ولقد كان جيمس يجمع بين وجهة نظر عالم النفس ووجهة نظر الفيلسوف. ولذلك فإن مما له دلالته أنه ذكر أن الفارق هو على الأرجح فارق في المزاج - وبالتالي فهو في عمق جذوره لا يقل عن أية فوارق بشرية أخرى نعرفها. ومن سوء الحظ أننا لا نعلم عن أساس هذا «المزاج» أو طبيعته أكثر مما كان جيمس يعلم منذ ثلاثة أجيال. فما زال هذا المجال، حتى اليوم، سرا غامضا، على الرغم مما بذله علماء البيولوجيا وعلم النفس من جهود لارتياده وكشفه.
من الممكن اتخاذ قرار: لا بد أن يكون قد اتضح للقارئ الآن أن الجدل بين هاتين المدرستين الكبيرتين يمكن أن يستمر إلى الأبد - وهو على الأرجح سيستمر بالفعل. وبغض النظر عن طريقة تفسيرنا للتقابل بين هذين القطبين الرئيسيين للفكر الفلسفي، فإن هذا التقابل ذاته سيظل أبرز حقيقة في التاريخ الطويل للنشاط التأملي. وقد لا يكون في وسع المبتدئ في الفلسفة بعد أن يحدد الفئة التي ينتمي إليها، أو أن يدرك أهو «مثالي» أم «طبيعي»، ولكن هذا أمر لا يتوقع من المرء في المرحلة المبكرة من تطويره الفلسفي. ويكفي أن نكون قد أحسسنا الآن بالتقابل الأساسي ونتائجه الرئيسية. ولعل القارئ قد شعر بأن كلتا المدرستين لديها حجج قوية مقنعة، وبأن في استطاعة المرء الاختيار من بين هذه الحجج من أجل تكوين مذهبه الخاص في الفلسفة. وبالفعل نجد كثيرا من المبتدئين في هذا المجال يحاولون القيام بهذا العمل، ولكن المرء كلما تقدم في الدراسة الفلسفية، كان الأرجح هو أنه سينجذب إلى أحد هذين القطبين أو الآخر. وسوف يزداد موقف القارئ الخاص وضوحا في نظره خلال الفصول القادمة، عندما نقوم باستعراض عام لمختلف مشكلات الفلسفة داخل الإطار الذي حددناه الآن.
الفصل الخامس
أصل الحياة ومجراها
يبدي كثير من الطلاب اهتماما بالمشكلات التي تثيرها العلوم البيولوجية، ويفوق اهتمامهم بأية مشكلات أخرى تعالجها الفلسفة. وهذا أمر طبيعي؛ إذ إن هذه المشكلات أقل تجريدا من كثير من المشكلات التي تعالجها الفلسفة، وهي تتعلق بأكثر الموضوعات كلها أهمية، ألا وهو المخلوقات الحية. وفضلا عن ذلك، فتلك مسائل ذات صلة مباشرة بتاريخنا نحن: فمن أين أتت الحياة؟ وماذا كان شكل الحياة الأصلية؟ وما التغيرات التي حدثت منذ هذا الأصل، ما الذي سببها؟ وهل ما زالت التحولات مستمرة؟ وهل الإنسان مجرد نوع آخر من الحيوانات، أم أن له طبيعة فريدة لا يمكن تفسيرها إلا بافتراض خلق خاص - أو على الأقل بافتراض اهتمام خاص من جانب الكون؟ وباختصار، نحن نواجه الآن مباشرة تفريعات متنوعة لذلك البحث الذي يعد موضوعا من الموضوعات الثلاثة الرئيسية في الفلسفة، وهو: من أين نأتي؟
تحت هذا السؤال الواحد الشامل، تندرج ثلاثة أسئلة فرعية، تتعلق بطبيعة الحياة، وأصل الحياة ، ومجرى الحياة. ولعل من المستحسن، ونحن نستهل هذا الفصل الذي يتعين أن يكون مكتنزا مكدسا، أن نذكر أنفسنا بأن كل الوقائع والنظريات التي نصادفها تتعلق بثلاث مشكلات: (1) ما الحياة؟ (2) من أين أتت، أو كيف بدأت؟ (3) ما الأسباب التي أدت إلى ذلك التنوع اللانهائي للكائنات العضوية التي تعمر الأرض الآن؟ ومن المألوف أن نجد الطلاب الحديثي العهد بالفلسفة أكثر اهتماما بأصول الحياة، ولكن سيكون لزاما علينا أن نركز اهتمامنا بالأحرى في المسألتين الأخريين. ذلك لأن العالم البيولوجي والفيلسوف هما معا أكثر اهتماما بمجرى الحياة من اهتمامهما بأصلها، وإن كان من الواضح أن أية مناقشة لأي من هذين الموضوعين ينبغي أن تكون متوقفة على الآراء التي نقول بها بشأن طبيعة العملية الحيوية.
ما الحياة؟
من المنطقي إذن أن نبدأ بالسؤال: ما الحياة؟ أما العالم البيولوجي فيفضل أن يتساءل: ما العملية التي نطلق عليها اسم الحياة؟ ومع ذلك فإن كلا من العالم البيولوجي والفيلسوف متفقان على أننا إذا كنا نستطيع أن نحدد ما الذي يميز المادة الحية من غير الحية، لكنا بذلك قد قطعنا شوطا بعيدا نحو الإجابة عن سؤالنا الأول. على أن من الضروري، قبل أن نبدأ مناقشة الخواص الفريدة للحياة، أن نفهم تمييزا لا بد منه من أجل فهم هذا الفصل وعدة فصول مقبلة - وأعني به التمييز بين النظريتين الجوهرية
Substantive
والوظيفية
ناپیژندل شوی مخ