ومن الواضح أن المجتمع والحكومة معا، وكذلك التأثيرات الاجتماعية والحكومية معا، قد أدت جميعها إلى ذلك النظام الذي قام بتلخيصه الحكماء المصريون القدماء في كلمة جامعة واحدة هي «ماعت».
فإن «ماعت» قد نشأت في أول أمرها بمثابة أمر شخصي خاص بالفرد للدلالة على الخلق العظيم في الأسرة أو في البيئة التي تحيط بالإنسان مباشرة، ثم انتقلت بالتدريج في سيرها إلى ميدان أوسع فصارت تمثل الروح والنظام للإرشاد القومي والإشراف على شئون البشر بحيث تكون الإدارة المنظمة مفعمة بالاقتناع الخلقي.
وبتلك الكيفية وجدت لأول مرة بيئة ذات قيم عالمية، وحينما بدأ المصريون يتصورون الحاكم الإلهي لهذه البيئة كانوا في الحقيقة يسيرون في الطريق المؤدي إلى عقيدة التوحيد السامية، وكان ذلك الحاكم الإلهي هو إله الشمس، وقد تخيل القوم روح حكمه في شكل شائق، بأن تصوروا «ماعت» في هيئة إلهة وجعلوها بنت الشمس. وبالسير في هذه السبيل وصل المصريون في النهاية - كما سيأتي - إلى عقيدة التوحيد الرفيعة، فلم يكن من مجرد الصدفة أن بلغوها قبل أن تهتدي إليها أية أمة أخرى بزمن طويل، وكذلك لم يكن من باب المصادفة أن كان ثاني الشعوب اهتداء إلى عقيدة التوحيد المذكورة أقرب جيران مصر عبر حدود آسيا في فلسطين، وقد قال أحد أنبيائهم: «إليكم يا من تخافون اسمي، ستشرق شمس العدالة تحمل الشفاء في جناحيها.»
10 (ملاخي 4-2)، ويشير هذا التعبير بداهة إلى إله الشمس المصري القديم الذي يرسم عادة بصورة قرص الشمس المجنح.
وبذلك يتضح لنا على الفور عندما ننظر إلى الأمام متجهين نحو آسيا، لماذا أتت حضارة غربي آسيا متأخرى في مثل هذا التطور.
فالتصور المصري للنظام الإداري والخلقي العظيم، الذي أطلق عليه اسم «ماعت»، والذي صار أسمى مظهر للحضارة الشرقية القديمة، كان - كما رأينا - نتيجة للتطور الاجتماعي الحكومي مدة ألف سنة من حياة أمة عظيمة موحدة ثابتة منظمة كانت تخطو دائما في خلالها نحو الارتقاء والتقدم، في حين أن فكرة ذلك النظام الإداري والخلقي، بالرغم من تمثيله إلى حد ما في الصورة الجميلة التي ظهر بها الملك العادل بعد ذلك العهد بألفي سنة على يد الأنبياء العبرانيين، فإنه لم يظهر بشكل واضح في غربي آسيا إلى أن جاء «زروستر» يحمل نظامه الخلقي العظيم، وذلك بعد أن علت كلمة بلاد فارس في عهد «قورش» وخلفائه. وفي تاريخ غربي آسيا ما ينبئنا بوضوح عن سر استحالة ظهور هذا التطور فيه قبل ذلك العهد؛ إذ نجد في مصر التي كانت تعرج في مراقي التقدم في عهد الاتحاد الثاني وعصر الدولة القديمة، حضارة كانت ثمرة عهد لا يقل عن ألف سنة من التجارب الاجتماعية، يقودها نظام قومي ذو أسس ثابتة نشطة، فيها من القوة الحيوية ما مكنها من الدوام أكثر من ألف السنة التي مكثتها، في حين أن بابل التي كانت تعتبر أشهر ممالك غربي آسيا وقتئذ قد استمرت خلال ألف السنة هذه ترزح تحت عبء الفوضى من جراء الحروب الصغيرة التي كانت في معظم ذلك الوقت تشتعل نيرانها بين دويلات المدن التي كانت تتألف منها وقتئذ.
أما في مصر، فإنها كانت حتى قبل بداية هذه الألف من السنين قد انتهت من الشحناء التي كانت قائمة بين دويلات مقاطعاتها بزمن طويل. حقا إن الحضارة المادية كانت متساوية في أعمارها في كل من غربي آسيا ومصر، ولكن الحضارة في أوسع نواحيها ليست إلا نتيجة لتطور اجتماعي طويل، ومن ثم نجد أن البراهين التي يتمسك بها الأثريون للاستدلال على أن المدنية البابلية (التي لم يكن لديها الفرصة الكافية للنمو والتطور الاجتماعي المطرد) كانت أقدم من المدنية المصرية، بحجة ما عثر عليه من البرت النحاسية وصناعة صياغة الذهب، ليست إلا براهين سطحية لا تستحق النقد والتفنيد. ولا جدال في أن التقدم السياسي والاجتماعي وتطور الحضارة البشرية على وجه عام، كان ظهورها كلها في وادي النيل متقدما بعدة قرون على أمثاله في غربي آسيا. والحقيقة أن الحضارة في «بابل» أتت متأخرة في تطورها الديني والاجتماعي والسياسي عن حضارة مصر بما لا يقل عن ألف سنة.
وتلك الحقيقة لها أهميتها؛ إذ تعدنا لفهم الأهمية الفريدة لمدة ألف السنة العظيمة التي تطورت فيها الحضارة في مصر ذلك التطور الخطير؛ فعلى ضفاف النيل بالذات نرى طليعة التقدم البشري؛ أي بوادر شعور الإنسان لأول مرة بكنه الفتح الذي بدأه، وبعد أن جنى ثمرة التجارب القومية التي استمرت ألف سنة أخذ يعد نفسه لخوض معركة الشئون الاجتماعية التي كانت تتهيأ لمهاجمته من الداخل، فقد ظفر هو فيها في تلك المدة بأعظم الانتصارات الباهرة على أعدائه الخارجين، في عالم القوى المادية، ولكنه الآن أمام الوازع الداخلي الذي صار هو الآخر بدوره يطلب منازلته لدخول ميدان جديد أسمى من ميدان المادة، بعد أن كان ذلك الميدان السامي لا يعرف عنه المصري القديم شيئا إلا القليل.
وتوجد عندنا الأدلة القاطعة على أن أقدم المبادئ الخلقية عند قدماء المصريين أخذت دورها في النمو وهي مقرونة بإله الشمس لا بالإله «أوزير»؛ لأن نصائح «بتاح حتب» تقول بجلاء إن إله الشمس هو خالقها (أي خالق العدالة). نجد ذلك واضحا في فقرة من وثيقة يرجع عهدها إلى الدولة الوسطى حيث حشر أتباع «أوزير» فيها اسمه حشرا، وهذا دليل هام على اشتعال نار الحرب الدينية التي كان يزكيها أتباع «أوزير» في ذلك العصر. ومما يؤسف له في هذا الصدد أن أول إله تخيله المصريون قاضيا خلقيا في عالم الحياة الآخرة لم يذكر اسمه بالنص، وإنما وصف بأنه «الإله العظيم» فقط من غير أن يذكر له اسم. وقد وردت هذه الصفة بتوسع في فقرة واحدة بالعبارة التالية: «الإله العظيم رب السماء.» ولذلك لا يكاد يوجد مجال لأن يكون المقصود من هذه العبارة أي إله آخر غير إله الشمس. وهذا الاستنتاج يؤيده جميع ما وجدناه من الكتابات في متون الأهرام، حيث يعبر مرارا وتكرارا عن إله الشمس بأنه «رب المحاسبة في الآخرة»، ولا نزاع في أن هذا الإله هو الذي يقصده «إني» أحد أشراف «دشاشة» في قوله: «أما من جهة كل الناس الذين سيعملون السوء ضد هذا (يريد القبر)، والذين يعملون أي شيء يسبب خراب هذا القبر، والذين يتلفون الكتابة التي فيه؛ فإنهم سيحاسبون على ذلك أمام الإله العظيم رب الحساب في المكان الذي تحاكم فيه الناس.»
أما التطور السريع الذي ظهر فيما بعد في النصائح الخلقية في مذهب «أوزير» وكذلك استيلاء «أوزير» على مكانة القاضي في المحاكمة الأخروية، فلم يكن قد ظهر بعد في متون الأهرام؛ لأن التطور الذي جعل تلك العناصر تظهر بوضوح في عهد الدولة الوسطى كان قد بدأ في ذلك العصر المظلم الذي جاء إثر انتهاء عصر الأهرام. وعلى ذلك يكون إله الشمس - خلافا للرأي السائد - هو أقدم الحامين للخلق الفاضل، وأول من سمي بالقاضي العظيم في عالم الحياة الآخرة.
ناپیژندل شوی مخ