10
والواقع أن معظم النقاد المعاصرين يصدرون أحكامهم على أساس القيم الشكلية وحدها، على حين أن الشخص العادي، الذي يغفل القيم الشكلية عادة، ولا يتأثر بالأوجه الحسية لأي فن إلا تأثرا وقتيا، يستجيب على أساس وظائف الفن المحاكية أو الحاكية. ولما كان الشخص المحترف والشخص العادي يبحثان عن أشياء مختلفة في الفنون، فليس من المستغرب أن نجدهما يكتشفان فيها أشياء مختلفة.
الفن بوصفه تعبيرا انفعاليا : هناك مدرسة كبرى ثالثة من المدارس الفنية (بعد مدرسة المحاكاة والمدرسة الشكلية) تلقى بين الأشخاص العاديين إقبالا أشد مما تلقاه بين المحترفين المعاصرين، على الرغم من أن الفنانين والنقاد بدورهم كانوا يفضلونها منذ قرن من الزمان. والواقع أن المفكرين النظريين في الفن، في القرن التاسع عشر، قد نجحوا في إقناع أنفسهم والجمهور بأن الفن ينبغي أن يكون قبل كل شيء تعبيرا عن انفعال (لا نسخة واضحة للطبيعة أو تجسيدا لقيم شكلية) إلى حد أن جزءا كبيرا من الجمهور العام ما زال يميل إلى النظر إلى مختلف الفنون على أنها وسائط لتوصيل الانفعالات. ويشيع النظر إلى الموسيقى بوجه خاص على هذا النحو، كما أن فلسفة الفن التي يأخذ بها الشخص العادي فيما يتعلق بالفنون البصرية هي عادة مزيج غير محدد المعالم من نظريتي المحاكاة والتعبير الانفعالي - مع الاتجاه دائما إلى تجاهل القيم الشكلية بنفس القدر الذي يؤكدها به الشخص المحترف.
الفن بوصفه مؤثرا اجتماعيا : أما آخر الفلسفات الكبرى في الفن فهي فلسفة يصعب وصفها وإدراجها تحت اسم معين؛ إذ إنها تشمل آراء متباينة يوجد بينها تشابه، ولكن لا توجد بينها هوية. ومن الممكن تسميتها بنظرية التأثير الاجتماعي، أو النظرية التعليمية، أو نظرية الدعاية، وربما النظرية الأخلاقية. ولقد سبق لنا أن أشرنا إلى هذا الرأي في هذا الفصل، عندما تحدثنا عن الفن والتعليم، وذكرنا أن المتحدث الرئيسي باسم هذه النظرية هو أفلاطون. وفي استطاعتنا، دون أن نحاول تقديم تعريف محدد لهذه الفلسفة، أن نكون على ثقة أن الأشخاص الذين يؤمنون بها ينادون بأي مبدأ من المبادئ الآتية أو يمارسونه: (1) الرقابة على الفن، (2) استبعاد ضروب معينة من الفن على أساس أنها «ذات تأثير على المجتمع» أو «منحلة» - كما هي الحال مثلا في حملة التطهير التي شنها هتلر على الفن «المنحل» والفنانين المنحلين وطردهم فيها من الدول النازية، (3) تقويم الفنون على أساس مضمونها الديني أو أيديولوجيتها السياسية، (4) استخدام الفن في بث معايير أخلاقية وتعاليم اجتماعية معينة في نفوس النشء، بدلا من تنمية قدرتها على تذوق الفن أو حساسيتهم الجمالية العامة.
هذه الفلسفة التي تتخذ من الفن وسيلة للمنفعة الاجتماعية تستعين بنظرية المحاكاة والنظرية التعبيرية كشريكين غير متفرغين لها. وأسباب ذلك واضحة: فإذا كنت تستخدم الفن في التحكم أو التأثير، فلا بد عندئذ من استغلال إمكانياته في المحاكاة استغلالا كاملا. ولا بد لك من تصوير أفراح أولئك الذين وصلوا إلى الخلاص أو التحرر الاجتماعي، أو تصوير أطماع من يعارضونهم وجشعهم. وبالاختصار، فلا بد لك من تصوير مواقف إنسانية معينة (حقيقية أو متخيلة) بطريقة تبلغ من الواقعية أو القدرة على التعبير حدا يكفي للحض على العمل الاجتماعي. ومن الواضح كذلك أنه سيتعين عليك عندئذ أن تنتفع من إمكانيات الفن الهائلة في توصيل الانفعالات؛ إذ إنه ليس أقدر من الانفعال الثائر على دفع الإنسان إلى العمل، وقليل من الأشياء هي التي يمكنها إثارة الانفعال في الجماهير العريضة بنفس السهولة التي يثيرها بها كتاب أو مسرحية أو فيلم سينمائي أو أغنية أو صورة تستهدف هذا الغرض ذاته. والواقع أن النظرية الشكلية في الفن هي وحدها التي تأبى أن تجند لمساعدة فلسفة التأثير الاجتماعي. ذلك لأنه إذا كان هدفك الرئيسي هو التأثير الاجتماعي، فإن القيم الناشئة عن إدراك العلاقات الشكلية لن يكاد يكون لها قيمة، بل إنها قد تكون عقبة من واقع الأمر، ما دامت قد تصرف نظر المشاهد أو السامع عن الهدف التأثيري الرئيسي للعمل الفني.
لذلك لم يكن من المستغرب أن يكون أنصار فكرة التأثير الاجتماعي وأنصار الشكلية خصوما، بل أعداء صريحين في بعض الأحيان
11 . أما النظريتان الرئيسيتان الأخريان فلا تستبعد كل منهما الأخرى على هذا النحو، وإن كان من السهل أن تصبحا كذلك في حالات معينة. فأنصار التصوير غير الموضوعي (أي التجريدي) مثلا، إذا ما مضوا في رأيهم إلى حد التطرف، فأكدوا أن مثل هذا الفن هو وحده الذي يمكن أن يكون له معنى في نظر الأذهان الحديثة، فإنهم يتمسكون، كما هو واضح، بالموقف الشكلي إلى حد استبعاد كل المواقف الأخرى. على أن هذا النوع من استبعاد كل المواقف الأخرى نادر؛ إذ إن معظم النقاد، وكذلك أغلبية المبدعين في الفنون، يخففون من غلواء شكليتهم عن طريق نوع من الاعتراف بوجود قيم لمحاكاة الطبيعة وللتعبير عن الانفعالات معا. وما دامت القيم الشكلية هي التي تظل لها المكانة الأولى، فإنهم على استعداد لإثراء هذه القيم عن طريق تكملتها بالنوعين الآخرين من القيم الجمالية بطريقة حكيمة، على أن تكون لهذه القيم الأخيرة مكانة ثانوية.
12
كلمة تحذير : يحسن بنا، ونحن نختم هذه الدراسة الموجزة لعلم الجمال، أن نحذر القارئ من الاعتقاد بأن الاطلاع على هذا الفصل الواحد قد أعطاه فكرة عن «كل ما يتناوله علم الجمال». ففي كتاب كهذا، نحاول تقديم مدخل أول إلى الفلسفة في مجموعها ينبغي أن يقتصر عرض أي فرع من فروع الفلسفة على فصل واحد أو فصلين. ولا بد أن يترتب على ضيق الحيز إلى هذا الحد الشديد، معالجة كل فرع بطريقة غاية في الإيجاز. ومع ذلك فلما كانت الميتافيزيقا ونظرية المعرفة والمنطق والأخلاق قد اندرجت ضمن الفلسفة بوصفها وحدات منظمة طوال فترة أطول كثيرا من علم الجمال، فقد أتيح لنا أن نعرض تلك الفروع الأخرى بطريقة أوفى بكثير. والواقع أن حداثة عهد علم الجمال، وعدم استقرار وضعه الراهن، يحول دون الاتفاق على كنه المشكلات الرئيسية في هذا الميدان. ومن ثم يكاد يكون من المحتم أن يشعر كثير من المفكرين بأن المشكلتين اللتين اخترناهما على أنهما هما الأهم - وأعني بهما موضوعية القيم والإمكانيات الجمالية النسبية لكل من الفن والطبيعة - أقل أهمية من مشكلات معينة أخرى. ومع ذلك فيكفي لتحقيق غرضنا، كما قلنا في هذا الفصل من قبل، أن يكون القارئ قد اكتسب مزيدا من التبصر في طبيعة علم الجمال والمناهج التي تعالج بها مشكلات هذا الميدان. فإذا ما أضيف إلى ذلك كسب آخر، هو أن القراء الذين بدءوا قراءة هذا الفصل وهم يشكون في قيمة التفكير النظري الجمالي أو صحته، قد أصبحوا بعد قراءته أقل تشككا، فإن كتابة هذا الفصل وقراءته تكونان قد حققتا هدفهما بما فيه الكفاية.
الفصل السابع عشر
ناپیژندل شوی مخ