ودخلت في شبه غيبوبة لا أدري كم غشيتني ولا متى انقشعت. ولكني أنتبه أحيانا إلى وجود أخي إلى جانبي، وأحيانا أخرى أعي إقامتي في مصلحة الطبيب بحلوان. وبعودتي إلى ذاتي أدركت أنني مريض وأنني أعالج، وأن الطبيب يعالجني بالعقاقير والكهرباء. ولما خاطبت أخي في شئوننا الخاصة هتف الرجل بسرور: الحمد لله، ها أنت تعود إلى الواقع.
ولكن علاجي امتد طويلا وجالسني الطبيب كثيرا، حتى أنست إليه وأسرني بذكائه وإنسانيته. وفي آخر مرة قال لي: أعتقد أنك على أتم ما يكون من الشفاء الآن.
فوافقته بتسليم وصبر. فسألني: ما حقيقة علاقتك بأخيك الأكبر؟
فأجبت بهدوء ويقظة ودون أي إرهاق: إني أقيم معه في شقته بالعمارة، وهو زوج وأب، وذو ميول دينية واضحة، ولا يكف عن حضي على الزواج رغم الظروف المعاكسة، ولم ير بأسا من أن أتزوج بجارتنا الأرملة، على رغم أنها تكبرني بأعوام، ولكنها تملك الشقة وبعض المال، ولم أذعن لمشيئته؛ لنفور قلبي من المرأة ولارتيابي في استقامة سلوكها، لا أنكر عطفه علي ونصاعة خلقه، ولكنه طالما وقف من سلوكي موقف الناقد طويلا بل والرافض.
ولما سألني عن عروسي ضحكت طويلا، وقلت: كانت زميلتي في الكلية، أحببتها وكأنها كانت تزن مستقبلها بميزان العقل، فأثبتت لي بمنطق واضح حاد أنني غير صالح للزواج، أي غير قادر عليه. وفضلا عن ذلك فقد صارحتني بأن أهلها يصرون على اختيار زوج لها من طبقتها.
وسألني عن الهانم فقلت: عرفتها من خلال عملي بوزارة الشئون الاجتماعية كرئيسة لإحدى الجمعيات الخيرية، بهرني جلالها وقوة شخصيتها ورقة إنسانيتها، وأقررت لها بأنها تملك من المزايا ما يؤهلها لحكم أمة حكما عادلا سعيدا، ولم أجد بها من عيب إلا زواجها من «البك»، الذي كان أدنى منها كثيرا في العلم والخلق.
وقال الطبيب: أما أنا فلا شك أنك عرفتني عن طريق التليفزيون. - بالضبط، وأعجبت بأسلوبك في معاملة مرضاك باعتبارهم ضيوفا. - تبقى مسألة القتل والثأر، فهل لك أعداء؟
فقلت ضاحكا: بدأت المسألة بالمجاز، يقول أخي لي في شتى المناسبات إنني عدو نفسي وإنه يجب أن أحذر العدو الكامن بين جوانحي، وأقول له إنه يوجد أكثر من عدو يتربصون بنا الدوائر .. وإلا فكيف تفسر هذا الانهيار الشامل؟!
وهز الطبيب رأسه وهو يبتسم، ثم قال: وفي حوارنا المتصل الطويل لمست انفعالك الشديد حول قيم كثيرة كالعلم والعمل والسعادة، أيرجع ذلك للأسباب التي ذكرتها؟
فقلت بحدة: ليس ذلك فحسب، لكني أذكر دائما دراستي الجامعية الضحلة العقيمة، وبطالتي التي أمارسها في الوزارة، والسعادة التي أحلم بها دون جدوى. - ورحت تكمل ما ينقصك بأحلام اليقظة، حتى أشرفت على الضياع الذي أنقذت منه بمعجزة.
ناپیژندل شوی مخ