نقد هيوم لفكرة الجوهرية : على الرغم من أن الاعتراضات قد أثيرت على هذه النظرية الجوهرية حتى قبل أن ينتهي أفلاطون من تعريفه له فإن هذه الهجمات لم تبلغ حد العنف الكفيل بجعل أنصار الجوهرية يلتزمون موقف الدفاع إلا في القرن الثامن عشر. فقد كان هيوم، الشكاك الاسكتلندي الكبير، من حدة الذهن بحيث أدرك أن الإيمان بجوهر روحي، مهما يكن منطقيا أو مرضيا من الوجهة الدينية، لا يستند إلى أي أساس من تجربتنا الفعلية. ولقد كان المفكرون السابقون مباشرة على هيوم، ولا سيما ديكارت وباركلي، قد ذهبوا إلى معرفتنا لذهننا أو ذاتنا هي أكثر المعارف التي يمكننا اكتسابها يقينية. فديكارت، الذي بدأ استدلاله بالعبارة المشهورة «أنا أفكر ... إذن أنا موجود»، قد جعل من الوضوح الذاتي المزعوم للذهن الجوهري أساسا لمذهبه كله. وهكذا فإن هؤلاء المفكرين السابقين على هيوم قد جعلوا من الاستبطان أو المعرفة الذاتية نقطة بداية لكل بحث عقلي. وقد وافق هيوم على هذا المعيار الاستبطاني على مضض، ثم شرع يطبقه نقديا على الموضوع المفضل لدى القائل بفكرة الجوهرية؛ أعني الذهن ذاته، فكانت النتائج سليبة تماما؛ إذ لم يستطع أن يهتدي إلى كيان جوهري من أي نوع. والحق أن الحجة التي دلل بها هيوم على وجهة نظره هي مثال للاستدلال النقدي يبلغ من الروعة حدا جعله واحدة من أكثر الفقرات التي يشيع اقتباسها بين المؤلفات الفلسفية كلها: «من الفلاسفة من يتصورون أننا في كل لحظة واعون داخليا بما نسميه ذاتنا، وأننا نشعر بوجودها واستمرارها في الوجود، وأنننا واثقون من هويتها وبساطتها الكاملة إلى حد لا نحتاج معه إلى دليل ... أما أنا، فإني عندما أتوغل بكل عمق فيما أسميه ذاتي، أعثر دائما على إدراك أو إحساس محدد معين، بالحرارة أو البرودة، والضوء أو الظل، والحب أو الكراهية، والألم أو اللذة، ولا أستطيع أبدا أن أقتنص ذاتي في أي وقت دون إدراك، أو أن ألاحظ أي شيء ما عدا الإدراك. وعندما تتوقف إدراكاتي خلال أية فترة، كما في حالة النوم العميق، فإني أظل طول ذلك الوقت غير شاعر بذاتي، ويمكن القول حقا إنني لا أوجد ... فما الذات إلا حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة، التي تتعاقب بسرعة لا يمكن تصورها، وتظل في صيرورة وحركة دائمة ... إن الذهن نوع من المسرح، تظهر فيه عدة إدراكات متعاقبة، فتمر، وتمر من جديد، وتتباعد، وتمتزج على أنحاء لا حصر لها من المواقف والأوضاع. غير أن من الواجب ألا ندع التشبيه بالمسرح يضللنا. فالإدراكات المتعاقبة وحدها هي التي تؤلف الذهن ...»
وهكذا فإن هيوم بعد أن أفرغ من النظرة الجوهرية إلى الذهن كل ما فيها من حشو، صاغ رأيا يمكن تسميته بالنظرة الفعلية
Actualist
إلى الذهن. هذه النظرية تنمو منطقيا من الاستدلال الذي اقتبسناه منذ قليل: فما الذهن إلا مجموعة كومة من التجارب. و«حزمة الإدراكات»، تربطها معا قوانين معينة للتداعي.
وليس ثمة لب باطن أو أساس روحي يستخدم في توحيد مختلف الحوادث الذهنية. ولا توجد إلا الحوادث ذاتها، التي ترتبط عشوائيا وفقا لما يطلق عليه هيوم اسم «العادات». وبغض النظر عما في افتراض وجود فاعل يقوم بالتوحيد أو كيان في قلب تجربتنا، من إرضاء لتفكيرنا المنطقي أو حاستنا الجمالية، فإن هيوم يتشبث بموقفه: فلا الاستبطان، ولا أية طريقة أخرى في المعرفة، تكشف لنا عن شيء كهذا. والأمر المشاهد بالفعل هو أن أذهاننا ليست إلا تلك التجارب الدائمة التغير. التي ترتبط فيما بينها ارتباطا غير وثيق عن طريق التداعي.
رأي «كانت» في الذهن : على الرغم من أن «إمانويل كانت» قد استيقظ بفضل تحليل هيوم من الإيمان القطعي بوجهة النظر الجوهرية، فإنه لم يستطع أن يظل قانعا بتلك النتائج التي هي أقرب إلى الفوضوية، والتي انتهى إليها هيوم؛ لذلك انتقل إلى إدخال تعديل على هيوم كان له تأثيره الهائل. ففي رأي كانت أن عيب الموقف الجوهري التقليدي ليس تعارضه مع التجربة، بقدر ما هو تناقضه الذاتي المنطقي؛ ذلك لأن المذهب الجوهري يرى أننا نستطيع معرفة ذهننا أو ذاتنا بوصفها موضوعا للمعرفة بنفس الطريقة التي نعرف بها أي شيء في العالم الخارجي. غير أن من المستحيل في رأي كانت، أن تكون الذات في آن واحد موضوعا وذاتا في علاقة المعرفة. فأنا لا أستطيع أبدا أن أعرف نفسي بوصفي ذاتا، ولكني أعرف نفسي فقط بوصفي موضوعا. ونحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا إلا بوصفنا «مفعولا به» لا بوصفنا «فاعلا». وعندما ننظر إلى هذا المفعول به القابل للمعرفة، نكتشف ما سبق أن اكتشفه هيوم بالضبط: أعني تعاقبا متصلا للحالات الذهنية أو «التجارب».
ولقد كان الأمر الذي أخذه كانت على تحليل هيوم هو إخفاقه في تأكيد وحدة الذهن بما فيه الكفاية. فليست قوانين التداعي وحدها؛ أعني التلاصق
Contiguity
والتعاقب والتشابه - بكافية لتحويل حزمة متجمعة من الإحساسات إلى كل من أي نوع. فالتداعي مثلا يفترض الذاكرة، والذاكرة بدورها تفترض شيئا يقوم بالتذكر. وعلى الرغم من أن كانت قد أطلق على هذا العامل الموحد اسما شديد التعقيد هو «الوحدة التركيبية للوعي الذاتي
The Synthetic Apperception of Unity »، فيكفي - بالنسبة إلى غرضنا الحالي - أن نفهمه على أنه عامل ليس جوهرا ولا كيانا، وإنما هو مبدأ منظم أو موحد يقوم بمهام أكثر كثيرا من مجرد «الربط» بين مجموعة الإحساسات والحوادث الذهنية. وفضلا عن ذلك فإن هذا المبدأ أو الفاعلية إيجابي نشط؛ ومن ثم فهو مختلف تماما عن ذلك الكيان السلبي السكوني الذي تصوره أفلاطون ومعظم القائلين بالجوهرية منذ عهد أفلاطون. وعلى حين أنه قد استخدمت أسماء كثيرة للتعبير عن هذه النظرة الكانتية إلى الذهن، فإن اسمي «الترنسندنتالي» و«العضوي» هما الأفضل. وسوف نستخدم اللفظ الأخير، على سبيل التيسير، ما دام يفيد في تأكيد الطابع الموحد والعضوي للذهن.
ناپیژندل شوی مخ