276

فجر د ضمیر

فجر الضمير

ژانرونه

ومن المؤكد أنه لو كان الأستاذ «هيكل» يشاركنا الآن في هذه المناقشة لكان له فيها تعليق يعتد به ربما كانت صيغته على الصورة الآتية: «وكيف يكون ما برهنت عليه تاريخيا من ظهور كلمة «مصادق» جوابا على سؤالي الأصلي؟ إننا إذا سلمنا أن الإنسان الطبيعي قد نشأ من أصل الكون المتطور، ثم سلمنا أن الخبرة البشرية هي التي ابتكرت «المصادقة» وأنمتها، فإن معنى ذلك أنك تتكلم عن الخبرة البشرية، في حين أن سؤالي منصب على الكون. فما شأن الخبرة البشرية إذن بالكون؟»

وعلى الرغم من أن الفكرة القائلة بأن الإنسان جزء من الطبيعة سابقة لعهد الفيلسوف «لوك»، فإن المقدمات التي بنى عليها آراءه هي التي على ما يظهر قد أدت بالفلاسفة إلى تلك النتيجة. وهي نتيجة من عمل الفلاسفة بنوها - طبعا - على مقدمات فلسفية. أما في أيامنا هذه فقد صار في استطاعة أبحاث علم الحفائر الجيولوجية وعلم آثار ما قبل التاريخ أن يتتبعا تاريخ الإنسان الطبيعي وهو ينهض من العصور الجيولوجية ويخرج من العالم الطبيعي، وعلى ذلك تزداد الأدلة باطراد على أن الإنسان جزء من الطبيعة، ولو من ناحيته الطبيعية على الأقل، ثم إن أقدم الوثائق المدونة التي وصلت إلينا عن ماضي البشرية تكشف لنا أيضا عن ارتقائه حتى بلغ عهد الوعي الأخلاقي.

ومن العجيب أن هذه الحقيقة قد خفيت - على ما يظهر - على المفكرين. وعلى كل حال فقد صرنا الآن لا نعتمد على أقوال الفلاسفة، كما كان الحال في عهد «جيته»

Goethe ، في مجرد الافتراض بأن الإنسان فيض من إنتاج الطبيعة، ووثائق الشرق الأدنى القديمة تبرهن بالدلائل التاريخية هذه الحقيقة.

وقصة نشأة بني البشر كما أماطت عنها اللثام الأبحاث الأخيرة في الشرق الأدنى القديمة تظهر لنا بأجلى بيان، لا من الوجهة الفلسفية بل من الوجهة التاريخية، أن خبرة بني البشر هي آخر مرحلة في تاريخ الكون؛ أي إن الخبرة البشرية، هي بقدر ما وصلت إليه معارفنا، ثمرة من ثمرات ذلك التاريخ.

وفي قصة حياة الرقي البشري التي كنا نتتبع سير خطواتها في هذا الكتاب التقطنا خيوط الحياة الإنسانية الآخذة في الارتقاء عند النقطة التي صار فيها الإنسان أول مخلوق عرف بمقدرته على صنع الآلات في زمن لا يقل بعده عن مئات الآلاف من السنين، بل قد يبلغ مليونا من السنين. ونحن الآن نعتبر الأبحاث عن تلك المرحلة من حياة الإنسان ملكا شائعا بين علماء الحفائر وعلماء الجيولوجية من جهة وعلماء الآثار من جهة أخرى.

ونحن علماء الطبائع الإنسانية عندما نريد البحث عن ذلك العصر السحيق نتكاتف مع علماء التاريخ الطبيعي - لما نجنيه كلانا من جهودنا المشتركة - فهي تجربة نافعة لكلينا.

فالإنسان - في الحالة التي وجد عليها في فجر العصر الحجري - يعتبر موضوعه داخلا في أبحاث العلماء الطبيعيين، وإن كان العلم لم يبين لنا النقطة التي انقطعت عندها صلة البشرية بذلك الكون المتطور فلم تعد جزءا منه.

ولنرجع بالبصر كرة عاجلة بالرغم مما سيوقعنا فيه ذلك من بعض التكرار، ناظرين في مدى تاريخ الحياة البشرية منذ ذلك الوقت، للبحث عما إذا كان في مقدورنا أن نجد نقطة لم تعد البشرية بعدها جزءا من ذلك الكون.

وبالرغم من السرعة التي اتبعناها في هذا الكتاب فقد استطعنا أن نقتفي أثر أقدم من عرفنا من أجداد الحضارة في أدوار حياتهم التي قامت على الصيد في أنحاء هضبة الصحراء الكبرى، المترامية الأطراف، في ذلك العهد السحيق الذي كانت فيه مرتفعاتها - الماحلة الآن - لا تزال خضراء يكسوها الكلأ الأخضر. ويقول علماء الحفائر العلمية: إن ذلك الصائد الفطري الذي كان يهيم في غابات الصحراء خلال عصر ما قبل التاريخ، كان مخلوقا نشأ من تطور حياة الكون؛ أي إنه كان لا يزال جزءا غير منفصم من ذلك الكون.

ناپیژندل شوی مخ