فتاريخ الحياة في نظر الوجودي ليس إلا سلسلة من الأحداث العارضة؛ ذلك لأن الناس الذي نقابلهم، ونصادفهم، ونحبهم أو نحاربهم، كل هؤلاء نلتقي بهم مصادفة. وكثيرا ما يحاول المحبون إقناع أنفسهم بأن القدر هو الذي دبر التقاءهم - «فالزيجات تصنع في السماء» - غير أن هذا وهم. فالناس قد ينتقلون إلى بيت معين في حين معين ويجدون فيه السعادة أو الشقاء ، ولو كانت المصادفة قد جلبتهم إلى الشارع المجاور، وأحاطتهم بجيران آخرين وأشخاص آخرين يمكن أن يكونوا أصدقاء أو أحباء لهم، لكان من الجوائز أن تتحول سعادتهم أو شقاؤهم إلى عكسها.
وتمضي الوجودية في هذه الفكرة حتى نهايتها المريرة؛ ففي منظر في إحدى روايات سارتر، يجلس البطل في حديقة، وفجأة يدرك الطابع العرضي الكامل للموقف: أعني وجوده في الحديقة في هذه اللحظة بعينها، وشكل جذر الشجرة البارز من حفرة في الأرض بالقرب منه، بل كونه حيا في هذا العصر بالذات. فقد كان من الممكن بنفس السهولة أن تكون الأحداث قد وضعته في مكان آخر في تلك اللحظة، وأن يكون للجذر شكل آخر أو يكون قد نما بحيث لا يظهر في الأرض عند حفرها. أما كون البطل حيا في هذه اللحظة، بدلا من أن يكون حيا في قرن ماض أو مقبل، فهو أكثر الحوادث عرضية، بل إن كونه قد ولد - وكون هذا الحيوان المنوي الخاص قد أخصب هذه البويضة المعينة - إنما هو حادث وقع بالمصادفة المطلقة. ولماذا ولد في بلد معين، مع أن أبويه كان من الممكن أن يعيشا في أي مكان آخر؟ ولماذا نجا من كل أخطار الحياة لكي يصل إلى سن النضج، ونجا من كل أخطار الحرب التي مات فيها عدد كبير من معاصريه؟
إن في استطاعة أشخاص كثيرين أن يقنعوا أنفسهم بأن كل هذا الطابع العرضي في تاريخ حياة الفرد ليس إلا أمرا ظاهريا فحسب؛ فهم يعتقدون أن هناك غاية أو منطقا أو تدبيرا خفيا يحول بين الأشياء وبين أن تصبح «مجرد حوادث عارضة». غير أن الوجودية ترفض تماما كل هذه «الأوهام»، وتستخدم أقسى النعوت في وصف أولئك الذين يؤمنون بهذه «القصص الخرافية» أو ينادون بها. وأقصى ما يمكننا أن نقوله (أو يقوله ملاحظ خارجي) هو أن هذا الشيء أو ذاك حدث لنا لأننا قررنا أن نفعل هذا أو ذاك. ولكن ما الذي جعلنا نقرر أن نفعل هذا أو ذاك، في الوقت الذي كان هناك فيه إمكان متساو لتقريرنا أن نفعل شيئا آخر كان من الممكن ألا يترتب عليه هذا الحادث أو ذاك؟ إن صاحب مذهب الألوهية المفارقة قد يقول إن تلك هي «المشيئة الإلهية»، وقد يقول القدري «إنه كان مكتوبا» أو «كان في اللوح»، أو «في النجوم». بل إن صاحب المذهب الحتمي، رغم كل معارضته لمذهب الألوهية في أمور شتى، يستطيع أن يقول إن الحادث كان جزءا من سلسلة غير منقطعة (أو غير قابلة للانقطاع) من علاقة العلة والمعلول التي تتسلسل في الزمان تسلسلا راجعا لا نهائيا. غير أن الوجودي يرفض كل هذه بوصفها تفسيرات مزيفة. فهو، وإن لم يكن يؤله «المصادفة» أو «الاتفاق»، يرى أنها هي الصفة الأساسية المميزة لكل وجود.
الحياة لا معقولة : لعل العبارة الوجودية القائلة إن «الحياة لا معقولة» (أو من قبيل العبث
Absurd ) هي المبدأ الوجودي العام الذي يقابل بالنفور من أكبر عدد من الناس. ومع ذلك فإننا إذا قبلنا الفكرة السابقة القائلة إن كل وجود عارض، فإن من الصعب أن ندرك كيف يمكننا تجنب الاعتراف بلامعقولية الحياة. ولكن ينبغي أن نذكر مع ذلك أن المعنى الدقيق للفظ «العبث أو اللامعقول
Absurdity » هو «غير متسق مع الحقيقة»، أو «لامنطقي»، أو «ممتنع». فصفة اللامعقولية في الأصل حكم منطقي، وليست لفظا مطاطا يدل على ما هو «أحمق»، أو «متوحش»، أو «مكروه اجتماعيا»، أو «معوج أخلاقيا»، وإن كان اللفظ في استخدامه الدارج ينطوي في كثير من الأحيان على بعض هذه المعاني الأخيرة أو كلها، أو يعني «ما لا أحبه أو أوافق عليه» فحسب. أما الوجودي فيستخدم هذا اللفظ أساسا فيم معناه المنطقي الأصلي. فإذا سلمنا بأن الكون عارض تماما بمعنى أن أي شيء يمكن أن يحدث فيه للشخص، فعندئذ يكون من العبث أو اللامعقول (أي من التناقض أو اللامنطقي) أن نستمر في الاعتقاد والسلوك كما لو كانت للحياة أية غاية أو خطة أو نظام عام. ففي عالم تظل فيه الحوادث، بقدر ما تؤثر في حياتنا الفردية، عشوائية لا يمكن التنبؤ بها، نعيش بالضرورة دائما على حافة هاوية من اللايقين. ومن ثم فليس هناك شعور بالأمان إذا اعتمدنا على الطبيعة، أو الكون، لكي ترتب الحوادث في نظام يزيد من سعادتنا أو يشكل نمطا منطقيا.
وهنا أيضا نجد أن التقابل بين الوجودية وبين مذهب الألوهية المفارقة. يلقي ضوءا على الموضوع. ذلك لأن الألوهيين (ومعظم المثاليين) يرون أن هناك غاية أو خطة شاملة، تضم حياتنا الفردية والحوادث التي تؤثر فيها. وهذه المدارس نادرا ما تدعي أن تلك الخطة معروفة لنا، ولا سيما في تفاصيلها اليومية، ولكنها تؤكد أن هناك بالفعل خطة. وهناك حجج متعددة تساق لإثبات وجود مثل هذا التدبير الكوني، غير أن أهم هذه الحجج وأهمها هي أنه لا بد أن تكون هناك خطة، وإلا لكان الكون بلا معنى ولكانت حياة الفرد عبئا. ويرد الوجودي على ذلك بقوله: «يسرني أننا متفقان، فما لم تكن هناك خطة وغاية، لكان الكون بلا معنى ولكانت حياتنا عبثا. ولكن نظرا إلى عدم وجود أدلة تثبت أن هذه الخطة «الضرورية» موجودة، فلا بد لي من أن أستنتج أن الحياة عبث. وكل من يصل إلى النتيجة المخالفة إنما يسلك على أساس إيمان أعمى لا دافع له سوى التفكير المبني على التمني.»
مخرج الوجودية: الالتزام : أشرنا من قبل إلى أن الوجودية ليست تشاؤمية أو انهزامية تماما، وسوف نختم كلامنا عنها بعرض موجز لطريق الخلاص كما تتصوره هذه المدرسة. فالوجودية أولا لا تهاجم إلا المذهب الذي يفترض في الكون والحياة البشرية تدبيرا كليا أو شاملا أو موضوعيا. وهي لا تنكر بحال إمكان وضع الأفراد، رجالا ونساء، لأهداف فردية واهتدائهم إلى غايات ذاتية في الحياة. والكلمة التي يدور حولها محور التفكير هنا هي كلمة «ذاتية». فمذهبا الألوهية المفارقة، والمثالية، يريان أن هناك خطة موضوعية، حتى لو لم يكن في استطاعتنا كشفها؛ أي إن التدبير موجود بنفس المعنى الذي يكون فيه العالم الفيزياء موجودا. أما الوجودية فترى أن القيم كلها ليست شخصية وفردية خالصة فحسب (كما رأينا من قبل) بل إن كل الخطط والغايات تتصف بدورها بهذه الصفة. على ذلك فلا يمكننا أن نجعل للحياة معنى إلا إذا أمكننا أن نجد، بأنفسنا وفي أنفسنا، معنى ورضا في أعمال أو أهداف معينة. وهذا يعني الالتزام بأمور معينة، وهذا الالتزام هو الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش.
إن الالتزام هو أي اهتمام أو مشروع نكرس له أنفسنا بكل ما لدينا. واللفظ الذي يستخدمه الوجوديون الفرنسيون للدلالة على الشخص الملتزم هو:
Un Home Engagée ، وهو لفظ تكون له دلالته إذا ترجم حرفيا. ففي هذه الترجمة الحرفية يكون معناه «الشخص الذي أعلن خطبته»؛ أي الذي قام بأكبر التزام، وهو التعهد بالزواج لامرأة. ويعتقد الوجوديون أن الحياة ينبغي أن تشتمل على التزامات كثيرة تكون مصحوبة بانفعال وحماسة لا تقل عما يقترن به هذا الالتزام عادة. ومع ذلك فإن هذه الالتزامات الأخرى، على خلاف الالتزام المثالي بالزواج، لا يتعين أن تكون ثابتة طويلة المدى. فمن الممكن أن تتغير، هي بالفعل تتغير خلال حياة معظم الناس. ذلك لأن الأمور التي نكرس لها أنفسنا، ونبدي بها أشد الاهتمام في موسم معين أو فترة معينة في حياتنا، تحل محلها غيرها، غير أن الثبات ليس العامل الرئيسي الذي يتحكم في أهميتها في حياتنا الشخصية، بل إن شدتها ونطاقها في حياتنا في الوقت الذي تكون فيه باقية، هي التي تؤدي إلى إضفاء معنى على حياتنا التي قد تكون - لولا ذلك - بلا معنى. ولكن، فلنقل مرة أخرى إن هذا الشعور بوجود معنى هو شعور ذاتي محض. فمن أفدح الأوهام أن نتصور أن الكون معني بالتزاماتنا وبما تجلبه لنا من الرضا. كما أن هناك وهما قد لا يقل عن ذلك فداحة، هو الاعتقاد بأن «المجتمع» أو «الناس» معنيون بهذه الأمور بدورهم. فالوجودية ترى أننا في هذه المسألة، كما في سائر المسائل الأخرى، يقف كل منا وحيدا. قد يكون هناك أفراد آخرون يشاطروننا نفس المشروع ويعملون لنفس الأهداف، ولكن إذا توقف نشاطنا (أو حتى توقفت حياتنا) لضم الباقون صفوفهم، واستمرت الحياة في طريقها. وبهذا المعنى يكون كل منا غير ضروري، ومن الممكن الاستغناء عنه. وكما تشير الشخصيات في كتابات سارتر في أحيان كثيرة، فإن الفرد عندما يموت، تظل قطارات «المترو» مزدحمة، والمطاعم مليئة، والرءوس تكاد تنفجر من فرط اهتمامها بالمشكلة التافهة. بل إن الحرب الواسعة النطاق، التي تقتل الملايين، تترك العالم ولما يتغير إلا قليلا: فسرعان ما يتكاثر السكان بحيث يعوضون النقص وزيادة، وتظل الحياة مستمرة في طريقها «لا إلى مكان»؛ أي بمعنى أنها لا تتجه إلى هدف محدد.
ناپیژندل شوی مخ