الخلود الأخلاقي : هناك نوع فرعي من هذا الخلود الاجتماعي، يجتذب بقوة الشخصيات المتدينة المتحررة في العصر الحديث، وهي الشخصيات التي تجد أن من المستحيل الإيمان بجنة فيها ما تشتهيه الأنفس، ولكنها تجد أن من الأصعب الاعتقاد بأن الحياة التي تنقضي في كفاح من أجل الأخلاق، وفي سعي إلى تحقيق الخير الاجتماعي، لا يمكن أن تكون نهايتها الوحيدة سوى القبر. هذا الرأي يمكن تسميته بالخلود الأخلاقي. وهو ينطوي عادة على ثنائية أخلاقية، تعد فيها الحياة صراعا لا ينقطع بين قوى الخير وقوى الشر. في هذه المعركة القديمة العهد يكون الفرد أشبه بجندي قد لا يستطيع كسب الحرب بجهوده الخاصة وحدها، ولكنه يستطيع أن يقاتل بشجاعة، وربما استولى على قطعة صغيرة من الأرض بعد أن يهزم بعض الأعداء، وهناك تشبيه آخر، أثير لدى المدافعين عن وجهة النظر هذه، هو تشبيه الوجود الإنساني بالبحر الذي ينحت الشاطئ بلا انقطاع. فكل موجة جديدة، تتكون في لحظة من المحيط الشاسع، تقوم بالهجوم، وتنحت قطعة صغيرة من الأرض، أو تزعزع حجرا صغيرا من موضعه، ثم يعود البحر الذي أتت منه إلى ابتلاعها. وبالمثل يظهر الكائن البشري بوصفه فردا في بحر الإنسانية الواسع، ويقوم في شجاعة بهجومه القصير على كتلة الشر التي تتداعى ببطء، ثم يغوص ثانية في الجنس الذي أتى منه. وفي هذه العودة يتخلى عن فرديته وهويته الشخصية، ولكن قطعة الشر الصغيرة التي أزالها تظل نصبا تذكاريا دائما يخلد ذكراه ويشيد - بجهوده. وهكذا فإنه، على الرغم من ضياع شخصيته، لم يعش حياته عبثا، فحياته قد اكتسبت، بفضل هذا النصيب الذي أسهمت به، مكانة وغاية تنأى بها عن العقم وترتفع بها إلى مستوى إنساني بالمعنى الصحيح، له مغزاه ودلالته الباقية. (2) الموقف التقليدي
لسنا بحاجة إلى القول بأن القلائل فقط هم الذين تكون في أذهانهم أمثال هذه المفاهيم السابقة عندما يستخدمون لفظ «الخلود». فالكلمة تعني عادة، في استعمالها العادي، بقاء شخصيا بعد الموت على نحو ما، وحالة يستمر فيها وجودنا الفردي بوصفنا شخصية فريدة. فالإيمان بالخلود يعني في نظر معظم الناس إيمانا بأنهم سوف يستمرون في الحياة بعد الموت بوصفهم أفرادا متميزين، ستكون لهم آمال وأفعال كريمة مشابهة إلى حد بعيد لما كان لهم وهم أحياء في هذه الدنيا. وأولئك الذين يؤمنون على هذا النحو يرون أن ذلك الشكل الهزيل من أشكال الخلود، كالخلود البيولوجي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، لا يكاد يستحق التفكير فيه. وما لم يكن وجودنا بعد الموت وجودا تظل فيه الفردية والشخصية باقية، وينطوي على استمرار في الغاية والمسعى، فإن هذا الوجود لن يكون بقاء بأي معنى معقول. أي إن الفكرتين الرئيسيتين في هذا الصدد هما الهوية والاستمرار. وما لم يتم الاحتفاظ بهما معا، فإن معظم الأشخاص يشعرون بأنه لا يوجد خلود حقيقي. ومن المؤكد أن لفظ الخلود كما ظل الناس يستخدمونه عادة، كان ينطوي ضمنا على الهوية والاستمرار، وعندما عبر الشعراء وأصحاب الرؤى الصوفية في كل العصور عن هذا الحلم الأزلي للبشرية، فقد كان حديثهم على الدوام منصبا على البقاء الشخصي.
ونظرا إلى أن المعنى التاريخي والشعبي للفظ «الخلود» كان ينطوي على فكرة البقاء الشخصي، فإن الفيلسوف يقصر تحليله عادة على هذا الرأي. فهو يتساءل مع سائر البشر: هل الناس يبقون بعد الموت؟ وفي أي الظروف يكون بقاؤهم لو كانوا يبقون بالفعل؟ فمثلا، ما العلاقة بين البقاء وبين سلوك الفرد قبل الموت؟ وهل يتوقف البقاء دائما على كون الفرد قد عاش في هذه الدنيا حياة أخلاقية، أم أن أخلاقية حياتنا الدنيوية لا تتحكم إلا في نوع البقاء الذي سيكون لنا؟ أم أن من الممكن أن تكون الحياة بعد الموت مستقلة عن الاعتبارات الأخلاقية، بحيث يظل الخير والشرير معا باقيين في حالة واحدة؟
العلاقة بين البقاء وبين الأخلاق : كانت هناك - كما هو متوقع - إجابات لا حصر لها عن هذه الأسئلة العويصة. والواقع أن المذاهب كانت من الكثرة ومن التنوع بحيث إن أي تصنيف يغدو مستحيلا. ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نصدر بعض الأحكام العامة الصحيحة فيما يتعلق بالفكر الغربي. فقد كان هناك أولا، منذ الفترة اليونانية المتأخرة، اتجاه إلى النظر إلى أفعال معينة، أو معتقدات معينة، أو أنماط معينة للسلوك، على أنها شرط ضروري لبقاء الشخص بعد الموت. وبعبارة أخرى فقد كان يعتقد أن الحالة التي يظل فيها الفرد باقيا، وربا مجرد البقاء على إطلاقه، تتوقف إما على ما يؤمن به الشخص، وإما على نوع الحياة التي يعيشها، أو كليهما معا. ولا جدال في أن التأثير القوي للمسيحية واضح في هذه الحالة. ذلك لأن الكنيسة كانت ترى على الدوام أن قبول تعاليم لاهوتية معينة، بالإضافة إلى السلوك في الحياة وفقا للوصايا العشر، هو شرط لا بد منه للخلاص. ولا شك أن مفكرين قلائل في العالم الغربي هم الذين تمكنوا من أن يضعوا مذهبا إيجابيا في الخلود لا يظهر فيه تأثير هذا التراث، بل إنه ما زال في حكم المستحيل حتى اليوم، بعد أن فقد الإيمان اللاهوتي كثيرا من سيطرته على أذهان الناس، أن نجد مذهبا معاصرا في الخلود يقول ببقاء الناس جميعا في حالة واحدة، بغض النظر عن مكانتهم الأخلاقية. وهكذا فإن الغرب قد تشكل بالتفكير المسيحي إلى حد أن الخلود الذي لا يرتبط بالأخلاق يكاد يكون أمرا يستحيل تصوره. فإذا لم يكن العالم الآخر مكانا يثاب فيه الأبرار ويعاقب الأشرار، أو تؤتي فيه الحياة الأخلاقية أكلها، فإنه يغدو بالنسبة إلى معظمنا في حكم العدم.
الاتجاه اليوناني : كثيرا ما يشعر الدارس المبتدئ للفلسفة بأنه قد صدم إذ يعلم أن اليونانيين القدماء لم تكن لديهم فكرة واضحة عن الحياة الأخرى بوصفها شيئا نستحقه بعد كفاح أخلاقي. فمعظم الطلاب اليوم يستطيعون أن يفهموا أن مفهوم البقاء عند اليونانيين لم تكن له صلة بإيمان الفرد، ولكن من الصعب عليهم أن يفهموا أن الوجود بعد الموت لم تكن له بدوره علاقة وثيقة بسلوك المرء. وحتى لو لم تكن فكرة «الجنة» و«النار» قد أصبحت هي محور نظرتنا إلى هذه الأمور، فإنه تصور حياة أخرى تكون للناس فيها مكانة نسبية مماثلة للمكانة التي كانوا عليها قبل الموت تبدو لنا فكرة غير منطقية. ولكن الاعتراض الوحيد على ذلك هو اعتراض تاريخي: فقد كانت هذه الفكرة تبدو في نظر اليونانيين منطقية تماما. على أن هذا الموقف، سواء أكان منطقيا أم لم يكن، يبدو في نظر معظمنا غير أخلاقي. فمثل هذا الرأي يثير مشاعرنا الخلقية؛ إذ إننا نفضل أن نجرب حظنا في عالم يتوقف البقاء فيه - على نحو ما - على جدارتنا بالبقاء. ونحن نشعر بأننا إذا شئنا أن يكون للخلد أي معنى على الإطلاق، فلا بد أولا أن يكون له معنى أخلاقي.
والأرجح أنه لو قدر لمفكر يوناني قديم أن يعرف اتجاهنا الحديث هذا، لوصفه بأنه اتجاه غير ناضج أخلاقيا - وهو ما ينتهي إليه الشكاك المحدثون بدورهم؛ ذلك لأن هذا الموقف ينطوي ضمنا على السؤال الآتي: «لم نكون فضلاء إذا كان الخلود من نصيب الأخيار والأشرار معا؟» وهو سؤال يوحي بدوره بأن كل سلوك فاضل ينبغي أن يكون الدافع إليه هو الأمل في ثواب أو مكافأة. على أن الشخص الناضج أخلاقيا - على ما يقولون - إنما يفعل ما يفعل لأنه حق، لا بوصفه قسطا يدفعه مقدما لدخول الجنة، أو رشوة لتجنب الفناء. ومع ذلك فإن معظم الناس يرون أن الحياة الأخرى، أيا كانت صورتها، ينبغي أن تكون وجودا يبرر الحياة الأرضية ويكملها. وينبغي أن تكون حالة تتحقق فيها الأماني الأخلاقية. فلا بد أن يكون ذلك عالما يتوج فيه السعي وراء الخير بالنجاح، ويكتمل فيه تحقيق حياة الإنسان الأخلاقية. فالخلود لا ينبغي أن يقتصر على كونه استمرارا لحياتنا، وإنما ينبغي أيضا أن يكون اكتمالا لها وبلوغا بها إلى غايتها. (3) التضاد بين الموقفين المثالي والطبيعي
من الواضح أن الشروط التي يفترض أنها تتوافر في الخلود، والتي تعبر عنها كلمة «ينبغي» أو «لا بد»، في العبارات السابقة، لا تكون واجبة إلا إذا كان الكون تجسدا لقيم أخلاقية أو حريصا عليها؛ أي بالاختصار، إذا كان يفي بشروط المفكر المثالي فيما ينبغي أن يكون عليه الكون لكي يكون «خيرا». فمن الجلي أنه إذا كان نظام العالم أخلاقيا، فلا بد من نوع من الحياة الأخرى من أجل مواصلة تحقيق القيم الخلقية وحفظها بصورة دائمة؛ ذلك لأن من الأمور التي نلمسها جميعا أن أمانينا الأخلاقية نادرا ما تتحقق هنا، في هذه الحياة؛ ففي كثير من الأحيان «يموت الطيبون صغارا»، وحتى عندما لا يموتون، نجد أن كثيرا من الأخيار يحيون حياة شاقة عسيرة على حين أن الأشرار يفلحون في حياتهم غالبا، وحتى عندما لا يفلحون، فيبدو في كثير من الأحيان أنهم يستمتعون بحياتهم أكثر مما يستمتع بها كثير من القديسين، وهناك لحظات لا حصر لها في حياة أي شخص، تبدو فيها الظروف مخيبة لأنبل مقاصدنا، ويتحول الفعل الذي بدأ بنية طيبة، أمام أعيننا ذاتها، إلى فعل من معدن أخس. فلا يمكن منطقيا أن نتصور الكون نظاما أخلاقيا إلا إذا افترضنا عهدا للعدالة النهائية، تجنى فيه آخر الثمار التي كان من المفروض أن تجنى من نوايانا الطيبة.
ومن الطريف أن نلاحظ، عند هذه النقطة، أن أشخاصا كثيرين ممن لا يؤمنون ببقاء الشخصية بعد الموت، يرون مع ذلك أن الكون حريص على تحقيق القيم وحفظها؛ أي إنه يعمل في اتجاه الخير. هذا الرأي يمثل امتدادا للرأي الاجتماعي في الخلود، الذي ناقشناه من قبل. وعلى الرغم من أن القائلين بهذا الرأي لا يحددون بدقة كيف يمكن متابعة النصيب الذي يسهم به كل منا في الخير، والاحتفاظ به على المستوى الكوني، فإنهم جميعا متفقون على أن القيم هي أنفس ما في الكون، وعلى أن الكون منظم بحيث يضمن تحقيقها واستمرارها، بغض النظر عما يحدث لنا بوصفنا أفرادا.
وينبغي أن يلاحظ أن فكرة بقاء القيم هذه تنطوي على أكثر من مجرد احتفاظ المجتمع بالنصيب الذي يسهم به كل فرد. ففي استطاعتنا أن نتصور المجتمع وقد أدار ظهره للقيم التي أضنى الجنس البشري نفسه في تحقيقها، كما حدث في العهود المظلمة في أوائل العصر الأوروبي الوسيط، غير أن المذهب الذي نحدد بصدده يرى أن جوانب الخير هذه لا يقضى عليها في هذه الحالة، وإنما ترجأ فحسب، إما لكي تعود إلى الظهور في تاريخ تال (كما حدث بعد العصور المظلمة)، وإما لكي يحتفظ بها بوصفها إسهاما دائما في مجموع الخير الموجود في الكون.
هذا الرأي، وكذلك الرأي السابق القائل إن الخلود ازدهار للقيم الخلقية، يعدان تعبيرين مميزين عن الميتافيزيقا المثالية. فكلا الرأيين يفترض ضمنا حقيقة نهائية، إما أن تكونه هي ذاتها الخير، وإما تفترض الخير بوصفه العنصر الرئيسي المكون لها، وكلاهما يفترض نظاما للعالم هو قطعا أخلاقي، لا آلي. وينطوي كل من المذهبين ضمنا على القول بعالم ملائم للإنسان ولكل ما هو رفيع في طبيعته البشرية، وكلاهما يضمن تحقق هذا العنصر الرفيع وحفظه على الدوام.
ناپیژندل شوی مخ