وفي نفس ذلك العصر صارت أمثال تلك المسئوليات موضوعا للتفكير والبحث، وفيه أيضا بدأ التأمل الفكري في الطبيعة البشرية يعمل عمله، فكانت المقارنة بين الرجل العاقل والرجل الأحمق، وحصلت الموازنة بين صفتي الخير والشر، فكان ذلك فجر عالم جديد قوامه هذه القيم الجديدة، كما نشأ في ذلك العصر الشعور بالشخصية المسئولة، وصار العالم الإنساني ميدانا جديدا لتطاحن المشاعر الخلقية المختلفة الغاية، فكانت تتصادم فيه قوى جديدة بأسلحة جديدة. وفي ذلك العصر الذي يعتبر أقدم العصور إدراكا لقيمة الفرد الإنساني الأخلاقية برزت الشخصيات الممتازة فسمت على دهماء القوم من النكرات التي غمرها جوف الماضي القديم، فاستطاع الرجل القوي أن يحدث تأثيرا في المجتمع بما كان يتحلى به من المزايا العقلية والصفات الخلقية البارزة.
وقد حفظت لنا آثار ذلك العصر التاريخي العظيم أسماء بعض أصحاب تلك الشخصيات الممتازة، ففي خلال القرن الثلاثين ق.م نجد «أمحوتب»، وهو وزير عظيم في الأسرة الثالثة استبدل لأول مرة في التاريخ ببناء اللبن والخشب والغصون - وهو الذي كان سائدا في عصره - البناء بالأحجار الضخمة، وأوجد بذلك أول عمارة بالحجر في العالم، وصار يعد بذلك أول فرد بارز الشخصية في التاريخ البشري. وأما كلماته الحكيمة الغالية ومعارفه الطبية فقد صيرت اسمه ذا شهرة متداولة في البيوت مدى آلاف السنين، ولكونه طبيبا عظيما صار موضعا للتعظيم والإجلال، واسمه لا يزال يذكر بعد اسم «إسكلبويس» الإغريقي، وهو المعروف باسم «إسكولابيس»
Aesculapius
وهو إله الطب في كل العصور، وبالرغم من ضياع كلماته الحكيمة للآن فإن أخلافه ظلوا يقتبسونها مدة خمسة عشر قرنا بعد وفاته.
وهنالك وزير آخر من الحكماء يدعى «كاجمني» عاش في القرن الثلاثين ق.م (أي إنه كان موجودا بعد زمن «أمحوتب» بمدة قصيرة)، ويعرف أن له وصايا حكمية أيضا كان قد ألقاها على ابنه، غير أنها أيضا لم تصل إلينا، وكذلك كان يعيش بعد «أمحوتب» بقرن واحد الحكيم «حردادف» ابن الفرعون «خوفو» باني الهرم الأكبر بالجيزة، وقد بقيت أمثاله الحكيمة على أفواه الناس بجانب أمثال «أمحوتب» أكثر من 1500 سنة في الأزمان الغابرة.
غير أنه لم يبق لنا من أقوال أولئك الحكماء الذين عاشوا في عصر الأهرامات إلى يومنا هذا إلا نصائح «بتاح حتب» التي لم تكن إلا جزءا ضئيلا مما خلفه ذلك العصر الأول العظيم عن العقل البشري.
ويجب أن نضع مع أصحاب تلك الشخصيات أول عالم مجهول في العلوم الطبيعية، وهو مؤلف أقدم رسالة علمية تبحث في الجراحة، وربما يرجع عهده إلى عهد «أمحوتب» نفسه. ومؤلف تلك الرسالة الذي هو أقدم عالم طبعي عرف لنا للآن، يعد أول إنسان ميز بين القوى الطبيعية والقوى الإلهية؛ إذ ذكر في بيانه عندما كان يفحص إصابة في رأس إنسان أن أصلها يرجع إلى سبب خارجي، وعبر عنها بألفاظه التي كتبها فقال: «إنها شيء طرأ من الخارج.» أي إن الحادث جاء من الخارج. ولكن بالرغم من الاعتراف بأن الإصابة قد نتجت من سبب طبيعي خارجي فإنها اعتبرت في الوقت نفسه إصابة تحتمل في ثناياها «سر حسن الحظ» أو «سوء الحظ». وقد عبر الجراح العتيق عن ذلك بقوله: «يعني نفس إله خارجي أو الموت، لا من حدوث شيء قد تولد من لحم المريض.» وقد ميز هنا بين مجال الأسباب الطبيعية في نظام جسم الإنسان الداخلي، وبين دائرة «حسن الحظ» أو «سوء الحظ» الأمر الذي كانت تسيطر عليه الآلهة.
وهذه الملاحظة العويصة هي - على ما أعلم - أول شيء من نوعه عثرنا عليه في مخلفات التفكير الإنساني الذي بقي للآن.
9
كذلك بدأ في ذلك العهد التعبير عن قوة الشخصية والقوى التي نعبر عنها بقوى الأخلاق، لا في المؤلفات المدونة التي وضعها رجال الفكر والتأمل مثل «بتاح حتب» فقط، بل صارت كذلك تلمس بوضوح في منتجات الفن في ذلك العصر، وبخاصة في إنتاج أعظم المثالين العباقرة الذين أنتجوا أقدم تماثيل وصلت إلينا للآن، فكان قد نتج عن اتباع الخطة الثابتة المتفق عليها في فن النحت لمدة طويلة أن استجد طراز في نحت تماثيل الأشخاص في الدولة القديمة يكاد ينقصه أو ينقصه كلية إبراز الصفات المميزة لشخصية صاحب التمثال، ومن الجائز أن مثالي ذلك العصر كانوا يظهرون لنا في التماثيل التي نحتوها أقدم المعايير للصور البشرية ليكشفوا لنا عن وحدة الأشكال الناتجة من التأثيرات التي أوجدها ذلك النظام الخلقي الطويل المدى الذي محا ما كان بين طبقات المجتمع من الفوارق.
ناپیژندل شوی مخ