زاهدًا.
(الثاني) - المحبوب، فتارك ما لا يؤبه إليه كالتراب والحجر لا يسمى زاهدًا.
(الثالث) - كونه لأجل الله، فبذل المال وتركه على سبيل السخاء والفتوة واستمالة القلوب والطمع في الثناء لا يكون زهدًا، إذ الذكر والثناء وميل القلوب أهنأ من المال، فهو استعجال حظ آخر للنفس.
(الرابع) - المقدور، فمن ترك ما لا يقدر عليه كغير ابن أدهم من أمثالنا في دعوى الزهد في الملك لا يكون زاهدًا. وفي إفراد المباح إشارة إلى أن الزهد يتبعض كما أن التوبة تتبعض، فمن ترك بعض التمتعات من الشهوة والغضب والرياسة دون بعض كان زاهدًا.
وأما القانع فهو المرجح لوجود المال على عدمه ترجيحًا لا يحمله على الدأب فيه، فقولنا (المرجع) خرج به من لا يحب حصوله ولا يكره زواله وهو الراضي، وقولنا (ترجيحًا لا يحمله على الدأب فيه) خرج به من يتركه عجزًا ويسعى فيه ما وجد إليه سبيلا وهو الحريص.
وهذه المرتبة - وهي مرتبة الحرص - وإن كانت دنيا فإن لها فضلا لدخولها تحت العمومات الواردة في فضل الفقر، وذلك جمع بين قوله ﷺ ﴿يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام﴾ وبين قوله ﷺ في حديث آخر (بأربعين خريفًا) أي أربعين سنة، بأن الأول تقدير تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب، والثاني تقدير تقدم الفقير الحريص على الغني الراغب، فكأن الفقير الحريص على درجتين من خمسة وعشرين درجة من الفقير الزاهد، إذ هذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة.
وأما قوله ﷺ ﴿يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا﴾ فلا يقتضي أن الحريص لا ثواب له على فقره، لأن العمومات تقتضي أن له ثوابًا، فلعل المراد بعدم الرضا الكراهة لفعل الله من حبس الدنيا عنه، ورب راغب في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله ولا كراهة لفعله.
إذا عرفت تمايز هذه الحقائق بمسمياتها وأسمائها فاعلم أن وجود المال في اليدين لا في القلب ودخول الدنيا على العبد وهو خارج عنها لا ينافي الزهد، فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح، فكم من الرهابين من رد نفسه في كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازم ديرًا لا باب له، وإنما أعلى المقامات أن يستوي عند القلب وجود المال وفقده، فإن وجده لم يفرح ولم يتأذ،
1 / 11