فقامت لتغادر المكان، وهي تقول: سأحرر لك رسالة للبك.
وغابت حوالي ربع ساعة ثم رجعت، فسلمتني رسالة مطوية في مظروف مغلق، وتساءلت: هل تبقى للعشاء؟
فقمت بدوري شاكرا، وغادرت الشقة. ليل الخريف هبط بسرعته المألوفة، وأضواء السيارات المبهرة اقتحمت الأعين. وذكريات متلاطمة تفعل بإحساسي ما تفعله أضواء السيارات المبهرة، ولكنها تختفي وتضيع قبل أن أقبض عليها. فالدنيا تبدو مراوغة مثيرة للحيرة والقلق. ومضيت من توي إلى شارع البورصة، إلى مشرب الزهرة الصغير الأنيق الذي لا يتلاشى الجالس فيه. طلبت من النادل سندوتش لحم بقري وقدح شاي، وقال لي الرجل قبل أن يذهب: سألت عنك .. وستجيء لمقابلتك بعد قليل. سررت بذلك وتناولت عشائي وانتظرت.
ولم يطل بي الانتظار، فجاءت تخطر في بنطلونها بجسمها الرشيق الثري، ووجهها الأسمر الصافي المنمق، وقد ارتدت جاكتة من الجلد البني. وطلبت الشاي كالعادة وهي تنظر إلي في عتاب: لم أرك منذ أيام. - آسف، أنا غريق في مشكلتي، وأمضي من وسيط إلى وسيط. - لم يمنعك ذلك من ملاحقتي كظلي في وقت مضى. - لا يمنعني عنك إلا عذر قاهر. - ولكنك تدور في حلقة مفرغة، لا ترى لها نهاية. - لولا أنه يوجد في الدنيا أمل كالذي تعدينني به؛ لانتهيت من زمن بعيد.
استشعرت شيئا من الحياء وهي تتساءل: لماذا تصر على تأجيل زواجنا حتى تحل جميع مشكلاتك؟ - هذا هو التصور الطبيعي. - ولكن الزواج يهيئ لك نصف الأمان على الأقل؛ فأخي من كبار رجال الشرطة!
فقلت وأنا أنظر في عينيها بإشفاق: خصمي شخص مجهول. - هو أيضا لم يهتد إليك بعد، وقد يساعدك أخي على معرفته. - أتمنى أن أتزوج وأنا رائق البال. - لا عقبة في طريقنا إلا ما ينبثق من ذاتك.
عاودتني عواطف صافية من زمن مضى، فرمقتها بحنان وحب وقلت: فلنجلس لنحلم في عذوبة وهدوء، وقريبا سوف تنقشع الهموم.
وتبادلنا حبا عميقا بلا كلمة ولا حركة. وفي لحظات عابرة بدت الدنيا مراوغة، وتلاشت حبيبتي من مجلسها القريب. وعادت مرة أخرى مشرقة الوجه، فواصلنا الحب المتبادل الصامت. ولما تركتني تذكرت بزهو عنادي في مطاردتها، حتى انتزعت من صميم قلبها الاعتراف بالحب، وأمدني اللقاء بحماس جديد، فقمت لأقابل البك وأسلمه الرسالة. ذهبت إلى النادي بشارع الشط الأخضر، وجدته جالسا مع نخبة من الأصدقاء في الشرفة المطلة على الحديقة الواسعة. ولما رآني مقتربا قام مستأذنا من صحبه، وصافحني إكراما طبعا للهانم، ومضى بي إلى الثوي الأخضر. أجلسني قريبا منه، ونظر إلي بعينيه الثقيلتين وبوجه لا يعبر عن شيء، وسألني: هل من جديد؟
فقلت بأسى: أقابل أناسا وأتلقى وعودا.
وتناول مني الرسالة وأبقاها في يده المنبسطة، وتساءل: ألا يقنعك هذا؟ - أريد أن يتحقق وعد. - لكل عمل يشغله، هذه أيام الصرف الصحي، والعدوان على تونس، وخطف السفينة الإيطالية، ثم خطف الطيارة المصرية ... والدولار. - مشكلتي غاية في البساطة. - أنت تتصور ذلك، لا، انظر إلى الموضوع بعين محايدة. - لكن حياتي مهددة! - هل تعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلهم الإسرائيليون؟ .. والفلسطينيين الذين قتلهم العرب؟ .. وضحايا العنصرية في جنوب أفريقيا .. والطائفية في لبنان، وضحايا الزلازل والبراكين، والسموم البيضاء، والمظاهرات؟
ناپیژندل شوی مخ