.
أصدرت إديث في حياتها كتبا فلسفية ومعرفية عدة ركزت على قضية المرأة، والحقيقة والتربية والوضع الإنساني. في كتابها «العلم والإيمان»، بنت حوارا أخاذا بين هوسرل وتوما الأكويني. وفي «بناء الكائن البشري»، نجد بحثا في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه ومعتقداته، وهو البحث الذي عرف، فيما بعد، ب «الإناسة اللاهوتية». أما كتابها «جوهر الحياة»، أو «الحياة في شموليتها»، فتعالج فيه قضايا تربوية عدة: تربية الروح والنفس، وما تقتضيه من قوى روحية من شأنها أن تجعل من الحياة بكاملها مشروعا يندفع نحو الحقيقة، لتعرج فيه على أهمية الحضور النسوي في التعليم. هذا ناهيك بكتاب «فن التربية» و«في الشخص». وفي كتابها عن «قدر المرأة»، كانت إديث سباقة إلى الحديث عن المرأة ودورها في المجتمع، حيث تتساءل: هل المرأة من طبيعة أنثوية؟ ما الهدف من تعليم المرأة؟ محاولة أن تعالج قضايا المرأة من باب أخلاقية المهن النسائية، أو فيما سمته «تكامل المرأة في جسد المسيح السري»؛ حيث تدعو الرجل والمرأة معا، ليكونا ضمن نظام الطبيعة ونظام النعمة. ولا شك في أنها متأثرة كثيرا بوضعية أمها التي عالت إخوتها وبالسيدة آن رينر.
كتبت في مجال اللاهوت: «صلاة الكنيسة وسر الميلاد»، و«علم الصليب»، وترجمت كتاب توما الأكويني «في الحقيقة».
ناپیژندل شوی مخ