وتؤلف مجموعة العمائر المركبة من الهرم والمعبد الجنازي والطريق المسقوفة ومعبد الوادي أعظم فكرة في هندسة البناء ظهرت في ذلك العصر المبكر، وقد أضاف ما بقي من آثارها المكشوفة في السنوات الأخيرة إلى معلوماتنا فصلا جديدا في تاريخ العمارة.
وقد أنفق كل من فراعنة الأسرتين الثالثة والرابعة [حوالي 3000-2750ق.م] جزءا كبيرا من ثروتهم في إقامة ذلك القبر الشاسع ليحوي جثمان الفرعون ويضمن بقاءه بعد الموت، وبتلك الكيفية صار الهم الأكبر لبقاء الملك في الحياة الآخرة الشغل الشاغل للحكومة ودولاب أعمالها. وكثيرا ما عجز الملك عن إتمام تلك المجموعة البنائية قبل موته، وبذلك كان يلقى على عاتق خلفاء الملك أعباء إتمامها، كما كانوا يعملون كل ما في وسعهم في الوقت نفسه لإتمام مقابرهم أنفسهم. وكان الكهنة عند الفراغ من بناء تلك المجموعة يهدون صيغا منظمة لتحفظ المعبد والهرم، أما لوازم الملك وهو راقد تحت بناء الهرم فكانت تراعى بكل عناية؛ وذلك بإقامة الشعائر الرائعة في المعبد الملاصق لقبره، ولا نعرف من تلك الشعائر شيئا سوى الأجزاء التي حفظت لنا منها في متون الأهرام، وهي تدلنا على أن ما كان مألوفا إقامته في الحياة من الأعياد كان يقام مثله للملك المتوفى، وبطبيعة الحال يكون ذلك بأعظم درجة من البهاء.
ومن البدهي أن تلك الشعائر كانت تتناول بوجه خاص تقديم الطعام الوفير والملابس وما أشبه ذلك، وكانت الصيغ التي يلقيها الكهنة الجنازيون تقدر بمائة وثمان وسبعين صيغة؛ أي إنها كانت تشغل
من متون الأهرام، وكانت تشمل أسماء ما يقدم من الطعام والشراب والملابس والدهان والروائح العطرية والبخور، ويظهر لنا من تلك الأسماء ما كانت تحويه مائدة الملك من الألوان التي لا يحصيها العد - ومثل ذلك عن ملابسه ومواد زينته، وغير ذلك من لوازمه في الحياة الآخرة.
ونجد في الأواني الفاخرة التي كشفها الأستاذ «برخارت» في معبد الملك «نفرار كارع» بأبي صير [من القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد] دليلا آخر على الأبهة الملكية التي كانت تقام بها شعائر القربان، في حين أن جمال معبدي الهرم وعظمتهما قد هيئا في حد ذاتهما مكانا فريدا تؤدى في داخله كل تلك الفخامة الجنازية، فكان الكاهن بتلاوة نحو ثمانين صيغة من تعاويذ قربان الشعائر الجنازية يضع أمام الملك المتوفى تلك الملاذ الصورية التي كان يتمتع بحقيقتها في الحياة الدنيا، ذلك إلى تلاوة بعض تعاويذ أخرى مبعثرة في متون الأهرام.
وفي أثناء تأدية هذا العمل كان الكاهن يدخل إلى الحجرة السرية الواقعة خلف ردهة المعبد والمؤدية إلى واجهة الهرم نفسه، وهنا يواجه الكاهن الباب الوهمي العظيم الذي كان يمكن روح الملك أن تأتي منه لتدخل المعبد ثانية عند خروجها من الضريح الملكي الذي يقع على عمق بعيد تحت ذلك المبنى الشامخ المقام فوقه. وكان الكاهن وهو واقف أمام هذا الباب الوهمي يخاطب الملك كأنه حاضر أمامه، مقدما له معرضا عظيما من أثمن الهدايا، ويصحب كل هدية منها بصيغة معينة عند تقديمها طبقا لم ذكرناه عن ذلك فيما سبق.
غير أن حقيقة الموت الصارخة كان من المستحيل تجاهلها في تلك الصيغ التي لم توضع إلا للاعتقاد بأن الملك المتوفى لا يزال حيا، ويشعر بكل ما يحتاجه الأحياء في الدنيا؛ إذ نجد أن الكاهن كان يشعر وهو في تلك الحجرة التي كان السكون مخيما عليها شعورا شديدا بصمت ذلك الملك الراقد المدفون تحت ذلك الهرم الهائل. ومن أجل ذلك كان يناديه من وقت لآخر ليستيقظ من سباته العميق ويشاهد الطعام والهدايا المبسوطة أمامه. وخوفا من سقوط شيء من هذه المواد المقربة كان الكاهن يلخصها كلها في وعده للملك فيقول: «ها تقدم لك كل القرابين وكل الضحايا وكل ما ترغب فيه وكل حسن لك إلى الأبد مع الآلهة.» وعلاوة على كل هذه الصيغ الخاصة بالهدايا الجنازية كانت توجد بعض تعاويذ لطرد الجوع من أعضاء جثمان الملك، فكان الكاهن يرتل هذه التعاويذ للملك من وقت لآخر أيضا.
ولما كان ملوك عصر الأهرام المبكر [أي في القرن الثلاثين قبل الميلاد] يعتقدون في صيانة جثمانهم بالمحافظة على تلك الإجراءات، فإنه كان بالبديهة أن يتطلعوا بثقة إلى أنهم سيعيشون عيشة خالدة في الحياة الآخرة. ولكن هل كانت سلالة ذلك الملك الشرقي لا تسأم من استمرار تقديم تلك القرابين الجنازية له دائما أبدا؟ سنرى!
والواقع أن مثل هذه الصيانة تحتاج في استمرارها إلى توظيف طائفة عظيمة من الكهنة ليظلوا قائمين بأعباء تلك الخدمة في معبد الهرم على الدوام، ولم يبق لنا التاريخ أية قائمة تتضمن أسماء كهنة أي معبد ملكي كان، وكان أولئك الكهنة يعيشون على الهبات السخية التي كان في وسع سلطة البيت المالك أن يضمن استمرار بقائها مدة طويلة.
فمن ذلك أن هيئة كهنة هرم الملك «سنفرو» بدهشور وأوقافه [القرن الثلاثين ق.م] قد بقيا محترمين حتى لقد أعلن إعفاء طائفتهم من كل الرسوم والضرائب الحكومية بمقتضى مرسوم ملكي أصدره الملك «بيبي الثاني» في عهد الأسرة السادسة؛ أي بعد وفاة الملك «سنفرو» المذكور بثلاثمائة سنة، وذلك بالرغم من حدوث تغيير في الأسرة المالكة مرتين منذ وفاة الملك «سنفرو»، وكان من المحتم في أمثال هذه الأوقاف المتراكمة من جيل إلى جيل أن يظل توزيعها قائما إلى أن تبطل في نهاية أمرها وتزول من جراء ذلك.
ناپیژندل شوی مخ